هو المفنى لها بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها، و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها، و كيف و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها، و ما كان من مراحها و سائمها، و أصناف أسناخها و أجناسها، و متبلّدة أممها و أكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها، و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت، و عجزت قواها و تناهت، و رجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنّها مقهورة، مقرّة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضّعف عن إفنائها.
اللغة:
و (المراح) بالضمّ قال الشارح المعتزلي هي النعم ترد إلى المراح بالضمّ أيضا و هو الموضع الذي تأوى إليه النعم، و قال البحراني: مراحها ما يراح منها في مرابطها، و معاطنها و سائمها ما ارسل منها للرعى. أقول: يستفاد منهما أنّ المراح هنا اسم مفعول و ظاهر غير واحد من اللّغويّين أنه اسم للموضع فقط، قال في القاموس: أراح الابل ردّها إلى المراح بالضمّ المأوى و قال الفيومى في مصباح اللّغة: قال الازهري و أما راحت الابل فهي رائحة فلا يكون إلّا بالعشى إذا أراحها راعيها على أهلها يقال: مرحت بالغداة إلى الرعى و راحت بالعشىّ على أهلها أى رجعت من المرعى إليهم، و قال ابن فارس: الرواح رواح العشىّ و هو من الزوال إلى اللّيل، و المراح بالضّم حيث تأوى الماشية باللّيل و المناخ و المأوى مثله و فتح الميم بهذا المعنى خطأ لأنه اسم مكان و الزمان و المصدر من أفعل بالألف مفعل بضمّ الميم على صيغة اسم المفعول، و أمّا المراح بالفتح فاسم الموضع من راحت بغير ألف، و اسم المكان من الثلاثي بالفتح، انتهى.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 60
و قال في مادة لسوم سامت الماشية سوما رعت بنفسها و يتعدّي بالهمزة فيقال أسامها راعيها، قال ابن خالويه: و لم يستعمل اسم مفعول من الرّباعي بل جعل نسيا منسيّا و يقال أسامها فهى سائمة. فقد ظهر من ذلك أن جعل المراح اسم مفعول من أراح كما زعمه الشارحان غير جايز فهو اسم مكان و لا من تقدير مضاف في الكلام و تمام الكلام في بيان المعنى و (التبلّد) ضد التجلّد من بلد بلادة كشرب و فرح فهو بليد أى غير فطن و لا كيس.
المعنى:
السادس و الستون ما أشار إليه بقوله (هو المفني لها بعد و وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها) يعني أنه سبحانه يفني الأشياء و يعدمها حتّى يصير ما هو موجود كأن لم يكن موجودا أصلا أو الكاف زائدة أي يصير موجودها مفقودا معدوما.
و هو ظاهر بل صريح في فناء الجميع، و أصرح منه قوله الاتي: انه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شيء معه، و أصرح منهما قوله الذى يتلوه أعني: فلا شيء إلّا اللّه الواحد القهار، لأنّ النكرة في سياق النّفي يفيد العموم مؤكّدا بالاستثناء و قد وقع خلاف عظيم فى هذه المسألة أعنى مسألة طريان العدم على الأشياء حتّى صارت معركة للاراء.
فذهب جمهور الحكماء إلى امتناع طريان العدم على أكثر أجزاء هذا العالم كالعقول المجرّدة و النفوس الناطقة و الأجسام الفلكيّة و المادّة العنصريّة، فانّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه لا لذاته بل لدوام علّته و هذا لا ينافي الامكان لأنّ الممكن ما يجوز عليه أصل العدم و هو مما لا نزاع فيه، و انما نزاعهم فى طريان العدم.
و ذهب جمهور علماء الاسلام إلى جواز طريانه على جميع أجزائه و لكن اختلفوا فى وقوعه.
فمنهم من قال بعدم انعدام العرش قال الفخر الرازى في الأربعين: و اعلم أنّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 114
كثيرا من علماء الشريعة و علماء التفسير قالوا إنّ فى وقت قيام القيامة ينخرق الأفلاك و ينهدم الكواكب إلّا أنّ العرش لا ينخرق، و التخصيص بالأكثر بالنسبة إلى عدم تخرّق العرش و إلّا فتخرق الأفلاك و انهدام الكواكب مما لا خلاف فيه.
و منهم من قال بتجرّد النفس الناطقة و عدم قبولها للفناء.
و ذهب الأكثرون إلى طريان العدم على جميع أجزائه أخذا بظواهر الايات و الأدلة المفيدة لذلك مثل قوله سبحانه: «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» و قوله: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» ، و قوله: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» ، و قوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَ یعیده» ، و معلوم أنّه تعالى مبدء لجميع الأشياء فيكون معيدا للجميع و لا يتصوّر الاعادة إلّا بعد الاعدام فلا بدّ من إعدام الجميع.
ثمّ وقع الخلاف بين هؤلاء القائلين باعدام الجميع في معنى الاعدام الواقع و أنّ المراد به هل هو إفناء الجواهر و الذوات بأسرها أو تفريق الأجزاء و إزالة الأعراض.
فمن جوّز إعادة المعدوم بعينه قال بالأوّل.
و من قال بامتناعه كما هو الحقّ الموافق للتحقيق و عليه المحقّقون حتّى ادّعى بعضهم أنّه من البديهيّات و قال الشيخ إنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة و رفض عن نفسه الميل و العصبيّة شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع، فذهب إلى الثاني.
و إلّا امتنع القول بالمعاد الجسمانى لأنّ الغرض من المعاد هو ايصال الثواب على المطيع و العقاب على العاصى فمع إعدام الذوات و الجواهر و امتناع إعادة المعدوم يكون المعاد غير المطيع و العاصى السابقين المستحقين للمثوبة و العقوبة، فالعقاب على المعاد يكون عقابا على غير المستحقّ و هو خلاف العدل، فلا بدّ من المصير إلى أنّ المراد بالفناء و الهلاك و العدم الوارد في الايات و الأخبار هو تفرّق الأجزاء و زوال التأليف و التركيب عنها و خروجها عن حدّ الانتفاع.
قالوا: إنّ اللّه يفرّق الأجزاء و يزيل التأليف عنها و لكنه لا يعدمها فاذا أعاد التأليف إليها و خلق الحياة فيها مرّة اخرى كان هذا الشخص هو عين الشخص الذى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 115
كان موجودا قبل ذلك فحينئذ يصل الثواب إلى المطيع و العقاب على العاصى و تزول الاشكال.
و قال في التجريد: و الامكان يعطى جواز العدم و السمع دلّ عليه بتأوّل فى المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام يعنى كون العالم ممكنا يعطى جواز عدمه و الأدلة السمعية دلّت على وقوعه و لا ينافي ذلك امتناع إعادة المعدوم.
أما في غير المكلّفين فانّه يجوز أن يعدم بالكليّة و لا يعاد.
و أمّا بالنسبة إلى المكلّفين فانّه يتأوّل العدم بتفرّق الأجزاء و يتأوّل المعاد بجمع تلك الأجزاء و تأليفها بعد التفريق.
و الّذي يصحّح هذا التأويل قصّة إبراهيم عليه السّلام على ما حكى عنه الكتاب حيث قال «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ...» قال اللّه تعالى فى جوابه «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً».
و لكن استشكل الفخر الرازى فيه أى فى القول بأنّ المراد بالعدم هو التفرّق بأنّ المشار إليه لكلّ أحد بقوله: أناء ليس مجرّد تلك الأجزاء و ذلك لأنّا لو قدرنا أنّ هذه الأجزاء تفرّقت و صارت ترابا من غير حياة و لا مزاج و لا تركيب و لا تأليف فانّ كلّ أحد يعلم أنّ ذلك القدر من التراب الصرف ليس عبارة عن زيد، بل الانسان المعبر بأنا إنما يكون موجودا إذا تركبت تلك الأجزاء و تألفت على وجه مخصوص ثمّ قام بها حياة و علم و قدرة و عقل و فهم، فثبت أنّ الشخص المعيّن ليس عبارة عن مجرّد تلك الأجزاء و الذّوات، بل هو عبارة عن ذلك الأجزاء الموصوفة بالصفات المخصوصة، و إذا كان كذلك كانت تلك الصفات أحد أجزاء ماهيّة ذلك الشخص من حيث إنه ذلك الشخص، و عند تفرّق الأجزاء يبطل تلك الصّفات و تفنى، فان امتنعت الاعادة على المعدوم امتنعت على تلك الصفات فيكون العائد صفات اخرى لا تلك الصفات الّتى باعتبارها كان ذلك الشخص، و على هذا التقدير لم يكن العائد ثانيا هو الّذى كان موجودا أوّلا، فلم يكن الزيد الثاني عين الزيد الأوّل،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 116
فثبت بما ذكرنا أنّا إن جوزنا إعادة المعدوم فلا حاجة إلى ما ذكروه، و إن منعنا إعادة المعدوم كان الاشكال المذكور باقيا، سواء قلنا إنه تعالى لا يفنيها أو قلنا إنّه يفنيها انتهى.
و وافقه ذلك الشارح البحراني حيث قال: إنّ بدن زيد مثلا ليس عبارة عن تلك الأجزاء المتشذّبة المتفرّقة فقط، فانّ القول بذلك مكابرة للعقل بل عنها مع ساير الأعراض و التأليفات المخصوصة و الأوضاع فإذا شذب البدن و تفرّق فلا بدّ أن يعدم تلك الأعراض و تفني و حينئذ يلزم فناء البدن من حيث إنّه هذا البدن، فعند الاعادة إن اعيد بعينه وجب إعادة تلك الأعراض بعينها فلزمت إعادة المعدوم، و إن لم يعد بعينه عاد غيره فيكون الثواب و العقاب على غيره و ذلك تكذب للقرآن الكريم و لا تزر وازرة وزر اخرى.
اللّهمّ إلّا أن يقال إنّ الإنسان المثاب و المعاقب إنما هو النفس الناطقة، و هذا البدن كالالة فاذا عدم لم يلزم عوده بعينه بل جاز عود مثله، لكن هذا إنما يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالنفس الناطقة لا مذهب من يقول، بالتشذّب و تفرّق الأجزاء، و مذهب أكثر المحقّقين من علماء الاسلام يؤل إلى هذا القول، انتهى.
اقول: بعد القول بالمعاد الجسماني و كونه من ضروريّات الدّين، و بعد القول بامتناع إعادة المعدوم و كونه من البديهيّات حسبما اشرنا إليه، لا مناص من القول بالتفرّق.
و أمّا الاشكال المذكور فالجواب عنه بناء على نفى الجزء الصورى للأجسام و حصر أجزائها في الجواهر الفردة كما هو مذهب المتكلّمين ظاهر.
و أمّا بناء على ثبوت الجزء الصورى فربما يجاب عنه بأنه يكفى فى المعاد الجسماني عود الأجزاء الماديّة بعينها، و لا يقدح تبدّل الجزء الصورى بعد أن كان أقرب الصور إلى الصورة الزايلة.
لا يقال: إنّ هذا يكون تناسخا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 117
لأنا نقول: الممتنع هو انتقال النفس إلى بدن مغاير له بحسب المادّة لا إلى بدن يتألف من عين مادّة هذا البدن و صورة هى أقرب الصّور إلى الصورة الزايلة، فان سمّيت ذلك تناسخا فلا بدّ من البرهان على امتناعه فانّ النزاع إنما هو فى المعني لا في اللفظ، هذا.
و قد اشير إلى هذا الجواب في ما رواه في الاحتجاج عن الصادق عليه السّلام و هو أنّه سأله ابن أبي العوجاء عن قوله تعالى: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» فقال: ما ذنب الغير؟ قال عليه السّلام ويحك هي هي و هي غيرها، قال:
فمثّل لي في ذلك شيئا من أمر الدّنيا قال عليه السّلام: نعم أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثمّ ردّها في ملبنها فهي هي و هي غيرها.
ثمّ إن شئت مزيد توضيح لهذه المسألة أعني كون الاعدام و الافناء بالتفريق و التشذيب و الاعادة بالجمع و التركيب فعليك بالرّجوع الى آيات الكتاب و أخبار الأئمة عليهم السّلام الأطهار الأطياب.
قال سبحانه وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ و قد مضى تفسير الاية مفصّلا و تحقيق الكلام في اثبات المعاد الجسماني بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثالث من المختار الثاني و الثمانين.
و قال تعالى «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» و قال «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ» روى في الكافي عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام إنّ هؤلاء أهل مدينة من مداين الشام و كانوا سبعون ألف بيت قال لهم اللّه موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم و صاروا رميما يلوح، و كانوا على طريق المارّة فكنستهم المارّة فنحوّهم و جمعوهم في موضع فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فلما رأى تلك العظام بكى و استعبر و قال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمّتهم، فأوحى اللّه عزّ و جلّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 118
أن قل كذا و كذا، فقال الذي أمر اللّه عزّ و جلّ أن يقوله، فلما قال ذلك نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض- و الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
و قال تعالى «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» أى انظر إلى عظامك كيف نرفع بعضها إلى بعض للتركيب، و قرء ننشرها بالراء المهملة من أنشر اللّه الموتى أحياهم.
روى عليّ بن إبراهيم القمّي في حديث طويل عن الصّادق عليه السّلام- و ساق الحديث إلى أن قال- فخرج ارميا على حمار و معه تين قد تزوّده و شيء من عصير فنظر إلى سباع البرّ و سباع البحر و سباع الجوّ تأكل تلك الجيف «1» ففكر في نفسه ساعة ثمّ قال: أنّى يحيى اللّه هؤلاء و قد أكلتهم السّباع، فأماته اللّه مكانه و هو قول اللّه تعالى «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» الاية، و بقى ارميا ميّتا مأئة سنة ثمّ أحياه اللّه فأوّل ما أحيا اللّه منه عينيه في مثل عزقي «2» البيض فنظر فأوحى اللّه إليه كم لبثت قال لبثت يوما ثمّ نظر إلى الشّمس قد ارتفعت فقال أو بعض يوم فقال اللّه تعالى بل لبثت مأئة عام فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنّه أى لم يتغيّر، و انظر إلى حمارك و لنجعلك آية للنّاس و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحما فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطرة «3» تجمع إليه و إلى اللحم الذي قد أكلته السباع يتألف إلى العظام من ههنا و ههنا و يلتزق بها حتّى قام و قام حماره فقال: إنّ اللّه على كلّ شيء قدير.
و في الاحتجاج في حديث عنه عليه السّلام قال: و أمات اللّه ارميا النّبيّ الّذي نظر
______________________________
(1) أى جيف قتلى بخت نصر، منه.
(2) العزقى كز برج القشرة الملتصقة ببياض البيض، منه.
(3) فطره يفطر شقّه فانفطر و تفطر، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 119
إلى خراب بيت المقدّس و ما حوله حين غزاهم بخت نصر فقال أنّي يحيى هذه اللّه بعد موتها، فأماته اللّه مأئة عام ثمّ أحياه و نظر إلى أعصابه كيف تلتئم و كيف تلبس اللّحم و إلى مفاصله و عروقه كيف توصل، فلما استوى قاعدا قال أعلم انّ اللّه على كلّ شيء قدير.
ثمّ إنّه عليه السّلام لما ذكر أنّه تعالى يفنى الأشياء بعد الوجود، و كان ذلك مستبعدا عند الأذهان القاصرة و موردا للتعجّب لاستبعادها طريان العدم على هذه الأشياء الكثيرة العظيمة كالسّماوات الموطدات و ما فيهنّ، و الأرضين المدحوّات و ما عليهنّ و غيرها من الممكنات الموجودات أراد دفع الاستبعاد و التعجّب فقال:
(و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها) لأنّ الانشاء و الافناء إن لو حظا بالنسبة إلى قدرة الواجب تعالى فليس بينهما فرق، إذ نسبة جميع المقدورات إليه تعالى سواء، لأنها كلّها ممكنة قابلة للوجود و العدم لذواتها و هو سبحانه على كلّ شيء قدير، و إن لو حظابا لنظر إلى أنفسهما مع قطع النظر عن القدرة فالابداع أغرب و أعجب من الاعدام سيّما إذا كان المبدع مشتملا على بدايع الخلقة و أسرار الحكمة التي لا يهتدي إلى معشارها بعد الهمم و لا يصل إليها غوص الفطن كما أشار إليه بقوله: (و كيف) أى كيف يكون الفناء أعجب (و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها و ما كان من مراحها و سائمها) أى من ذي مراحها أى الذي أراحه راعيه فيه بالعشى (و أصناف أسناخها و أجناسها و متبلّدة اممها و أكياسها) أى غبيّها و ذكيّها (على إحداث) أصغر حيوان و أحقره و أضعفه من (بعوضة) و نحوها (ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى ايجادها) كما قال عزّ من قائل: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».
و محصّل المراد أنّه كيف يكون الفناء أعجب من الابداع و في إبداع أضعف حيوان و أحقره و هي البعوضة ما يعجز عن تكوينه و إحداثه قدرة كلّ من تنسب إليه القدرة، و تقصر عن معرفة الطريق إلى ايجادها ألباب الألبّاء.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 120
(و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت و عجزت قواها و تناهت) فانها على صغرها و ضعفها قد ودع فيها من بدايع الصنع و عجائب الخلقة ما لا يخفى، فانه سبحانه قد خلقها على خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر أعضاء من الفيل، فانّ للفيل أربع أرجل و خرطوما و ذنبا، و لها مع هذه الأعضاء رجلان زايدتان و أربعة أجنحة، و خرطوم الفيل مصمت و خرطومها مجوّف نافذ للجوف، فاذا طعنت به جسد الانسان استقى الدّم و قذفت به إلى جوفها فهولها كالبلعوم و الحلقوم و لذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ قال الراجز:
مثل السّفاة دائما طنينها ركّب في خرطومها سكّينها
و مما ألهمها اللّه تعالى أنّها إذا جلست على عضو الانسان لا تزال تتوخى بخرطومها المسام التي يخرج منها العرق لأنها أرقّ بشرة من الجلد، فاذا وجدها وضعت خرطومها فيها و فيها من الشره أن تمصّ الدّم الى أن تنشقّ و تموت أو إلى أن تعجز عن الطيران فيكون ذلك سبب هلاكها.
و كان بعض الجبابرة من الملوك يعذّب بالبعوض فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجرّدا إلى بعض الاجام التي بالبطايح و يتركه فيها مكتوفا فيقتل في أسرع وقت و أقرب زمان قال الفتح البستي في هذا المعنى:
لا تستخفنّ الفتى بعداوة أبدا و إن كان العدوّ ضئيلا
إنّ القذى يؤذى العيون قليله و لربّما جرح البعوض الفيلا
و قال آخر:
لا تحقرّن صغيرا في عداوته إنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد
فقد ظهر من ذلك أنّ عقول العقلاء لو فكرت في ايجادها و فيما أبدع من عجايب الصنع لتحيّرت و تاهت و عرفت أنّ القوى عاجزة عن ايجادها.
(و رجعت خاسئة) أى صاغرة ذليلة (حسيرة عارفة بأنها مقهورة) عاجزة غير متمكّنة (مقرّة بالعجز عن انشائها مذعنة بالضعف عن إفنائها) فان قلت: كيف تذعن العقول بالضعف عن إفناء البعوضة مع إمكان ذلك و سهولته؟
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 121
قلت: إنّ اللّه سبحانه و إن خلق للعبد قدرة على الفعل و الترك و الايذاء و الاضرار لغيره، لكنه تعالى جعل للبعوضة أيضا القدرة على الهرب و الطيران و الامتناع من ضرر الغير فضلا عن اهلاكه، فلو لا تسخير الربّ القاهر لها و تمكينه اياها لما قدر العبد على قتلها و اهلاكها و ما كان متمكنا من افنائها و إعدامها.
الترجمة:
اوست نابود كننده أشياء بعد از هستيشان تا اين كه موجودشان مثل نابود ميباشد از جهت عدم فائده، و نيست نابود شدن دنيا بعد از هستى آوردنش عجب تر از اصل ايجاد و اختراعش از نيستى بهستى.
و چگونه عجيب تر باشد و حال آنكه اگر جمع بشود جميع جنبندهاى أشياء از مرغان و چهار پايان و هر چه هست از صاحب مراح و مسكن نشين و چرنده آنها و اقسام سنخها و جنسها و از نافهم و كندهاى طوائفشان و تيز فهمها بر ايجاد كردن يك پشه هر آينه قادر نمى شوند بر ايجاد، و نمى شناسند چگونه است راه بر ايجاد و هر آينه عقولشان متحيّر مى ماند در دانستن اين، و سرگردان مى مانند و عاجز مى شود قواى ايشان و باخر مى رسد و برميگردد همه آنها در حالتى كه ذليل اند حسرتناك، شناسنده بر اين كه ايشان مقهورند، اقرار كننده اند بعاجز بودن از آفريدن آن، گردن گذارنده اند بر ناتوانى از نابود كردن.