منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 267
و من خطبة له عليه السلام و هى الثانية من المختار فى باب الخطب خطب بها بعد انصرافه من صفين و نشرحها فى ضمن فصول.
الفصل الاول:
أحمده استتماما لنعمته، و استسلاما لعزّته، و استعصاما من معصيته، و أستعينه فاقة إلى كفايته، إنّه لا يضلّ من هداه، و لا يئل من عاداه، و لا يفتقر من كفاه، فإنّه أرجح ما وزن، و أفضل ما خزن. (2255- 2218)
اللغة:
(صفين) بكسر الصّاد و تشديد الفاء كسجّين اسم موضع قرب الرّقه بشاطي ء الفرات من الجانب الغربي كانت به الوقعة العظمى بين عليّ عليه السّلام و معاوية لعنه اللّه و وزنه إمّا فعّيل كظلّيم و ضلّيل فالنّون أصليّة و يدلّ عليه ضبط الجوهري و الفيروز آبادي له في باب النّون، و هو الأشهر، و إمّا فعلين بزيادة الياء و النّون كغسلين و يدلّ عليه ضبط الفيومي كبعض اللّغويّين له في باب الصّاد مع الفاء، قال في المصباح و هو فعلين من الصّف، أو فعّيل من الصّفون، فالنّون أصليّة على الثّاني.
أقول: على تقدير كونه مأخوذا من الصّف بكسر الصّاد فاصله الصفّ بفتحها و زيادة الياء و النّون للمبالغة، كما أنّ غسلين من الغسل و هو ما يغتسل به كالماء و الصّابون و الخطمي، فزيدت الياء و النّون مبالغة و استعمل فيما يسيل من جلود أهل النّار قال سبحانه:
«وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» و تسميته على هذا التّقدير يحتمل أن يكون لكثرة الصّفوف في الوقعة الواقعة فيه،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 268
و على تقدير كونه مأخوذا من الصّفون فهو من صفن الفرس صفونا قام على ثلاث قوائم و طرف حافر الرّابعة، و صفن الرّجل إذا صفّ قدميه، و صفن به الأرض ضربه و على كلّ التّقدير فاللّازم أن يكون التّسمية به متأخّرة عن وقوع الوقعة نظير ما قالوه في إطلاق المسلخ على الميقات المعروف الذي هو أوّل وادي العقيق من أنّه لاجل سلخ الثياب و نزع اللّباس فيه فيكون التّسمية متأخرة عن كونه ميقاتا و (الاستسلام) الانقياد و الخضوع و (العزّة) من عزّه يعزّه عزّا من باب ضرب إذا غلبه و الاسم العزة و هي القوّة و الغلبة، و العزيز من أسمائه سبحانه هو الغالب الذي لا يغلب و (الفاقة) الفقر و الحاجة و (الكفاية) مصدر يقال: كفى الشي ء يكفى كفاية إذا حصل به الاستغناء عن غيره قال تعالى:
«كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» اى أغناهم عنه و وئل (يئل) من باب ضرب وئلا و وؤولا إذا طلب النّجاة فنجى، و الموئل الملجاء و المنجى.
الاعراب:
قال الشّارح المعتزلي: صفّين اسم غير منصرف للتّأنيث و التّعريف و استدل بقول الشّاعر:
انّي ادين بما دان الوصيّ به يوم الخريبة «1» من قتل المحلّينا
و بالذي دان يوم النّهر دنت به و شاركت كفّه كفّي بصفّينا
تلك الدّماء معا يا ربّ في عنقي ثمّ اسقني مثلها آمين آمينا
أقول: أمّا التّعريف فيه فمسلم، و أمّا التّأنيث فغير لازم إذ كما يجوز تفسيره بالأرض و البقعة كذلك يجوز تفسيره بالمكان و الموضع و الشّعر لا دلالة فيه على ما رامه، لأنّ دلالته إنّما يتمّ لو كان أصليّة النّون فيه مسلمة لظهور كون محلّ الاعراب فيه حينئذ هو آخر الكلمة، و أمّا على تقدير كونها زايدة كما اختاره
______________________________
(1) خريبة كجهينة موضع بالبصرة يسمى البصرة الصغرى، قاموس
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 269
الفيومي في المصباح حسبما اشير إليه فالنّون مفتوحة دائما، و يظهر أثر الاعراب حينئذ فيما قبل النّون، فيقال: صفّين و صفون نظير عالمين و أرضين، و قد صرّح بما ذكرناه أخيرا في الاوقيانوس أيضا فافهم جيّدا.
و استتماما و استسلاما و استعصاما منصوبات على أنّها مفاعيل لفاعل الفعل المعلل بها و هو أحمد و انتصاب فاقة على ذلك أيضا و الضّمير في قوله عليه السّلام: فانّه أرجح ما وزن إمّا راجع الى الحمد المستفاد من قوله: أحمد، أو راجع إلى اللّه سبحانه و ستعرف تحقيقه.
المعنى:
(أحمده استتماما لنعمته) أى طلبا لتمام النّعمة و في إفرادها إشارة إلى انّ نعمه سبحانه غير متناهية و فيوضاته تعالى غير منتهية من الكمّ و الكيفيّة، فهى أعظم من أن تتمّ في حقّ عبد فيكون طلب تمامها حينئذ عبثا و إنّما يتفضل منها على العباد بحسب استعدادهم و قابليّتهم (و استسلاما لعزّته) أى انقيادا لقهره و غلبته و خضوعا لجلاله و عظمته (و استعصاما من معصيته) أى طلبا للعصمة من معصيته الحاصلة بكفران النّعمة.
و لا يخفى ما في كلامه من النكتة اللطيفة حيث إنّه علّل الحمد أولا بطلب تمام نعمة اللّه سبحانه إشارة إلى أنّ العلة الدّاعية إلى الحمد هو طلب تمام النّعمة من حيث إنّ الحمد يوجب تمامها و كمالها بمقتضى الوعد الذي ورد في كلامه تعالى «1» من قوله:
______________________________
(1) لا يخفى ان ما ذكرناه من جعل قوله استتماما لنعمته ناظرا الى قوله لئن شكرتم لازيدنكم و قوله و استعصاما من معصيته ناظرا الى قوله و لئن كفرتم ان عذابى لشديد انسب و اقرب مما صنعه البحرانى من جعل قوله استسلاما لعزته ناظرا الى الاية الاخيرة و أيضا ما ذكرناه من كون المراد بالمعصية فى قوله و استعصاما من معصيته هو المعصية الحاصلة بكفران النعمة اظهر من جعل المراد بها جميع المعاصى، اما اولا فلان المصدر المضاف لا يفيد العموم، و اما ثانيا لظهور ان الحمد لا يوجب العصمة من جميع المعاصى و انما يوجب العصمة من المعصية الحاصلة التي ذكرناه و هى العصيان بالكفران و بالجملة كلام البحراني في شرح هذا المقام غير خال عن السماجة فانظر ما ذا ترى، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 270
«لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» ثمّ علّله بعلّة ثانية منشعبة من العلّة الاولى من حيث إنّ طلب تمام نعمته موقوف على معرفته سبحانه من حيث إنّه منعم و معرفة النّعمة من حيث إنّها نعمة و لا تتمّ تلك المعرفة إلّا بأن تعرف أنّ النّعم كلها جليّها و خفيّها منه سبحانه و أنّه المنعم الحقيقي، و الأوساط كلها منقادة لحكمه و مسخرة لأمره، و ثمرة تلك المعرفة هي الخضوع و الاستسلام و التذلل لعزّته و قدرته.
و أمّا العلّة الثّالثة ففيها إشارة إلى أنّ بالحمد يحصل العصمة من المعصية إذ في تركه كفران النّعمة و قد أوعد عليه سبحانه:
«وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» هذا و غير خفيّ على الفطن الدّقيق أنّ ما ذكرناه في شرح كلامه عليه السّلام أولى ممّا صنعه الشّارح البحراني من جعل الاستتمام و الاستسلام و الاستعصام غايات للحمد «1» مترتبة عليه، لظهور أنّ طلب التّمام ليس من غايات الحمد، بل هو علّة باعثة له و إنّما غايته و فايدته المترتبة عليه هو التّمام و الزّيادة، و هكذا الكلام في الاستسلام و الاستعصام، و بالجملة المفاعيل الثلاثة في كلامه عليه السّلام على حدّ قولهم، قعدت عن الحرب جبنا، لا على نحو قولهم: جئتك زيارة لك، فافهم جيّدا.
تلويح ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد [بالحمد] في كلامه عليه السّلام هو الشكر، و في قوله:
استتماما لنعمته تلويح لذلك، لأنّ الثّناء على المنعم من حيث النّعمة و من حيث تمامها و زيادتها هو الشكر، و في قوله سبحانه: لئن شكرتم اه إشارة إلى ذلك.
قال المحقّق النّصير الطوسي (ره) في محكي كلامه: اعلم أنّ الشّكر مقابلة النّعمة بالقول و الفعل و النيّة و له أركان ثلاثة.
الأوّل معرفة المنعم و صفاته اللّايقة به و معرفة النّعمة، من حيث إنها نعمة و لا تتمّ تلك المعرفة إلّا بأن تعرف أنّ النعم كلها جليها و خفيّها من اللّه سبحانه، و أنّه المنعم الحقيقي
______________________________
(1) و مثله الشهيد الثاني (ره) فى شرح ديباجة اللمعة الدمشقية منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 271
و أنّ الأوساط كلها منقادة لحكمه مسخرة لأمره.
الثّاني الحالة التي هي ثمرة تلك المعرفة و هي الخضوع و التّواضع و السرور بالنعم لا من حيث إنّها موافقة لغرض النّفس، فانّ في ذلك متابعة لهواها و قصر الهمة على رضاها، بل من حيث إنّها هدية دالة على عناية المنعم بك، و علامة ذلك أن لا تفرح من نعم الدّنيا إلّا بما يوجب القرب منه.
الثّالث العمل الذي هو ثمرة تلك الحال، فان تلك الحال إذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه تعالى، و هذا العمل يتعلق بالقلب و اللسان و الجوارح.
أمّا القلب فالقصد إلى تعظيم المنعم و تمجيده و تحميده و التفكر في صنايعه و أفعاله و آثار لطفه و العزم على ايصال الخير و الاحسان إلى عامة الخلق.
و أمّا عمل اللسان فاظهار ما قصدته و نويته من التمجيد و التّعظيم بتهليله و تحميده و تسبيحه و الثّناء عليه و إرشاد الخلق بالأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر إلى غير ذلك.
و أمّا عمل الجوارح فاستعمال نعمه الظاهرة و الباطنة في طاعته و عبادته و عدم استعمالها في معصيته و مخالفة أمره كأعمال العين في النّظر إلى عجيب مصنوعاته و آياته، و النظر في كتابه، و استعمال السّمع في استماع دلايله و براهينه و الانصات لقرائة كتابه، و قس على ذلك ساير الجوارح، و من هنا ظهر أنّ الشكر أشرف معارج السّالكين و أعلى مدارج العارفين، و لا يبلغ حقيقته إلّا من ترك الدّنيا وراء ظهره، و هم قليلون و لذلك قال عزّ من قائل: و قليل من عبادي الشكور. انتهى كلامه قده (و أستعينه فاقة إلى كفايته) الكلام في هذه الفقرة كالكلام في سابقتها إذ الفاقة إلى كفايته سبحانه علة داعية إلى الاستعانة، و معناها طلب الاعانة منه تعالى للحاجة إلى غناه و استغناء به عن غيره سبحانه كما قال تعالى: «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 272
و ذلك من جهة أنّ أزمّة الأمور كلّها بيده جلّ شانه، فلا يقع شي ء منها إلّا بايجاده و إذنه و كلّ من سواه مفتقر إليه، و من ذلك صحّ الاستغناء به عن غيره في جميع الامور و كلّ الأحوال، و استحال الاستغناء عنه في شي ء منها قال تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» و المراد بغناه هو الغنى المطلق الذي هو سلب مطلق الحاجة، لا الغنى بالمعنى المعروف كما أنّ المراد بالفقر مطلق الحاجة إذ حقيقة الغنى هو استقلال الشي ء بذاته في كلّ ما له من غير تعلق له بالغير أصلا، و هو بهذا المعنى لا يكون إلّا للّه، و حقيقة الفاقة و الفقر عدم استقلال الشّي ء بذاته و تعلّقه بالغير و لو في شي ء ماء و هو بهذا المعنى صفة لكلّ ممكن، فثبت أنّه تعالى غني عن خلقه من كلّ الوجوه و تحقّق فقرهم إليه من كلّ وجه، لما تقرّر من أنّ فقيرا بالذّات من وجه ما فهو فقير بالذّات من جميع الوجوه (إنّه لا يضلّ من هداه و لا يئل من عاداه) تعليل لطلبه المعونة على تحصيل الكفاية فكأنّه قال: و استعينه على أن يرزقني الكفاية المستلزمة للهداية التي هي الغنى الحقيقي و الملك الأبدي، فانّه لا يضلّ من هداه و لا يطلب النّجاة من عذابه من عاداه، لعدم وجود منجي و موئل غيره حتّى يلتجأ منه إليه، إذ كلّ من سواه مقهور تحت قدرته و مضمحل في جنب ذاته، لا رادّ لحكمه و لا دافع لقضائه، فكيف يمكن الفرار من حكومته أو يلتجأ إلى من سواه، و المراد بمعاداته سبحانه للعبد إعراضه عنه و إضلاله له فيكون كلامه عليه السّلام في قوّة أن يقال: إنّه لا يضلّ من هداه و لا يهتدى من أضله، تصديقا لقوله سبحانه:
«وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ» و لقوله: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 273
(و لا يفتقر من كفاه) إذ بيده سبحانه خزائن الأرض و السّماوات و عنده نيل الطلبات و له القدرة التّامة التي لا يعجزها شي ء و الجود الذي لا يعتريه بخل و الغنى الذي ليس معه فقر، فاذا كان كافيا لعبده حصل له الاستغناء عمّن سواه و انقطعت حاجته عمّن عداه (فانّه أرجع ما وزن و أفضل ما خزن) الضّمير يحتمل رجوعه إلى الحمد المدلول عليه بقوله أحمده من قبيل:
«اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ».
فيكون المراد به أنّه أرجح ما وزن بميزان الأعمال، و أفضل ما خزن و ادّخر ليوم الجزاء، و ذلك لعظم فوائده و كثرة ثمراته حسبما ستعرفه بعيد ذلك، و يحتمل أن يرجع إلى اللّه سبحانه فيكون المعنى أنّه أرجح ما وزن بميزان العقول و أفضل ما خزن في خزانة القلوب، و هذا أقرب لفظا جريا على سياق الضّماير السّابقة، و الأوّل أقرب معنى للحاجة إلى التّأويل على الثّاني إذ الوزن و الخزن من صفات الأجسام، و ذاته تعالى مقدسة عن ذلك، فلا بدّ أن يجعل المراد رجحان عرفانه في ميزان العقل إذ لا يوازن عرفانه عرفان ما عداه، بل لا يخطر ببال العارف عند الاخلاص سواه حتّى يصدق هناك موازنته يقال فيها أرجح و قد مرّ تحقيقه في الفصل الرّابع من فصول الخطبة الاولى عند شرح قوله عليه السّلام: و كمال الاخلاص له نفى الصّفات عنه، فتذكر.
تنبيه و تحقيق:
اعلم أنّه قد تطابق النّقل و العقل على وجوب شكر المنعم و حسنه و قبح كفران نعمه سبحانه.
أمّا النّقل فمن الكتاب قوله تعالى في سورة ابراهيم عليه السّلام:
«وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» و في سورة النّمل «وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ». الى غير هذه من الآيات الكثيرة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 274
و من السّنة أخبار كثيرة، مثل ما رواه عبد اللّه بن اسحاق الجعفري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال مكتوب في التّوراة اشكر من أنعم عليك و انعم من شكرك فانه لا زوال للنعماء إذا شكرت، و لا بقاء لها إذا كفرت، الشكر زيادة في النعم و أمان من الغير.
و ما رواه معاوية بن وهب عنه عليه السّلام قال: من اعطى الشكر اعطى الزّيادة يقول اللّه عزّ و جلّ: لئن شكرتم لازيدنكم و روى عبد اللّه بن الوليد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ثلاث لا يضرّ معهنّ شي ء: الدّعاء عند الكرب و الاستغفار عند الذّنب و الشكر عند النعمة.
و روى معمر بن خلّاد عن أبي الحسن صلوات اللّه عليه قال: سمعته يقول: من حمد اللّه على النعمة فقد شكره و كان الحمد أفضل من تلك النعمة.
و روى سفيان بن عيينة عن عمّار الدّهني قال: سمعت عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول: إنّ اللّه يحب كلّ قلب حزين و يحب كلّ عبد شكور، و يقول اللّه تعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أ شكرت فلانا؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشكركم للّه أشكركم للنّاس إلى غير هذه من الأخبار المتظافرة المستفيضة و قد عقد في الكافي بابا في الشكر و أخرجت هذه الأخبار منه من أراد زيادة البصيرة فليرجع إليه.
و أمّا العقل فهو مستقلّ في وجوب الشكر و حاكم بحسنه، و اتّفق على ذلك الاماميّة و المعتزلة، و خالف فيه الأشاعرة بعد تنزّلهم عن أصلهم الذي أسّسوه في مسألة الحسن و القبح، و ذهبوا إلى عدم حكم للعقل بوجوب شكر المنعم على تقدير تسليم حكمه مطلقا و إدراكه الحسن و القبح في الجملة و المسألة معنونة في الأصول، و أدلة الطرفين مفصّلة فيها.
و عمدة ما تمسّك به المخالف دليلان، أحدهما نقليّ و الآخر عقليّ أمّا النّقلي فهو قوله تعالى: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 275
وجه الاستدلال أنّ وجوب شي ء عبارة عن ترتب العقاب على مخالفته، و حيث انتفى العقاب قبل الشّرع بحكم الآية انتفى الوجوب.
و أجيب عنه أوّلا بالتّخصيص بالمستقلّات العقليّة فيختصّ حكم الآية بغير المستقلّات و يكون المراد، و ما كنّا معذّبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلّا بالشّرع إلّا بعد مجي ء الشّرع، و التّخصيص و إن كان خلاف الظاهر إلّا أنّه يجب ارتكابه عند قيام الدّليل عليه، و قد قام الدّليل على حكم العقل في الجملة حسبما تعرفه. «1» و ثانيا بجعل الرّسول أعمّ من الظاهر و الباطن، أمّا الظاهر فهو الأنبياء، و أما الباطن فهو العقل بل هو الرّسول الذي لولاه لما تقرّر رسالة أحد من الأنبياء و لزم إفحامهم، و ذلك لأنّه إذا جاء المشّرع و ادّعى كونه نبيّا من عند اللّه تعالى و أظهر المعجزة على طبق دعواه، فامّا أن يجب على المستمع استماع قوله و النّظر إلى معجزته أولا، و على الثّاني فقد بطل القول بالنبوة و لزم الافحام، و على الأوّل فامّا أن يكون وجوبه بالعقل أو بالشّرع، فان وجب بالعقل فقد ثبت المدّعى و هو كون العقل حاكما، و إن وجب بالشّرع فهو باطل لأنّ الشّرع إمّا أن يكون هو ذلك المدّعي أو غيره، و الأوّل باطل، لانّه يرجع حاصل الكلام إلى أن ذلك المدّعي يقول: الدّليل على وجوب قبول قولي هو قولي إنّه يحب قبول قولي و هذا إثبات للشي ء بنفسه و بعبارة اخرى وجوب النّظر إلى معجزته و استماع قوله يتوقف على حجية قوله مع أنّ حجّيته موقوفة على النّظر، و الثّاني أيضا باطل، لأنّ الكلام فيه كالكلام في الأوّل، و لزم إمّا الدّورأ و التسلسل، و هما محالان.
و ثالثا أنّ نفى التعذيب لا يلازم عدم الوجوب إذ الواجب ما يستحقّ فاعله العقاب لا ما يترتّب عليه العقاب فعلا، لجواز سقوطه بعفو أو شفاعة، و ربّما اورد عليه بأنّ العفو عن ترك جميع الواجبات و فعل المحرّمات إلى زمان البعث و كون الآية إخبارا عن ذلك مستلزم لالغاء الايجاب و التّحريم، إذ المقصود منهما فعل الواجب و ترك
______________________________
(1) فى الجواب الثاني، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 276
الحرام و هما لا يتحصلان في حقّ عموم المكلفين إلّا المخلصين إلّا بالخوف عن العقاب، فاذا انتفى الخوف بسبب الاخبار عن العفو و حصل الاطمينان للنّفس بعدم التعذيب، لا يتحصّل الغرض من التكليف فيكون التكليف لغوا و عبثا.
و رابعا بمنع عدم تحقّق الوجوب بدون العقاب، فانّه يكفي فيه استحقاق المدح بفعله و الذم بتركه، و نلتزم في حسن العقاب على الواجبات بوجوب اللطف و تأكيد العقل بالنّقل فمع عدم وجود النقل لا يجوز العقاب و إن حسن الذّمّ، و هو يكفي في تحقق الوجوب و كيف كان فقد تحصّل ممّا ذكرناه عدم نهوض الآية للدّلالة على نفى حكومة العقل مطلقا و في وجوب شكر المنعم بخصوصه كما ظهر ثبوت حكومته أيضا في الجملة ممّا ذكرناه في الجواب الثّاني.
و أمّا العقلي فتقريره ما ذكره الحاجبى في المختصر، قال: شكر المنعم ليس بواجب عقلا، لأنّه لو وجب لوجب لفائدة و إلّا لكان عبثا و هو قبيح لا فايدة للّه تعالى:
لتعاليه عنها، و لا للعبد في الدّنيا لأنّه مشقة و لا حظّ للنّفس فيه، و لا في الآخرة إذ لا محلّ للعقل في ذلك.
و توضيحه ما ذكره العضدي في شرحه حيث قال: لنا لو وجب لوجب لفائدة و اللّازم باطل، أمّا الاولى فلأنّه لو لا الفايدة لكان عبثا و هو قبيح فلا يجب عقلا إذ كان ايجابه عبثا و هو قبيح فلا يجوز على اللّه، و أمّا الثّانية فلأنّ الفايدة إمّا للّه و إمّا للعبد و الثّاني، إمّا في الدّنيا و إمّا في الآخرة، و الثلاث منتفية، أمّا للّه فلتعاليه عن الفايدة، و أمّا للعبد في الدّنيا فلأنّ منه «1» فعل الواجبات و ترك المحرّمات العقليّة و أنّه مشقّة و تعب ناجز و لا حظ للنّفس فيه، و هو كذلك لا يكون له فايدة دنيوية، و أمّا للعبد في الآخرة فلأنّ أمور الآخرة من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه.
و الجواب أولا بمنع كون وجوبه لفائدة، لجواز كون وجوبه لنفسه لا لشي ء
______________________________
(1) اى من حكم العقل، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 277
آخر، فانّه لا يلزم ثبوت الغايات لكلّ شي ء و إلّا لزم التسلسل، بل لا بدّ و أن ينتهى إلى ما يكون واجبا لذاته و لا غاية له سوى ذاته كما أنّ دفع الضّرر واجب لذاته لا لغاية أخرى، و لهذا يعلّل العقلا، وجوبه بكونه شكر اللنّعمة لا لشي ء آخر، و إن لم يعلموا شيئا آخر من جهات الوجوب.
و ثانيا سلّمنا أنّ الوجوب لا يكون إلّا لفائدة، إلّا أنّا نمنع انتفاء الفائدة الدّنيوية للعبد لأنّ أداء الشكر و إن كان فيه ضرر عاجل و تعب ناجز إلّا أنّ دفع الخوف من النّفس الحاصل في العاجل بسبب تجويز الضّرر الآجل بتركه أمر مطلوب و هو راجح على ضرر الشكر العاجل و هو كاف في الوجوب.
و ثالثا سلمنا انتفاء الفائدة الدّنيوية إلّا أنّا نمنع انتفاء الفائدة الاخروية و هو النّجاة من العقاب المترتب على عدم الشكر.
لا يقال إن أردت بالعقاب المترتب على عدم الشكر العقاب القطعي فممنوع، لأنّ القطع بثبوته عند عدمه إنّما يحصل لو كان الشكر يسرّ المشكور و الكفر يسوئه، أمّا المنزّه عن ذلك فلا، و إن أردت العقاب المحتمل فلا ينفع لأنّ احتمال العقاب كما هو موجود عند الكفر كذلك موجود عند الشكر أيضا أمّا أوّلا فلأنّه تصرّف في ملك الغير بدون إذن المالك، فانّ ما يتصرّف فيه العبد من نفسه و غيرها ملك للّه تعالى، و أمّا ثانيا فلأنّه كالاستهزاء.
بيان ذلك أنا لو فرضنا سلطانا عظيما و ملكا كريما بسط لأهل مملكته من الخاص و العام بساط مائدة عظيمة لا مقطوعة و لا ممنوعة على توالى الأيام و تواتر السّنين و الأعوام، مشتملة على أنواع المأكولات و المطاعم و أقسام المشروبات و الفواكه، يجلس عليها الدّاني و القاصي و يأكل منها المطيع و العاصي، و فرضنا أنّه حضر فيها فقير لم يحضرها قبل الآن، و دفع إليه الملك من تلك المائدة لقمة خبز لا غير، فتناولها الفقير، ثمّ شرع في الثّناء و المدح على ذلك الملك الكبير، و جعل يمدحه بجليل الانعام و الاحسان، و يحمده على جزيل البرّ و الامتنان، و لم يزل يصف تلك اللّقمة و يذكرها و يعظم شأنها و يشكرها، فتارة يحرّك أنملته شاكرا، و أخرى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 278
يهن رأسه ذاكر «1» لانتظم شكره ذلك عند العقلاء في سلك التهكّم و الاستهزاء، و لا ريب أنّ نعم اللّه سبحانه علينا بالنسبة الى عظيم سلطانه و عميم إحسانه أحقر من تلك اللّقمة بالنّسبة إلى ذلك بمراتب لا تحصى و درجات لا يحوم حولها الاستقصاء.
لانّا نقول: أوّلا إنّ العقاب المترتّب على الكفران قطعيّ، و قوله إنّ القطع بثبوته إنّما يتصور في حقّ من يسرّه الشكر و يسوئه الكفر ممنوع، لأنّ ترك الواجب علة في استحقاق العقاب بتركه، و ثانيا سلّمنا و لكن نمنع احتمال العقاب على الشكر، و ما علّله به أوّلا من أنّه تصرّف في ملك الغير من دون إذنه فضعيف بأنا نعلم قطعا أنّ الاشتغال بوظايف الخدمة و القيام بالشكر و المواظبة عليه أسلم من تركه و الاعراض عن الخدمة و التغافل عن الشكر كضعف ما علله به ثانيا من كونه كالاستهزاء.
و تمثيل النّعمة باللقمة باطل، فانّ نعم اللّه على العبد بالايجاد و الاحياء و الاقدار و ما منحه من العقل و السّلامة و الملاذ و النّعم أعظم من الدّنيا بأجمعها.
و المثال المطابق للممثل أنّه إذا كان مسكين مغفول، و فقير في زاوية الخمول أخرس اللسان، مؤف الأركان، أشل اليدين، أعرج الرّجلين، أعمى العينين، أصمّ الاذنين، عاجزا عن الحركات، مبتلى بالبليّات، فأخرجه الملك من تلك الزّاوية، و هذه الهاوية، و أكرمه بمعالجة أسقامه و مداواة أمراضه، فانطلق لسانه و سلم أركانه، و قدر على الحركات و السّكنات، و برء من الأسقام و الآفات، و اعطى السّمع و البصر، و ميّز بين النّفع و الضّرر، و قويت يداه و استقامت رجلاه، ثمّ أكرمه الملك بعد تمام العلاج و كمال المزاج، بمزيد الاحسان و الاكرام، و بذل له غاية المعروف و الانعام، فأعطاه المساكن و الملابس، و منحه المطاعم و المشارب، و أتمّ له العيش الرغيد و العمر السّعيد، فلو فرض أنّ هذا الشّخص بعد حصول هذا المنن الجسام، و تلك النّعم العظام في حقّه، أعرض عن شكر الملك و رغب عن ثنائه، و لم يظهر منه ما يدلّ على الاعتناء بنعمائه، و الالتفات بآلائه، بل كان حاله بعد حصولها كحاله قبل وصولها، لذمّه العقلاء و طعنه الألبّاء، كما يشهد به العقول
______________________________
(1) جواب لو فرضنا، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 279
السّلمية، و الطباع المستقيمة، و هذا المثال هو الأوفق بالتّمثيل، و اللّه الهادي إلى قصد السبيل و الحمد للّه على ما عرفنا من حمده، و ألهمنا من شكره
الترجمة:
حمد سپاس مى كنم پروردگار را بجهت طلب تمامى نعمت او، و بجهت انقياد و فرمانبردارى عزت آن، و بجهت طلب عصمت و محفوظى از معصيت آن، و طلب يارى مى كنم از او بجهت فقر و حباجت بر غنا و كفايت آن بدرستى كه گمراه نمى شود هر كسى كه خداوند هدايت فرمود آن را، و نجات نمى يابد هر كسى كه عداوت فرمود با آن، و محتاج نمى گردد هر كسى كه كفايت فرمود آن را، پس بدرستى كه خداوند راجح ترين چيزيست كه سنجيده مى شود با ميزان عقول كامله، و فاضل ترين چيزى است كه مخزون گردد در خزانه قلوب صافيه، يا اين كه حمد خداوند ارجح چيزى است كه موزون مى شود در ميزان اعمال، و أفضل چيزيست كه مذخور و مخزون مى باشد بجهت لقاء حضرت متعال.
*****
و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، شهادة ممتحنا إخلاصها، معتقدا مصاصها، نتمسّك بها أبدا ما أبقانا، و ندّخرها لأهاويل ما يلقانا، فإنّها عزيمة الإيمان، و فاتحة الإحسان، و مرضات الرّحمن، و مدحرة الشّيطان،
اللغة:
(المصاص) بضمّ الميم و الصّادين المهملتين الخالص من كلّ شي ء و في الحديث ليس لمصاص شيعتنا في دولة الباطل إلّا القوت و (الادّخار) افتعال من الدّخر و هو إعداد الشّي ء و اختياره لوقت الحاجة، و ادّخر يدّخر أصله اذ تخر قلبت التّاء دالا مهملة و ادغمت، و قد يعكس فتصير ذالا معجمة، و هو الاقل و هذه قاعدة كلية في كلما اجتمع التّاء و الذّال في كلمة واحدة كادّكر و نحوه و (أهاويل) جمع أهوال و هو جمع هول كأقاويل و أقوال و قول، يقال: هالني الشّي ء يهول هولا من باب قال أفزعنى و (العزيمة) العقيدة يقال: عزم على الشي ء و عزمه عزما و عزما بالضم و عزيمة إذا عقد ضميره على فعله، و يحتمل أن يكون من العزم الذي هو الجدّ في الأمر يقال: عزم عزيمة و عزمة اجتهد و جدّ في أمره و منه قوله تعالى:
«إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» أى معزومات الامور التي يجب أن يجدّ فيها، و أولوا العزم أولو الجدّ و الثبات و (المرضات) كالرّضا و الرّضوان مصدر من رضى عنه ضدّ سخط قال تعالى:
«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ».
(و المدحرة) اسم فاعل من ادحره أى أبعده و منه أدحر عنّي الشّيطان أى أبعده عني.
الاعراب:
كلمة لا في قوله: أشهد أن لا إله اه نافية للجنس، و يسمّى تبرية، و إله اسمها مبنيّ على الفتح، و اختلف في خبرها، فقيل: إنّه محذوف جريا على ما هو الغالب من حذف خبرها إذا كان معلوما، نحو لا فوت و لا ضير أى لا فوت لهم، و لا ضير علينا، و يلزمه أى حذف الخبر المعلوم التميميون و الطائيون.
و اختلف هؤلاء في المخذوف، فقيل إنّه موجود و يضعف بأنّه لا ينفى امكان إله معبود بالحقّ غيره تعالى، لأنّ الامكان أعمّ من الوجود، و قيل: ممكن و فيه أنّه لا يقتضي وجوده بالفعل، و قيل مستحقّ للعبادة، و فيه أنّه لا يدلّ على نفي التعدّد مطلقا و قال أبو حيان لنا أو في الوجود أو نحو ذلك، و يتوجّه عليه ما يتوجّه على ما تقدّمه، و قال الزّمخشري في جزء لطيف له على كلمة الشّهادة: هكذا قالوا: تقديم و تأخير و الصّواب أنّه [لا اله ...] كلام تامّ و لا حذف و أنّ الأصل اللّه إله مبتدأ و خبر كما يقول: زيد منطلق، ثمّ جي ء بأداة الحصر، و قدّم الخبر على الاسم و ركب مع لا كما ركب المبتدأ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 282
معها في لا رجل في الدّار، و يكون اللّه مبتدأ مؤخرا و إله خبرا مقدّما، و على هذا يخرج نظائره نحو لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ انتهى، و نسبه الشّهيد في الرّوضة إلى المحقّقين، و قال الموضح بعد نقله ذلك، قلت: و قد يرجّح قوله بأنّ فيه سلامة من دعوى الحذف، و دعوى إبدال ما لا يحلّ محلّ المبدل منه، و ذلك على قول الجمهور و من الاخبار عن النكرة بالمعرفة، و عن العام بالخاص و ذلك على قول من يجعل المرفوع خبرا انتهى.
أقول: انّ العقول بعد ما غرقت في تيار بحار معرفته سبحانه، و الافهام عجزت عن إدراك هوية حقيقته، و كذلك بعد ما تقاصرت الألبّاء و تحيرت الأدباء في تحقيق لفظة الجلالة الموضوعة لذاته المقدّسة الجامعة لصفاته الكماليّة و نعوته الجمالية، فلا غرو أن يختلفوا بهذا الاختلاف في هذه الكلمة الطيبة المباركة، و يعجزوا عن ادراك معناها و نيل مغزاها، كيف و المقصود بها توحيد من لا يناله غوص الفطن و لا يدركه بعد الهمم.
و الذي يخطر بالخاطر القاصر في هذا المقام أن يقال: إنّه لاخفاء في إفادتها التّوحيد و التّفريد.
أمّا عند العوام الذين أذهانهم خالصة عن الكدر، و غرايزهم صافية عن مزاج الشّبه، فلظهور أنّ هذه الكلمة لو عرضت عليهم لما فهموا منها و لا يتبادر إلى أذهانهم إلّا أنّه ليس إله سوى اللّه سبحانه من دون أن يخطر ببالهم أن يكون هناك إله ممكن غير موجود أو إله غير مستحق للعبوديّة، نظير أنّه لو قيل لهم: لا سيف إلّا ذو الفقار لا يفهمون منه إلّا انحصار السّيف فيه من دون أن يحتملوا أن يكون هناك سيف ممكن في دائرة العدم يصدق عليه أنّه سيف أيضا، و سرّ ذلك ما أشرنا إليه من صفاء خواطرهم عن التّشكيكات و الاحتمالات.
و أمّا عند من كان خاطره غير نقيّ عن الخطرات و البدوات و مألوفا بالبراهين الحكمية و الشكوكات العقليّة البدويّة، فلأنّ له أن يقدّر الخبر ممكن، و يجيب عن الاشكال الذي اورد عليه من أنّه لا يقتضي وجوده سبحانه بالفعل بأنّ هذه الكلمة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 283
كلمة توحيد، و المقصود بها ليس إثبات الوجود بل إثبات التّوحيد و نفى الشريك، و ذلك إنّما هو بعد الفراغ عن ثبوت وجوب وجوده بدليل آخر وراء هذه مسبوقة به، و يشهد به كلامه عليه السّلام في الخطبة الأولى: أوّل الدين معرفته و كمال معرفته التّصديق به، و كمال التصديق به توحيده، حيث جعل التّوحيد تاليا للتّصديق، و لازمه أن يكون التّوحيد بعد الفراغ عن التّصديق، و قد بيّنا هناك أنّ المراد بالتّصديق هو الاذعان بوجوب الوجود، بل أقول: إنّ لفظة الجلالة على ما اتفق الكلّ عليه من وضعها للذات المستجمعة لجميع الصّفات الكماليّة يكون مؤدّاها على ذلك الذّات بوصف الاستجماع، فيكون المعنى لا إله ممكن موجودا كان أو معدوما إلّا الذات المستجمعة، و من الواضح أنّ الاستجماع لصفات الكمال فرع وجود المتّصف بها بنفسه إذ لا يعقل أن يكون المعدوم متّصفا بأمر موجود فضلا عن كونه جامعا لجميع الصّفات الوجودية، نعم يبقى هنا شي ء، و هو أنّ الاستثناء على هذا التّوجيه يشبه أن يكون منقطعا، إذا المستثنى منه هو الاله الممكن، و المستثنى هو اللّه الواجب و الانقطاع في الاستثناء و إن كان خلاف الأصل إلّا أنه لا ضير في المصير إليه بعد اقتضاء الدّاعى له هذا.
و يمكن أن يقدّر الخبر موجود، و يجاب عن الاشكال السّابق من أنّه لا ينفي إمكان إله غيره تعالى، بأنّ نفى الوجود يستلزم نفى الامكان إذ لو اتّصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجد ضرورة، فاذا لم يوجد علم عدم اتّصافه به و ما لم يتّصف بوجوب الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب بالضرورة.
و هذا الجواب ذكره جمال الدين الخوانسارى في حواشي الرّوضة و ظاهره كما ترى يفيد أن المراد بالموجود الذي جعل خبرا هو الموجود بوجوب الوجود فيتوجه عليه حينئذ أنّه لا ينفى الاله الموجود بالوجود الامكاني و إن أراد الأعمّ من الموجود بالوجوب و الموجود بالامكان فيعود الاشكال بأنّه لا ينفي إمكان إله غيره و لا يتمشى الجواب بأنّ نفى الوجود يستلزم نفى الامكان إذ لا انقلاب على هذا التقدير حتى يستحيل كما هو واضح، فتأمل في هذا المقام جيّدا فانّه من مزالّ الأقدام.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 284
و وحده منصوب على الحالية و لا يضرّ كونه معرفة لتأويله بالنكرة أى متوحدا فالصّورة و إن كانت معرفة فهي في التّقدير نكرة على نحو و أرسلها العراك، أى معتركة، و قال: بعض النحويين إنّه منصوب على المفعولية و الفعل محذوف و الجملة حال، أى ينفرد وحده، و كيف كان فهي حال مؤكدة لمضمون الجملة على حدّ زيد أبوك عطوفا، و يحتمل التّأسيس بأن يكون المراد بالجملة التّوحيد في الذات، و بالحال التّوحيد في الصّفات، و جملة لا شريك له حال بعد حال، و هي تأكيد بعد تأكيد، و يحتمل التّأسيس: بأن يراد بها التّوحيد في الافعال، و ممتحنا و معتقدا صفتان جاريتان لغير من هماله، و جملة نتمسّك صفة أيضا،
المعنى:
اعلم أنّه عليه السّلام قرن حمد اللّه سبحانه بالشّهادة بتوحيده، فقال (و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له) و هذه الكلمة أشرف كلمة نطق بها في التّوحيد، و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مروي أبي سعيد الخدري: ما قلت و لا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلّا اللّه.
و قد ورد لهذه الكلمة الطيبة فضائل كثيرة في أخبار أهل العصمة عليهم السّلام فقد روى الصّدوق في كتاب التّوحيد باسناده عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: ما من شي ء أعظم ثوابا من شهادة أن لا إله إلّا اللّه، لأنّ اللّه عزّ و جل لا يعد له شي ء و لا يشركه في الأمر احد، و في الكافي، و ثواب الأعمال مثله.
و عن السّكوني عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خير العبادة قول لا إله إلّا اللّه.
و عن أبي الطفيل عن علي عليه السّلام قال: ما من عبد مسلم يقول: لا إله إلّا اللّه، إلّا صعدت تخرق كلّ سقف و لا تمرّ بشي ء من سيّئاته إلّا طلستها «1» حتّى ينتهى إلى
______________________________
(1) الطلس المحو.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 285
مثلها من الحسنات فيقف، و عن الشيباني عن الرّضا عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ للّه عزّ و جلّ عمودا من ياقوتة حمراء رأسه تحت العرش و أسفله على ظهر الحوت في الأرض السّابعة السّفلى فاذا قال العبد: لا إله إلّا اللّه اهتزّ العرش و تحرك العمود و تحرك الحوت، فيقول اللّه تبارك و تعالى: اسكن يا عرشى فيقول: لا أسكن و أنت لم تغفر لقائلها، فيقول اللّه تبارك و تعالى: اشهد و اسكان سمواتي اني قد غفرت لقائلها.
و عن عبد السّلام بن صالح أبي الصّلت الهروي قال: كنت مع عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام حين رحل من نيشابور و هو راكب بغلة شهباء «1» و إذا محمّد بن رافع و أحمد بن حرب و يحيى بن يحيى و اسحاق بن راهويه و عدّة من أهل العلم قد تعلّقوا بلجام بغلته في المربعة فقالوا: بحق آبائك الطاهرين حدّثنا بحديث قد سمعته من أبيك، فأخرج رأسه من العمارية و عليه مطرف خزّ ذو وجهين، و قال: حدّثني أبي عبد الصّالح موسى بن جعفر قال: حدّثنى أبي الصّادق جعفر بن محمّد، قال: حدّثني أبى أبو جعفر محمّد بن عليّ باقر علم الأنبياء، قال: حدّثني أبي عليّ بن الحسين سيد العابدين، قال:
حدّثني أبي سيّد شباب أهل الجنّة الحسين، قال: حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، قال: قال «سمعت خ» النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول قال اللّه جلّ جلاله: إني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدوني، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلّا اللّه بالاخلاص دخل حصني و من دخل حصني أمن من عذابي، و في رواية اخرى نحوه و في آخرها فلما مرّت الرّاحلة نادانا بشروطها و أنا من شروطها.
قال الصّدوق (ره) من شروطها الاقرار للرّضا عليه السّلام بأنّه إمام من قبل اللّه عزّ و جلّ على العباد مفترض الطاعة عليهم.
و في ثواب الأعمال عن أبي سعيد الخدري عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: قال اللّه جلّ
______________________________
(1) و البغلة الشهباء هى البيضاء، لغة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 286
جلاله لموسى بن عمران عليه السّلام: يا موسى لو أنّ السّماوات و عامريهنّ عندي و الأرضين السّبع في كفة و لا إله إلّا اللّه في كفّة مالت بهن لا إله إلّا اللّه، و مثله في التّوحيد.
و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقنوا موتاكم لا إله إلّا اللّه فانّها تهدم الذّنوب، فقالوا يا رسول اللّه: فمن قال في صحّته، فقال صلّى اللّه عليه و آله ذلك أهدم و أهدم، إنّ لا إله إلّا اللّه أنس للمؤمن في حياته و عند موته و حين يبعث، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال جبرئيل: يا محمّد لو تراهم حين يبعثون هذا مبيض وجهه ينادي لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر و هذا مسودّ وجهه ينادي يا ويلاه يا ثبوراه.
و عن عبد اللّه بن الوليد رفعه قال: قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: من قال لا إله إلّا اللّه غرست له شجرة في الجنّة من ياقوتة حمراء، منبتها في مسك أبيض أحلى من العسل و أشدّ بياضا من الثّلج و أطيب ريحا، فيها أمثال أثداء الأبكار تفلق «1» عن سبعين حلّة و في الكافي مثله.
و الأخبار في هذا الباب كثيرة، و في الاستقصاء إطالة، و فيما رويناها كفاية إنشاء اللّه (شهادة ممتحنا إخلاصها) أى مختبرا كونها مخلصا، يعني أنّه عليه السّلام اختبر قلبه في إخلاص هذه الشّهادة فوجده عريا عن شبهة الباطل و خالصا عن شوائب الشّرك (معتقدا مصاصها) أى خالصها، يعنى أنّ هذه الشّهادة صادرة عن صميم القلب، و القلب مطابق فيها للّسان و مذعن بخلوصها، و بالجملة ففي توصيف الشّهادة بهذين الوصفين إشارة إلى كونها في مرتبة الكمال و أنّها خالصة مخلّصة، و هذه المرتبة هي المطلوبة في باب التّوحيد، و إلّا فالشّهادة الصّادرة عن محض اللّسان إنّما تطهر جلد الانسان و لا يترتّب عليها ثمرة في الآخرة و أمّا الصّادرة بالاخلاص فهي الشّهادة في الحقيقة.
و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما رواه في التّوحيد عنه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت أشهد أن لا إله إلّا اللّه كلمة عظيمة كريمة على اللّه عزّ و جلّ، من قالها مخلصا استوجب
______________________________
(1) الفلق الشق من باب ضرب، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 287
الجنّة و من قالها كاذبا عصمت ماله و دمه و كان مصيره إلى النّار.
و فيه أيضا عن زيد بن أرقم عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قال لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنة و إخلاصه بها أن حجزه لا إله إلّا اللّه عمّا حرّم اللّه، و رواه في ثواب الأعمال أيضا مثله.
و فيهما عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. أتاني جبرئيل بين الصّفا و المروة فقال يا محمّد: طوبى لمن قال من امّتك لا إله إلّا اللّه وحده مخلصا.
و في الكافي عن أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يا أبان إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث، من شهد أن لا إله إلّا اللّه مخلصا وجبت له الجنّة، قال: قلت له:
إنّه يأتيني من كلّ صنف من الأصناف أ فأ روي هذا الحديث؟ قال: نعم يا أبان إنه إذا كان يوم القيامة و جمع اللّه الأوّلين و الآخرين فتسلب لا إله إلّا اللّه منهم إلّا من كان على هذا الأمر و المراد بسلبها منهم عدم نفعها لهم، لكون الولاية شرطا في التّوحيد كما مرّ في رواية الرّضا عليه السّلام من قوله: بشروطها و أنا من شروطها (نتمسك بها أبدا ما أبقانا و ندّخرها لأهاويل ما يلقانا) لأنّها انس للمؤمن في حياته و في مماتة و حين يبعث كما مرّ في رواية ثواب الأعمال، فهي أعظم ذخيرة لأهوال الآخرة و شدايدها.
و قد مرّ في رواية ثواب الأعمال و التّوحيد: قوله تعالى لموسى بن عمران:
لو أن السّماوات و عامريهنّ عندي و الأرضين السّبع في كفّة و لا إله إلّا اللّه في كفّة مالت بهنّ لا إله إلّا اللّه، فأىّ ذخيرة تكون أعظم منها ثمّ علّل عليه السّلام التّمسك و الادّخار بامور أربعة أولها ما أشار إليه بقوله عليه السّلام: (فانّها عزيمة الايمان) أى عقيدتها و ممّا يجب للمؤمن أن يعقد قلبه عليها، أو أنّها معزومة الايمان بمعنى أنّها ممّا ينبغي أن يجدّ فيها و يجتهد حسبما اشير إليه في بيان لغتها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 288
الثّاني قوله عليه السّلام: (و فاتحة الاحسان) أى ابتداء الاحسان و أوّله، و إضافته إليه من قبيل اضافة الجزئي إلى الكلّ، مثل فاتحة الكتاب، فيكون مصدرا بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب، و على هذا فالمراد بالاحسان هو التّوحيد و اصول الشريعة و يدلّ على صحّة إطلاقه بذلك ما رواه في التّوحيد عن موسى بن اسماعيل بن موسى ابن جعفر قال: حدّثني أبي عن جدّه جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ:
«هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» قال: عليّ عليه السّلام: ما جزاء من أنعمت عليه بالتّوحيد إلّا الجنّة هذا، و يحتمل أن يكون الفاتحة وصفا من الفتح ضدّ الغلق فالاضافة لاميّة، و هذا هو الأظهر و المعنى أنّ الشّهادة باعثة لفتح أبواب الاحسان و الانعام و أنّها مفتاح لها، إذ بها يستحقّ العبد للفيوضات الأبدية و النّعم السر مديّة.
و يدلّ عليه مضافا إلى الأخبار السّالفة ما رواه في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام من قال لا إله إلّا اللّه مخلصا طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرّق الأبيض، فاذا قال ثانية لا إله إلّا اللّه مخلصا خرق أبواب السّماء و صفوف الملائكة حتى يقول الملائكة بعضها لبعض اخشعوا لعظمة أمر اللّه، فاذا قال ثالثة مخلصا لا إله إلّا اللّه لم تنته دون العرش فيقول الجليل: اسكتي فوعزّتي و جلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه، ثمّ تلاهذه الآية: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».
يعنى إذا كان عمله خالصا ارتفع قوله و كلامه هذا، و ظهر لي معنى ثالث و هو أن يكون المصدر بمعنى الفاعل و يكون المراد أنّها ابتداء كون الرّجل محسنا مقابل كونه مسيئا.
الثّالث قوله عليه السّلام: (و مرضات الرّحمن) و ذلك واضح لأنّها محصّلة لمرضاته «ج 18» تعالى و رضائه و رضوانه و معدّة للخلد في جنانه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 289
الرّابع قوله عليه السّلام: (و مدحرة الشّيطان) و ذلك أيضا واضح لأنّ مقصود اللّعين هو الاضلال و الاغواء و الكفر، و الشّهادة بالاخلاص زاجرة له و كاسرة «قاصمة خ ل» لظهره و رافعة لكيده و مكره، و لذلك أنّ اللّعين بعد ما قال: «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ».
عقّبه بالاستثناء بقوله: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»*.
و في عدّة الدّاعي لأحمد بن فهد الحلّي قال: و قد روي عن النبىّ صلّى اللّه عليه و آله على كلّ قلب جاثم «1» من الشّيطان، فإذا ذكر اسم اللّه خنس «2» الشّيطان و ذاب و إذا ترك الذاكر التقمه فجذبه و أغواه و أستزلّه و أطغاه.
و في حديث آخر أنه قال الشّيطان على قلب ابن آدم له خرطوم مثل خرطوم الخنزير يوسوس لابن آدم ان أقبل على الدّنيا و ما لا يحلّ اللّه فاذا ذكر اللّه خنس: اى ذهب و استتر (و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله) عقّب عليه السّلام الشّهادة بالتّوحيد بالشّهادة بالرّسالة أمّا أوّلا فلأنّ مرتبة الرّسالة تالية لمرتبة التّوحيد كما أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثاني الموجودات في الموجودية و إن كان الأوّل تعالى لا ثاني له في الوجود فينبغي أن يكون الشهادة برسالته عقيب الشّهادة بالتّوحيد طباقا لما هو الواقع.
و أمّا ثانيا فلانّ المقصود من الخلق هو العرفان و إخلاص التّوحيد و السّلوك إلى اللّه و لا بدّ للسالك من دليل يدلّ عليه و هاد يستهدى به و مبلّغ يصدّق بقوله و يقرّ برسالته، فلا بدّ من اقتران التّصديق بالرّسالة بالتّصديق بالوحدانيّة كى يتوصل به إليه و يسلك به مسالكه، إذ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله موصل إليه و باب له و فاتح لمغلقات مراتب
______________________________
(1) جثم يجثم لزم مكانه فلم يبرح و فى المصباح جثم الطائر و الارنب يجثم جثوما و هو كالبروك من البعير مجمع البحرين
(2) اى تراجع و تاخر، اللغة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 290
التّوحيد، و بوجوده صلّى اللّه عليه و آله يحصل المعرفة التّامّة و يكمل الاخلاص التّام.
و أمّا ثالثا فلأنّه سبحانه قد قارن بين كلمتي التّوحيد و الرّسالة و كتب لا إله إلّا اللّه و محمّد رسول اللّه بخطوط النّور على ساق العرش و طبقات السّماوات و أقطار الأرضين و صفحتي الشّمس و القمر، كما يستفاد من الأخبار، فينبغي المقارنة في شهادتيهما اقتفاء لما قد جرى عليه القلم الرّباني و سطور النّور، و أمّا فضل الجمع بينهما فقد روى في الكافي عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: من قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله كتب اللّه له ألف حسنة.
و في ثواب الأعمال عن بشر الأوزاعي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: من شهد أن لا إله إلّا اللّه و لم يشهد أنّ محمّدا رسول اللّه كتبت له عشر حسنات، فان شهد أنّ محمّدا رسول اللّه كتبت له ألفي ألفي حسنة.
و عن سهل بن سعد الأنصاري قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا».
قال كتب اللّه عزّ و جلّ قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورق آس أنبته ثمّ وضعها على العرش، ثمّ نادى يا امّة محمّد إنّ رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن يلقني «لقيني خ ل» منكم يشهد أن لا إله إلّا أنا و أنّ محمّدا عبدي و رسولي أدخلته الجنّة برحمتي.
و في عدّة الدّاعي لأحمد بن فهد الحلّي عن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سرّه أن يلقى اللّه يوم القيامة و في صحيفته شهادة ان لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و يفتح له ثمانية أبواب الجنّة فيقال له يا وليّ اللّه ادخل الجنّة من أيّها شئت فليقل إذا أصبح و إذا أمسى:
«اكتبا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 291
لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أشهد أنّ السّاعة اتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور على ذلك أحيى و على ذلك أموت و على ذلك أبعث حيّا إنشاء اللّه، اقرءا محمّدا منّي السّلام، الحمد للّه الّذي أذهب اللّيل مظلما بقدرته، و جاء بالنّهار مبصرا برحمته، خلقا جديدا مرحبا بالحافظين» و يلتفت عن يمينه «و حيّا كما اللّه من كاتبين» و يلتفت عن شماله هذا.
و أمّا تسمية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمحمد فأوّل من سمّاه بذلك الاسم هو اللّه سبحانه كما يدلّ عليه حديث عرض الاشباح لآدم عليه السّلام حيث قال سبحانه له: هذا محمّد و أنا الحميد المحمود في فعالى شققت له اسما من اسمي، و قد مرّ بتمامه في ثاني تنبيهات الفصل الحاد يعشر من فصول الخطبة الاولى، ثمّ سمّاه عبد المطلب بذلك يوم سابع ولادته إلهاما منه سبحانه و تفألا بكثرة حمد الخلق له، لكثرة خصاله الحميدة، و قد قيل لم شمّيت ابنك محمّدا و ليس من أسماء آبائك و لا قومك؟ فقال: رجوت أن يحمد في السّماء و الأرض، و قد حقّق اللّه رجائه، و في الوسائل عن كشف الغمة عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم كلّ من كان اسمه محمّد فليدخل الجنّة بكرامة سميّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
و في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا يولد لنا ولد إلّا سمّيناه محمّدا، فاذا مضى سبعة أيّام فان شئنا غيّرنا و إلّا تركنا هذا.
و قد ورد الأخبار المتظافرة بل المستفيضة في استحباب التّسمية بذلك الاسم المبارك، و روي له خواص كثيرة من أراد الاطلاع عليها فليراجع إلى أبواب أحكام الأولاد في كتب الأخبار.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 292
و أمّا تقديم وصف العبودية على الوصف بالرّسالة في كلمة الشّهادة، فلأن مقام العبوديّة متقدّم على مرتبة الرّسالة كما يشهد به ما رواه في الكافي عن زيد الشحام، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إن اللّه تبارك و تعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيا و إن اللّه اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، و إنّ اللّه اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا، و إنّ اللّه اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما فلما جمع له الأشياء «قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» قال فمن عظمها في عين ابراهيم:
«قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» قال لا يكون السّفيه إمام التّقى، و مثله أخبار اخر و يأتي تحقيق الكلام فيها عند الكلام على مسألة الامامة في مواضعها اللّايقة إنشاء اللّه.
الترجمة:
و شهادت مى دهم باين كه نيست هيچ معبودى بجز ذاتى كه مستجمع است جميع صفات كماليه را در حالتى كه منفرد است در صفات و در حالتى كه شريك نباشد او را در افعال و مصنوعات، شهادتى كه آزموده شده باشد اخلاص او و اعتقاد كرده باشد خاص و خالص او، هم چنان شهادتى كه تمسك مى كنيم به آن هميشه مادامى كه باقى گذاشته است خداوند سبحانه ما را در دار دنيا ذخيره مى سازيم آنرا بجهت هولهائى كه ملاقات ميكند ما را در دار اخرى، پس بتحقيق آن شهادت عقيده ايمان است كه بايد مؤمن عقد قلب به آن نمايد و جدّ و جهد در آن بجا آورد و اوّل احسان است و يا اين كه گشاينده نعمت هاى ابدى و فيوضات سرمدى است و خشنود كننده خداوند رحيم است و طرد كننده شيطان رجيم.