منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 84
الفصل الثاني عشر:
ثمّ أسكن آدم دارا أرغد فيها عيشته، و آمن فيها محلّته، و حذّره إبليس و عداوته، فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام و مرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكّه و العزيمة بوهنه، و استبدل بالجذل و جلا، و بالاعتزاز ندما. (1723- 1685)
اللغة:
(السّكون) هو الاطمينان و المسكن المنزل و (الرغد) النفع الواسع الكثير الذي ليس فيه عناء، قال ابن دريد: الرّغد السعة في العيش و (العيشة) بكسر العين كالعيش بالفتح مصدر عاش يعيش و هو الحياة و ما يعاش به من الرزق و الطعام و الخبز و (محلّة) القوم منزلهم (فاغترّه) من الغرّة بالكسر و هو الغفلة و (نفس) الشي ء بالضم نفاسة كرم و نفست به مثل ضننت به لنفاسته لفظا و معنى و (المقام) بالفتح اسم مكان من قام بمعنى انتصب و بالضمّ اسم مكان من أقام و كلاهما صحيحان و عزم (عزيمة) و عزمة اجتهد وجد في أمره و (الجذل) بفتحتين مصدر جذل إذا فرح و (اعتزّ) بفلان عدّ نفسه عزيزة به.
الاعراب:
كلمة ثمّ في قوله عليه السّلام ثمّ أسكن حرف عطف مفيدة للتّعقيب فتفيد أنّ الاسكان
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 85
في الجنّة بعد أمر الملائكة بالسجود و سجودهم و هو الظاهر من الترتيب الذكري في الآية الشريفة في سورة البقرة حيث قال سبحانه:
«وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ»* ثم قال: «وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ». الآية إلّا أنّ المستفاد من الأخبار و ظاهر بعض «1» الآيات و التفاسير كون السجود حين السّكون في الجنّة و يمكن الجواب بانّ المراد بالسّكنى في الاية الشريفة و في قول الامام عليه السّلام هو المقام مع اللّبث و الاستقرار و هو لا ينافي كون آدم عليه السّلام في الجنّة قبل ذلك أيضا و كون سجود الملائكة له حين ما كان هو فيه كما هو ظاهر لا يخفى، و نصب إبليس في قوله و حذّره إبليس على نزع الخافض، و نفاسة منصوب على المفعول له، و الباء في قوله: بدار المقام للسّببية، و في قوله بشكّه باء الأثمان و هي الدّاخلة على الأعواض مثل بعت الكتاب بدرهم، و قد يطلق عليها باء المقابلة، و في قوله عليه السّلام: بالجذل و بالاعتزاز كذلك «2»، و يحتمل كونها هنا بمعنى من بناء على كون الاستبدال بمعنى التبدل يقال تبدّله و تبدّل منه إذا اتخذه منه بدلا.
المعنى:
(ثمّ) إنّه سبحانه بعد ما أمر الملائكة بالسّجود لآدم فسجدوا إلّا إبليس فجعله رجيما و أخرجه من جواره و (أسكن آدم) و أقرّه (دارا) أى في دار (أرغد فيها عيشته) أى جعله فيها في عيشة واسعة كما قال سبحانه في سورة البقرة:
«وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما».
المجاز العقلى (و آمن فيها محلّته) نسبة الأمن إلى المحلّ من قبيل المجاز العقلي أى جعله
______________________________
(1) و هو قوله فاخرج منها فانك رجيم و قوله: قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين فافهم، منه
(2) اى للمقابلة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 86
فيها في أمن من الآفات و سلامة من المكاره و الصدمات، و هذه من صفات الجنّة لأنّ من دخلها كان آمنا كما قال سبحانه:
«ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ». «1» و هذا لاغبار عليه و إنّما الكلام في أنّ الجنة التي أسكنه اللّه فيها هل هي جنّة الدنيا.
و تفصيل ذلك ما ذكره الفخر الرّازي، قال: اختلفوا في أنّ الجنّة المذكورة في الآية هل كانت في الأرض أو في السّماء و بتقدير أنّها كانت في السّماء فهل هي الجنّة التي هي دار الثّواب أو جنّه الخلد أو جنّة أخرى.
فقال أبو القاسم البلخي و أبو مسلم الاصفهاني: هذه الجنّة كانت في الأرض و حملا الاهباط «2» على الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى:
«وَ إِذْ» و احتجا عليه بوجوه.
أحدها أنّ هذه الجنّة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنّة الخلد، و لو كان آدم في جنّة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله:
«هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى » و لما صحّ قوله:
«ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ».
و ثانيها أنّ من دخل هذه الجنّة لا يخرج منها، لقوله تعالى:
«وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها».
و ثالثها أنّ إبليس لما امتنع من السّجود لعن، فما كان يقدر مع غضب اللّه على أن يصل إلى جنّة الخلد.
______________________________
(1) و هذه الاية و ان كان نزولها في صفة جنة الاخرة الا ان جنة الدنيا طبقها في هذه و غالب الصفات فلا ضرر فى الاستشهاد بها مع اختيارنا فيما بعد كون آدم في جنة الدنيا كما هو ظاهر، منه
(2) اى فى قوله تعالى و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو الاية، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 87
و رابعها أنّ الجنّة التي هى دار الثواب لا يفنى نعيمها، لقوله تعالى:
«أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها» و لقوله تعالى: (وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) الى أن قال: (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).
أى غير مقطوع، فهذه الجنّة لو كانت هي التي دخلها آدم لما فنيت، لكنها تفنى لقوله تعالى: (كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).
و لما خرج منها آدم و انقطعت تلك الرّاحات و خامسها أنّه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدء الخلق في جنّة يخلدهم فيها و لا تكليف لأنّه لا يعطى جزاء العاملين من ليس بعامل، و لأنّه تعالى لا يهمل عباده بل لا بدّ من ترغيب و ترهيب و وعد و وعيد.
و سادسها لا نزاع في أنّ اللّه تعالى خلق آدم في الأرض و لم يذكر في هذه القصّة أنّه نقله إلى السّماء. و لو كان تعالى قد نقله إلى السّماء كان ذلك أولى بالذّكر، لأنّ نقله من الأرض إلى السّماء من أعظم النّعم، فدلّ ذلك على أنّه لم يحصل، و ذلك يوجب أنّ المراد من الجنّة التي قال اللّه له (اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ)*.
جنّة اخرى غير جنّة الخلد.
القول الثّاني و هو قول الجبائي أنّ تلك الجنّة كانت في السّماء السّابعة، و الدليل عليه قوله تعالى: اهبطوا منها، ثم انّ الاهباط الأوّل كان من السّماء السّابعة إلى السّماء الاولى، و الاهباط الثّاني كان من السّماء إلى الأرض.
القول الثالث و هو قول جمهور أصحابنا إن هذه الجنّة هي دار الثواب و الدّليل عليه أنّ الألف و اللّام في لفظ الجنّة لا يفيد العموم، لأنّ سكون جميع الجنان
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 88
محال، فلا بدّ من صرفها إلى المعهود السّابق، و الجنّة التي هي المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب فوجب صرف اللّفظ إليها.
القول الرّابع إن الكلّ ممكن و الأدلة النّقلية ضعيفة و متعارضة، فوجب التوقّف و ترك القطع و اللّه أعلم انتهى.
أقول: و الأظهر من هذه الأقوال هو القول الأوّل، لقوّة أدلّته و إن كان يمكن تطرّق النّظر إليها.
أمّا الأوّل و الثّاني فلا مكان أن يقال: إنّ الخلود فيها و عدم الخروج إنّما يكون بعد استقرار أهل الجنّة فيها للثّواب، و هو المستفاد من أدلّة الخلود، و أمّا قبل ذلك فلا دليل عليه.
و أمّا الثّالث فلما قيل: من أنّ إبليس لم يدخل في الجنّة بل وسوس لهما من وراء جدار الجنّة أو من الأرض.
و فيه نظر لأنّ المستفاد من ظاهر الآيات كون مخاطبته معهما مشافهة، كما أنّ الموجود في أخبارنا دخوله إليها بوسيلة الحيّة حسبما يأتي الاشارة إليها.
و الأولى أن يقال: هذا الدّليل على تقدير تسليمه جار على غير هذا القول أيضا و ذلك، لأنّ غضب اللّه سبحانه كما هو مانع من دخول جنّة الخلد فكذلك مانع من دخول مطلق الجنّة و إن لم تكن دار خلد، لأنّ الجنّتين كلتيهما مشتركتان في كونهما دار رحمة و قرب، فلا يستحقّهما من غضب اللّه عليه و لعنه و طرده بقوله: (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)*.
فان قيل: فكيف التّوجيه بين ذلك و بين ما استظهرت من الآيات و دلت عليه الأخبار من دخوله في الجنّة بتوسط الحيّة.
قلت: يمكن التّوجيه بأن يقال: إنّه كان ممنوعا من دخولها بارزا بحيث يعرف، و قد دخلها مخفيّا ليدليهما بغرور، و قد ورد ذلك في بعض الأخبار، أو يقال:
إنّ دخوله فيه على وجه التّقرب و التنعّم مناف لكونه مغضوبا عليه، و أمّا الدّخول
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 89
للتّدليس و الازلال بعد اقتضاء الحكمة له فلا منافاة له معه كما لا يخفى.
و أمّا الرّابع فلما مر في الأولين.
و أمّا الخامس فلجواز أن يكون ذلك تفضّلا منه سبحانه، و ليست في ذلك منافاة للحكمة كما توهّم.
و أمّا السّادس فظاهر لأنّه استبعاد محض، هذا كلّه ما يقتضيه التصرّفات الفكرية و دقّة النّظر في الأدلة و القاطع للكلام إنّما هو الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة.
فقد روى في الكافى و العلل عن الصّادق عليه السّلام أنّها كانت من جنان الدّنيا يطلع فيها الشّمس و القمر و لو كان من جنان الخلد ما خرج منها أبدا.
و مثلهما «1» عليّ بن ابراهيم القمي في تفسيره عن أبيه رفعه إليه عليه السّلام و قوله:
(و حذّره ابليس و عداوته) إشارة إلى ما حكاه سبحانه في سورة طه بقوله:
(وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ) فوسوس اليه الشّيطان و قال:
(يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى ).
و (اغترّه عدوه نفاسة) و بخلا (عليه بدار المقام و مرافقة الأبرار) من الروحانيين و الملائكة المقرّبين.
(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ).
______________________________
(1) لكن قول امير المؤمنين عليه السّلام فى الفصل الاتى و وعده المرد الى جنته ينافي هاتين الروايتين و مثله ما روى فى حديث الشامى انه سأل امير المؤمنين «ع» عن اكرم واد على وجه الارض فقال واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء فالجزم باحد المذاهب لا يخلو من اشكال منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 90
و أمّا كيفية الاغترار فقد يأتي تفصيلا التمثيل (فباع اليقين بشكه) قيل: إنّ بيع اليقين بالشك مثل قديم للعرب لمن عمل عملا لا يفيده و ترك ما ينبغي له أن يفعله، تمثل به أمير- المؤمنين عليه السّلام هاهنا و لم يرد أنّ آدم شكّ في أمر اللّه.
أقول: و يمكن اجراء الكلام على ظاهره بأن يراد باليقين اليقين بعداوة إبليس و بالشّك الشّك فيها، و المراد ببيعه به تبديله به و ذلك لأنّ إبليس لمّا أبى و استكبر عن السّجود و أظهر الفضيلة و الانيّة و جعل مطرودا تيقّن آدم بعداوته له، و قد أعلمه اللّه سبحانه به حينئذ أيضا كما قال:
(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ).
و لمّا وسوس اليهما الشيطان: (وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).
و لم يكن آدم و حوّا شاهدا قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا، و ثقا بقوله و شكّا في عداوته لمكان ذلك، و يمكن استنباط ذلك من رواية العيون و الاحتجاج الاتية «1» للرّضا عليه السّلام مع المأمون، و ليس في ذلك منافاة لمرتبة الرّسالة كما توهّم، لأنّ ذلك ليس بأعظم من أكل الشجرة و ستعرف تحقيقه في مقامه إنشاء اللّه و قوله:
(و العزيمة بوهنه) أى العزيمة التي كانت له في عدم القرب من الشّجرة و الأكل منها بالوهن الذي حصل له من النّسيان، قال سبحانه:
(وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).
قال في الكشّاف: و العزم التّصميم و المضيّ على ترك الأكل و أن يتصلّب في ذلك تصلّبا يؤيس الشّيطان من التّسويل له، و قال: فان قلت: ما المراد بالنّسيان؟ قلت: لا يجوز أن يراد النّسيان الذي هو نقيض الذكر و أنّه لم يعن «2»
______________________________
(1) فى التذييل الثالث، منه
(2) اى لم يهتم، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 91
بالوصيّة العناية الصادقة و لم يستوثق منها بعقد القلب عليها و ضبط النّفس حتّى تولد من ذلك النّسيان، و أن يراد التّرك و انه ترك ما وصّي به من الاحتراس عن الشجرة و أكل ثمرتها انتهى.
و قال الطبرسي (ره) معناه أمرناه و أوصينا إليه أن لا يقرب الشّجرة و لا يأكل منها، فترك الأمر عن ابن عبّاس و لم نجد له عقدا ثابتا، و قيل معناه: فنسي من النّسيان هو السّهو و لم نجد له عزما على الذّنب، لأنّه أخطأ و لم يتعمد عن ابن زيد و جماعة، و قيل: و لم نجد له حفظا لما امر به عن عطيّة، و قيل: صبرا عن قتادة قال الشّارح البحراني: و حاصل هذه الأقوال يعود إلى أنّه لم يكن له قوّة على حفظه ما أمر اللّه سبحانه أنتهى.
و في الكافي عن عليّ بن إبراهيم باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشّجرة، فلمّا بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها نسي فأكل منها، و هو قول اللّه تبارك و تعالى:
(وَ لَقَدْ عَهِدْنا) الآية و فيه أيضا عن الصّادق عليه السّلام، قال في قوله تعالى: (وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ).
كلمات في محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذرّيتهم عليهم السّلام فنسي هكذا و اللّه انزلت على محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
أقول: و الظاهر أنّ المراد بتلك الكلمات حسبما يستفاد من الأخبار التي يأتي بعضها «1» هو إقرار آدم بفضيلة محمّد و آله المعصومين عليهم السّلام و اعتقاده لشرافتهم و عدم تمنّيه منزلتهم، فنسي تلك الكلمات و تمنى منزلتهم فأخرجه اللّه سبحانه من الجنّة (و استبدل بالجذل) و السّرور خوفا و (وجلا و بالاعتزاز) أى العزّة التي طلبها من أكل الشّجرة بتدليس ابليس و قوله لهما:
______________________________
(1) و هو رواية العيون الاتية، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 92
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما).
(ندما) و خيبة، و لذلك:
(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).
تذنيبات:
الاول لقائل أن يقول: كيف تمكّن ابليس من وسوسة آدم مع كونه خارج الجنّة و كون آدم في الجنّة؟ فنقول: قد اختلفوا فيه على أقوال.
أحدها ما حكي عن القصاص و هو الذي روي عن ابن عبّاس انه لما اراد إبليس أن يدخل الجنّة منعته الخزنة فأتى الحية و هي دابة لها أربع قوائم كأنّها البختيّة و هي كأحسن الدّواب بعد ما عرض نفسه على ساير الحيوانات، فما قبله واحد منها فابتلعته الحيّة و أدخلته الجنّة خفيّة من الخزنة، فلمّا دخلت الحيّة الجنّة خرج إبليس من فمها و اشتغل بالوسوسة فلا جرم لعنت الحيّة و سقطت قوائمها و صارت تمشى على بطنها و جعل رزقها في التّراب و عدوا لبني آدم.
و ثانيها أنّه دخل الجنّة في صورة دابة.
و ثالثها ما قاله بعض الأصوليّين: إنّ آدم و حوّاء لعلّهما كانا يخرجان إلى باب الجنّة و إبليس كان يقرب و يوسوس إليهما.
و رابعها أنّ إبليس كان في الأرض و أوصل الوسوسة إليهما في الجنّة.
أقول: و الأظهر هو القول الأوّل، لبعد الرّابع من حيث إنّ الوسوسة عبارة عن الكلام الخفي و الكلام الخفي لا يمكنه ايصاله من بعد، و الثّالث و الثّاني لم يرد بهما خبر، و الموجود في أخبارنا أنّ ايقاع الشّيطان لهما فيما نهيا عنه قد كان بسبب الحيّة، و ذلك على ما حكاه المفسر الفيض في الصّافي و المحدّث الجزائري في الأنوار
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 93
هو أنّ الشّيطان لمّا اخرج من الجنّة لم يقدر على الدّخول إليها بنفسه فأتي إلى جدار الجنّة و رأى الحيّة على أعلى الجدار، فقال لها ادخلينى الجنّة و أعلّمك الاسم الأعظم، فقالت له: الملائكة تحرس الجنّة فيرونك، فقال لها: ادخل في فمك و اطبقى علىّ حتّى أدخل، ففعلت، و من ثم صار السمّ في أنيابها و في فمها لمكان جلوس ابليس فيه، فلمّا أدخلته قالت له: أين الاسم الأعظم؟ فقال لها: لو كنت أعلمه لما احتجت إليك في الدّخول، فأتى إلى آدم و بدء به فقال: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما).
ان تناولتما منها تعلمان الغيب و تقدران على ما يقدر عليه من خصّه اللّه بالقدرة.
(أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) لا تموتان أبدا (وَ قاسَمَهُما) حلف لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).
و كان إبليس بين لحيي الحيّة و كان آدم يظنّ أنّ الحية هي الّتي تخاطبه و لم يعلم أنّ ابليس قد اختبي بين لحيي الحيّة فردّ آدم على الحيّة أنّ هذا من غرور إبليس كيف يخوننا ربّنا أم كيف تعظمين اللّه بالقسم به و أنت تنسبينه إلى الخيانة و سوء الظنّ و هو أكرم الأكرمين أم كيف أروم التّوصل إلى ما منعني منه ربي و أتعاطاه بغير حكمه، فلمّا آيس إبليس من قبول آدم فأتى إلى حوّاء و خاطبها من حيث يوهمها هي التي تخاطبها «1»، و قال: يا حواء أرأيت هذه الشّجرة التي كان اللّه عزّ و جلّ حرّمها عليكما فقد أحلّها لكما بعد تحريمها، لما عرف من حسن طاعتكما له و توقير كما إيّاه و ذلك أنّ الملائكة الموكلين بالشّجرة الذين معهم الحراب يدفعون عنها ساير حيوانات الجنّة لا يدفعك عنها إذ رمتها فاعلمي بذلك أنّه قد أحلّ لك و ابشري بأنك إن تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلطة عليه الآمرة النّاهية فوقها، فقالت حوّاء سوف اجرّب هذا فرامت فأرادت الملائكة أن يدفعوها عنها بحرابها، فأوحى اللّه
______________________________
(1) يعنى ان المخاطبة لها هي الحية منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 94
إليهم إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له بزجره، فأمّا من جعلته ممكنا مميّزا فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجّة عليه فان أطاع استحقّ ثوابي و جزائي، فتركوها و لم يتعرضوا لها بعد ما همّوا بمنعها بحرابهم، فظنت أنّ اللّه ما نهيهم، لأنّه قد أحلّها بعد ما حرمها، فقالت صدقت الحيّة و ظنّت أنّ المخاطب بها الحيّة، فتناولت منها و لم تنكر من نفسها شيئا، فاتت حواء إلى آدم فصارت عونا للشّيطان عليه، و قالت ألم تعلم أنّ الشّجرة المحرّمة علينا قد ابيحت لنا تناولتها و لم يمنعني منه أملاكها و لم انكر شيئا من حالي، و لذلك اغترّ آدم فقام آدم معها إلى الأكل من الشجرة فكانت أوّل قدم مشت إلى الخطيئة، فلما مدّ أيديهما إليها تطاير ما عليهما من الحليّ و الحلل و بقيا عريانين فأخذا من ورق التين فوضعاه على عورتيهما، فتطاير الورق فوضع آدم يده على عورته و الأخرى على رأسه كما هو شأن العراة.
و يستفاد من بعض الاخبار أنّ هذا هو العلّة في وجوب الوضوء، و هو ما رواه الصّدوق طاب ثراه في الفقيه قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عن مسائل و كان فيما سألوه أخبرنا يا محمّد لأيّ علّة توضّأ هذه الجوارح الأربع و هي أنظف المواضع في الجسد؟ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لمّا أن وسوس الشّيطان إلى آدم عليه السّلام دنا من الشّجرة فنظر إليها فذهب ماء وجهه، ثمّ قام و مشى اليها و هي أوّل قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ما عليها فأكل فطار الحلّي و الحلل عن جسده، فوضع آدم يده على امّ رأسه و بكى فلمّا تاب اللّه عزّ و جلّ عليه فرض عليه و على ذريّته تطهير هذه الجوارح الأربع، فأمر اللّه بغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة، و أمره بغسل اليدين إلى المرفقين لما تناول بهما، و أمره بمسح الرّأس لما وضع يده على أمّ رأسه و أمره بمسح القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة و قد ذكر فيه علّة اخرى له رواها عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السّلام و لا ربط لها بالمقام، و لا يذهب عليك أن توارد العلل المتعددة على معلول واحد في العناوين الشّرعية لا ضير فيه، لأنّها من قبيل المعرفات و ليست عللا حقيقية كما هو ظاهر
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 95
الثاني قد اختلف الأخبار كالأقوال في الشّجرة المنهية، ففي رواية أنّها شجرة الحسد، و في اخرى أنّها شجرة الكافور، و في ثالثة أنّها شجرة الحنطة و عن تفسير الامام أنها شجرة علم محمّد و آل محمّد عليهم السّلام آثرهم اللّه بها دون ساير خلقه لا يتناول منها بأمر اللّه إلّا هم، و منها ما كان يتناوله النبيّ و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام بعد إطعامهم المسكين و اليتيم و الأسير حتّى لم يحسوا بجوع و لا عطش و لا تعب و لا نصب، و هي شجرة تميّزت من بين ساير الأشجار بأنّ كلا منها إنّما يحمل نوعا من الثمار، و كانت هذه الشجرة و جنسها تحمل البرّ و العنب و التّين و العنّاب و ساير أنواع الثمار و الفواكه و الأطعمة فلذلك اختلف الحاكون بذكرها، فقال بعضهم: برّة، و قال آخرون: هي عنبة، و قال آخرون: هي عنابة و هي الشجرة التي من تناول منها باذن اللّه الهم علم الأوّلين و الآخرين من غير تعلّم، و من تناول بغير اذن اللّه خاب مراده و عصى ربّه و عن العيون باسناده إلى عبد السّلام بن صالح الهروى قال: قلت للرّضا عليه السّلام يابن رسول اللّه أخبرنى عن الشجرة التي أكل منها آدم و حوّاء ما كانت؟ فقد اختلف النّاس فيها، فمنهم من يروي أنّها الحنطة، و منهم من يروي أنّها العنب، و منهم من يروى أنّها شجرة الحسد، فقال عليه السّلام: كلّ ذلك حقّ؟ قلت: فما معنى الوجوه على اختلافها؟ فقال: يا أبا الصّلت إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب ليست كشجرة الدّنيا، و إنّ آدم لما أكرمه اللّه تعالى ذكره باسجاده ملائكته و بادخاله الجنّة قال في نفسه: هل خلق اللّه بشرا أفضل مني؟ فعلم اللّه عزّ و جلّ ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم و انظر إلى ساق عرشي، فرفع رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا: لا إله الا اللّه محمّد رسول اللّه عليّ بن أبى طالب أمير المؤمنين و زوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سيّد اشباب أهل الجنّة، فقال آدم: يا ربّ، من هؤلاء؟
فقال عزّ و جلّ: هؤلاء من ذرّيتك، و هم خير منك و من جميع خلقى و لولاهم ما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 96
خلقتك و لا خلقت الجنّة و النّار و لا السّماء و لا الأرض فايّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد فاخرجك عن جواري فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فتسلط عليه الشّيطان حتى أكل من الشّجرة التي نهى عنها و تسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتّى أكلت من الشّجرة كما أكل آدم، فأخرجهما اللّه عن جنّته و أهبطهما عن جواره إلى الارض هذا.
و قال بعض العارفين «1»: كما أنّ لبدن الانسان غذاء من الحبوب و الفواكه، كذلك لروحه غذاء من العلوم و المعارف، و كما أنّ لغذاء بدنه أشجارا تثمرها، فكذلك لروحه أشجار تثمرها و لكلّ صنف منه ما يليق به من الغذاء، فانّ من الانسان من يغلب فيه حكم البدن على الرّوح، و منهم من هو بالعكس، و لهم في ذلك درجات يتفاضل بها بعضهم على بعض، و لأهل الدّرجة العليا كل ما لأهل الدرجة السّفلى و زيادة، و لكلّ فاكهة في العالم الجسماني مثال في العالم الرّوحاني مناسب لها، و لهذا فسّرت الشّجرة تارة بشجرة الفواكه، و اخرى بشجرة العلوم، و كان شجرة علم محمّد إشارة إلى المحبوبيّة الكاملة المثمرة لجميع الكمالات الانسانية المقتضية للتوحيد المحمدي الذي هو الفناء في اللّه و البقاء باللّه المشار إليه بقوله صلّى اللّه عليه و آله: لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، فان فيها من ثمار المعارف كلّها، و شجرة الكافور إشارة إلى برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة المستلزمة للخلق العظيم الذي كان لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و دونه لأهل بيته، فلا منافاة بين الرّوايات و لا بينها و بين ما قالها أهل التأويل إنّها شجرة الهوى و الطبيعة لأنّ قربها إنّما يكون بالهوى و الشهوة الطبيعية، و هذا معنى ما ورد أنّها شجرة الحسد: فانّ الحسد إنّما ينشأ منها، انتهى.
و قد تلخّص منه و من الرّوايات السّالفة أنّ آدم كما أكل من الشّجرة المنهية التي هي شجرة الفاكهة في عالم الظاهر، فكذلك أكل في عالم الباطن و الحقيقة من الشجرة
______________________________
(1) هو الفيض
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 97
المختصة بآل محمّد عليهم السّلام التي غرسها اللّه لهم بيد قدرته، فطابق ظاهره و باطنه في ارتكاب الخطيئة و كان ذلك سببا لاهباطه إلى دار البليّة.
و في بعض الأخبار أنّ ذلك أيضا سبب لوجوب غسل الجنابة و لزيادة حظّ الذّكر من الانثى في الميراث.
و هو ما رواه الصّدوق في الفقيه قال: جاء نفر من اليهود إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأله أن قال: لأيّ شي ء أمر اللّه تعالى بالاغتسال من الجنابة و لم يأمر بالغسل من الغائط و البول؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ آدم لمّا أكل من الشّجرة دبّ «1» ذلك في عروقه و شعره و بشره، فاذا جامع الرّجل أهله خرج الماء من كلّ عرق و شعرة في جسده، فأوجب اللّه تعالى على ذرّيته الاغتسال من الجنابة إلى يوم القيامة، و البول يخرج من فضلة الشّراب الذي يشربه الانسان، و الغايط يخرج من فضلة الطعام الذي يأكله الانسان، فعليه في ذلك الوضوء، قال اليهودي: صدقت يا محمّد.
و في العيون باسناده عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام في حديث الشّامي مع أمير المؤمنين عليه السّلام و سأله لم صارت الميراث للذّكر مثل حظّ الانثيين؟ فقال عليه السّلام:
من قبل السّنبلة كانت عليها ثلاث حبّات، فبادرت إليها حوّاء فأكلت منها حبّة و أطعمت آدم حبّتين، فلذلك ورث الذّكر مثل حظّ الانثيين.
الثالث اعلم أنّ النّاس اختلفوا في عصمة الأنبياء عليهم السّلام على أقوال شتّى، و ينبغي أن نشير أوّلا إلى معنى العصمة.
فنقول: العصمة في اللّغة اسم من عصمه اللّه من المكروه يعصمه من باب ضرب أى حفظه و وقاه و منعه عنه، و في الاصطلاح هي ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها.
و قيل هي ملكة تمنع الفجور و يحصل بها العلم بمعايب المعاصي و مناقب الطاعات.
______________________________
(1) دب يدب دبا و دبيبا الماشى على الارض، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 98
و قال الرّاغب: هي فيض إلهيّ يقوي بها الانسان على تحرّي الخير و تجنّب الشّرّ حتّى تصير كمانع له و ان لم يكن منعا محسوسا.
و قال العلّامة في الباب الحادي عشر: العصمة لطف خفي يفعل اللّه تعالى بالمكلف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة و ارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك.
و قال المرتضى في كتاب الدّرر و الغرر: العصمة هي اللّطف يفعله اللّه تعالى فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح، فيقال على هذا: إنّ اللّه عصمه بأن فعل له ما اختار عنده العدول عن القبيح، و يقال: إنّ العبد معصوم، لأنّه اختار عند هذا الدّاعي الذي فعل له الامتناع من القبيح، و أصل العصمة في موضوع اللّغة المنع، يقال: عصمت فلانا من السّوء إذا منعت من حلوله به، غير أنّ المتكلمين أجروا هذه اللّفظة على من امتنع باختياره عند اللطف الذي يفعله اللّه تعالى به، لأنّه إذا فعل ما يعلم أنّه يمتنع عنده من فعل القبيح فقد منعه من القبيح فأجروا عليه لفظة المانع قهرا و قسرا و أهل اللغة يتعارفون ذلك أيضا و يستعملونه، لأنّهم يقولون فيمن أشار على غيره برأى فقبله منه مختارا، و احتمى بذلك من ضرر يلحقه و سوء يناله أنّه حماه «1» من ذلك الضّرر و منعه و عصمه منه، و إن كان على سبيل الاختيار انتهى.
و قد ظهر ممّا ذكرنا كلّه أنّ العصمة ملكة مانعة عن ارتكاب المعاصي و موجبة لاتيان الطاعات على وجه الاختيار، فما ذهب إليه بعضهم من أنّ المعصوم مجبول عليهما و أنّه لا يمكنه الاتيان بالمعاصي باطل جدّا و إلّا لما استحقّ مدحا كما هو ظاهر.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ النّاس اختلفوا في عصمة الأنبياء على أقوال كثيرة قال الفخر الرّازي و ضبط القول فيه أن يقال: الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة:
______________________________
(1) أى حفظه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 99
أحدها ما يقع فى باب الاعتقاد.
و ثانيها ما يقع في باب التّبليغ.
و ثالثها في باب الأحكام و الفتيا.
و رابعها ما يقع على أفعالهم و سيرتهم.
أمّا اعتقادهم الكفر و الضّلال فان ذلك غير جايز عند أكثر الامّة، و قالت الفضلية من الخوارج: إنّهم قد وقعت منهم الذّنوب و الذّنب عندهم كفر و شرك فلا جرم قالوا: بوقوع الكفر منهم، و أجازت الاماميّة عليهم إظهار الكفر على سبيل التقيّة.
أمّا النّوع الثّاني و هو ما يقع بالتّبليغ فقد أجمعت الأمّة على كونهم معصومين عن الكذب و التّحريف فيما يتعلّق بالتّبليغ، و إلّا لارتفع الوثوق بالأداء، و اتفقوا على أن ذلك كما لا يجوز وقوعه منهم عمدا لا يجوز أيضا سهوا، و من النّاس من جوّز ذلك سهوا قالوا: لأنّ الاحتراز عنه غير ممكن.
و أمّا النّوع الثّالث و هو ما يتعلّق بالفتيا فأجمعوا على أنّه لا يجوز خطاؤهم فيه على سبيل التّعمد، و أمّا على سبيل السّهو فجوّزه بعضهم، و أباه آخرون.
و أمّا النّوع الرّابع و هو الذي يقع في أفعالهم فقد اختلفت الامة فيه على أقوال خمسة:
أحدها قول من جوّز عليهم الكبائر على جهة العمد و هو قول الحشويّة.
و الثّاني قول من لا يجوّز عليهم الكبائر لكنّه يجوّز عليهم الصّغائر على جهة العمد إلّا ما ينفر كالكذب و التّطفيف، و هذا قول أكثر المعتزلة.
القول الثّالث أنّه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة و لا بكبيرة على جهة العمد ألبتّة، بل على جهة التّأويل و هو قول الجبائي.
القول الرّابع أنّه لا يقع منهم الذّنب إلّا على جهة السّهو و الخطاء، و لكنّهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة و ان كان ذلك موضوعا عن امّتهم، و ذلك
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 100
لأنّ معرفتهم أقوى و دلائلهم أكثر، و أنّهم يقدرون من التحفّظ على ما لا يقدر عليه غيرهم.
القول الخامس أنّه لا يقع منهم الذّنب لا الكبيرة و لا الصغيرة لا على سبيل القصد و لا على سبيل السهو و لا على سبيل التّأويل و الخطاء و هو مذهب الرّافضة.
و اختلف النّاس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال:
أحدها قول من ذهب أنّهم معصومون من وقت مولدهم، و هو قول الرّافضة.
و ثانيها قول من ذهب إلى أنّ وقت عصمتهم وقت بلوغهم و لم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر و الكبيرة قبل النّبوة، و هو قول كثير من المعتزلة.
و ثالثها قول من ذهب إلى أنّ ذلك وقت النّبوة، أمّا قبل النّبوة فجائز و هو قول أكثر اصحابنا و قول أبي الهذيل و أبي علي من المعتزلة، انتهى ما اهمنا نقله من كلامه.
و قد ظهر منه أنّ الشيعة لا يجوّزون عليهم المعاصي مطلقا.
و أمّا ما ذكره من أنّ الاماميّة أجازت عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية فهو افتراء عليهم، و إنّما هو شي ء ذكره صاحب المواقف، و كيف يجوّزون إظهار الكفر للأنبياء و الأئمة مع تأييدهم بالنّفوس القدسيّة و القوى الرّبانية، و ما هذه النّسبة إلّا فرية بيّنة و بهتان عظيم.
و أمّا ما ذكره من أنّ الشّيعة لا يجوّزون عليهم المعاصي مطلقا فهو حقّ و لهم على ذلك أدلة عقليّة و نقليّة ذكروها في كتبهم الكلاميّة و التفاسير القرآنية.
منها أنّ متابعة النّبي واجب لقوله: فاتّبعونى، فلو كان عاصيا وجب الاقتداء عليه في معصيته فيفضي إلى الجمع بين الحرمة و الوجوب و هو محال و إذا ثبت ذلك في حقّ النّبيّ ثبت في حقّ ساير الأنبياء لعدم القول بالفصل.
و منها أنّه لو أقدم على المعصية لوجب زجره عنها من باب النّهى عن المنكر مع أنّ زجرهم و ايذائهم محرّم لقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ).
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 101
و منها أنّه لا شي ء أقبح عند العقل من نبي رفع اللّه درجته و ائتمنه على وحيه و جعله خليفة في بلاده و عباده يسمع نداء ربه أن لا تفعل كذا فيقدم عليه ترجيحا للذته و غير ملتفت إلى نهى ربّه و لا منزجر بوعيده هذا معلوم القبح بالضرورة.
و منها أنّه لو لم يكونوا معصومين لانتفت فايدة البعثة و اللّازم باطل فالملزوم مثله، بيان الملازمة أنّه إذا جازت المعصية عليهم لم يحصل الوثوق بصحة قولهم لجواز الكذب حينئذ عليهم، و إذا لم يحصل الوثوق لم يحصل الانقياد لأمرهم و نهيهم فينتفي فائدة بعثتهم و هو محال هذا.
و قد ذكروا أدلة كثيرة وراء ما ذكرنا عليك بمطالبتها من مواقعها.
فان قلت: غاية ما يستفاد من تلك الأدلة هو كونهم معصومين بعد البعثة على ما ذهب إليه الأشاعرة و طائفة من المعتزلة. و لا دلالة فيها على وجوب العصمة قبلها أيضا كما هو مذهب الشّيعة.
قلنا: إذا تمّت دلالتها على ما بعد البعثة فنقول فيما قبل البعثة: إنّ من الواضح أنّ القلوب تشمئز و لا ينقاد إلى طاعة من عهد منه في سالف عمره أنواع المعاصي و الكبائر و ما تنفر النّفس عنه، ألا ترى أن عالما لم يكن له مبالاة في أفعاله و أقواله قبل تحصيله و في أيّام صغره، لا يكون له وقع في القلوب بعد ما كمل و بلغ من العلم و الكمال غايته.
إذا مهدت هذا فنقول: ما ورد في الكتاب العزيز و الأخبار مما يوهم صدور الذّنب عنهم الذي جعله الخصم دليلا على مذهبه لا بدّ من حمله على ترك الأولى جمعا بينها و بين أدلة العصمة العقليّة و النّقليّة مع أنّ جميع الأدلة الموهمة لخلاف العصمة قد ذكر له وجوه و محامل في مواضعه و عليك في ذلك بمطالعة كتاب تنزيه الأنبياء الذي رتّبه علم الهدى المرتضى رضي اللّه عنه و غيره من الكتب المعدة لذلك، و لو لا خوف الاطالة لذكرنا نبذة منه إلّا أنّه لا بأس بذكر ما يوهم ذلك في قصة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 102
آدم عليه السّلام الذي تمسّك به الخصم و هو سبعة أوجه.
الأوّل أنّه كان عاصيا لقوله: و عصى آدم ربّه، و العاصي صاحب الكبيرة لأنّه قد توعد عليه بالعقاب، قال سبحانه: (وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ).
الثّاني أنّه كان غاويا لقوله: فغوى، و الغيّ ضدّ الرّشد يدلّ عليه المقابلة في قوله: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
الثّالث أنّه تائب لقوله: (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ).
و التّوبة إنّما هو عن الذّنب.
الرّابع ارتكابه المنهي عنه كما يشهد به توبيخه بقوله: (أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ). و يدلّ عليه قوله: (وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)*.
و مرتكب المنهي عنه مذنب.
الخامس أنّه ظالم لقوله: (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ*) و قوله حكاية عنهما (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا).
و الظلم ذنب بالضّرورة.
السّادس اعترافه بأنّه لو لا مغفرة اللّه إيّاه لكان خاسرا في قوله: (وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).
و الخسران إنّما يكون عن الذّنب:
السّابع أنّه أخرج من الجنّة بسبب إطاعته للشّيطان و قبوله لوسوسته و ازلاله و ذلك يقتضي كونه مذنبا هذا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 103
و الجواب عن الأوّل أنّ كون آدم عاصيا مسلّم، و أمّا أنّ كلّ عاص صاحب كبيرة فممنوع، لأنّ المعصية عبارة عن مخالفة الأمر واجبا كان أو مندوبا، فانّهم يقولون أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني، بل يطلق على مخالفة الاوامر الارشاديّة أيضا كما يقولون: أمرته بشرب الدّواء فعصاني، و قال عمر و بن العاص لمعاوية:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني و كان من التّوفيق قتل ابن هاشم
و قال ابن المنذر ليزيد بن المهلب أمير خراسان:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الامارة نادما
إذا عرفت ذلك فنقول: لا يمتنع اطلاق اسم العصيان على فعل آدم عليه السّلام، لا لكونه تاركا للواجب، بل لكونه تاركا للأولى من باب حسنات الأبرار سيئات المقرّبين و أمّا ما قيل في الاستدلال من أنّ العاصي قد توعد عليه بالعقاب في قوله:
و من يعص اللّه الاية، فنقول: إنّ الآية و إن كانت مفيدة للعموم بدلالة لفظة من إلّا أنّها مخصوصة بالعاصي بترك الأوامر الواجبة، لا مطلق الأوامر ضرورة أنّ المندوب لا عقاب على تركه.
و يشهد بما ذكرنا من عدم كون الأمر في المقام إلزاميّا أنّه على تقدير كونه للالزام لزم استحقاق آدم للعقاب بنصّ الآية الشريفة أعني قوله: و من يعص اللّه الاية و كيف لأحد أن يجترى و يجسر على هذه الدّعوى و يجيز العقاب على الأنبياء الذين هم أعلام الهدى و العروة الوثقى إن هذا إلّا بهتان عظيم و افتراء.
و عن الثّاني سلّمنا أنّ الغىّ عبارة عن ضدّ الرّشد إلّا أنّ الرّشد هو أن يتوصل بشي ء إلى شي ء يوصل إلى المقصود، فمن توصّل بشي ء إلى شي ء فحصل له ضدّ مقصوده كان ذلك غيّا كما قال الشّاعر:
فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره و من يغو لم يعدم على الغيّ لائما
و على ذلك فمعنى قوله سبحانه: فغوى، فخاب ممّا كان يطمع فيه بأكل الشّجرة من الخلود في الجنّة و الملك الدّائم.
و عن الثّالث أنّا نمنع من أنّ التّوبة لا يكون إلّا عن ذنب لأنّه عبارة عن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 104
النّدم على ما مضى فيجوز على ترك المندوب و سيأتي تحقيق له في الفصل الآتي.
و عن الرّابع المنع من كون مرتكب المنهيّ عنه مذنبا مطلقا و إنّما هو في ارتكاب المناهي التحريميّة، و أمّا مخالفة النّهي التّنزيهي فلا يكون ذنبا، و ذلك لأنّ آدم كان مندوبا؟؟؟ إلى ترك التّناول من الشّجرة و كان بالتّناول منها تاركا نفلا و فضلا و لم يكن فاعلا للقبيح، لأنّ القبيح ما يستحقّ فاعله للعقاب و قد علمت أنّ العقاب منفي عن الأنبياء، و من أجاز العقاب عليهم فقد أساء عليهم الثّناء و أعظم الفرية على اللّه تعالى.
فان قيل: ألم يكن إخراج آدم و إهباطه إلى الأرض عقوبة له؟
قلت: إنّ آدم لم يكن مخلوقا للجنّة و إنّما خلقه اللّه سبحانه ليكون خليفة في الأرض كما يشهد به إخباره سبحانه للملائكة قبل خلق آدم بقوله: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
و إنّما كان إسكانه في الجنّة من باب التفضّل و الاكرام.
و عن الخامس بأنّ الظالم ربّما يقال على من بخس نفسه الثّواب، فنقول:
لا شكّ انّه كان تاركا للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلما على نفسه فالظلم هو النّقص و بخس الثّواب بترك المندوب.
و عن السّادس بأنّ الخسران عبارة عن عدم الرّبح، و من الواضح أنّه لو لم يقدم على أكل الشّجرة حصل له الثواب الموعود من اللّه سبحانه من الأكل الرّغيد و العيش السّعيد، و بالاقدام عليه حصل له الخسران و فوّت المنفعة على نفسه و حاصله منع أنّ الخسران لا يكون إلّا عن ذنب.
و عن السّابع بما ذكرناه سابقا من أنّ آدم خلق لأن يكون خليفة في الأرض و ليس في إهباطه إلى الأرض دلالة على كونه مذنبا، نعم يمكن أن يقال:
إنّ تركه للأولى كان سببا لتعجيل الهبوط، لاحتمال تغيّر المصلحة في البقاء بحصول الأكل هذا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 105
و بقي الكلام في أنّ أكل آدم من الشّجرة هل كان على سبيل السّهو و النسيان أو على سبيل العمد و القصد.
المستفاد من بعض الأخبار هو الأوّل، و هو رواية عليّ بن ابراهيم عن أبي جعفر عليه السّلام التي سبقت عند شرح قوله عليه السّلام و العزيمة بوهنه.
و ربّما اورد عليه بأنّه لو كان ناسيا لما عوتب على ذلك الفعل، لعدم القدرة على التّرك مع النّسيان و تكليف الغافل قبيح عقلا.
و فيه أنّ العتاب يحتمل أن يكون على ترك التحفّظ لأنّ استقلال العقل بقبح المؤاخذة على النسيان مطلقا ممنوع لأنّ النّسيان الصّادر عن ترك التحفّظ لا يقبح المؤاخذة عليه، و لذلك صحّ دعاء النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استيهابه لها من ربّه ليلة المعراج بقوله: (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) الآية.
و هذه المؤاخذة هي التي منّ برفعها على امّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خصّت به من بين الامم كما يدلّ عليه حديث رفع التّسعة الذي رواه الصّدوق في الخصال و التّوحيد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و هو أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: رفع عن امّتي تسعة أشياء: الخطاء، و النّسيان، و ما استكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطرّوا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفة، و بالجملة المؤاخذة على النّيسان مع التحفّظ قبيحة عقلا و اجماعا، و أما مع عدمه فليس فيها قبح، و لذلك استوهبها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج و منّ اللّه على امّته برفعها منها من باب التفضّل و الانعام.
و أما الثّاني أعني إقدامه على الأكل مع العمد فقد ذهب إليه جمع من المفسّرين من العامة و الخاصّة، ثمّ اختلفوا فيه على أقوال أحدها أنّ ذلك النّهي كان نهى تنزيه لا نهى تحريم، و قد علمت أنّه مذهب الاماميّة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 106
الثاني أنّه كان عمدا من آدم و كان ذلك كبيرة و كان آدم نبيّا في ذلك الوقت و هو مذهب الفضلية من الخوارج خذلهم اللّه.
الثالث ما عزاه الفخر الرازي إلى أكثر المعتزلة، و هو أنّه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، و ذلك لا يقتضي كون الذّنب كبيرة، بيان الاجتهاد و الخطاء أنّه لمّا قيل له و لا تقربا هذه الشّجرة فلفظة هذه قد يراد بها الشّخص، و قد يشار بها إلى النّوع، فلمّا سمع آدم قوله: و لا تقربا هذه الشّجرة، ظنّ آدم أنّ المراد بها الشّجرة المشخّصة المعينة. فترك الأكل منها و تناول من شجرة اخرى من نوعها إلّا انّه كان مخطئا في ذلك الاجتهاد، لأنّ مراده سبحانه من كلمة هذه كان النّوع لا الشّخص، و الخطاء في الفروع إذا كان خطاء لا يوجب استحقاق العقاب، لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا أقول: و مثل هذه المقالة قد ورد في بعض أخبارنا، و هو ما رواه الصّدوق في العيون كالطبرسي في الاحتجاج عن عليّ بن محمّد بن الجهم، قال حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا عليه السّلام، فقال له المأمون: يابن رسول اللّه أليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فقال: ما معنى قول اللّه عزّ و جلّ: (وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ).
فقال عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى قال لآدم (وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ...).
و أشار لهما إلى شجرة الحنطة (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)*.
و لم يقل لهما لا تأكلا من هذه الشّجرة و لا ممّا كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة و إنّما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشّيطان إليهما و قال: إنّما نهيكما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 107
ربّكما عن هذه الشّجرة و ما نهيكما أن تقربا غيرها و لم ينهكما عن الأكل منها: (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ، وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).
و لم يكن آدم و حوّاء شاهدا قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ ... فَأَكَلا مِنْها).
ثقة بيمينه باللّه و كان ذلك من آدم قبل النّبوة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحق دخول النّار به و إنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحى إليهم فلمّا اجتبيه اللّه و جعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة قال اللّه: (وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى) و قال:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) الحديث أقول: و هذا الحديث كما ترى مطابق لمذهب المعتزلة كما حكيناه عنهم، و مخالف لاصول الاماميّة لتصريح ذيله بجواز صدور الصغيرة على الأنبياء قبل نزول الوحى فلا بدّ إمّا من طرحه لضعف سنده من حيث الارسال كما في الاحتجاج، أو انتهاء سلسلة السند إلى تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشي كما في العيون، فانّ السّند فيه حدثنا تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشي، قال حدثني أبي عن حمدان بن سليمان النيسابوري عن عليّ بن محمّد بن الجهم، و قد ضعّفه العلامة في الخلاصة حيث قال:
تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشي الذي روى عنه أبو جعفر محمّد بن بابويه ضعيف أو حمله على التقيّة و إن بعدت، أو تأويله بما يطابق اصول المذهب، و قد أوّله الطبرسي على ما رأيته في حاشية بعض نسخ الاحتجاج بقوله: و لعلّ الرضا عليه السّلام أراد بالصّغاير الموهوبة ترك المندوبة و ارتكاب المكروه من الفعل دون الفعل القبيح
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 108
و فيه أنّ ما ذكره و إن كان مقتضى أصول المذهب إلّا أنّ تأويل الرّواية به غير ممكن، لأنّ الصغائر بالمعنى الذي ذكره لا اختصاص لها بما قبل نزول الوحى حسبما ورد في الرّواية، و لا يجب العصمة عنها بعد النبوة أيضا كما يفهمه قوله عليه السّلام:
فلمّا اجتبيه اللّه و جعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة و مثل هذا الاشكال يلوح على رواية اخرى نظير تلك الرّواية، و هي ما رواه في العيون أيضا باسناده عن أبي الصّلت الهروى قال لمّا جمع المأمون لعليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام أهل المقالات من أهل الاسلام و الدّيانات من اليهود و النّصارى و المجوس و الصّابئين و ساير أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا و قد ألزمه حجّته كأنّه ألقمه حجرا، قام إليه عليّ بن محمّد بن الجهم، فقال له يابن رسول اللّه: أتقول: بعصمة الأنبياء عليهم السلام؟ قال عليه السّلام: نعم، قال: فما تقول بقول اللّه: (وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ).
إلى أن قال: فقال الرّضا عليه السّلام: ويحك يا عليّ اتّق اللّه و لا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش و لا تتأوّل كتاب اللّه برأيك فانّ اللّه عزّ و جل قد قال: (وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).
و أمّا قوله عزّ و جلّ في آدم: و عصى آدم ربه فغوى فانّ اللّه عزّ و جلّ خلق آدم حجّة في أرضه و خليفة في بلاده، لم يخلقه للجنّة و كانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض و عصمته يحب أن يكون في الأرض ليتمّ مقادير أمر اللّه، فلمّا اهبط إلى الأرض و جعل حجّة و خليفة عصم بقوله عزّ و جلّ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).
الحديث، و عسى أن يكون للرّوايتين تأويل عند غيرى و فوق كلّ ذى علم عليم هذا و يلوح على الرّواية الاولى إشكال آخر و هو أنّه عليه السّلام قد ذكر أنّ المشار إليها بقوله و لا تقربا هذه الشّجرة شجرة الحنطة، و لم يقل لهما: لا تأكلا من هذه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 109
الشّجرة، و لا ممّا كان من جنسها فلم يقربا هذه و إنّما أكلا من غيرها بتدليس ابليس.
و حاصل الاشكال أن يقال: المشار إليها بهذه إمّا أن تكون شخص الشجرة، و إمّا أن تكون نوعها، فعلى الأوّل لا يكون أكله من غيرها ممّا هي من نوعها تركا للأولى على مذهبنا و ذنبا على مذهب غيرنا، فأىّ توبيخ كان من اللّه سبحانه عليه في فعله ذلك، و على الثّاني كيف يمكن تدليس الشّيطان لهما بقوله: انّما نهيكما ربّكما عن هذه الشّجرة و ما نهيكما أن تقربا غيرها حسبما ورد في الرّواية مضافا إلى أنّ اللّازم على اللّه سبحانه نصب القرينة على إرادة النّوع، بأن يقول:
و لا تقربا هذه الشّجرة و لا غيرها ممّا كان من نوعها، لقبح الاغراء بالجهل و تأخير البيان عن وقت الحاجة.
و يمكن رفع الاشكال بأن يقال: إنّ المنهيّ عنه إنّما كان نوع الشّجرة، و كلمة هذه قد يشار بها إلى الشخص، و قد يشار بها إلى النّوع، فقوله: و لا تقربا هذه الشّجرة، مع عدم نصب القرينة من قبيل الخطاب بالمجمل لا أنّ الخطاب مجمل بل متعلّق الخطاب أعني المكلّف به مردّد بين الكلّي و الفرد، و نفس الخطاب أعني التّكليف بالاجتناب معلوم، فاللّازم على آدم عليه السّلام حينئذ هو الاحتياط بالاجتناب عن جميع الأفراد، و قد دلسه الشّيطان و أوقعه في خلاف الاحتياط المقتضي للاجتناب، و قال له إنّ اللّه حيث لم ينصب قرينة على ارادة النّوع فقد أباح النّوع إلّا الفرد الخاصّ فأكل من غير ذلك الفرد و استحقّ التّوبيخ، و هذا ليس من قبيل الاغراء بالجهل، و لا من قبيل تاخير البيان عن وقت الحاجة، إذ نفس التكليف قد كان معلوما بالعلم التّفصيلي لا جهالة فيه أصلا، و لا حاجة له إلى البيان غاية الأمر كون المكلف به مجملا مردّدا بين أمرين و العقل حاكم فيه بوجوب الاحتياط بترك المحتملات، هذا ما نقده الخاطر القاصر في المقام، و العلم بحقايق الأمور و الأحكام للّه و لاوليائه الكرام عليهم السّلام.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 110
الترجمة:
پس از آن ساكن گردانيد حق سبحانه و تعالى جناب آدم على نبينا و آله و عليه السلام را در سرائى كه وسيع نمود در آن عيش او را، و ايمن ساخت در آن محل او را از مكاره و آفات، و بترسانيد او را از ابليس لعين و دشمنى او، پس فريفته ساخت او را دشمن او بجهت بخل و حسد او بسكون او در سراى اقامت كه بهشتست و به رفيق شدن او با نيكوكاران كه ملائكه مقربين اند، پس بفروخت يقين بعداوت ابليس را بشك در عداوت بجهت قسم خوردن او بخداوند كه من از ناصحين هستم، و بفروخت عزيمت و اهتمامى كه داشت در نخوردن از شجره بوهن و سستى خود كه عارض شد او را بجهة تدليس ابليس، و استبدال كرد و بدل نمود فرح و سرور را بخشيت و ترس، و عزت و بزرگى را بندامت و پريشانى.
***
الفصل الثالث عشر:
ثمّ بسط اللّه له في توبته، و لقّيه كلمة رحمته، و وعده المردّ إلى جنّته. (1739- 1724)
اللّغة:
(التّوبة) الانابة و أصلها الرّجوع عمّا سلف و النّدم على ما فرط و (لقيه) ألقاه من باب تعب لقيا استقبله و كلّ شي ء استقبل شيئا أو صادفه فقد لقيه قال الطبرسي (ره) في تفسير: فتلقى آدم من ربه كلمات: التّلقي نظير التلقن يقال: تلقيت منه أى أخذت و قبلت، و أصله من لقيت خيرا فيعدى إلى مفعول واحد ثم يعدي إلى مفعولين بتضعيف العين، نحو لقّيت زيدا خيرا كقوله تعالى:
«وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً» أقول: و مثله قول الامام عليه السّلام: و لقّيه كلمة رحمته، و حكى الفخر الرازى عن القفال قال: أصل التّلقي التعرض للقادم «1» يوضع في موضع الاستقبال للشّي ء
______________________________
(1) اقول: و منه تلقى الركبان الوارد في الاخبار و في الكتب الفقهية، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 111
الجائي، ثم يوضع موضع القبول و الأخذ قال اللّه: (وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ).
أى تلقّنه، و يقال: تلقينا الحاج أى استقبلناه، و يقال: تلقيت هذه الكلمة من فلان أى أخذتها منه، و إذا كان هذا أصل الكلمة و كان من تلقى رجلا فتلاقيا لقى كلّ واحد صاحبه فاضيف الاجتماع إليهما معا، صلح أن يشتركا في الوصف بذلك، فيقال: كلّ ما تلقيته فقد تلقاك، فجاز أن يقال: تلقى آدم كلمات أى أخذها و وعاها و استقبلها بالقبول، و جاز أن يقال تلقى كلمات بالرّفع على معنى جائته عن اللّه كلمات و (المردّ) كالردّ مصدر من ردّه إذا صرفه.
الاعراب:
مفعول بسط محذوف، و التّقدير بسط اللّه له بساط رحمته و كرامته في توبته، بأن جعلها مقترنة بالقبول، و على ما في بعض النّسخ من انتفاء كلمة له يجوز جعل بسط بمعنى سرّ يقال: بسط فلانا، أى سره فالمفعول حينئذ الضّمير المحذوف الرّاجع إلى آدم عليه السّلام.
المعنى:
(ثم) إنّ آدم عليه السّلام لمّا اغترّه عدوّه و أكل من الشّجرة و ارتكب خلاف الأولى و استبدل الاعتزاز بالندم (بسط اللّه له) بساط رحمته و كرامته (في توبته) بأن ألهمها إليه و تقبلها بقبول حسن (و لقّيه) أى لقنه (كلمة رحمته) التي اشير إليها في قوله سبحانه:
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
(و وعده المردّ) و الرّجوع (الى جنّته) كما قال سبحانه في سورة البقرة:
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) و في سورة طه (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا).
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 112
تنبيهات:
الاول أنّ ظاهر كلام الامام عليه السّلام كون توبة آدم قبل الاهباط من الجنّة
حيث عطف الاهباط على بسط التّوبة، و هو مقتضى التّرتيب الذكري في الآية من سورة طه، قال سبحانه:
(وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً). حيث جعل الأمر بالهبوط بعد التوبة قال الشّارح المعتزلي و ذلك أحد قولي المفسرين اه، و لكن الأشهر أنّ التّوبة كانت بعد الهبوط كما ورد في سورة البقرة قال سبحانه:
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
و الأقوى عندي كون التّوبة بعد الاهباط على ما ورد في سورة البقرة، فيكون كلام الامام عليه السّلام من قبيل التقديم و التّأخير، و التقدير فاستبدل بالجذل و جلا و بالاعتزاز ندما فأهبطه اللّه إلى دار البليّة و تناسل الذّريّة، ثمّ بسط في توبته و لقّيه كلمة رحمته.
فان قلت: مقتضى النّظم حسبما ذكرت في إحدى الآيتين مخالف للاخرى ظاهرا فما الدّليل على ترجيح ما يستفاد من آية البقرة؟ ثم على تقدير وجود الدّليل ما السّر في تقديم التّوبة على الاهباط في آية طه؟
قلت: أمّا السّر فيما ذكر فلعلّه هو أنّه سبحانه لما نسب إلى آدم العصيان و الغيّ الظاهرين في صدور الذّنب الموهمين للافتضاح و سقوطه عن رتبة النّبوة و الاصطفاء كما سبق إلى ذوي الافهام القاصرة و العقول النّاقصة من العامة العمياء (ج 7)
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 113
فانّهم و إن لم يقرّوا بذلك إلّا أنّه لازم كلامهم نظرا إلى أنّ المذنب لا يكون نبيّا كما عرفت في الفصل السّابق، اقتضى «1» الحال و المقام أن يعقّبه بما يوجب دفع ذلك التّوهم و ينبه على أنّ صدور ذلك لم يوجب انحطاط رتبته بحيث يسلبه التّوفيق و الألطاف الخفيّة بالكلّية، و يكون موجبا للخذلان و الحرمان فعقّبه من دون فصل بما أفاد كونه مجتبى و مرتضى، و أن صدور ذلك الفعل لم يسقطه عن الاستعداد و القابليّة للعناية الرّبانية، كما قدم الاجتباء على التّوبة لذلك السر أيضا و هو زيادة إشعاره بدفع ذلك التّوهم فاقتضى الحال تقديمه و أمّا سورة البقرة فقد جرت الحكاية فيها على ما هو الأصل فيها من المطابقة للمحكى، و هذا السّر ممّا لم يسبق إليه أحد غيرى من العلماء و المفسرين و اللّه العالم.
و أمّا الدّليل على تقدّم الاهباط على التّوبة فهو الأخبار الكثيرة منها ما رواه عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره عن الصّادق عليه السّلام قال: فاهبط آدم على الصفا، و إنّما سميت الصفا لأنّ صفوة اللّه نزل عليها و نزلت الحوّاء على المروة «و انما سميت المروة ظ» لأنّ المرأة نزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنّة فنزل عليه جبرئيل فقال يا آدم: ألم يخلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته؟ قال: بلى، قال: و أمرك أن لا تأكل من الشّجرة فلم عصيته؟ قال: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي باللّه انه لي ناصح و ما ظننت أن أحدا من خلقه يحلف باللّه عزّ و جل كاذبا، فقال له جبرئيل: يا آدم تب إلى اللّه.
و منها ما رواه أيضا باسناده عنه عليه السّلام، قال: إنّ آدم بقي على الصّفا أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنّة، و على خروجه من جوار اللّه عزّ و جلّ، فنزل جبرئيل فقال:
يا آدم مالك تبكي؟ فقال: يا جبرئيل ما لي لا أبكي و قد أخرجني اللّه من جواره و أهبطني إلى الدّنيا، فقال: يا آدم تب إليه الحديث و يأتي بتمامه إنشاء اللّه في أواخر الخطبة «2» عند شرح اعلام الحجّ و منها ما رواه في البحار عن معاني الأخبار عن العجلي عن ابن زكريّا القطان عن ابن حبيب عن ابن بهلول عن محمّد بن سنان عن المفضّل قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام
______________________________
(1) جواب لما، منه
(2) فى الفصل الثاني عشر عند شرح قوله: و وقفوا مواقف انبيائه، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 114
إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فجعل أعلاها و أشرفها أرواح محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من بعدهم صلوات اللّه عليهم فعرضها على السّماوات و الأرض و الجبال، فغشيها نورهم فقال اللّه تبارك و تعالى للسماوات و الأرض و الجبال: هؤلاء أحبّائي و أوليائي و حججي على خلقي و أئمة بريّتي، ما خلقت خلقا هو أحبّ إلىّ منهم و لهم و لمن تولّاهم خلقت جنّتي، و لمن خالفهم و عاداهم خلقت ناري، فمن ادّعى منزلتهم منّي و محلّهم من عظمتي عذّبته عذابا لا اعذبه احدا من العالمين، و جعلته مع المشركين في أسفل درك من ناري و من أقرّ بولايتهم و لم يدّع منزلتهم منّي و مكانهم من عظمتي جعلته معهم (معى خ ل) في روضات جناني و كان لهم فيها ما يشاءون عندي، و أبحتهم كرامتي و أحللتهم جواري و شفعتهم في المذنبين من عبادي و إمائي، فولايتهم أمانة عند خلقي فأيّكم يحملها بأثقالها و يدّعيها لنفسه دون خيرتي فأبت السّماوات و الأرض و الجبال أن يحملنها و أشفقن من ادّعاء منزلتها و تمنّى محلّها من عظمة ربّها، فلمّا أسكن اللّه آدم و زوجته الجنّة قال لهما: (كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ).
يعني شجرة الحنطة (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)*.
فنظرا إلى منزلة محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من بعدهم عليهم السّلام فوجداها أشرف منازل أهل الجنّة فقالا: يا ربّنا لمن هذه المنزلة؟ فقال اللّه جلّ جلاله: ارفعا رؤوسكما إلى ساق عرشي فرفعا رؤوسهما فوجدا اسم محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة بعدهم صلوات اللّه عليهم مكتوبا على ساق العرش بنور من نور الجبّار جل جلاله، فقالا: يا ربّنا ما أكرم أهل هذه المنزلة عليك، و ما أحبّهم إليك و ما أشرفهم لديك؟ فقال اللّه جلّ جلاله: لولاهم ما خلقتكما فهؤلاء خزنة علمي و امنائي على سرّي إيّاكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد و تتمنيا منزلتهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 115
عندي و محلّهم من كرامتي فتدخلا بذلك في نهيي و عصياني فتكونا من الظالمين، قالا ربّنا و من الظالمون؟ قال: المدّعون لمنزلتهم بغير حقّ، قالا ربّنا فأرنا منازل ظالميهم حتّى نراها كما رأينا منزلتهم فى جنّتك، فأمر اللّه تبارك و تعالى النّار فأبرزت جميع ما فيها من ألوان النّكال و العذاب، و قال اللّه عزّ و جلّ مكان الظالمين لهم المدّعين لمنزلتهم فى أسفل درك منها:
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) و كلما نضجت جلودهم بدلوا سواها ليذوقوا العذاب يا آدم و يا حوّاء لا تنظرا إلى أنواري (ابرارى خ ل) و حججى بعين الحسد فاهبطكما عن جواري و احل بكما هوانى (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ).
و حملهما على تمنّى منزلتهم فنظرا إليهم بعين الحسد فخذلا حتّى أكلا من شجرة الحنطة فعاد مكان ما اكلا شعيرا فاحمل الحنطة ممّا لم ياكلاه و أصل الشعير كلّه ممّا عاد مكان ما أكلاه فلمّا أكلا من الشّجرة طار الحلّي و الحلل عن اجسادهما و بقيا عريانين (وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).
قال اهبطا من جواري فلا يجاورني في جنتي من يعصيني فهبطا موكولين إلى أنفسهما في طلب المعاش، فلمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يتوب عليهما جاءهما جبرئيل فقال لهما:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 116
إنّكما ظلمتما أنفسكما بتمنّي منزلة من فضّل عليكما، فجزاؤكما ما قد عوقبتما به من الهبوط من جوار اللّه عزّ و جلّ إلى أرضه فاسألا ربّكما بحقّ الاسماء التي رأيتموها على ساق العرش حتّى يتوب عليكما، فقالا: اللهمّ إنّا نسألك بحقّ الأكرمين عليك: محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة إلا تبت علينا و رحمتنا، فتاب اللّه عليهما إنّه هو التّواب الرّحيم، فلم تزل أنبياء اللّه بعد ذلك يحفظون هذه الأمانة و يخبرون بها أوصيائهم و المخلصين من أممهم، فيأبون حملها و يشفقون من ادّعائها و حملها الانسان الذي قد عرف فأصل كلّ ظلم منه إلى يوم القيامة و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ:
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا).
قال المجلسي (ره) الانسان الذي عرف هو ابو بكر هذا و الأخبار في هذا الباب كثيرة، و الاستقصاء فيها موجب للاطالة و فيما ذكرناه كفاية إنشاء اللّه.
و بقي الكلام في مدة بكاء آدم على الجنّة و المستفاد من روايتي عليّ بن إبراهيم السالفتين أنّه بكى أربعين صباحا و في رواية الصّدوق في العيون عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام في أسألة الشّامي عن أمير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة، قال: و سأله «1» عن بكاء آدم على الجنّة و كم كانت دموعه التي خرجت من عينيه؟ فقال عليه السّلام: بكى مأئة سنة و خرج من عينه اليمنى مثل الدّجلة و العين الاخرى مثل الفرات و في الأنوار للمحدّث الجزائري أخذا عن الأخبار، ثمّ إنّ آدم و حوّاء أنزلا من السّماوات على جبل في شرقي الهند، يقال له: باسم و في رواية اخرى يقال له: سر انديب، و هو في الاقليم الأوّل ممّا يلي معدّل النّهار، و قد كانت حوّاء ضفرت رأسها في الجنّة، فقالت: ما أصنع بهذه الضفيرة و أنا مغضوب علىّ، ثمّ إنّها حلّت ضفرتها و في خبر آخر أنّها حلّت عقيصة واحدة فأطارت الرّيح
______________________________
(1) اى الشامي عن على «ع» منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 117
ذلك الطيب في بلاد الهند، فمن ثمّ كان أكثر الطيب منه.
ثمّ أتى جبرئيل فأخذ آدم إلى مكّة ليعلمه المناسك، فطوى له الأرض قصار موضع قدميه عمران، و ما بينهما خراب فأهبط آدم على الصّفا و به سمي لهبوط صفيّ اللّه عليه و حوّاء على المروة و به سمّيت لنزول المرأة و هي حوّاء عليها، فبكى آدم على ما وقع منه و على فراق الجنّة ثلاثمائة سنة من أيّام الدّنيا و في «1» أيّام الآخرة يوم كألف سنة ما بين العصر إلى العشاء، و بكى حتّى صار على خدّيه كالنّهرين، فخرج من عينه اليمنى دموع مثل دجلة، و من عينه اليسرى مثل الفرات، ثمّ إنّ آدم رأى حوّاء يوم الثّامن من شهر ذي الحجّة فلم يعرفها ذلك اليوم لشعث أحوالهما و طول أحزانهما، فتروّى و تفكّر ذلك، ثمّ إنّه عرفها يوم التّاسع، فمن ثمّ سمّي يوم الثّامن يوم التّروية و التّاسع يوم عرفة، و لمّا لم تقبل توبته في تلك السّنين و الأعوام أتى إليه جبرائيل، فقال: يا آدم ادع اللّه بالأسماء التي رأيتها مكتوبة على ساق العرش بسطور النّور و قل: اللّهم بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة الطاهرين أن تقبل توبتي و لعلّ المحدّث المذكور قد أخذ تقدير مدّة البكاء بما ذكره ممّا رواه الصّدوق في الفقيه فى باب علّة وجوب الصّلاة الخمس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: و أما صلاة العصر فهى السّاعة التي أكل آدم فيها من الشّجرة فأخرجه اللّه من الجنّة فأمر اللّه ذريته بهذه الصّلاة إلى يوم القيامة.
و اختارها لامتي فهي من أحب الصّلاة الى اللّه عزّ و جلّ، و أوصاني أن أحفظها من بين الصّلوات، و أمّا صلاة المغرب فهي السّاعة التي تاب اللّه فيها على آدم، و كان ما بين ما أكل من الشجرة و بين ما تاب اللّه عليه ثلاثمأة سنة من أيّام الدّنيا، و في أيام الاخرة يوم كألف سنة ما بين العصر إلى العشاء، فصلّى آدم ثلاث ركعات ركعة لخطيئته و ركعة لخطيئة حواء و ركعة لتوبته الحديث، و يأتي بتمامه انشاء اللّه في شرح الخطبة المأة و التاسعة هذا.
و لا بأس باختلاف هذه الأخبار في مدّة أيام البكاء زيادة (الزائد خ) و نقصانا،
______________________________
(1) اى يوم واحد من أيام الاخرة كألف سنة من أيام الدنيا و قوله ما بين العصر الى العشاء يعنى كان ثلاثمائة سنة من أيام الدّنيا ما بين العصر الى العشاء من أيام الآخرة، من حواشى الفقيه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 118
(الناقص خ) لامكان حمل الأقلّ على الشّديد و الأكثر على الخفيف و المراد بالشديد هو ما يشتمل على النوح، و يقال له: البكاء بالمدّ و الثّاني بالقصر،
الثاني اختلف الأقوال كالأخبار في الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه
التي أشار إليها الامام عليه السّلام بقوله: و لقاه كلمة رحمته.
فقيل إنّ المراد بها هي قوله: ربّنا ظلمنا أنفسنا الاية.
و قيل هي سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر.
و عن ابن عبّاس إنّ اللّه علّم آدم و حواء أمر الحج و الكلمات التي يقال فيه، فحجا، فلما فرغا أوحى اللّه تعالى إليهما أنّي قد قبلت توبتكما.
و في الكافي عن أحدهما عليه السّلام أنّ الكلمات:
لا إله إلّا أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و أنت خير الغافرين، لا إله إلّا أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و ارحمني إنّك أنت أرحم الرّاحمين، لا إله إلّا أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و تب علىّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم.
و في أكثر أخبارنا أنّ المراد بها الأسماء المباركة لمحمد و آل محمّد سلام اللّه عليهم التي توسّل آدم بها إلى اللّه سبحانه في قبول توبته، و لا منافاة بينها لامكان تلقى الجميع و إن كان الأقوى الأخير لقوّة أدلّته عددا و سندا.
فمن تلك الأدلة رواية معاني الأخبار السّالفة فى التذييل الأوّل.
و منها ما عن تفسير الامام عليه السّلام لما زلت من آدم الخطيئة و اعتذر إلى ربّه عزّ و جلّ قال يا ربّ: تب علىّ و اقبل معذرتي فلقد تبين نقص الخطيئة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 119
و ذلّها بأعضائى و ساير بدنى، قال اللّه تعالى يا آدم: أما تذكر أمرى إياك بأن تدعوني بمحمد و آله الطيبين عليهم السلام عند شدائدك و دواهيك و في النّوازل تبهظك «1»، قال آدم يا ربّ بلى، قال اللّه عزّ و جلّ: فهم محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام خصوصا فادعنى أجبك إلى ملتمسك و ازدك فوق مرادك، قال آدم: يا ربّ الهى و قد بلغ عندك من محلّهم أنك بالتّوسل بهم تقبل توبتي و تغفر خطيئتي و أنا الذي أسجدت له ملائكتك و أبحته جنّتك و زوّجته حوّاء أمتك و أخدمته كرام ملائكتك، قال اللّه تعالى: يا آدم إنّما امرت الملائكة بتعظيمك بالسّجود لك إذ كنت وعاء لهذه الأنوار و لو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك و أن افطنك لدواعي عدوّك إبليس حتّى تحترز منها لكنت قد جعلت ذلك، و لكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي فالان فبهم فادعني لاجيبك، فعند ذلك قال آدم: اللّهم بجاه محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطيبين من آلهم لمّا تفضّلت بقبول توبتي و غفران زلتي و إعادتي من كراماتك إلى مرتبتي، قال اللّه عزّ و جلّ: قد قبلت توبتك و أقبلت برضواني عليك و صرفت آلائي و نعمائي إليك و أعدتك إلى مرتبتك من كراماتي و وفرت نصيبك من رحماتي، فذلك قوله عزّ و جلّ «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» و منها ما في البحار عن معاني الأخبار باسناده عن المفضّل عن الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام، قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جل: «وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ».
ما هذه الكلمات؟ قال عليه السّلام: هي الكلمات التي تلقّيها آدم من ربه فتاب عليه و هو أنّه قال: يا ربّ أسألك بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلا تبت علىّ، فتاب اللّه عليه إنّه هو التّواب الرّحيم، فقلت: يابن رسول اللّه فما يعني عزّ و جلّ بقوله أتمهنّ، قال: يعني أتمّهنّ إلى القائم إثنا عشر إماما، تسعة من ولد الحسين عليه السّلام قال المفضّل: فقلت له: يا بن رسول اللّه، فأخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ: (وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ).
______________________________
(1) بهظه الحمل أثقله
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 120
قال: يعني بذلك الامامة جعلها اللّه في عقب الحسين عليه السّلام إلى يوم القيامة قال: فقلت له: يابن رسول اللّه فكيف صارت الامامة في ولد الحسين دون الحسن و هما جميعا ولدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سبطاه و سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فقال: إنّ موسى و هارون كانا نبيّين و مرسلين أخوين، فجعل اللّه النّبوة في صلب هارون دون صلب موسى و لم يكن لأحد أن يقول: لم فعل اللّه ذلك، فانّ الامامة خلافة اللّه عزّ و جلّ ليس لأحد أن يقول: لم جعلها اللّه في صلب الحسين دون صلب الحسن عليهما السّلام، لأنّ اللّه هو الحكيم في أفعاله لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون و منها ما فيه أيضا عن جامع الأخبار و أمالي الصّدوق بالاسناد عن معمر بن راشد، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أتى يهودي النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا يهودي حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النّبيّ كلّمه اللّه و أنزل عليه التّوراة و العصا و فلق له البحر و أظلّه بالغمام؟ فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّه يكره للعبد أن يزكي نفسه و لكنّي أقول: إنّ آدم لمّا أصاب الخطيئة كان توبته أن قال: اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا «1» غفرت لي فغفرها اللّه له، و إنّ نوحا لمّا ركب في السّفينة و خاف الغرق، قال: اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا أنجيتني من الغرق فنجاه اللّه، و إنّ إبراهيم لمّا القي في النّار قال: اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا أنجيتني منها فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما، و إنّ موسى لمّا ألقى عصاه و أوجس في نفسه خيفة قال: اللهمّ إنّى أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا أمنتنى، فقال اللّه جلّ جلاله: لا تخف إنّك أنت الأعلى يا يهودي إنّ موسى لو أدركنى ثمّ لم يؤمن بى و بنبوّتى ما نفعه ايمانه شيئا و لا نفعته النّبوة، يا يهودي و من ذريّتي المهدي عليه السّلام إذا خرج نزل عيسى بن مريم
______________________________
(1) كلمه لما ايجابية بمعنى الا اى أسألك فى كل حال الا حصول المطلوب و هو الحاح و مبالغة فى السؤال، بحار.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 121
لنصرته فقدّمه و صلّى خلفه إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، تركناها مخافة الاطناب، و قد عقد المحدث العلامة المجلسى طاب ثراه فى البحار بابا فى أنّ دعاء الأنبياء استجيب بالتّوسل و الاستشفاع بهم صلوات اللّه عليهم أجمعين
الثالث فى تحقيق توبة الأنبياء على وجه لا ينافي العصمة
فنقول: قد عرفت فى الفصل السّابق أنّ الأنبياء عليهم السّلام معصومون من أوّل عمرهم إلى آخره، و أنّه لم يصدر منهم ذنب قطّ لا صغيرة و لا كبيرة لا فى الصغر و لا فى الكبر و لا قبل البعثة و لا بعد البعثة لا على سبيل العمد و لا على سبيل السّهو و الخطاء، على ما ذهبت اليه أصحابنا رضى اللّه عنهم، و عند ذلك احتاجوا إلى تأويل ما ورد فى الكتاب العزيز من الآيات الدّالة على توبتهم، و كذلك ما ورد فى الأخبار فمن توبة النبي صلّى اللّه عليه و آله مثل ما رواه فى الكافى باسناده عن أبى عبد اللّه عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتوب إلى اللّه عزّ و جلّ كلّ يوم سبعين مرّة و ما رواه الطبرسى فى مجمع البيان عن أمّ سلمة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باخره لا يقوم و لا يقعد و لا يجي ء و لا يذهب إلا قال سبحان اللّه و بحمده أستغفر اللّه و أتوب إليه فسألناه عن ذلك، فقال إنّى أمرت بها ثمّ قرء (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ).
إلى آخر السّورة و كذلك ما ورد من توبة الأئمة عليهم السلام كما فى الأخبار الكثيرة و الأدعيّة المأثورة، و كفاك شاهدا أدعيّة الصّحيفة السّجادية و لا سيّما دعاء التّوبة و دعاء الاستقالة المتضمنة للاعتراف بالذنوب و المعاصى إذا عرفت ذلك فأقول: قد أجاب عنه أكثر الأصحاب بأنّ ترك المندوب و فعل المكروه ربّما يسمّى ذنبا فيجوز التوبة حينئذ قال الطبرسى (ره): و عندنا يصحّ التوبة إذا كانت من ترك المندوب و يكون
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 122
ذلك على وجه الرّجوع إلى فعله، و على هذا يحمل توبة الأنبياء فى جميع ما نطق به القرآن و قد أجيب عن استغفار النّبيّ و الأئمة عليهم السّلام و توبتهم مضافا إلى ما مرّ بوجوه خاصّة أحدها أنّه لتعليم الأمة و تأديبهم و تنبيههم على كيفيّة الاقرار و الاعتراف بالتقصير و الذنوب و الاستغفار و التّوبة الثاني أنّه من قبيل التّواضع و الاعتراف بالعبودية و أنّ البشر مظنّة التقصير الثّالث أنّ الاعتراف بالذّنوب و الاستغفار منها إنّما هو على تقدير وقوعها، و المعنى إن صدر منّي شي ء من هذه الامور فاغفره لي، و قد تقرّر أنّه لا يلزم من صدق الشّرطيّة صدق كلّ واحد من جزئيها الرّابع أنّهم يتكلمون على لسان أمّتهم و رعيّتهم، فاعترافهم بالذّنوب اعتراف بذنوب امّتهم، لأنّ كلّ راع مسئول عن رعيّته و إنّما أضافوا الذّنوب إلى أنفسهم المقدسة للاتّصال و السّبب، و لا سبب أوكد ممّا بين الرّسول أو الامام عليه السّلام و بين امّته و رعيّته، ألا ترى أنّ رئيس القوم إذا وقع من قومه هفوة أو تقصير قام هو في الاعتذار منهم و نسب ذلك إلى نفسه و إذا اريد عتابهم و توبيخهم وجّه الكلام إليه دون غيره منهم، و إن لم يفعل هو ذلك بل و لا شهده و هذا في الاستعمال معروف أقول: و يؤيّد هذا الوجه ما رواه القمّي عن الصّادق عليه السّلام في قوله تعالى:
«لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» قال عليه السّلام: و اللّه ما كان له ذنب و لا همّ بذنب، و لكنّ اللّه حمله ذنوب شيعته ثمّ غفرها و في المجمع عنه أنّه سئل عنها، فقال عليه السّلام: و اللّه ما كان له ذنب، و لكنّ اللّه سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي ما تقدّم من ذنبهم و ما تأخّر، قال بعض أهل المعرفة:
قد ثبت عصمته فلم يبق لاضافة الذّنب إليه إلّا أن يكون هو المخاطب و المراد امّته كما قيل: إيّاك أدعو و اسمعي يا جاره
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 123
الخامس ما ذكره الشّيخ عليّ بن عيسى الاربلي (ره) في كشف الغمّة و استحسنه أكثر من تأخّر عنه كالمحدّث المجلسي (ره) و الشّيخ البهائي في شرح الأربعين و الطريحى و شارح الصّحيفة السيّد صدر الدين عليّ الحسيني و غيرهم من متصدّي الأخبار قال (ره) فائدة سنية كنت أرى الدّعاء الذي كان يقوله أبو الحسن عليه السّلام في سجدة الشّكر و هو «1» «ربّ عصيتك بلساني و لو شئت و عزّتك لأخرستني و عصيتك ببصري و لو شئت و عزّتك لأكمهتني و عصيتك بسمعي و لو شئت و عزّتك لأصممتني و عصيتك بيدي و لو شئت و عزّتك لكنعتني و عصيتك بفرجي و لو شئت و عزّتك لعقمتني و عصيتك برجلي و لو شئت و عزّتك لجذمتني و عصيتك بجميع جوارحي الّتي أنعمت بها عليّ و لم يكن هذا جزاك منّي».
بخط عميد الرّوساء لعقمتني و المعروف عقمت «2» المراة و عقمت و عقمت و أعقمها اللّه.
فكنت أفكّر في معناه و أقول: كيف يتنزّل على ما يعقده الشيعة من القول بالعصمة، و ما اتّضح لي ما يدفع التردّد الذي يوجبه، فاجتمعت بالسيّد السّعيد النّقيب رضي الدّين ابي الحسن عليّ بن موسى الطاوس الحسني رحمه اللّه و ألحقه بسلفه الطاهر،
______________________________
(1) يعنى بار خدايا عصيان تو كردم بزبان و اگر مى خواستى بعزت و بزرگى تو قسم كه هرآينه مرا گنگ مى كردى و عصيان تو نمودم بچشم خود و اگر مشيت تو بآن تعلق مى گرفت بعزت و بزرگى تو قسم كه هر آينه كور مى كردى مرا و عصيان تو كردم بگوش خود يعنى امورى كه نبايست شنيد شنيدم و اگر مى خواستى بعزت و بزرگى تو قسم كه هراينه مرا كر مى كردى كه هيچ چيز نمى توانستم شنيد، شرح اربعين بهائى ره
(2) عقم فى بعض ما عندنا من كتب اللغة جاء لازما و متعديا قال فى القاموس عقم كفرح و نصر و كرم و عنى و عقمها اللّه يعقمها و اعقمها، انتهى اختصاص
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 124
فذكرت له ذلك فقال: إنّ الوزير السّعيد مؤيد الدين القمي رحمه اللّه سألني عنه، فقلت: كان يقول هذا ليعلم النّاس، ثم إني ذكرت بعد ذلك فقلت: هذا كان يقوله في سجدته في اللّيل و ليس عنده من يعلّمه، ثم سألني الوزير مؤيد الدّين محمّد بن العلقمى ره فاخبرته بالسؤال و الجواب الأوّل الذي قلت و الذي أوردته عليه و قلت: ما بقي إلّا أن يكون يقوله على سبيل التّواضع، و ما هذا معناه، فلم يقع منّى هذه الأقوال بموقع و لا حلّت من قلبي في موضع، و مات السيّد رضي الدّين رحمه اللّه، فهداني اللّه إلى معناه و وقفنى على فحواه، فكان الوقوف عليه و العلم به و كشف حجابه بعد السنين المتطاولة و الأحوال المجرية و الادوار المكرّرة من كرامات الامام موسى عليه السّلام و معجزاته و لتصحّ نسبة العصمة إليه عليه السّلام و تصدق على آبائه و ابنائه البررة الكرام و تزول الشّبهة التي عرضت من ظاهر هذا الكلام.
و تقريره «1» أنّ الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام تكون أوقاتهم مشغولة باللّه تعالى و قلوبهم مملوّة و خواطرهم متعلّقة بالملأ الأعلى، و هم عليهم السلام أبدا في المراقبة كما قال صلّى اللّه عليه و آله: اعبد اللّه كأنّك تراه فان لم تكن تراه فانّه يراك، فهم أبدا متوجّهون إليه و مقبلون بكلهم عليه، فمتى انحطوا عن تلك الرّتبة العالية و المنزلة الرّفيعة إلى الاشتغال بالمأكل و المشرب و التّفرغ إلى النّكاح و غيره من المباحات، عدوّه ذنبا و اعتقدوه خطيئة و استغفروا منه.
ألا ترى أنّ بعض عبيد أبناء الدّنيا لو قعد و أكل و شرب و نكح و هو يعلم أنّه بمرئى من سيّده و مسمع، لكان ملوما عند النّاس و مقصرا فيما يجب عليه من خدمة سيّده و مالكه، فما ظنك بسيّد السّادات و ملك الاملاك.
و إلى هذا أشار صلّى اللّه عليه و آله: أنّه ليغان «2» على قلبي و إني لأستغفر بالنّهار سبعين مرّة، و لفظة السّبعين إنّما هي لعد الاستغفار لا إلى الرّين «3»، و قوله حسناتالأبرار سيئات المقرّبين.
______________________________
(1) ما ذكره ره وجه حسن فى تأويل ما نسبوا الى انفسهم المقدسة من الذنب و الخطاء و العصيان، بحار الانوار.
(2) بدرستى كه در پوشيد دل من چيزى را كه مى پوشيد او را، شرح اربعين
(3) الرين الحجاب الكثيف قال تعالى: بل ران على قلوبهم، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 125
و يزيده إيضاحا من لفظه ليكون أبلغ من التّأويل و يظهر من قوله عقمنى و العقيم الذي لا يولد له و الذي يولد من السّفاح لا يكون ولدا، فقد بان بهذه أنّه كان يعدّ اشتغاله في وقت ما بما هو ضرورة للأبدان معصية و يستغفر اللّه منها.
و على هذا فقس البواقي و كلّما يرد عليك من أمثالها، و هذا معنى شريف يكشف بمدلوله حجاب الشبه و يهدي به اللّه من حسر عن بصره و بصيرته رين العمى و العمه، و ليت السّيد (ره) كان حيّا لأهدي هذه العقيلة إليه و أجلو عرايسها عليه، فما أظنّ أنّ هذا المعنى اتّضح من لفظ الدعاء لغيري، و لا أنّ أحدا سار في ايضاح مشكله و فتح مقفّله مثل سيري. و قد ينتج الخاطر العقيم فيأتي بالعجائب، و قديما ما قيل: مع الخواطي سهم صائب انتهى كلامه رفع مقامه.
و قد اقتفى أثره القاضى ناصر الدّين البيضاوى في شرح المصابيح عند شرح قوله صلّى اللّه عليه و آله: إنّه ليغان على قلبي و إنّي لأستغفر اللّه في اليوم مأئة مرّة، قال: الغين لغة في الغيم و غان على كذا اى غطى، قال أبو عبيدة في معنى الحديث أى يتغشى قلبي ما يلبسه، و قد بلغنا عن الاصمعى أنّه سئل عن هذا، فقال للسائل: عن قلب من تروى هذا؟ فقال: عن قلب النّبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال: لو كان غير قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، لكنت افسره لك، قال القاضي و للّه درّ الاصمعى في انتهاجه منهج الأدب و إجلاله القلب الذي جعله اللّه موقع وحيه و منزل تنزيله.
ثمّ قال: لمّا كان قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله أتمّ القلوب صفاء و أكثرها ضياء و أعرفها عرفانا و كان صلّى اللّه عليه و آله معنيا «1» مع ذلك بتأسيس الملّة و تشريع السّنة ميسرا غير معسر، لم يكن له بدّ من النّزول إلى الرّخص و الالتفات إلى حظوظ النّفس مع ما كان ممتحنا به من أحكام البشرية، فكان إذا تعاطى شيئا من ذلك أسرعت كدورة إلى القلب لكمال رقّته و فرط نورانيّته، فانّ الشّي ء كلّما كان أرقّ و أصفى كان ورود
______________________________
(1) من عنى بالامر اهتم به، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 126
المكدّرات عليه أبين و أهدى، فكان إذا أحسّ بشي ء من ذلك عدّه على النّفس دنبا فاستغفر منه انتهى ما حكى عنه ملخصا.
و قال المحدّث العلامة المجلسي طاب ثراه في المجلد السّابع من البحار: اعلم أنّ الاماميّة رضي اللّه عنهم اتفقوا على عصمة الأئمة عليهم السّلام من الذنوب صغيرها و كبيرها فلا يقع منهم ذنب أصلا لا عمدا و لا نسيانا و لا لخطاء في التّأويل و لا للاسهاء من اللّه سبحانه، و لم يخالف فيه الا الصدوق محمّد بن بابويه و شيخه ابن الوليد رحمة اللّه عليهما فانّهما جوزا الاسهاء من اللّه تعالى لمصلحة في غير ما يتعلق بالتّبليغ و بيان الأحكام، لا السهو الذي يكون من الشّيطان، و قد مرت الأخبار و الأدلة الدالة عليها في المجلد السّادس و الخامس و أكثر أبواب هذا المجلد مشحونة بما يدلّ عليها، فامّا ما يوهم خلاف ذلك من الأخبار و الأدعية فمأولة بوجوه.
الأوّل أنّ ترك المستحب و فعل المكروه قد يسمى ذنبا و عصيانا، بل ارتكاب بعض المباحات أيضا بالنسبة إلى رفعة شأنهم و جلالتهم ربّما عبروا عنه بالذّنب، لانحطاط ذلك عن ساير أحوالهم كما مرت الاشارة إليه فى كلام الاربلى (ره) الثّاني أنّهم بعد انصرافهم عن بعض الطاعات التي أمروا بها من معاشرة الخلق و تكميلهم و هدايتهم و رجوعهم عنها إلى مقام القرب و الوصال و مناجاة ذي الجلال، ربّما وجدوا أنفسهم لانحطاط تلك الأحوال عن هذه المرتبة العظمى مقصرين، فيتضرّعون لذلك و إن كان بأمره تعالى، كما أنّ أحدا من ملوك الدّنيا إذا بعث واحدا من مقربى حضرته إلى خدمة من خدماته التي يحرم بها من مجلس الحضور و الوصال، فهو بعد رجوعه يبكى و يتضرّع و ينسب نفسه إلى الجرم و التّقصير، لحرمانه عن هذا المقام الخطير.
الثالث أن كمالاتهم و فضائلهم و علومهم لما كانت من فضله تعالى، و لو لا ذلك لأمكن أن يصدر منهم أنواع المعاصى، فاذا نظروا إلى تلك الحال أقرّوا بفضل ربّهم و عجز نفسهم بهذه العبارات الموهمة لصدور السيئات، فمفادها إنى أذنبت لو لا توفيقك، و أخطأت لولا هدايتك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 127
الرّابع أنّهم لما كانوا فى مقام التّرقى فى الكمالات و الصّعود على مدارج الترقيات فى كلّ آن من الآنات فى معرفة الرّب تعالى و ما يتبعها من السعادات فاذا نظروا إلى معرفتهم السّابقة و عملهم معها، اعترفوا بالتّقصير و تابوا منه، و يمكن أن ينزل عليه قول النبي صلّى اللّه عليه و آله: و إنى لأستغفر اللّه فى كلّ يوم سبعين مرّة.
الخامس أنّهم عليهم السلام لما كانوا فى غاية المعرفة لمعبودهم فكلما أتوابه من الأعمال بغاية جهدهم ثم نظروا إلى قصورها عن أن يليق بجناب ربهم، عدوا طاعاتهم من المعاصى، و استغفروا منها كما يستغفر المذنب العاصى.
و من ذاق من كأس المحبّة جرعة شائقة لا يأبى عن قبول تلك الوجوه الرائقة و العارف المحب الكامل إذا نظر إلى غير محبوبه أو توجه إلى غير مطلوبه، يرى نفسه من أعظم الخاطئين، رزقنا اللّه الوصول إلى درجات المحبين.
أقول: هذا ما ذكره علماؤنا البارعون في التفصّي عن الاشكال المذكور، شكر اللّه سعيهم و أجزل مساعيهم رضوان اللّه عليهم، إلّا أنّ لي فى المقام وجها آخر و هو بحسب الظاهر قريب من بعض الوجوه السّابقة إلا أنّ نسبته إليها كنسبة الثّريا الى الثّرى كما هى غير خفيّة على صاحب الذوق السّليم و الطبع المستقيم و هو أنّك قد عرفت في التذييل الأوّل من تذييلات الفصل الثّامن من فصول هذه الخطبة، أنّ أوّل ما خلق اللّه سبحانه أنوار النبىّ و آله عليهم السّلام، كما عرفت أنّه سبحانه خلق تلك الأنوار من قبل أن يخلق العالم بالوف من السّنين، و مرّ هناك فى حديث أبى الحسن البكري أنّه سبحانه خلقها قبل إيجاد العالم بأربعة و عشرين و أربعمائة ألف عام إذا تذكرت ذلك فنقول: إنّهم قد كانوا حينئذ أنوارا بسيطة و جواهر مجرّدة عن التّعلق بالأجسام و الجسمانيّات، خالصة عن الكدورات، فارغة عن القيودات و العلاقات، مستغرقة فى تلك المدّة المتطاولة فى شهود جمال الحقّ سبحانه و تعالى مشتغلة فى جميع هذه المدّة بالتّسبيح و التّقديس و التنزيه، تارة فى حجاب القدرة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 128
و اخرى فى حجاب العظمة، و ثالثة فى حجاب العزّة، و رابعة فى حجاب الهيبة إلى غير هذه من حجب النّور المذكورة فى الحديث المذكور، ثمّ اقتضت الحكمة الرّبانيّة إهباطهم من عالم التجرّد إلى عالم التقيّد و التعلّق، فتصوّروا بالصّور الانسانيّة هداية للخلق و إرشادا للامّة، و حصلت لهم فى هذا العالم من القيودات و العلاقات ما هو مقتضى البشريّة و الجسمانيّة، و لمّا لم يتمكّنوا فى هذا العالم من الاستغراق التام و الفراغ الكامل، مثل تمكنهم فى ذلك العالم، لوجود التّعلّقات المانعة هنا و عدمها هناك، استغفروا اللّه سبحانه لذلك، و اعترفوا بالتقصير اعتراف المذنب المقصر، هذا ما خطر بالخاطر القاصر، و اللّه الهادي إلى المنهج القويم، و الصّراط المستقيم.
الترجمة:
پس بعد از اين كه جناب آدم از شجره منهيه اكل نمود، و بعمل خود نادم و پشيمان گشت و چهل شبانه روز و بروايتى يك صد سال و بروايت ديگر سيصد سال گريه و زاري كرد، بسط فرمود خداوند سبحانه و تعالى بجهت او بساط كرامت و رحمت خودش را در توبه او، باين نحو كه الهام توبه فرمود بر او و قبول كرد آنرا از او، و تلقين نمود بر او كلمه رحمت خود را كه بنا بر اشهر توسّل باسماء مباركه محمّد و آل محمّد سلام اللّه عليهم است كه در ساق عرش ديده بود و وعده فرمود بر او رجوع دادنش را ببهشت عنبر سرشت خود.
***
فأهبطه إلى دار البليّة و تناسل الذّرّيّة:
اللغة:
(هبط) الماء و غيره هبطا من باب ضرب نزل و في لغة قليلة يهبط هبوطا من باب قعد و هبطته أنزلته يتعدى و لا يتعدى و (البليّة) كالبلاء و البلوى اسم من الابتلاء بمعنى الامتحان و (التّناسل) التّوالد و (الذّريّة) و النّسل و الولد نظائر و تكون الذّرية واحدا و جمعا و فيها ثلاث لغات أفصحها ضمّ الذّال و بها قرء السّبعة في الآيات القرآنية، و الثّانية كسرها، و يروى عن زيد بن ثابت، و الثّالثة فتح الذّال مع تخفيف الرّاء وزان كريمة و بها قرء أبان بن عثمان و تجمع على ذرّيات و الذّراري و في أصلها أربعة مذاهب: من الذّرء بالهمز من ذرء اللّه الخلق، و من الذّر و الذّرو و الذّري، فعلى الأوّل وزنها فعيلة أبدلت الهمزة ياء كبريّة، و على الثّاني وزنها فعلية كقمريّة أو فعّيلة نحو ذرّيرة، فلمّا كثرت الرّاآت أبدلت الأخيرة ياء و ادغم الياء الاولى فيها، نحو سريّة فيمن أخذها من السرّ، و هو النّكاح، أو فعّولة نحو ذرورة فابدلوا الرّاء الأخيرة لما ذكرناه فصار ذروية ثمّ ادغمت الواو في الياء فصار ذريّة، و على الثالث فوزنها فعولة، و على الرّابع فعيلة
الاعراب:
و تناسل الذّريّة بالجرّ عطف على البليّة،
المعنى:
ثمّ انّ آدم لمّا أكل من الشّجرة أخرجه اللّه سبحانه من الجنّة (فاهبطه) أى أنزله (إلى دار البليّة) و المراد بالاهباط على تقدير كون آدم عليه السّلام في جنّة السّماء واضح، و أمّا على تقدير كونه في جنّة الدّنيا كما هو الأظهر لما قد مرّ، فالمراد بالاهباط هو الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى: اهبطوا مصرا، و المراد بدار البليّة هو دار الدّنيا، لأنّ اللّه سبحانه قد جعل فيه البلاء أدبا للظالم و امتحانا للمؤمن و درجة للأنبياء و كرامة للأولياء على ما ورد في الخبر ثمّ إنّ أوّل بقعة هبط إليها آدم هي الصّفا على ما مرّ فى الأخبار، و في بعض الأخبار هي جبل سرانديب كما مرّ أيضا و هو جبل بأعلى الصّين في أرض الهند
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 131
يراه البحريّون من مسافة أيّام، و فيه على ما نقل أثر قدم آدم مغموسة، و نقل أنّ الياقوت الأحمر موجود في هذا الجبل تحدرها السيول و الأمطار من ذروته الى الحضيض و به يوجد الماس أيضا و يوجد العود.
و قد كان هبوط آدم بعد غروب الشّمس على ما رواه عليّ بن ابراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: كان عمر آدم عليه السّلام من يوم خلقه اللّه إلى يوم قبضه تسعمائة و ثلاثين سنة، و دفن بمكة و نفخ فيه يوم الجمعة بعد الزّوال، ثم برء زوجه من أسفل أضلاعه «1» و أسكنه جنّته من يومه ذلك، فما استقرّ فيها إلّا ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى اللّه و أخرجهما من الجنّة بعد غروب الشّمس و ما بات فيها.
و في الفقيه عن الحسين بن العلاء عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّه لمّا اهبط آدم من الجنّة ظهرت به شامة سوداء «2» من قرنه إلى قدمه فطال حزنه و بكاؤه لما ظهر به فأتاه جبرئيل فقال: له ما يبكيك يا آدم؟ فقال: لهذه الشّامة التي ظهرت بي قال: قم يا آدم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الاولى، فقام فصلّى فانحطت الشّامة إلى عنقه، فجائه في الصّلاة الثّانية فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الثّانية، فقام فصلّى فانحطت الشّامة إلى سرّته، فجائه في الصّلاة الثّالثة فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الثّالثة، فقام فصلّى فانحطت الشّامة إلى ركبتيه، فجائه في الصّلاة الرّابعة فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الرّابعة، فقام فصلّى فانحطت الشّامة إلى قدميه، فجائه في الصّلاة الخامسة فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الخامسة، فقام فصلّى فخرج منها، فحمد اللّه و أثنى عليه فقال جبرئيل: يا آدم مثل ولدك في هذه الصّلاة كمثلك في هذه الشّامة، من صلّى من ولدك في كلّ يوم و ليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشّامة.
و في الوسائل في باب تحريم العصير العنبي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
______________________________
(1) قال فى الفقيه و الخبر الذى روى ان حواء خلقت من ضلع آدم الايسر صحيح و معناه من الطينة التي فضلت من ضلعه الايسر و لذلك صارت اضلاع الرجل انقص من اضلاع النساء بضلع انتهى كلامه رحمه اللّه.
(2) خال سياه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 132
إنّ اللّه لما أهبط آدم أمره بالحرث و الزّرع و طرح غرسا عليه من غرس الجنّة فأعطاه النّخل و العنب و الزّيتون و الرّمان فغرسها لعقبه و ذرّيته، فأكل هو من ثمارها فقال إبليس: ائذن لي ان آكل منه شيئا فأبى أن يطعمه فجاء عند آخر عمر آدم، فقال لحوّاء: قد أجهدني الجوع و العطش اريدان تذيقني من هذه الثّمار، فقالت له:
إنّ آدم عهد إلىّ أن لا أطعمك شيئا من هذا الغرس و أنّه من الجنّة و لا ينبغي لك أن تأكل منه، فقال لها: فاعصري منه في كفي شيئا، فأبت عليه، فقال: ذريني أمصّه و لا آكله، فأخذت عنقودا من عنب فأعطته فمصّه و لم يأكل منه لما كانت حوّاء قد اكدت عليه، فلمّا ذهب يعض عليه اجتذبته حوّاء من فيه، فأوحى اللّه إلى آدم إنّ العنب قد مصّه عدوّي و عدوّك إبليس و قد حرّمت عليك من عصيره الخمر ما خالطه نفس ابليس فحرمت الخمر، لأنّ عدوّ اللّه إبليس مكر بحواء حتّى أمصّته العنبة، و لو أكلها لحرّمت الكرمة من أوّلها إلى آخرها و جميع ثمارها و ما يخرج منه، ثم إنّه قال لحوّاء: لو أمصصتني شيئا من التمر كما أمصصتني من العنب، فأعطته تمرة فمصّها إلى أن قال «1» ثم إن ابليس ذهب بعد وفاة آدم فبال في أصل الكرمة و النّخلة، فجرى الماء في عودهما ببول عدوّ اللّه، فمن ثم يختمر العنب و الكرم، فحرّم اللّه على ذرّية آدم كل مسكر، لأنّ الماء جرى ببول عدوّ اللّه في النّخلة و العنب و صار كلّ مختمر خمرا لأنّ الماء اختمرت في النّخلة و الكرمة من رائحة بول عدوّ اللّه هذا.
و قد استطرفت هذه الأخبار لكونها غير خالية عن المناسبة للمقام مع ما فيها من الاشارة إلى بعض ما ابتلى به آدم عليه السّلام بعد إهباطه إلى دار البلية.
و من أعظم ما ابتلي به قتل هابيل و لقد رثى له بما رواه في العيون باسناده عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام في حديث الشّامي مع أمير المؤمنين عليه السّلام و سأله عن أوّل من قال الشّعر: فقال عليه السّلام: آدم عليه السّلام، فقال: و ما كان شعره؟ قال عليه السّلام:
______________________________
(1) و كانت العنب و التمر اشد رائحة من المسك الا ذفر و أحلى من العسل فلما مصهما ابليس لعنه اللّه ذهبت رائحتهما و انتقصت حلاوتهما هكذا فى نسخة الوافى، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 133
لمّا انزل من السّماء إلى الأرض فرأى تربتها و سعتها و هواها، و قتل قابيل هابيل قال آدم عليه السّلام:
تغيّرت البلاد و من عليها فوجه الارض مغبّر قبيح
تغيّر كل ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه المليح
و ما لي لا اجود بسكب دمع و هابيل تضمّنه الضّريح
ارى طول الحياة علىّ غما و هل انا من حياتي مستريح
قتل قابيل هابيل أخاه فوا حزنا لقد فقد المليح
فأجابه ابليس لعنه اللّه:
تنحّ عن البلاد و ساكنيها فبي في الخلد ضاق بك الفسيح
و كنت بها و زوجك في قرار و قلبك من أذى الدّنيا مريح
فلم تنفكّ من كيدي و مكري الى ان فاتك الثّمن الربيح
و بدّل أهلها أثلا و خمطا بجنّات و أبواب متيح «1»
فلو لا رحمة الجبار أضحى بكفّك من جنان الخلد ريح
هذا و قوله عليه السّلام (و تناسل الذرّية) أى أهبطه إلى دار توالد الاولاد من البنات و البنين.
و قد اختلف في ابتداء التّناسل فذهب المجوس المجوّزون لنكاح المحارم إلى أنّ آدم زوّج البنات للبنين فحصل التّناسل و كثر الخلق.
و في الآثار أنّهم كان لهم ملك فسكر ليلة فوقع على اخته و امّه فلما أفاق ندم و شقّ ذلك عليه و أراد رفع التّعيير عنه، فقال للنّاس: هذا حلال، فامتنعوا عليه فجعل يقتلهم و حفر لهم الاخدود.
و في خبر آخر عن امير المؤمنين عليه السّلام يأتي في شرح الخطبة الثّانية و التّسعين أنه احتجّ لهم على جوازه بتزويج أولاد آدم و أنّهم قد كانوا ينكحون أخواتهم فقبله جماعة و بقوا عليه إلى الآن.
______________________________
(1) اى مرتفع منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 134
و وافقهم على ذلك الاعتقاد الفاسد جمهور المخالفين، فانّهم قالوا: إنّ حواء امرأة آدم كانت تلد في كلّ بطن غلاما و جارية، فولدت أوّل بطن قابيل و توأمته اقليميا، و البطن الثّاني هابيل و توأمته ليوذا، فلما أدركوا جميعا أمر اللّه تعالى أن ينكح قابيل اخت هابيل و هابيل اخت قابيل، فرضي هابيل و أبى قابيل، لأنّ اخته كانت حسناء، و قال: ما أمر اللّه سبحانه بهذا و لكن هذا من رأيك فأمرهما آدم أن يقربا قربانا فرضيا بذلك، فانطلق هابيل إلى أفضل كبش من غنمه و قربه التماسا لوجه اللّه تعالى و مرضاة أبيه، و أمّا قابيل فانّه قرّب الزّوان الذي يبقى في البيدر الذي لا يستطيع أن يدسه، فقرّب ضغثا منه لا يريد به وجه اللّه و لا مرضاة أبيه، فقبل اللّه قربان هابيل و أتت نار بيضاء من السّماء فأخذته، ورد على قابيل قربانه، فقال ابليس لعنه اللّه لقابيل: إنّه يكون لهابيل عقب يفتخرون على عقبك، بأن قبل قربان أبيهم فاقتله حتّى لا يكون له عقب، فقتله، و هذا مقالة المخالفين الموافقة لمذهب المجوس لعنهم اللّه.
و أمّا الحقّ الحقيق الذي ينبغي أن يدان به فهو ما ذهب إليه أصحابنا أخذا عن الأخبار المأثورة عن أهل بيت العصمة و الطهارة سلام اللّه عليهم.
منها ما رواه الصّدوق في الفقيه عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ آدم ولد له شيث و أنّ اسمه هبة اللّه، و هو أوّل وصي اللّه من الادميين في الأرض، ثم ولد له بعد شيث يافث، فلمّا أدركا أراد اللّه أن يبدء بالنّسل ما ترون و أن يكون ما قد جرى به القلم من تحريم ما حرّم اللّه عزّ و جلّ من الاخوات على الاخوة، أنزل بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنّة اسمها نزلة، فأمر اللّه عزّ و جلّ أن يزوجها من شيث، فزوجها منه، ثم أنزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنّة اسمها منزلة فأمر اللّه عزّ و جلّ أن يزوجها من يافث، فزوّجها منه، فولد لشيث غلام، و ولد ليافث جارية، فأمر اللّه عزّ و جلّ آدم عليه السّلام حين أدركا أن يزوّج ابنة يافث من ابن شيث، ففعل، فولد الصّفوة من النّبيين و المرسلين من نسلهما، و معاذ اللّه أن يكون ذلك على ما قالوا من أمر الاخوة و الأخوات.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 135
و منها ما فيه عن القاسم بن عروة عن بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:
إنّ اللّه تبارك و تعالى انزل على آدم حوراء من الجنّة فزوّجها أحد ابنيه و زوّج الأخر ابنة الجان، فما كان في النّاس من جمال كثير أو حسن خلق فهو من الحوراء، و ما كان فيهم من سوء الخلق فهو من ابنة الجانّ و منها ما رواه ابو بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال: لى ما يقول الناس في تزويج آدم ولده؟ قال: قلت يقولون: إنّ حوّاء كانت تلد لآدم في كلّ بطن غلاما و جارية، فتزوّج الغلام الجارية التي من البطن الآخر الثّاني و تزوّج الجارية الغلام الذي من البطن الاخر الثّاني حتى توالدوا، فقال أبو جعفر عليه السّلام: و ليس هذا كذاك، أيحجّكم المجوس، و لكنّه لمّا ولد آدم هبة اللّه و كبر سأل اللّه أن يزوّجه، فأنزل اللّه حوراء من الجنّة فزوّجها إيّاه فولدت له أربعة بنين، ثم ولد آدم ابنا آخر فلما كبر أمره فتزوّج إلى الجان فولد أربع بنات فتزوّج بنو هذا بنات هذا، فما كان من جمال فمن قبل الحور، و ما كان من حلم فمن قبل آدم، و ما كان من حقد فمن قبل الجان، فلما توالدوا صعد الحوراء إلى السّماء.
و منها ما رواه الصّدوق أيضا باسناده عن مسمع عن زرارة قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن بدء النّسل من آدم كيف كان هو؟ و عن بدء النّسل من ذرّية آدم فانّ أناسا عندنا يقولون: إنّ اللّه تبارك و تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج بناته بنيه و انّ هذا كلّه أصله من الاخوة و الأخوات، فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام: تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، يقول من قال هذا: بأنّ اللّه عزّ و جلّ خلق صفوة خلقه و أحبّائه و أنبيائه و رسله و المؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات من حرام، و لم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال، و قد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب، فو اللّه لقد نبئت (بينت خ) أن بعض البهائم تنكرت له اخته، فلما نزا عليها و نزل كشف له عنها، فعلم أنّها اخته أخرج عزموله ثمّ قبض عليه بأسنانه حتّى قطعه فخر ميّتا، و آخر تنكرت له امّه ففعل هذا بعينه، فكيف الانسان في فضله و علمه، غير أنّ جيلا من
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 136
هذا الخلق الذي ترون رغبوا عن علم أهل بيوتات أنبيائهم و أخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه فصاروا إلى ما ترون من الضّلال و الجهل إلى أن قال عليه السّلام: و حقّا أقول:
ما أراد من يقول هذا و شبهه إلّا تقوية حجج المجوس، فما لهم قاتلهم اللّه.
ثمّ أنشأ عليه السّلام يحدّثنا كيف بدء النسل من آدم و كيف كان بدء النّسل من ذريته، فقال: إنّ آدم صلوات اللّه عليه ولد له سبعون بطنا في كلّ بطن غلام و جارية إلى أن قتل هابيل، فلما قتل هابيل جزع آدم جزعا شديدا قطعه عن إتيان النّساء فبقى لا يستطيع أن يغشي حوّاء خمسمائة عام، ثم تجلى ما به من الجزع عليه فغشى حوّاء، فوهب اللّه شيثا وحده ليس معه ثان، و اسم شيث هبة اللّه، و هو أوّل ما أوصى إليه من الآدميّين في الأرض، ثمّ ولد له من بعد شيث يافث ليس معه ثان، فلمّا أدركا و أراد اللّه أن يبلغ النّسل ما ترون و أن يكون ما جرى به القلم من تحريم ما حرم اللّه عزّ و جلّ من الاخوات على الاخوة، أنزل اللّه بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنّة اسمها نزلة فأمر اللّه أن يزوّجها من شيث إلى آخر ما مرّ في الحديث الأوّل.
و يمكن الجمع بين هذه الأخبار المختلفة ظاهرا بأن يكون ليافث زوجتان:
إحداهما حوراء، و الاخرى جنيّة، أو يكون الولد المتزوّج بالجنّية غير شيث و يافث هذا.
و لم يستفد من الرّوايات أحوال بنات آدم فلا بدّ إمّا من بقائهن بلا زوج، و إمّا من جواز تزويج العمات دون الأخوات، و هو بعيد أيضا و اللّه العالم.
الترجمة:
پس فرو فرستاد او را بسراى محنت و امتحان و بخانه تناسل نسل و زائيدن اولاد... .