منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 216
إنّ من عزائم اللَّه في الذّكر الحكيم الّتي عليها يثيب و يعاقب، و لها يرضى و يسخط، أنّه لا ينفع عبدا و إن أجهد نفسه و أخلص فعله، أن يخرج من الدّنيا لاقيا ربّه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها أن يشرك باللَّه فيما افترض عليه من عبادته، أو يشفي غيظه بهلاك نفسه، أو يقرّ بأمر فعله غيره، أو يستنجح حاجة إلى النّاس باظهار بدعة في دينه، أو يلقى النّاس بوجهين، أو يمشى فيهم بلسانين، اعقل ذلك فإنّ المثل دليل على شبهه، إنّ البهائم همّها بطونها، و إنّ السّباع همّها العدوان على غيرها، و إنّ النّسآء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا و الفساد فيها، إنّ المؤمنين مستكينون، إنّ المؤمنين مشفقون، إنّ المؤمنين خائفون. (31062- 30756)
اللغة:
و (استنجح) الحاجة و تنجّحها تنجزّها و استقضاها.
الاعراب:
و قوله: انّه لا ينفع عبدا، اسم إنّ على تأويله بالمصدر أى إنّ من عزائمه تعالى عدم نفع عبد، و قوله:
أن يخرج، فاعل ينفع، و قوله: ان يشرك بدل من خصلة أو من هذه الخصال فتكون أو في الجملات المعطوفة بعدها بمعنى الواو، و جملة إنّ البهايم استيناف بيانيّ، و كذلك جملة إنّ المؤمنين آه.
المعنى:
و لما أمرهم بالحذر و الجد و نبّههم على أنّ المنبئ لهم خبير و بصير بما يحذر منه و يجد عليه، عقّب ذلك بالتنبيه على بعض ما يجب الحذر منه و الجدّ على تركه فقال (إنّ من عزائم اللَّه) أى الأحكام التي لا يجوز مخالفتها في حال من الأحوال
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 217
على ما مر تفصيلا في شرح الفصل السابع عشر من الخطبة الاولى (في الذكر الحكيم) أى القرآن الكريم أو اللّوح المحفوظ كما قيل، و على الأوّل فلا ينافيه عدم ورود بعض ما يذكره من العزائم فيه بخصوصه لامكان استفادته من عمومات الكتاب أو فحاويه حسبما تطلع عليه انشاء اللَّه و وصف العزائم بقوله (الّتى عليها يثيب و يعاقب و لها يرضى و يسخط) أى يرضى و يثيب على الأخذ بها و امتثالها، و يسخط و يعاقب على مخالفتها و تركها (أنه) الضمير للشأن (لا ينفع عبدا و إن أجهد نفسه و أخلص فعله) أمّا إجهاد النفس فيتصوّر في حقّ كلّ من ارتكب باحدى الخصال الخمس الآتية، و أمّا إخلاص الفعل فانّما يتصوّر في المرتكب بغير الاولى من الأربع الباقية، و أمّا الأولى فلا لظهور أنّ الاخلاص لا يجتمع مع الرّيا فيكون الشّرطيّة الثّانية بملاحظة الأغلب أو من باب التغليب فتدبّر (أن يخرج من الدّنيا) أى لا ينفع خروجه منها حالكونه (لاقيأ ربّه بخصلة) واحدة (من هذه الخصال) و الحال أنّه (لم يتب منها) و لم يندم عليها، و هذه الخصال خمس:
إحداها (أن يشرك باللَّه فيما افترض عليه من عبادته) أى يرائي في عمله و لم يخلصه للَّه سبحانه، و الدليل من الكتاب الحكيم على حرمته قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» و قوله «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ».
و قد مضى تحقيق الكلام في الرياء و تفصيل أقسامه في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الرابعة و العشرين الثانية ما أشار إليها بقوله (أو يشفى غيظه بهلاك نفسه) أى يقتل نفسه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 218
لافراط قوّته الغضبيّة بحيث لا يطفى نار غضبه إلّا به، و الدليل على حرمته قوله تعالى «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ».
روى في عقاب الأعمال عن أبي ولاد الحنّاط قال سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: من قتل نفسه متعمّدا فهو في نار جهنّم خالدا فيها، هذا و يحتمل أن يكون المراد بهلاك نفسه الهلاك الاخروى أى لا يتشفّى من غيظه إلّا بأن يكتسب إثما و يوبق نفسه مثل أن يكون بينه و بين آخر بغضاء و عداوة فيغتابه أو يفترى عليه أو ينمّ عليه أو يسعى به إلى الملوك أو يسبّه و نحو ذلك ممّا فيه أليم العذاب و نصّ على حرمته محكم الكتاب، هذا و في بعض النّسخ بهلاك نفس بدل نفسه فيكون المراد أنّه لا يسكت غضبه إلّا بالقتل، و يدلّ على حرمته و عقابه صريحا قوله تعالى: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً».
و روى في عقاب الأعمال بسنده عن حمران قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: قول اللَّه عزّ و جلّ: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً».
و إنّما قتل واحدا، فقال عليه السّلام: يوضع في موضع من جهنّم إليه ينتهى شدّة عذاب أهلها لو قتل النّاس جميعا كان إنّها يدخل ذلك المكان، قلت: فانّه قتل آخر قال:
و يصاعف عليه.
و عن أبي عمير قال: حدّثني غير واحد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب آيس من رحمة اللَّه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 219
و عن جابر بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: أوّل ما يحكم اللَّه في القيامة في الدّماء فيوقف ابنا آدم فيفصل بينهما، ثمّ الّذين يلونهم من أصحاب الدّماء حتّى لا يبقى منهم أحد، ثمّ النّاس بعد ذلك فيأتي المقتول قاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلنى، فيقول أنت قتلته فلا يستطيع أن يكتم اللَّه حديثا و عن سعيد الأزرق عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في رجل قتل رجلا مؤمنا يقال له: مت أىّ ميتة شئت إن شئت يهوديا و ان شئت نصرانيّا، و إن شئت مجوسيّا الثالثة ما أشار اليها بقوله (أو يقرّ بأمر فعله غيره) الظّاهر أنّ المراد به أن يحكى أمرا قبيحا ارتكبه غيره، و يدلّ على أنّه حرام و معصية قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» روى في عقاب الأعمال عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: قلت له: جعلت فداك الرّجل من اخواني بلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك، و قد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال لي: يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك و إن شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم، و لا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروّته، فتكون من الذين قال اللَّه عزّ و جلّ «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ» الآية و عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من روى عن مؤمن رواية يريد بها شينه و هدم مروّته ليسقطه من أعين النّاس أخرجه اللَّه عزّ و جلّ من ولايته إلى ولاية الشّيطان.
قال الشّارح البحراني: و روى بعض الشّارحين يعرّ بالعين المهملة قال:
و معناه أن يقذف غيره بأمر قد فعله هو فيكون غيره منصوبا مفعولا به و العامل يعرّ يقال عرّه يعرّه أى عابه و لطخه أقول: و على هذا فيدلّ على حرمته ما يدل على حرمة البهت و الافتراء، قال تعالى: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 220
روى في عقاب الأعمال عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من اتّهم مؤمنا أو مؤمنة بما ليس فيهما بعثه اللَّه يوم القيامة في طينة خبال حتّى يخرج ممّا قال، قلت: و ما طينة خبال؟ قال: صديد يخرج من فروج الزّناة، بل يدلّ عليه جميع ما ورد في حرمة الغيبة إذ ذلك قسم من الغيبة بل من أعظم أقسامها كما لا يخفى.
الرابعة ما أشار اليها بقوله (أو يستنجح حاجة إلى النّاس باظهار بدعة في دينه) يعني أنّه يبدع في الدّين طلبا لنجاح حاجته، و من المعلوم أنّ كلّ بدعة ضلالة و الضّلالة في النّار قال تعالى: «وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» و قال «وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ».
و استنجاح الحاجة بالبدعة أشدّ خزيا و أعظم مقتا، كما يدلّ عليه ما في عقاب الأعمال عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: صونوا دينكم بالورع، و قوّوه بالتّقوى و الاستغناء باللَّه عزّ و جلّ عن طلب الحوائج من السّلطان، و اعلموا أنّه أيّما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو لمن يخالفه على دينه طلبا لما في يديه أخمله اللَّه و مقته عليه و وكله اللَّه إليه، و إن هو غلب على شيء من دنياه و صار في يده منه شيء نزع اللَّه البركة منه و لم يأجره على شيء ينفقه في حجّة و لا عمرة و لا عتق و فيه عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: كان رجل في الزّمن الأوّل طلب الدّنيا من حلال فلم يقدر عليها، فطلبها من حرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشّيطان فقال له: يا هذا إنّك قد طلبت الدّنيا من حلال فلم تقدر عليها و طلبتها من حرام فلم تقدر عليها أفلا أدلّك على شيء يكثر به مالك و دنياك و تكثر به؟؟؟ بعك؟ قال: بلى، قال: تبتدع دينا و تدعو إليه النّاس، ففعل، فاستجاب له
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 221
النّاس فأطاعوه و أصاب من الدّنيا، ثمّ إنّه فكّر فقال: ما صنعت ابتدعت دينا و دعوت النّاس إليه و ما أرى لى توبة إلّا أن آتى من دعوته إليه فأردّه، فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه فيقول: إنّ الذى دعوتكم اليه باطل و إنّما ابتدعته فجعلوا يقولون: كذبت هذا الحقّ و لكنّك شككت في دينك فرجعت عنه، فلمّا رأى ذلك عمد إلى سلسلة فوتد لها و تدا ثمّ جعلها في عنقه و قال: لا احلّها حتّى يتوب اللَّه عزّ و جلّ علىّ، فأوحى اللَّه عزّ و جلّ إلى نبيّ من الأنبياء قل لفلان: و عزّتي لو دعوتني حتّى ينقطع أو صالك ما استجبت لك حتّى تردّ من مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه.
الخامسة ما أشار إليها بقوله (أو يلقى النّاس بوجهين أو يمشى فيهم بلسانين) قال الشّارح البحرانيّ: أى يلقى كلّا من الصّديقين مثلا بغير ما يلقى به الآخر ليفرق بينهما، أو بين العدوّين ليضري بينهما، و بالجملة أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه فيدخل في زمرة المنافقين و وعيد المنافقين في القرآن: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ».
أقول: و يدخل أيضا في زمرة المغتابين فيشمله الآيات المفيدة لحرمة الغيبة و يدلّ على حرمته من السّنة ما رواه في الكافي بسنده عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من لقى المسلمين بوجهين و لسانين جاء يوم القيامة و له لسانان من نار و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين، يطرى أخاه شاهدا و يأكله غائبا إن أعطى حسده، و ان ابتلى خذله و عن عبد الرّحمان بن حماد رفعه قال: قال اللَّه تبارك و تعالى لعيسى: يا عيسى ليكن لسانك في السّر و العلانية لسانا واحدا و كذلك قلبك إنّي احذّرك نفسك و كفى بي خبيرا، لا يصلح لسانان في فم واحد، و لا سيفان في غمد واحد، و لا قلبان في صدر واحد، و كذلك الأذهان، و رواها جميعا في عقاب الأعمال نحوها.
و في عقاب الأعمال عن زيد بن عليّ عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 222
يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعا لسانه في قفاه و آخر من قدامه يلتهبان نارا حتّى يلهبا جسده ثمّ يقال له: هذا الّذي كان في الدّنيا ذا وجهين و ذا لسانين يعرف بذلك يوم القيامة.
(اعقل ذلك) أشار به إلى ما يذكره بقوله إنّ البهايم آه (فانّ المثل دليل على شبهه) لمّا كان أكثر الأفهام قاصرة عن إدراك الماهيّة العقليّة للشّيء إلّا في مادّة محسوسة كمن لا يعرف حقيقة العلم مثلا فيقال له إنّه مثل اللّبن حيث إنّه غذاء للرّوح النّاقص و يصير به كاملا كما يتغذّي باللّبن الطّفل النّاقص و به يصير كماله و هكذا، لا جرم جرت عادة اللَّه تعالى و عادة رسله و أوليائه في بيان الأحكام للنّاس و تبليغ التكاليف اليهم على ضرب الأمثال تقريبا للأفهام و أكثر القرآن أمثال ضربت للنّاس ظواهرها حكاية عن حقايقها المكشوفة عند ذوى البصاير قال صدر المتألّهين: كثر في القرآن ضرب الأمثال لأنّ الدّنيا عالم الملك و الشّهادة، و الآخرة عالم الغيب و الملكوت، و ما من صورة في هذا العالم إلّا و لها حقيقة في عالم الآخرة و ما من معنى حقيقى في الآخرة إلّا و له مثال و صورة في الدّنيا، إذ العوالم و النّشئات مطابقة تطابق النفس و الجسد، و شرح أحوال الآخرة لمن كان بعد في الدّنيا لا يمكن إلّا بمثال، و لذلك وجدت القرآن مشحونا بالأمثال كقوله: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ»* «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مثله «كَمَثَلِ الْكَلْبِ» مثلهم «كَمَثَلِ الْحِمارِ».
و ليس للأنبياء أن يتكلّموا مع الخلق إلّا بضرب الأمثال، لأنّهم كلّفوا أن يكلّموا النّاس على قدر عقولهم، و قدر عقولهم أنّهم في النوم و النائم لا يكشف له شيء إلّا بمثل، فاذا ماتوا انتبهوا و عرفوا أنّ المثل صادق، فالأنبياء هم المعبرون لما عليه أهل الدّنيا من الأحوال و الصّفات و ما يؤل عليه عاقبتها في يقظة الآخرة بكسوة الأمثال الدّنيوية إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا كان مقصوده التمثيل و أداء
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 223
غرضه بضرب المثل، و المثل ينتفع به العام و الخاص، و كان نصيب العامى من كلّ مثل أن يدرك ظاهره المحسوس و يقف عليه و ينتفع به ترغيبا و ترهيبا لما فيه من نوع مطابقة لأصله و نصيب الخاصى أن يدرك باطنه و يعبّر من ظاهره إلى سرّه و من محسوسه الجزئي إلى معقوله الكلّى كما قال تعالى: «وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ».
أراد عليه السّلام أن يكون انتفاع المخاطبين بالمثل الذي يضربه على وجه الكمال و نحو الخصوص، فلذلك قال عليه السّلام: مقدّمة و تنبيها لهم: اعقل ذلك فانّ المثل دليل على شبهه، أي أفهم ما أقول و تدبّر فيه و لا تقصر نظرك إلى ظاهره، بل تفكّر في معناه حتّى تصل من قشره إلى لبّه، و يمكن لك الاستدلال بالمثل على ممثّله و الانتقال من ظاهره إلى باطنه و الوصول من قشره إلى لبّه و المثل الّذي ضربه هو تمثيل قوله (إنّ البهايم همّها بطونها) لكمال قوّتها الشّهوية فاهتمامها دائما بالطعام و الشّراب و الأكل و الشّرب و النزو و السّفاد (و إنّ السّباع همّها العدوان) لافراط قوّتها الغضبيّة فلذّتها أبدا في الاضراء و الافتراس و الغلبة و الانتقام (و إنّ النّساء همهنّ زينة الحياة الدّنيا) لفرط قوّتها الشّهويّة (و الفساد فيها) لشدّة قوّتها الغضبيّة و غرضه عليه السّلام من هذا المثل التنبيه على أنّ كمال الانسان الّذي به فارق غيره هو إدراك ما يخرج عن عالم الحواس و الاحاطة بالمعلومات و التنزّه عن التّعلّقات و التّرقّي إلى الملاء الأعلى، فمن ذهل عن ذلك و عطل نفسه عن تحصيله و أهمله و لم يجاوز عالم المحسوسات فهو الذي أهلك نفسه و أبطل قوّة استعداده بالاعراض عن الآيات و التأمّل فيها، و نزل عن مرتبة الانسانية و أخلد إلى الأرض فان كان تابعا لقوّته الشهويّة البهيميّة فهو نازل عن حقيقة الانسانيّة إلى درجة البهايم، و وافق الأنعام فمثله كمثل الحمار بل البهايم أشرف منه و هو أضلّ منها كما قال تعالى. «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا»*
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 224
و ذلك لأنّها ما ابطلت استعدادها لما كان لها و ما أضلّت عن سبيلها الّتي كانت عليها، بل ما من دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها، بخلاف هذا، فانّه أبطل كماله و انسانيّته و تبع شهوة بطنه و فرجه و آثر البهيميّة و ان كان تابعا لقوته الغضبيّة فهو منحطّ إلى درجة السّبعيّة فمثله كمثل الكلب أو الخنزير أو الضّبع و نحوها و إن كان تابعا لشهوته و غضبه معا فقد انحطّ من كمال الرجوليّة إلى مرتبة الأنوثيّة.
فقد تلخّص مما ذكرنا أنّ غرضه عليه السّلام من التمثيل التنفير عن اتّباع الشهوة و الغضب بالتنبيه على أنّ الخارج فيهما عن حدّ العدل إلى مرتبة الافراط إمّا أن تشبه البهيمة أو السبع أو المرأة، و كلّ منها مما يرغب العاقل عنه و لا يرضى به لنفسه، و لذلك قال أوّلا: اعقل ذلك ثمّ إنّه عليه السّلام لما نفّر عن اتباع هاتين القوّتين عقّب ذلك بصفات المؤمنين ترغيبا إليها فقال عليه السّلام: (إنّ المؤمنين مستكينون) أى خاضعون للَّه متواضعون له (إنّ المؤمنين مشفقون) كما قال سبحانه: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها- أي الساعة- وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» و قال في موضع آخر: «وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» و قال «وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ».
(إنَّ المؤمنين خائفون) كما قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» و قال «وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 225
هذا و انما أتى عليه السّلام في الجملات الثلاث الأخيرة بالأسماء الظاهرة مع اقتضاء الظاهر الاتيان في الأخيرتين بالضمير لغرض زيادة تمكين المسند إليه عند السامع كما في قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ» و في قوله «وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ».
و هو من محسّنات البلاغة.
تذييل:
قال الشّارح المعتزلي في شرح هذا الفصل من كلامه عليه السّلام: إنّما رمز بباطن هذا الكلام إلى الرّؤساء يوم الجمل، لأنّهم حاولوا أن يشفوا غيظهم باهلاكه و إهلاك غيره من المسلمين، و عزوه بأمرهم فعلوه و هو التّأليب على عثمان و حصره و استنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة باظهار البدعة و الفتنة و لقوا النّاس بوجهين و لسانين، لأنّهم بايعوه و أظهروا الرّضا به، ثمّ دبّوا له فجعل دبوبهم هذه مماثلة للشّرك باللَّه سبحانه في أنّها لا تغفر إلّا بالتّوبة، و هذا هو معنى قوله: اعقل ذلك فانّ المثل دليل على شبهه، و روى فانّ المثل واحد الأمثال أى هذا الحكم بعدم المغفرة لمن أتى شيئا من هذه الأشياء عام و الواحد منها دليل على ما يماثله و يشابهه.
فان قلت: فهذا تصريح بمذهب الامامية في طلحة و الزّبير و عايشة قلت: كلّا فانّ هذه الخطبة خطب بها و هو سائر إلى البصرة و لم يقع الحرب بعد، و رمز فيها إلى المذكورين و قال إن لم يتوبوا و قد ثبت أنّهم تابوا، و الأخبار عنهم بالتّوبة مستفيضة، ثمّ أراد أن يؤمى إلى ذكر النّساء للحال الّتي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بالامرأة فذكر قبل ذكر النّساء أنواعا من الحيوان تمهيدا لقاعدة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 9، ص: 226
ذكر النساء فقال: إنّ البهايم همّها بطونها كالحمر و البقر و الابل، و إنّ السبّاع همّها العدوان على غيرها كالاسود الضّارية و النّمور و الفهود و البزاة و الصّقور، و إنّ النساء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا و الفساد فيها انتهى أقول: أمّا ما ذكره الشّارح من كون هذا الكلام رمزا إلى قادة الضلال يوم الجمل فغير بعيد، و اتّصافهم بالخصال الخمس التي هى من أوصاف أهل النفاق و الضلال معلوم و مبرهن.
و أمّا جوابه عن الاعتراض الذي اعترض به فسخيف جدّا أمّا أوّلا فلأنّ صدور هذه الخطبة عنه عليه السّلام حين مسيره إلى البصرة و قبل وقوع الحرب لا يرفع الايراد بعد تحقّق اتّصاف الرّؤساء بالخصال المذكورة و أمّا ثانيا فلأنه عليه السّلام لم يقل إن لم يتوبوا بل قال و لم يتب، و كونه رمزا إلى عدم توبتهم و أنهم يموتون بلا توبة أظهر من أن يكون رمزا إلى حصول التوبة و أمّا ثالثا فلأنّ أخبار توبتهم التي ادعى استفاضتها بعد تسليم كونها مستفيضة مما تفرّدت العامّة بروايتها، و لا يتمّ بها الاحتجاج قبال الاماميّة، و قد قدّمنا في شرح الكلام الثامن بطلان توبة الزبير، و في شرح الكلام الثاني عشر بطلان توبة الطلحة، و في شرح الكلام التاسع و السبعين بطلان توبة الخاطئة، و قد مرّ تحقيق بطلان توبة الأوّلين أيضا في شرح الكلام المأة و السابعة و الثلاثين بما لا مزيد عليه فليتذكّر.
الترجمة:
بدرستى كه از جمله أوامر محتومه پروردگار در ذكر محكم و استوار كه بر اخذ آن ثواب مى دهد، و بر ترك آن عقاب مى نمايد، و از براى اطاعت آن خوشنود مى شود، و بجهة مخالفت آن غضب مى كند. اينست كه هيچ نفع نمى بخشد بنده را اگر چه بمشقت اندازد نفس خود را و خالص نمايد فعل خود را اين كه خارج بشود از دنيا در حالتى كه ملاقات كند پروردگار خود را با يك خصلت از اين خصلتهاى ذميمه در حالتى كه توبه ننموده باشد از آن:
آنكه شرك آورد بخدا در آنچه كه واجب نموده است بر او از عبادت خود، يا شفا بدهد غيظ خود را با هلاك كردن نفس خود، يا اقرار كند بكارى كه ديگرى او را نموده، يا خواهش روا كردن حاجتى نموده باشد بسوى خلق با اظهار بدعت در دين خود، يا ملاقات كند مردمان را بدو روئى و نفاق، يا مشى كند در ميان ايشان با دو زباني و عدم وفاق درك كن و بهم اين مثل را كه خواهم زد از براى تو پس بدرستى كه مثل دليل است بر مشابه خود، و آن مثل اينست كه: چهار پايان قصد آنها شكمهاى آنهاست، و بدرستى كه درندگان قصد ايشان ستم و عدوانست، و بدرستى كه زنان قصد ايشان زينت زندگاني اين جهان و فساد كردنست در آن، بدرستى كه مؤمنان متواضعانند، بدرستى كه مؤمنان ترسندگانند از غضب پروردگار، بدرستى كه مؤمنان خائفند از سخط آفريدگار، اللّهمّ وفّقنا بمحمّد و آله الأطهار.