منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 313
(منها:) و اعلموا أنّه ليس من شيء إلّا يكاد صاحبه أن يشبع منه أو يملّه إلّا الحياة فإنّه لا يجد له في الموت راحة، و إنّما ذلك بمنزلة الحكمة الّتي هى حياة للقلب الميّت، و بصر للعين العمياء، و سمع للاذن الصّماء، و رىّ للظّمان، و فيها الغنى كلّه، و السّلامة.
اللغة:
و (مللت) من الشيء مللا من باب تعب و ملالة سئمت و ضجرت و هو ملول.
الاعراب:
و قوله: و يكاد صاحبه أن تشبع، الغالب في خبر كاد أن لا يقترن بأن كما في قوله تعالى: و ما كادوا يفعلون، و هكذا في غير واحد من نسخ المتن، و اقترانه بها قليل و منه قول الشاعر يرثى ميتا:
كادت النّفس أن تفيض عليه إذ غدا بين ريطة «1» و برود
و مثل كاد في هذا الحكم كرب فيقلّ اقتران خبره بأن و علّله علماء الأدبيّة بأنّهما يدّلان على شدّة مقارنة الفعل و مداومته و ذلك يقرب من الشّروع في الفعل و الأخذ فيه فلم يناسب خبرهما أن يقترن غالبا بأن المشعرة بالاستقبال، و لذلك لا تقول كاد زيد يحجّ إلّا و قد أشرف عليه و لا تقول ذلك و هو في بلده.
المعنى:
فان قلت: إذا كان هوى أهل الآخرة و رغبتهم على ما ذكرت في الموت، فكيف التّوفيق بينه و بين قوله عليه السّلام: (و اعلموا أنّه ليس من شيء إلّا و يكاد صاحبه أن يشبع منه و يملّه إلّا الحياة فانّه لا يجد له في الموت راحة) فانّ ظاهر هذا الكلام يفيد أنّ اللّذات كلّها لعموم النّاس مملول منها إلّا الحياة معلّلا بأنّه لا استراحة في الممات؟
قلت: ظاهر هذا الكلام و ان كان يعطى العموم و كراهيّة الموت للكلّ إلّا أنّه يحمل على الخصوص أعنى كراهيّته لأهل الشقاوة جمعا بينه و بين الأخبار الدّالة
______________________________
(1) بفتح الراء و سكون الياء المثناة و الطاء المهملة الملأة اذا كانت شقة واحدة و البرود بضمّ الباء جمع برد نوع من الثياب و المراد بهما الكفن اى قرب النفس أن تقضى اذ صار ذلك الميت بين أثواب الكفن.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 314
على محبوبيّته لأولياء اللّه سبحانه كقوله صلّى اللّه عليه و آله: ليس للمؤمن راحة دون لقاء اللّه.
و ربّما يوجّه بعد إبقائه على العموم تارة بأنّ الموت يفوت متجر الآخرة و ينقطع به الاستعداد لكمال أشرف مما حصل عليه الميّت و إن كان وليّا، فلا جرم لا يجد الرّاحة التي يلحقه بما يفوته من ذلك الكمال، و اخرى بأنّ النفوس البشريّة لما لم يكن معارفها ضروريّة و لم يتمكّن ما دامت في هذه الأبدان من الاطلاع على ما بعد الموت من سعادة أو شقاوة، فبالحرىّ أن لا تجد لها راحة يتصوّرها في الموت.
أقول: و أنت خبير بما فيه، فانّ عدم التمكن من الاطلاع على ما بعد الموت إنّما هو للمحجوبين دون العارفين من الأنبياء و المرسلين، و أولياء اللّه المتّقين، فانهم من سعادتهم على ثقة و يقين، ألا ترى إلى قول عليّ المرتضى سلام اللّه عليه تترى: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
و الأوجه ما قاله الشّارح البحراني (ره) حيث قال: إن كان مراده عليه السّلام بقوله: لا يجد في الموت راحة، أى في نفس الموت مع قطع النّظر عن غيره من أحوال الآخرة، فالحقّ مع قول من عمّم فقدان الرّاحة في حقّ الجميع، إذ الموت من حيث هو موت لا راحة فيه لأحد من النّاس كافّة، و إن كان مراده فقدان الرّاحة في الموت و ما بعده، فالحقّ التخصيص بأهل الشّقاوة الدّائمة، فانّ شدّة محبّة الحياة و نقصانها متفاوتة بحسب تصوّر زيادة الرّاحة في الآخرة و نقصانها، و ذلك ظاهر عند اعتبار أهل الدّنيا المقبلين عليها بالكلّية.
ثمّ قال عليه السّلام (و إنّما ذلك بمنزلة الحكمة) اختلف الشّارحان المعتزلي و البحراني في المشار إليه بذلك.
فقال الأوّل: إنّ هذا الكلام له عليه السّلام إلى قوله و السّلامة فصل آخر غير ملتئم بما قبله، و انّ الاشارة بذلك إلى كلام من كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رواه لهم و حضّهم على التمسّك به و الانتفاع بمواعظه، ثمّ قال: و الحكمة المشبّه كلام الرسول بها هى المذكورة في قوله تعالى: و من يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 315
و قال الثّاني: قوله عليه السّلام: و إنّما ذلك، أي الأمر الذي هو أحقّ بأن لا يملّ و لا يشبع منه، بمنزلة الحكمة أى ما كان بمنزلة الحكمة.
أقول: أمّا قول الأول فهو رجم بالغيب و تأويل من غير دليل، لعدم ثبوت التّقطيع و الالتقاط بعد في هذه الفقرة و في الفقرات الآتية كما زعمه، و على تقدير ثبوته فلا يتعيّن أن تكون الاشارة به إلى كلام رواه من الرّسول بل يحتمل أن يكون اشارة إلى ما وعظهم به و نصحهم من كلام نفسه.
و أمّا قول الثاني ففيه من التّعسف و الخبط ما لا يخفى، لعدم ارتباط هذا الكلام على ما ذكره بما تقدّمه من الكلام من حيث المعنى، مضافا إلى منافرته بل منافاته للقواعد الأدبيّة و الاصول العربيّة كما هو غير خفىّ على ذوى الأذهان المستقيمة، و كيف كان فما قيل أو يمكن أن يقال في هذا المقام فانّما هو تخمين و حسبان لا يمكن أن يوجّه به كلام الامام حتّى يقوم عليه دليل بيّن.
ثمّ الحكمة عبارة عن معرفة الصّانع سبحانه و العلم النّافع في الآخرة و يأتي مزيد بيانها في شرح الفصل الثّالث من المختار المأة و الأحد و الثّمانين إنشاء اللّه تعالى.
و للاشارة إلى التّفخيم و التعظيم أتبعه بقوله (الّتي هي حياة للقلب الميّت) القلب الميّت هو القلب الجاهل القاصر عن إدراك وجوه المصالح و حياته عبارة عن اهتدائه إلى ما فيه صلاحه و رشده، و جعل الحكمة حياة له لكونها سببا للاهتداء، فأطلق عليها لفظ الحياة مبالغة.
(و) قوله تشبيه بليغ (بصر للعين العمياء) من باب التشبيه البليغ يعني أنها بمنزلة حسّ البصر لها، و ذلك لأنّ العين المتّصفة بالعمى كما أنّها عاجزة عن إدراك الألوان و الأضواء، فاذا كان لها الابصار و ارتفع عنها العمى تمكّنت من إدراكها، فكذلك الحكمة للجاهل تحصل له بها البصيرة، فتمكّن بها و تقدر على إدراك المآرب الحقّة.
و كذلك قوله (و سمع للاذن الصّماء) فانّ الصّمم مانع عن إدراك الاذن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 316
و بارتفاعه عنها و حصول حسّ السّمع لها تقدر على إدراك الأصوات و الأقوال، و كذلك بارتفاع الجهالة عن الجاهل و حصول الحكمة و البصيرة له يقدر على الاطلاع على ما هو خير في المآل.
تشبيه بليغ- استعاره مرشحة و أمّا قوله (و رىّ للظّمآن) فيحتمل أن يكون من باب التّشبيه البليغ كسابقيه، بأن يراد بالظّمآن معناه الحقيقى و وجه الشبه أنّ العطشان كما يؤلمه داء العطش و بارتوائه بالماء يرتفع عنه تلك الدّاء، فكذلك الجاهل يؤذيه داء الجهالة و بحصول الحكمة له يرتفع عنه هذا الدّاء و يحتمل أن يكون من باب الاستعارة بأن يستعار لفظ الظّمآن للجاهل و الجامع ما سبق من أنّ كلّا منهما له داء يتاذّى به و يحتاج إلى علاجه إلّا أنّ ما للأوّل وجدانىّ، و ما للثّاني عقلانيّ، و على هذا الوجه فيكون ذكر الرّى ترشيحا و قوله (و فيها الغنى كلّه و السّلامة) أمّا أنّ فيها الغنى فلأنّ من اوتى الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا، و بها يوصل إلى الحقّ المتعال، و يسبح في بحار معرفة ذى الجلال، و في ذلك غنى العارفين عمّا سواه سبحانه من العالمين، و هو تعالى غاية مراد المريدين، و منتهى رغبة الرّاغبين، و كنز المساكين.
و أمّا أنّ فيها السّلامة فلأنّ بها يسلم من داء الجهل في الدّنيا، و ينجى من سخط الجبّار و عذاب النّار في الاخرى.
و أمّا قوله (كتاب اللّه) فيحتمل أن يكون كلاما منفصلا عمّا قبله أسقط السّيد (ره) ما بينهما فارتفع الارتباط بالتّقطيع و الالتقاط، أو أنّه خبر لمبتدأ محذوف أى هذا كتاب اللّه و يظهر من الشّارح البحرانى الاتّصال حيث قال: كتاب اللّه خبر مبتدأ إمّا خبر ثان لذلك «1» و ما كان بمنزلة الحكمة خبر أوّل، أو لمبتدأ محذوف تقديره: و هو كتاب اللّه و يحتمل أن يكون عطف بيان لما كان بمنزلة الحكمة.
______________________________
(1) اى لفظة ذلك فى قوله و ذلك بمنزلة الحكمة، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 317
أقول: لم يتقدّم في كلامه عليه السّلام لفظ ما كان بمنزلة الحكمة حتّى يجعل خبرا أوّلا أو معطوفا عليه للكتاب، و انّما قال عليه السّلام: و إنّما ذلك بمنزلة الحكمة.
فان قلت: لعلّه مقدّر في ضمن الكلام. قلت: لا دليل على تقديره، مع أنّا لم نر بيانا حذف مبيّنه.
الترجمة:
و بدانيد كه نيست هيچ چيزى مگر اين كه صاحب آن نزديك است كه سير شود از آن و ملال آورد از او مگر زندگانى دنيا بجهة آنكه نمى يابد از براى خود در مرگ آسايشى، و جز اين نيست كه آن بمنزله حكمت است چنان حكمتى كه آن زندگى قلب مرده است، و بينائى چشم كور، و شنوائى گوش كر، و سيرابي تشنگانست، و در اوست بى نيازي تمام، و سلامتي از أسقام.