منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 280
منها في ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اختاره من شجرة الأنبياء، و مشكوة الضّياء، و ذوابة العلياء، و سرّة البطحاء، و مصابيح الظّلمة، و ينابيع الحكمة. منها: طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه، و أحمى مواسمه، يضع من ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، و آذان صمّ، و ألسنّة بكم، متتبّع بدوائه مواضع الغفلة، و مواطن الحيرة، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، و لم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة، فهم في ذلك كالأنعام السّائمة، و الصّخور القاسية.
اللغة:
و (المشكاة) كوّة غير نافذة يجعل فيها المصباح أو عمود القنديل الذى فيه الفتيلة أو القنديل.
و (الذّوابة) بالضم مهموزا النّاصية أو منتهاها من الرأس أو الطّائفة من شعر الرأس و (العليا) بالفتح و المدّ كلّ مكان مشرف و السّماء و رأس الجبل و (السرّة) ما تقطعه القابلة و سرّة الوادى أفضل مواضعه و (البطحاء) و الابطح مسيل واسع فيه زقاق الحصا و (المراهم) جمع المرهم و هو دواء مركّب و طلاء لين يطلى به القروح و الجروح قيل إنّه مأخوذ من الراهمة بالكسر و هو المطر الضعيف و (المواسم) كالمياسم جمع الميسم و هو المكواة و الحديد الذي يوسم به الخيل و غيرها.
و (قدح) بالزندرام الايراء به و استخرج النار منه، و الزّند الذي يقدح به النار و هو الأعلى و السّفلى الزندة بالهاء و الجمع زناد كسهم و سهام و (ثقبت) النّار اتقدت و الكواكب أضاءت و (السّائمة) من الأنعام خلاف المعلوفة و (القاسية) الشديدة الغليظة.
الاعراب:
و قوله عليه السّلام طبيب دوّار، الظاهر أنه خبر محذوف المبتدأ أو مذكور في أصل الكلام و أسقطه السيّد (ره) حين الالتقاط، و يحتمل أن يكون مبتدأ لكونه نكرة موصوفة، و جملة يضع آه، خبره، و جملة قد أحكم، حال من فاعل دوّار، و على الاحتمال الأوّل أعنى جعل طبيب خبرا يجوز جعل جملة يضع استينافا بيانيا و الاشارة بلفظ ذلك إلى طبّه.
و حيث، ظرف مكان ليضع مبنيّه على الضمّ للزوم إضافتها إلى الجمل اسمية أو فعلية نحو جلست حيث زيد جالس و حيث جلس زيد، قال ابن مالك في منظومة النحو:
و ألزموا إضافة إلى الجمل حيث و إذ و إن ينوّن يحتمل
و الحاجة، بالضمّ كما في أكثر النسخ مرفوع على الابتداء، و خبره محذوف أو فاعل
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 281
الفعل محذوف أى حيث كان الحاجة إليه أو حيث الحاجة إليه حاصلة و الجملة مجرورة المحل باضافة حيث إليها، و في بعض النسخ بجرّ الحاجة و الأوّل أظهر، لأنّ إضافة حيث إلى المفرد شاذّة كما قال في قوله: ألا ترى حيث سهيل طالعا بجرّ سهيل على إضافة حيث إليه و ربما قيل: بأنّ سهيل مرفوع على الابتداء و خبره محذوف فحيث مضافة إلى الجملة و التقدير حيث سهيل مستقرّ طالعا و متتبّع، خبر لمبتدأ محذوف، و جملة لم يستضيئوا منصوبة المحلّ على الحالية من مفعول متتبّع.
المعنى:
و أما الثاني منها:
و هو الذي في ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تبجيله و تعظيمه فهو قوله استعاره (اختاره من شجرة الأنبياء) استعار عليه السّلام لفظة الشجرة لصنف الأنبياء باعتبار أنّ هذا الصنف له فروع و أثمار و أوراق كالشجرة، ففروعه أشخاص الأنبياء و آحادهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 283
و أثماره العلوم و الكمالات و الكرامات التي لهم، و أوراقه المؤمنون و المخلصون من اممهم (و مشكاة الضّياء) قال البحراني (ره) استعار عليه السّلام لفظ المشكاة لآل إبراهيم و وجه المشابهة أنّ هؤلاء قد ظهرت منهم الأنبياء و سطع من بينهم أنوار النّبوة و الهداية كما يظهر نور المصباح من المشكاة.
أقول: هذا مبنىّ على كون المشكاة بمعنى القنديل أو الكوّة و على كونها بمعنى عمود القنديل الحامل للفتيلة فوجه المشابهة هو أنّ هؤلاء محال أنوار النّبوّة باعتبار أنّ أكثر الأنبياء فيهم كما أنّ المشكاة محلّ النور.
(و ذوابة العلياء) قال الشارح: و يشبه أن يشير به إلى قريش، و وجه المشابهة تدلّيهم في اغصان الشرف و العلوّ عن آبائهم كتدلّى ذوابة الشّعر عن الرأس أقول: و هو مبنىّ على كون الذّوابة طايفة من الشعر و أما على كونها بمعنى النّاصية فوجه المشابهة بروز شرفهم و ظهور علوّهم و فضيلتهم، كما أنّ الناصية بارزة ظاهرة و لها تفضيل على ساير الأعضاء في العزّة و الجلاء.
(و سرّة البطحاء) أى أوسطها من باب استعمال المقيد في المطلق كالمشفر في شفة الانسان أو أفضلها، و على كلّ تقدير فالمراد بالبطحاء مكة للمسيل الواسع الذي فيه و يسمّى بالأبطح، قال الشارح المعتزلي: و بنو كعب بن لوى يفتخرون على بني عامر بن لوى بأنهم سكنوا البطاح و سكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة و سكن معها بنو فهر بن مالك رهط أبي عبيدة بن الجراح و غيره قال الشاعر:
فحللت منها بالبطاح و حلّ غيرك بالظّواهر
و قال بعض الطالبيّين:
و أنا بن معتلج «1» البطاح اذا غدا غيرى و راح على متون ظواهر
يفترّ عنّى ركنها و حطيمها كالجفن يفتح عن سواد النّاظر
كجبالها شرقى و مثل سهولها خلقى و مثل ظبائهنّ مجاورى
______________________________
(1) اعتلجوا اتخذوا صراعا و قتالا، ق
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 284
استعاره (و مصابيح الظلمة و ينابيع الحكمة) استعار عليه السّلام لفظ المصابيح و الينابيع للأنبياء الأدلّاء على الحقّ باعتبار أنهم يهتدى بهم من ظلمة الجهالة و يروى ريّهم من غلل «1» الضّلالة.
و أما الثالث منها:
فهو قوله عليه السّلام استعاره مرشحة- استعارة تمثيلية (طبيب دوّار بطبّه) استعار عليه السّلام لفظ الطبيب لنفسه الشريف باعتبار كونه معالجا لأسقام الأرواح كمعالجة الأطبّاء لأمراض الأبدان، و ذكر الدّوار ترشيح للاستعارة، و وصفه به إشارة إلى كماله لأن الدّوار أكثر تجربة و حذاقة من غيره، و رشحها أيضا بقوله (قد أحكم مراهمه) أى أتقنها و منعها من الفساد، و بقوله (و أحمى مواسمه) أى أسخنها و هيّأها ليكوى بها، و يمكن أن يكونا من باب الاستعارة التمثيلية فيكون المراد باحكام المراهم البشارة بالثواب أو الأمر بالمعروف، و باحماء المواسم الانذار من العقاب أو النهى عن المنكر.
و قوله عليه السّلام (يضع من ذلك) أى من طبّه أو من كل مراهمه و مواسمه (حيث) كانت (الحاجة إليه من قلوب عمى) فيفتح عماها باعدادها لقبول أنوار العلم و الهداية (و آذان صمّ) فيشفى صممها و يعدّها لقبول المواعظ و النّصايح (و ألسنة بكم) فيعالجها و يعدّها للتكلّم بالحقّ و القول بالصّدق.
استعارة تمثيلية- استعاره تحقيقية- استعاره مرشحة- استعاره مجردة (متتبّع بدوائه مواضع الغفلة و مواطن الحيرة) و هى قلوب الجهّال و ضماير الضّلال، هذا.
و لا يخفى عليك أنّه لو كان الاشارة بلفظة ذلك في قوله عليه السّلام: يضع من ذلك، إلى المراهم و المواسم لا بدّ أن يكون قوله، قد أحكم مراهمه و أحمى مواسمه، من باب التمثيل على سبيل الاستعارة، إذا المراهم و المواسم بمعناهما الحقيقي لا ينفعان للقلوب المتّصفة بالعمى، فلا معنى لوضعهما فيها، و لو كان المشار إليه به الطبّ كان جملة يضع و ما يتلوها إلى قوله: و مواطن الحيرة، من باب التجريد، فيكون كلامه جامعا بين الاستعارة التحقيقية و الترشيح و التجريد، حيث ذكر لفظ الطّبيب و أراد
______________________________
(1) محركة العطش، م
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 285
نفسه، و هو استعارة تحقيقية و قرنها بما يلايم المستعار منه أعنى قوله: دوّار إلى قوله: مواسمه، و هو الترشيح، ثمّ قرنها بما يلايم المستعار له أعنى قوله: يضع، إلى آخر الكلام، و هو التجريد، و مثله قول الشاعر:
لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف له لبد أظفاره لم تقلّم
حيث استعار الأسد للرّجل الشجاع و وصفه بشاكى السلاح و هو تجريد لملايمة المستعار له، و رشحه بذكر اللبد و الأظفار لمناسبة المستعار منه فافهم ذلك و اغتنم.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ وصفه عليه السّلام القلوب بالعمى باعتبار أنّ القلب جار مجرى العين و غريزة العقل فيه جارية مجرى قوّة البصر في العين و قوّة الابصار لطيفة تفقد في العمى و يوجد في البصير، و كذلك القوّة العقلانية في القلب الجاهل دون العاقل فنسبة البصيرة الباطنة إلى القلب كنسبة الابصار إلى البصر إلّا انّه لا مناسبة بينهما في الشرف لأنّ القلب بمنزلة الفارس و البدن بمنزلة الفرس و عمى الفارس أضرّ عليه من عمى الفرس، و لموازنة البصيرة للبصر الظّاهر سمّاه اللّه تعالى باسمه فقال:
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى .
سمّى إدراك الفؤاد رؤية كما سمّى عدم إدراكه عمى في قوله: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» و في قوله «مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا».
و لمّا كان عمى القلب أضرّ على الانسان من عمى البصر، و معالجته أهمّ أثر القلوب على الأبصار و قال: و قلوب عمى، و لم يقل و أبصار عمى، و قد استفيد من كلامه عليه السّلام أنّ القلوب و الآذان و الألسنة الموصوفة بالأوصاف المذكورة كلّها مريضة محتاجة إلى الطبيب.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 286
و هو كذلك، فانّ كلّ عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاصّ به و مرضه أن يتعذّر عليه فعله الذي خلق لأجله حتّى لا يصدر منه أصلا أو يصدر منه بنوع من الاضطرار.
فمرض اليد أن يتعذّر عليها البطش، و مرض الاذن أن يتعذّر عليها السّماع و مرض العين أن يتعذّر عليها الابصار، و مرض اللسان أن يتعذّر عليه التكلّم، و مرض القلب أن يتعذّر عليه فعله الخاص الذي خلق لأجله و هو العلم و الحكمة و المعرفة و حبّ اللّه و عبادته و التلذّذ بذكره و إيثاره ذلك على غيره و الاستعانة بجميع الأعضاء عليه كما قال:
«وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» ففي كلّ عضو فايدة مخصوصة، و فائدة القلب الحكمة و المعرفة و خاصية النفس التي للآدمى ما يتميّز بها عن البهايم، فانه لم يتميّز عنها بالقوّة على الأكل و الوقاع و الابصار و نحوها، بل بمعرفة الأشياء على ما هى عليه و أصل الأشياء و موجدها و مخترعها هو اللّه سبحانه، فلو عرف كلّ شي ء و لم يعرف اللّه تعالى فكأنه لم يعرف شيئا، و هو علامة لمرض قلبه كما أنّه لو لم يؤثر المواعظ و النصايح فى اذنه، و العبر و الآيات في نظره و لم يجرى الحقّ على لسانه عرف بذلك أنّ هذه الجوارح منه مريضة، لكونها علامات لمرضها يستدلّ بها عليها فلا بدّ له من معالجتها و الخلاص من ألمها.
و ربّما يحصل له الغفلة عن مرضه فلا يمكن له العلاج بنفسه، فيلزم حينئذ وجود طبيب حاذق دوّار بطبّه لينبّهه على مرضه و يداوى له، و ليس ذلك إلّا أمير المؤمنين عليه السّلام و الطيّبون من أولاده، فانّ غيرهم من الأطبّاء أعنى ساير العلما قد استولى عليهم المرض، و الطبيب إذا كان بنفسه مريضا كيف يعالج غيره، فهو طبيب الهى متتبّع بدوائه مواضع الغفلة و مواطن الحيرة معالج لأمراض القلوب و أسقام الأرواح و النفوس و آفات الأعضاء و المشاعر.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 287
و قد روى بعض القدماء في أصل له عن الرّضا عليه السّلام مسندا عن عمّار بن ياسر قال: بينا أنا أمشي بأرض الكوفة إذ رأيت أمير المؤمنين عليه السّلام جالسا و عنده جماعة من الناس، و هو يصف لكلّ انسان ما يصلح له، فقلت له: يا أمير المؤمنين أ يوجد عندك دواء الذنوب؟ فقال عليه السّلام: نعم اجلس، فجثوت على ركبتى حتى تفرّق عنه النّاس، ثمّ أقبل علىّ و قال: خذ دواء أقول لك، قال: قلت: قل يا أمير المؤمنين، قال عليه السّلام: عليك بورق الفقر، و عروق الصبر، و هليلج الكتمان، و بليلج الرضا، و غاريقون الفكر، و سقمونيا الأحزان و اشربه بماء الأجفان، و أغله في تبخير الغلق، و دع تحت نيران الفرق، و صفّه بمنخل الأرق، و اشرب على الحرق، فذاك دواؤك و شفاؤك يا عليل.
و روى في الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليهم السّلام أنه قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام قاعدا ذات يوم فأقبل إليه رجل من اليونانيّين المدعين للفلسفة و الطبّ، فقال له: يا أبا الحسن بلغني خبر صاحبك و أنّ به جنونا و جئت لاعالجه فلحقته قد مضى لسبيله و فاتنى ما أردت من ذلك، و قد قيل لي: إنّك ابن عمّه و صهره و أرى بك صفارا قد علاك و ساقين دقيقين و ما اريهما تقلانك «1» فأما الصّفار فعندى دوائه، و أما السّاقان الدّقيقان فلا حيلة لتغليظهما و الوجه أن ترفق بنفسك في المشى تقلّله و لا تكثره و فيما تحمله على ظهرك و تحتضنه بصدرك أن تقلّلهما و لا تكثرهما، فانّ ساقيك دقيقان لا يؤمن عند حمل ثقيل انقصافهما «2» و أما الصفّار فدواؤه عندى و هو هذا.
و اخرج دواء و قال: هذا لا يؤذيك و لا يخيّسك و لكنه يلزمك حمية من اللّحم أربعين صباحا ثمّ يزيل صفارك.
فقال له عليّ عليه السّلام: قد ذكرت نفع هذا الدّواء الصفّارى فهل تعرف شيئا يزيد فيه و يضرّه؟ فقال الرّجل: بلى حبّة من هذا و أشار الى دواء معه، و قال: إن تناوله الانسان و به صفار أماته من ساعته و إن كان لاصفار به صار به صفار حتى يموت في يومه.
______________________________
(1) أى تحملانك من اقللته أى حملته.
(2) القصف الكسر
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 288
فقال عليه السّلام له فأرنى هذا الضارّ، فأعطاه ايّاه فقال له عليه السّلام كم قدر هذا؟
قال قدر مثقالين سمّ ناقع قدر كلّ حبّة منه يقتل رجلا، فتناوله عليّ عليه السّلام فقمحه و عرق عرقا خفيفا و جعل الرّجل يرتعد في نفسه و يقول: الآن اوخذ بابن أبي طالب و يقال قتلته و لا يقبل مني قولي انه هو الجانى على نفسه، فتبسّم عليّ عليه السّلام و قال: يا عبد اللّه أصحّ ما كنت بدنا الآن لم يضرني ما زعمت أنه سمّ ثمّ قال عليه السّلام: فغمّض عينيك فغمض ثمّ قال: افتح عينيك ففتح و نظر إلى وجه عليّ عليه السّلام فاذا هو أبيض أحمر مشرب الحمرة فارتعد الرجل لما رآه، فتبسّم عليّ عليه السّلام و قال: أين الصفّار الذي زعمت أنه بي؟ فقال: و اللّه لكأنّك لست من رأيت قبل كنت مصفارا و أنت الآن مورّد فقال عليّ عليه السّلام: فزال عنى الصّفار بسمّك الذى تزعم أنه قاتلى.
و أمّا ساقاى هاتان و مدّ رجليه و كشف عن ساقيه، فانّك زعمت أني احتاج إلى أن ارفق ببدني في حمل ما احمل عليه لئلا ينقصف السّاقان و أنا اريك أنّ طبّ اللّه عزّ و جلّ طبّ خلاف طبّك، و ضرب بيده إلى اسطوانة خشب عظيمة على رأسها سطح مجلسه الذي هو فيه و فوقه حجرتان احداهما فوق الاخرى و حرّكها فاحتملها فارتفع السّطح و الحيطان و فوقهما الغرفتان.
فغشى على اليوناني فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: صبّوا عليه ماء فصبّوا عليه ماء فأفاق و هو يقول: و اللّه ما رأيت كاليوم عجبا، فقال له، عليّ عليه السّلام هذه قوّة السّاقين الدّقيقين و احتمالهما أفي طبك هذايا يوناني.
فقال اليوناني: أمثلك كان محمّد؟ فقال عليّ عليه السّلام: و هل علمي إلّا من علمه، و عقلي إلّا من عقله و قوّتى إلّا من قوّته، لقد أتاه الثقفي و كان أطبّ العرب فقال له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن كان بك جنون داويتك، فقال له محمّد صلّى اللّه عليه و آله أتحبّ أن اريك آية لتعلم بها غناى عن طبّك و حاجتك إلى طبّي؟ فقال: نعم، قال: أيّ آية تريد؟ قال:
تدعو إلىّ ذلك العذق «1» و أشار الى نخلة سحوق فدعاها فانقلع أصلها من الأرض
______________________________
(1) العذق بالفتح النخلة بحملها و السحوق من النخلة الطويلة، ق
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 289
و هي تخدّ الأرض خدّا حتى وقفت بين يديه، فقال عليه السّلام له: أكفاك؟ قال: لا، قال: فتريد ما ذا؟ قال: تأمرها أن ترجع إلى حيث جاءت منه و تستقرّ في مقرّها الذي انقلعت منه، فأمرها، فرجعت و استقرّت في مقرّها.
فقال اليوناني لأمير المؤمنين عليه السّلام: هذا الذى تذكره عن محمّد غايب عني، و أنا أقتصر منك على أقلّ من ذلك، أنا أتباعد عنك فادعنى و أنا لا أختار الاجابة، فان جئت بي إليك فهو آية.
فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: هذا إنما يكون آية لك وحدك لأنّك تعلم من نفسك أنّك لم ترده و إنّي لازلت اختيارك من غير أن باشرت منى شيئا أو ممّن أمرته بأن يباشرك، أو ممن قصد إلى اجبارك و ان لم امره الّا ما يكون من قدرة اللّه القاهرة و أنت يا يوناني يمكنك ان تدعى و يمكن غيرك أن يقول انى و اطاعتك على ذلك، فاقترح ان كنت مقترحا ما هو آية لجميع العالمين.
قال اليوناني إن جعلت الاقتراح إلىّ فأنا أقترح أن تفصّل أجزاء تلك النخلة و تفرّقها و تباعد ما بينها ثمّ تجمعها و تعيدها كما كانت.
فقال عليّ عليه السّلام: هذه آية و أنت رسولي إليها يعني إلى النخلة فقل لها: إنّ وصيّ محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمر أجزائك أن تفترق و تتباعد.
فذهب فقال لها: فتفاصلت و تهافتت و تناثرت و تصاغرت أجزائها حتّى لم ير لها عين و لا أثر حتى كأن لم تكن هناك نخلة قط.
فارتعدت فرائض اليوناني و قال: يا وصيّ محمّد رسول اللّه قد أعطيتني اقتراحي الأوّل فاعطني الآخر فأمرها أن تجتمع و تعود كما كانت.
فقال عليّ عليه السّلام: أنت رسولي اليها فعد فقل لها: يا أجزاء النخلة إنّ وصيّ محمّد رسول اللّه يأمرك أن تجتمعي و أن تعودى كما كانت.
فنادى اليوناني فقال ذلك: فارتفعت في الهواء كهيئة الهباء المنثور ثمّ جعلت تجتمع جزء جزء منها حتى تصوّر لها القضبان و الأوراق و اصول السّعف و شماريخ الاعذاق ثمّ تألّفت و تجمّعت و استطالت و عرضت و استقرّ أصلها في مستقرّها و تمكّن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 290
عليها ساقها و ترقت على الساق قضبانها و على القضبان أوراقها و في اكمتها أعذاقها و كانت في الابتداء شماريخها متجرّدة لبعدها من أوان الرّطب و البسر و الخلال.
فقال اليوناني: و اخرى احبّ أن تخرج شماريخها خلالها و تقلّبها من خضرة إلى صفرة و حمرة و ترطيب و بلوغ أتاه لتأكل و تطعمني و من حضرك منها فقال عليّ عليه السّلام: أنت رسولي اليها بذلك فمرها به.
فقال لها اليوناني يأمرك أمير المؤمنين عليه السّلام بأن تظهرى لنا رطبا فأخلت، و أبسرت و اصفرت و احمرت و ترطبت و ثقلت اعذاقها برطبها.
فقال اليوناني: و اخرى احبّها أن تقرّب من بين يدي أعذاقها أو تطول يدي لتناولها و أحبّ شي ء إلى أن تنزل إلى إحداها و تطول يدي إلى الاخرى الّتي هي اختها.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: مد اليد التي تريد أن تناولها و قل يا مقرّب البعيد قرّب يدي منها، و اقبض الاخرى التي تريد أن ينزل العذق اليها و قل يا مسهلّ العسير سهّل لى تناول ما يبعد منها، ففعل ذلك و قاله: فطالت يمناه فوصلت إلى العذق، و انحطت الاعذاق الاخر فسقطت على الأرض و قد طالت عراجينها ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّك إن أكلت منها و لم تؤمن بمن أظهر لك عجايبها عجّل اللّه عليك من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به عقلاء خلقه و جهّالهم.
فقال اليوناني: إني إن كفرت بعد ما رأيت فقد بالغت في العناد و تناهيت في التعرّض للهلاك، أشهد أنّك من خاصة اللّه صادق في جميع أقوالك عن اللّه فأمرني بما تشاء أطعتك.
(قال على) عليه السّلام: آمرك أن تفرد اللّه بالوحدانية و تشهد له بالجود و الحكمة و تنزّهه عن العبث و الفساد، و عن ظلم الاماء و العباد، و تشهد أنّ محمّدا الذي أنا وصيّه سيّد الأنام، و أفضل رتبة اهل الاسلام «دار السلام خ»، و تشهد أنّ عليّا الذي أراك ما أراك، و أولاك من النّعم ما أولاك خير خلق اللّه بعد محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أحقّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 291
خلق اللّه بمقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعده و بالقيام لشرايعه و أحكامه، و تشهد أنّ أوليائه أولياء اللّه و أعدائه أعداء اللّه، و أنّ المؤمنين المشاركين لك فيما كلفتك المساعدين لك على ما به أمرتك خير امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صفوة شيعته.
و آمرك أن تواسى اخوانك المطابقين لك على تصديق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تصديقي، و الانقياد له ولى ممّا رزقك اللّه و فضّلك على من فضّلك به منهم، تسدّ فاقتهم، و تجبر كسرهم، و خلّتهم، و من كان منهم في درجتك في الايمان ساويته في مالك بنفسك و من كان منهم فاضلا عليك في دينك آثرته بمالك على نفسك حتى يعلم اللّه منك أنّ دينه آثر عندك من مالك، و إنّ أوليائه أكرم عليك من أهلك و عيالك.
و آمرك ان تصون دينك و علمنا الذي أودعناك و أسرارنا التي حملناك و لا تبد علومنا لمن يقابلها بالعناد و يقابلك من أجلها بالشتم و اللعن و التناول من العرض و البدن و لا تفش سرّنا إلى من يشنع علينا و عند الجاهلين بأحوالنا و يعرّض أوليائنا لبوادر الجهال.
و آمرك أن تستعمل التّقية في دينك فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» و قد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف إليه، و في إظهار البراءة منا إن حملك الوجل عليه، و في ترك الصلاة المكتوبات إذا خشيت على حشاشتك الآفات و العاهات، فانّ تفضيلك أعدائنا علينا عند خوفك لا ينفعهم و لا يضرّنا، و إنّ إظهار براءتك منّا عند تقيّتك لا يقدح فينا و لا ينقصنا، و لأنّ تتبرّء منّا ساعة بلسانك و أنت موال لنا بجنانك لتبقى على نفسك روحها التي بها قوامها و مالها الذي به قيامها و جاهها الذي به تماسكها و تصول من عرف بك و عرفت به من أوليائنا و إخواننا و أخواتنا من بعد ذلك بشهور و سنين إلى ان يفرّج اللّه تلك الكربة و تزول تلك النعمة فانّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك، و تنقطع به عن عمل في الدّين و صلاح اخوانك المؤمنين.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 292
و إيّاك ثمّ إيّاك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فانك شايط بدمك و دماء إخوانك، معرّض لنعمك و نعمتهم على الزّوال، مذلّ لك و لهم في أيدى أعداء دين اللّه، و قد أمرك اللّه باعزازهم، فانك إذا خالفت وصيّتي كان ضررك على نفسك و إخوانك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا.
و قد ذكرت الرواية بتمامها على طولها لاشتمالها على مناقب دثرة و فوائد جمّة، و تضمّنها توضيح الطب الالهي.
ثمّ انه عليه السّلام لما وصف نفسه بدورانه بطبّه و تتبّعه بدوائه مواضع الغفلة و مواطن الحيرة، و تفقّده حال مرضاء القلوب و الأفئدة أردفه بتوبيخ الغافلين الحائرين الجاهلين المفتونين بعدم رجوعهم إليه و تداويهم به و اهتدائهم بأنواره و أخذهم من علومه و حكمه و بقائهم على مرضهم و ابتلائهم بالآلام و الأسقام فقال عليه السّلام:
(لم يستضيئوا بأضواء الحكمة) أى لم يكتسبوا شيئا من أنوار العلوم و الأخلاق الفاضلة (و لم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة) أى لم يستخرجوا المطالب الحقّة بالعلوم المضيئة استخراج النّار بالزناد (فهم في ذلك) المعنى أى في عدم الاستضائة و القدح (كالأنعام السّائمة) في الغفلة و الانخراط في سلك الغضب و الشهوة بل هم أضلّ سبيلا (و الصخور القاسية) في القساوة و عدم اللّين بسماع الآيات الحقة كما قال تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً».
الترجمة:
بعض ديگر از اين خطبه در ذكر اوصاف حضرت خاتم الأنبياء عليه آلاف التحية و الثنا است چنانچه مى فرمايد:
اختيار نمود حضرت عزّت آن جناب را از شجره طيبه پيغمبران، و از چراغدان روشنى و از چنين مكان عالى و از نافه مكّه معظمه و از چراغهاى تاريكى و ظلمت و از چشمه هاى علم و حكمت.
بعض ديگر از اين خطبه اشاره است بفضايل خود و ملامت اصحاب مى فرمايد طبيبى است حاذق كه بسيار گردنده است با طب خود در حالتى كه محكم نموده مرهم هاى خود را، و گرم نموده آلتهاى داغ خود را مى گذارد آن طبيب طبّ خود را بمحلي كه حاجت بوده باشد بآن از قلبهاى كور و گوشهاى كر و زبانهاى كنك، تتبع كننده است آن طبيب بدواى خود محلّهاى غفلت و موطنهاى حيرت را كسب روشنى نكرده اند ايشان بروشنيهاى حكمت و عرفان، و آتش نيفروخته اند بآتش زنه هاى علمهاى درخشان، پس ايشان در اين ظلمت و غفلت مانند چهارپايان چرا كننده هستند، و مثل سنگهاى سخت مى باشند.