منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 121
و من كلام له عليه السّلام بالبصرة و هو المأتان و الثامن من المختار فى باب الخطب و هو مروىّ في شرح المعتزلي باختلاف تعرفه إنشاء اللّه، و روى بعض فقراته في الكافي أيضا مسندا بسند نذكره في التّكملة الاتية.
قال الرضيّ رضي اللّه عنه: و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي و هو من أصحابه يعوده فلمّا رأى سعة داره قال عليه السّلام:
ما كنت تصنع بسعة هذه الدّار في الدّنيا، أما أنت إليها في الاخرة كنت أحوج، و بلى إن شئت بلغت بها الاخرة تقري فيها الضّيف، و تصل فيها الرّحم، و تطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الاخرة. فقال له عليه السّلام العلاء يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد قال عليه السّلام: و ما له؟ قال: لبس العباء و تخلّى من الدّنيا، قال عليه السّلام: عليّ به فلمّا جاء قال: يا عديّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أ ما رحمت أهلك و ولدك، أ ترى اللّه أحلّ لك الطّيّبات و هو يكره أن تأخذها، أنت أهون على اللّه من ذلك، قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك، قال عليه السّلام: ويحك إنّي لست كأنت، إنّ اللّه تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يقدروا أنفسهم بضعفة النّاس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره. (49857- 49726)
اللغة:
(وسع) المكان القوم و وسع المكان يسع أى اتّسع يتعدّى و لا يتعدّى و المصدر سعة بفتح السّين و به قرء السبعة في قوله تعالى وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ و كسرها لغة و به قرء بعض التابعين قال الفيومي قيل: الأصل في المضارع الكسر و لهذا حذفت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة و كسرة ثمّ فتحت بعد الحذف لمكان حرف الحلق، و مثله يهب و يقع و يدع و يلغ و يطأ و يضع، و الحذف في يسع و يطأ ممّا ماضيه مكسور شاذّ لأنّهم قالوا: فعل بالكسر مضارعه يفعل بالفتح و استثنوا أفعالا ليست هذه منها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 122
(و قريت) الضّعيف أقريه من باب رمى و (عدىّ نفسه) تصغير عدو و أصله عديو و فحذفت إحدى الواوين و قلبت الثّانية ياء تخفيفا ثمّ ادغمت ياء التصغير فيها و (هام) يهيم خرج على وجهه لا يدرى أين يتوجّه فهو هائم و استهام بك أى جعلك هائما، و قال الشارح البحراني: اى أذهبك لوجهك و زيّن لك الهيام و هو الذّهاب في التّيه.
و (الملبس) و (المأكل) مصدران بمعنى المفعول، و طعام (جشب) و مجشوب غليظ و قيل الّذى لا ادام معه و (أئمّة الحقّ) في بعض النسخ أئمّة العدل بدله و (يقدروا) أنفسهم في بعض النسخ بالتخفيف مضارع قدر من باب ضرب و في بعضها بالتثقيل و المعنى واحد مأخوذان من القدر بمعنى التضييق قال تعالى «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ» أو بمعنى قياس الشيء بالشّيء و يقال أيضا هذا قدر هذا و قدره أى مماثله و (البيغ) ثوران الدّم و تبيغ عليه الأمر اختلط و الدّم هاج و غلب.
الاعراب:
قوله: ما كنت تصنع، كان هنا زايدة كما في قوله تعالى «كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» و قوله: أما أنت اه أما حرف استفتاح يبدء بها الكلام و فايدتها المعنويّة توكيد مضمون الجملة الّتي بعدها قال نجم الأئمّة: و كأنها مركبّة من همزة الانكار و حرف النّفى و الانكار نفى و نفى النّفى إثبات ركب الحرفان لافادة الاثبات و التّحقيق و فايدتها اللّفظيّة كون الكلام بعدها مبتدأ به، و في بعض النّسخ ما أنت بدل أما أنت و عليه فتكون ما موصولة بدلا من الدّار أو من سعة و الأوّل أظهر.
و قوله إليها متعلق بقوله أحوج، و كذا قوله: فى الاخرة، و قوله: و بلى استدراك عن الجملة السّابقة قال الفرّاء أصلها بل زيدت عليها الألف للوقف، و قال نجم الأئمّة: لفظة بل التي تليها الجمل للانتقال من جملة إلى اخرى أهمّ من الاولى، قال: و تجىء بعد الاستفهام أيضا كقوله: «أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ» إلى قوله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» .
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 123
أقول: و يكون بلى هنا بمعنى الاستدراك ادخلت عليها الواو كما تدخل على لكن، و يجوز جعلها عاطفة للجملة على الجملة و لكن جعلها اعتراضيّة أظهر من حيث المعنى.
و جملة تقرى فيها الضّيف يجوز أن تكون حالا من قوله بها، و يجوز أن تكون استينافا بيانيّا فانّه عليه السّلام لمّا قال له: إن شئت بلغت بها، فكأنه سئل عن كيفيّة البلاغ فقال: تقرى فيها.
و قوله: علىّ به، اسم فعل أى ايتونى به قال نجم الأئمة: يقال عليك زيدا أى خذه كأنّ الأصل عليك أخذه و أمّا عليّ بمعنى ادلّنى فهو مخالف للقياس من وجه آخر إذ هو أمر لكن الضمير المجرور به في معنى المفعول يقال عليّ زيدا أى قرّ بنيه و القياس أن يكون المجرور فاعلا، و قوله: يا عدىّ نفسه يحتمل أن يكون التصغير للتحقير، و أن يكون للتعظيم كما فى قول الشاعر:
و ديهية تصفرّ منها الأنامل
و جملة: لقد استهام بك، جواب قسم مقدّر و الباء زايدة، و أما رحمت، حرف تنديم و استفهام توبيخي أ ترى اللّه استفهام توبيخي ، و قوله هذا أنت في خشونة ملبسك الظرف حال من أنت لأنه في المعنى مفعول لمدلول هذا أى اشير إليك حال كونك في خشونة اه و مثل ذلك قوله تعالى «هذا بَعْلِي شَيْخاً» أى انبّه عليه أو اشير إليه شيخا.
المعنى:
اعلم أنّ هذا الكلام قاله بالبصرة و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثى و هو من أصحابه يعوده و يتفقّد حاله لمرضه فلمّا رأى عليه السّلام سعة داره قال:
استفهام توبيخي- استفهام انكارى (ما كنت تصنع بسعة هذه الدّار في الدّنيا) استفهام وارد معرض التوبيخ و الانكار لما صنعه لمنافاته الزّهد المطلوب و لمّا نبه على ذلك أردفه بقوله (أما أنت إليها في الاخرة كنت أحوج) تنبيها له على كون السعة محتاجا إليها في الاخرة مزيد الاحتياج، و ذلك لكون الدنيا دار فناء و انقطاع و الاخرة دار قرار و بقاء، و معلوم أنّ إصلاح المقرّ أولى من الممرّ، و الحاجة إليه فيه أزيد و أشدّ.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 124
ثمّ استدرك بقوله (و بلى إن شئت بلغت بها الاخرة) يعنى أنّك بعد ما فرطت في توسعتها و بنائها يمكن لك تدارك ذلك بأن تجعلها بلاغا و وصلة و وسيلة إلى اتّساع الدّار الاخرة بأن (تقرى فيها الضّيف و تصل فيها الرّحم) و القرابة (و تطلع منها الحقوق مطالعها) أى تخرج فيها الحقوق الماليّة الواجبة و المندوبة من الخمس و الزّكاة و الصّدقات و صنايع المعروف و الحقّ المعلوم للسائل و المحروم و ساير وجوه البرّ المقرّبة إلى اللّه سبحانه و تضعها في مواضعها اللايقة و تصرفها في مصارفها المستحقّة.
و قال الشارح البحراني: مطالع الحقوق وجوهها الشرعيّة المتعلّقة به كالزّكاة و الصّدقة و غيرهما، و الأظهر بل الأولى ما ذكرناه.
و كيف كان فالمراد أنّك إن أتيت فيها بالقربات و الحسنات و أقمت باخراج الحقوق المفروضات و المندوبات (فاذا أنت قد بلغت بها الاخرة) و احملت «جمعت ظ» بينها و بين الدّنيا (فقال له العلاء يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد قال و ما له قال لبس العباء و تخلّى من الدّنيا).
قيل: المراد بلبس العباء جعلها شعارا أو ترك القطن و نحوه و الاكتفاء بلبسها في الصّيف و الشّتاء و في وصيّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأبي ذر: يكون في آخر الزّمان قوم يلبسون الصوف في صيفهم و شتائهم يرون لهم بذلك الفضل على غيرهم اولئك يلعنهم ملائكة السماوات و الأرض، انتهى.
أقول: و الأظهر أنّ المراد أنّه اقتصر بلبس العباء و ترك الدّنيا بالمرّة و لم يأخذ منها سواها.
(قال عليه السّلام علىّ به) أى ائتوني به و احضروه لدىّ (فلمّا جاء قال عليه السّلام يا عدّى نفسه).
قال الشارح البحراني: صغّره استصغارا له باعتبار أنّ شيطانه لم يقده إلى كبيرة بل قاده إلى أمر و إن كان خارجا به عن الشريعة إلّا أنّه قريب من السلامة و دخل عليه بالخدعة في رأى الصّالحين، و قيل: بل صغّره من جهة حقارة فعله ذلك لكونه عن جهل منه، انتهى.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 125
و الأظهر أن يكون التصغير للتّعظيم، و الغرض منه استعظامه لعداوته لها باعتبار ظلمه عليها، و ذلك لأن لنفسه و لكلّ من جوارحه عليه حقّا و قد روينا في شرح الخطبة التّاسعة و الثمانين في ضمن أخبار محاسبة النفس من الوسايل من الخصال و معاني الأخبار عن عطا عن أبي ذر عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث قال: و على العاقل ما لم يكن مغلوبا أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، و ساعة يحاسب فيها نفسه، و ساعة يتفكّر فيها صنع اللّه إليه، و ساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال فانّ هذه السّاعة معينة لتلك السّاعات، و استجمام للقلوب و تفريغ لها.
و فى البحار من كتاب تنبيه الخاطر قيل: إنّ سلمان رضى اللّه عنه جاء زائرا لأبي الدّرداء فوجد امّ الدّرداء مبتذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إنّ أخاك ليست له حاجة في شيء من أمر الدّنيا، قال: فلمّا جاء أبو الدّرداء رحّب لسلمان و قرّب إليه طعاما فقال لسلمان اطعم فقال: إنّى صائم، قال: أقسمت عليك إلّا ما اطعمت، فقال: ما أنا باكل حتّى تأكل، قال: و بات عنده فلمّا جاء الليل قام أبو الدّرداء فحبسه سلمان فقال: يا أبا الدّرداء إنّ لربّك عليك حقّا، و لجسدك عليك حقّا، و لأهلك عليك حقّا، فصم و افطر و صلّ و نم و أعط كلّ ذى حقّ حقّه، فأتى أبو الدّرداء النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بما قال سلمان فقال عليه السّلام مثل قول سلمان.
و قوله (لقد استهام بك الخبيث) أى جعلك هائما متحيّرا لا تدرى ما تفعل و أين تذهب، و فيه تنبيه على أنّ تركه للدّنيا لم يكن عن خالص العقل، بل كان بمداخلة الشيطان و شوب الهوى، و ذلك بما كان في فعله ذلك من الاخلال بجملة من الحقوق الواجبة شرعا عليه من حقّ الأهل و الأولاد كما أشار إليه بقوله:
استفهام توبيخي- استفهام انكارى (أما رحمت أهلك و ولدك) استفهام في معرض التّوبيخ و الانكار، لاعراضه عنهم و تركه لهم و عدم ترحّمه عليهم، و قد جعل اللّه تعالى عليه حقّا.
كما يدلّ عليه ما رواه في البحار من كتاب تحف العقول في رسالة عليّ بن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 126
الحسين عليه السّلام المعروفة برسالة الحقوق قال عليه السّلام:
و أمّا حقّ أهل بيتك عامّة، فاضمار السلامة، و نشر جناح الرّحمة، و الرّفق بمسيئهم، و شكر محسنهم إلى نفسه و إليك فانّ إحسانه إلى نفسه إحسانه إليك إذا كفّ عنك أذاه و كفاه مؤنته و حبس عنك نفسه. فعمّهم جميعا بدعوتك و انصرهم جميعا بنصرتك، و أنزلهم جميعا منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، و صغيرهم بمنزلة الولد، و أوسطهم بمنزلة الأخ.
و فى هذه الرّسالة أيضا و أمّا حقّ ولدك فتعلم أنّه منك و مضاف إليك في عاجل الدّنيا بخيره و شرّه و انك مسئول عمّا ولّيته من حسن الأدب و الدلالة على ربّه و المعونة له على طاعته فيك و في نفسه فمثاب على ذلك و معاقب فاعمل في أمره عمل المتزّين بحسن أثره عليه في عاجل الدّنيا المعذر إلى ربّه فيما بينك و بينه بحسن القيام عليه و الأخذ له منه و لا قوّة إلّا باللّه.
و فى البحار من الفقه الرّضوى أروى عن العالم عليه السّلام، أنّه قال لرجل: ألك والدان؟ فقال: لا، فقال: أ لك ولد؟ قال: نعم، قال له: برّ ولدك يحسب لك برّ والديك.
و روى أنّه قال: برّوا أولادكم و أحسنوا إليهم فانّهم يظنّون أنكم ترزقونهم و فى الفقيه قال الصادق عليه السّلام برّ الرّجل بولده برّه بوالديه.
و فى خبر آخر من كان عنده صبىّ فليتصابّ له.
و فى الوسايل من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه ليرحم العبد لشدّة حبّه بولده.
و عن كليب الصيداوى قال قال لى أبو الحسن عليه السّلام: اذا وعدتم الصبيان ففوا لهم فانّهم يرون أنّكم الذين ترزقونهم، إنّ اللّه عزّ و جلّ ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء و الصبيان.
و فى الكافي في كتاب المعيشة في باب الحثّ على الطلب و التعرّض للرّزق عن معلّى بن خنيس قال: سأل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل و أنا عنده، فقيل: أصابته الحاجة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 127
فقال: ما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربّه قال: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض إخوانه فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و اللّه الذي يقوته أشدّ عبادة منه.
و فيه عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من طلب الدنيا استعفافا عن الناس و سعيا على أهله و تعطفا على جاره لقى اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة و وجهه مثل القمر ليلة البدر.
ثمّ أنكر عليه ثانيا بقوله استفهام انكارى (أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات) من الرزق و الفاخرات من اللّباس (و هو يكره أن تأخذها) و نبّه بهذه الجملة الانكاريّة على أنّ التخلية من الدّنيا بالكليّة ليست مطلوبة للشّارع، لأنّها توجب اختلال نظام العالم، و فيه نقض لغرض الشّارع و مقصوده الذى هو عمارة الأرض و بقاء النّوع الانساني حينا من الدّهر و مدّة من الزّمان الّتي اقتضت الحكمة الالهيّة و المشيّة الرّبانية بقائه إلى تلك المدّة ليعبدوه و يوحّدوه سبحانه فيها، لأنّ التّعمير و التمدّن و بقاء النوع لا يحصل و لا يتمّ إلّا بتعاون أبناء النّوع و تشاركهم على القيام بمصالح البقاء و لوازمه و ترك الدّنيا و الاعراض عنها مناف لذلك الغرض البتّة، هذا.
تلميح و في قوله عليه السّلام: أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات، تلميح إلى قوله عزّ و جلّ «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» أى من حرّم الثّياب الّتي تتزّين بها الناس و ساير ما يتجمّل به مما أخرجها اللّه من الأرض لعباده من القطن و الكتان و الابريشم و الصّوف و الجواهر و المستلذّات من الماكل و المشارب روى في الصافي من الكافي عن الصّادق عليه السّلام بعث أمير المؤمنين عبد اللّه بن عباس إلى ابن الكوّا و أصحابه و عليه قميص رقيق و حلّة، فلمّا نظروا إليه قالوا:
يا ابن عباس أنت خيرنا في أنفسنا و أنت تلبس هذا اللّباس؟ قال: و هذا أوّل ما اخاصمكم فيه «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» و قال اللّه «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ».
و عن الصادق عليه السّلام أنّه كان متكئا على بعض أصحابه فلقيه عباد بن كثير
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 128
و عليه عليه السّلام ثياب مروية «1» فقال يا أبا عبد اللّه إنّك من أهل بيت النّبوة و كان أبوك «2» و كان «3» فما لهذه الثياب المروية عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب فقال له: ويلك يا عبّاد من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده و الطيبات من الرّزق إنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أنعم على عبده نعمة أحبّ أن يراها عليه ليس بها بأس، ويلك يا عباد إنّما أنا بضعة من رسول اللّه فلا تؤذوني و كان عباد يلبس ثوبين من قطن و فى شرح المعتزلي روى انّ قوما من المتصوّفة دخلوا بخراسان على عليّ ابن موسى الرّضا عليهما السّلام فقالوا له إنّ أمير المؤمنين «4» فكّر فيما ولّاه اللّه من الامور فرآكم أهل البيت أولى الناس أن تؤمّوا الناس و نظر فيكم أهل البيت فرآك أولى النّاس بالناس فرأى أن يردّ هذا الأمر إليك و الامامة تحتاج إلى من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يركب الحمار و يعود المريض، فقال عليه السّلام لهم: إنّ يوسف كان نبيّا يلبس أقبية الدّيباج المزرورة بالذهب، و يجلس على متكئات آل فرعون، و يحكم إنّما يراد من الامام قسطه و عدله إذا قال صدق و إذا حكم عدل و إذا وعد أنجز إنّ اللّه لم يحرّم لبوسا و لا مطعما، ثمّ قرء «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ» الاية.
و قال ابن عباس في قوله «قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» يعنى أنّ المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدّنيا فأكلوا من طيّبات طعامهم، و لبسوا من جياد ثيابهم، و نكحوا من صالح نسائهم، ثمّ يخلص اللّه الطيبات في الاخرة للذين آمنوا و ليس للمشركين فيها شيء.
و في الصّافي من الامالي عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: و اعلموا يا عباد اللّه إنّ المتقين حازوا عاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدّنيا في دنياهم، و لم
______________________________
(1)- الرواء بضم الراء و المد حسن المنظر، منه.
(2)- يعنى أمير المؤمنين (ع) منه.
(3)- أى زاهدا.
(4)- أى المأمون الملعون، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 129
يشاركهم أهل الدّنيا في آخرتهم، أباحهم اللّه الدّنيا ما كفاهم و أغناهم قال اللّه عزّ و جلّ «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ» الاية سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما اكلت، شاركوا أهل الدّنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون، و شربوا من طيّبات ما يشربون، و لبسوا من أفضل ما يلبسون، و سكنوا من أفضل ما يسكنون، و تزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون، و ركبوا من أفضل ما يركبون، و أصابوا لذّة الدّنيا مع أهل الدّنيا، و هم غدا جيران اللّه يتمنّون عليه فيعطيهم ما يتمنّون، لا تردّ لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من اللذة، فالى هذا يا عباد اللّه يشتاق إليه من كان له عقل، هذا.
و قوله عليه السّلام (أنت أهون على اللّه من ذلك) يعنى أنّ أفعال اللّه سبحانه و أحكامه ليست كأفعال خلقه و أحكامهم، فربّما يعطى الواحد منّا مالا لاخر مع عدم طيب نفسه به بل على كره منه له أو يأذن له أن يسكن في منزله باقتضاء مصلحة لاحظها فيه من مداراة معه و نحوها مع كراهة له باطنا و أمّا اللّه القادر القاهر العزيز ذوا السلطان فأجلّ و أعلى من أن يكون ما أعطاه و أحلّه لعباده من باب المصانعة و المجاملة، لأنّهم أهون عنده تعالى من ذلك، و أىّ ملاحظة للخالق من مخلوقه الذّليل، و مداهنة للقاهر من مقهوره الضّعيف المقيّد بقيد الرّقية و العبوديّة.
(قال يا أمير المؤمنين هذا أنت) إمامنا و قد و تنا حال كونك (في خشونة ملبسك) حيث قنعت من اللّباس بطمريه «1» (و جشوبة مأكلك) حيث اقتصرت من الطعام بقرصيه فينبغي لنا أن نتأسّي و نأتمّ بك و نحذ و حذوك.
(قال عليه السّلام ويحك) كلمة رحمة قالها شفقة و عطوفة (إنّى لست كأنت) يعنى أنّ تكليفى الشرعي غير تكليفك، و أشار إلى وجه المغايرة بقوله:
(إن اللّه تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس) أى يضيّقوا على أنفسهم في المعاش بضيق الفقراء و الضعفاء أو يقيسوا أنفسهم بهؤلاء و يكونوا شبيها بهم
______________________________
(1)- الطمر الثوب الخلق و الكساء البالى، م.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 130
(كيلا يتبيّغ) و يغلب (بالفقير فقره) فيقلّ صبره فيعطب، و ذلك فانّ الفقير إذا رأى إمامه و مقتداه بزىّ الفقراء و معاشه مثل معاش المساكين كان له تسلية عمّا يتجرّعه من غصص الفقر و نغص المسكنة هذا.
و يؤيّد ما ذكره عليه السّلام من أنّ الفرض على أئمّة الحقّ أن يقدروا أنفسهم بالضّعفاء:
ما رواه في الصافي عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: أصلحك اللّه ذكرت أنّ عليّ بن أبي طالب كان يلبس الخشن يلبس القميص بأربعة دراهم و ما أشبه ذلك و نرى عليك اللّباس الجيّد، فقال عليه السّلام له: إنّ عليّ بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، و لو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله غير أنّ قائمنا عليه السّلام إذا قام لبس ثياب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و سار بسيرته فانّه يستفاد منه أنّ القائم عند ظهوره يسير سيرة أمير المؤمنين عليه السّلام، و يسلك مسلكه في اللباس و غيره، لكونه مطمح نظر العموم كأمير المؤمنين، و أما ساير الأئمّة فلا، و ما أجاب الصادق عليه السّلام به للسائل فجواب إقناعى لاسكاته و الجواب الحقيقي ما قاله عليه السّلام في المتن من أن لا يتبيّغ بالفقير فقره.
تكملة:
قال الشّارح المعتزلي: و اعلم أنّ الّذي رويته عن الشيوخ و رأيته بخطّ أحمد بن عبد اللّه بن الخشاب:
أنّ الرّبيع بن زياد الحارثي أصابه نشّابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كلّ عام، فأتاه عليّ عليه السّلام عائدا فقال: كيف تجدك أبا عبد اللّه؟ قال: أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بى إلّا بذهاب بصرى لتمنيت ذهابه، قال: و ما قيمة بصرك عندك؟ قال لو كانت الدّنيا لفديته بها، قال: لا جرم ليعطينك اللّه على قدر ذلك إنّ اللّه يعطى على قدر الألم و المصيبة و عنده تضعيف كثير، قال الرّبيع: يا أمير المؤمنين ألا أشكو اليك عاصم بن زياد أخى؟ قال عليه السّلام: و ماله؟ قال: لبس العباء و ترك الملاء و غمّ أهله و حزن ولده، فقال عليه السّلام: ادعوا لى عاصما، فلمّا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 131
أتاه عبس وجهه و قال: ويحك يا عاصم أ ترى اللّه أباح لك اللذات و هو يكره ما أخذت منها، لأنت أهون على اللّه من ذلك، أو ما سمعته يقول «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ» ثمّ قال «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» و قال «وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» أما و اللّه ابتذال نعم اللّه بالفعال «1» أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال، و قد سمعتم اللّه يقول «وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» و قوله «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» إنّ اللّه خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» و قال «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً» و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبعض نسائه: مالي أراك شعثاء مرهاء سلتاء «2» قال عاصم: فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن و أكل الجشب؟ قال عليه السّلام: إنّ اللّه افترض على أئمّة العدل أن يقدر ما لأنفسهم بالقوام كيلا يتبيّغ بالفقير فقره، فما قام عليّ عليه السّلام حتّى نزع عاصم العباء و لبس ملائة.
قال الشّارح: و الرّبيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان، و أمّا العلاء ابن زياد الّذى ذكره الرّضيّ رحمه اللّه فلا أعرفه لعلّ غيرى يعرفه.
أقول: و يؤيّد ما ذكره الشّارح رواية الكليني فانّه روى في الكافي في باب سيرة الامام عن عليّ بن محمّد عن صالح بن أبي حمّاد و عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد و غيرهما بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين على عاصم بن زياد حين لبس العباء و ترك الملاء و شكاه أخوه الرّبيع بن الزّياد إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قد غمّ أهله و أحزن ولده بذلك فقال أمير المؤمنين: عليّ بعاصم بن زياد، فجيء به فلمّا رآه
______________________________
(1)- اى استعمالها و اظهارها و تشهيرها، بالفعال و هو الشكر الفعلى أحب إلى اللّه من ابتذالها بالمقال و هو الشكر القولى و قد صرّح بعض المحققين إن الشكر الفعلى أقوى دلالة على تعظيم المنعم من الشكر القولى هكذا فى شرح ملا صالح على الكافى م.
(2)- فيه انه لعن السلتاء و المرهاء، السلتاء التي لا تختضب و المرهاء التي لا تكتحل نهاية.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 132
عبس في وجهه فقال له: أما استحييت من أهلك أما رحمت ولدك أ ترى اللّه أحلّ لك الطيبات و هو يكره أخذك منها أنت أهون على اللّه من ذلك أو ليس اللّه يقول «وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ. فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» أو ليس اللّه يقول «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» إلى قوله «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» فيا للّه لابتذال نعم اللّه بالفعال أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال، و قد قال اللّه عزّ و جلّ «وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» فقال عاصم: يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك علي الجشوبة و في ملبسك على الخشونة؟ فقال: ويحك إنّ اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة النّاس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره، فألقى عاصم بن زياد العباء و لبس الملاء اللّهمّ وفّقنا لطاعتك بمحمّد و آله.
تنبيه على مذهب الصوفية و هداية:
اعلم أنّه قد ظهر لك اجمالا من هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السّلام الّذى نحن في شرحه أنّ سلوك نهج العبوديّة بغير ما قرّره صاحب الشّريعة زيغ و ضلال، و وزر على سالكه و وبال، و أنّه من استهامة الشيطان اللّعين و تسويله و تمويه النّفس و تدليسه، فأحببت باقتضاء المقام و مناسبته بسط المقال في هذا المرام و التّنبيه على ضلال أقوام زاغوا عن نهج الرّشاد و نكبوا عن طريق السّداد، و نبذوا أمر اللّه وراء ظهورهم و اشتغلوا بالمجادلات الكلاميّة و الهذيانات الفلسفيّة و أبدعوا عبادات مخترعة، و أعرضوا عن حقايق علوم الدّين و الملّة، و دقايق أسرار الكتاب و السّنّة، و سمّوا أنفسهم بالمتصوّفة و الصّوفيّة.
و قبل الشّروع في المقصود لا بدّ من تمهيد مقدّمة شريفة و هي:
إنّه لا شكّ أنّ الغرض الأصلي و المقصود بالذّات من خلق الانسان هو العبوديّة و العرفان، كما شهد به الكتاب المكنون في قوله «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» كما لا شكّ أيضا أنّ المقصود من بعث الأنبياء و الرّسل و إنزال
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 133
الصّحف و الكتب لم يكن إلّا ذلك أعنى جذب الخلق إلى الحقّ الأوّل عزّ و جلّ و أنّهم عليهم السّلام على كثرتهم و اختلاف شرايعهم لم يكن غرضهم إلّا شيئا واحدا و هو التّنفير عن الدّنيا و الترغيب إلى العقبى و القطع عن الخلق و الوصل إلى الحقّ و الارشاد و الدّلالة على الصراط المستقيم المؤدّى إليه و المحصّل للقرب و الزّلفى لديه.
فبعثهم اللّه إلى الناس بما شرع لهم من الدّين ليدلّوهم عليه و يعلّموهم كيفيّة السّلوك إليه و لم يخل سبحانه خلقه من نبيّ مرسل أو كتاب منزل أو حجّة لازمة أو محجّة قائمة.
فهم عليهم السّلام أدلّاء سبل الحقّ، و الهادون إليها، و المعلّمون لكيفيّة سلوكها بما أتوا به من الشرائع و الأديان الّتي شرعها اللّه تعالى لطفا منه في حقّ عباده، و لم يتركهم سبحانه و آراءهم و لم يكلهم في سلوك سبيله إلى عقولهم الناقصة و أهوائهم المختلفة و آرائهم المتشتّتة، فليس لهم أن يسلكوا طريق عبوديّته بما يستحسنه العقول.
و قد ورد في أخبار كثيرة أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول، و أنه لا شيء أبعد عن دين اللّه من عقول الرجال.
و لو كانت العقول كافية في سلوك سبيل العبوديّة لم تكن إلى بعث الأنبياء و الحجج حاجة، كما أنه لو كان ما يرتضيه العقول و يخترعه من العبادات مرضيا عند الربّ مطلوبا له تعالى لم يكن داع إلى جعل الأديان و الشرائع التي شرعها و بعث بها الأنبياء عليهم السّلام كما قال تعالى «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً» و قال «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» فقد علم بذلك أنّ اللازم على العبد إذا أراد أن يعبد اللّه و يتقرّب إليه أن يعبده بالعبادات المجعولة في الشريعة الموظفة المشروحة فيها ماهيّة و هيئة و كما و كيفا و وقتا و عددا بادابها الموظفة و شرايطها المقرّرة و أركانها و أجزائها المختصّة و سنّتها المعيّنة و غيرهما مما جعله صاحب الشرع و شرعه.
لأنّ المطلوب للحقّ و المقرّب إليه ليس إلّا و لا يقبل عزّ و جلّ من العبادات إلّا ما أرسل به حججه و أنطق به ألسنتهم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 134
و من ذلك أنّ الشيطان اللعين لما أبى من السجود لادم عليه السّلام الذى كان مأمورا به و مطلوبا له تعالى مع أنه قال: يا ربّ اعفنى من السجود لادم و أنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، صار مستحقّا للطرد و الابعاد حيث أراد أن يعبد اللّه من غير الوجه الذي كان مأمورا به، و قد قال اللّه له: لا حاجة لي في عبادتك إنما اريد أن اعبد من حيث اريد لا من حيث تريد، على ما مرّ فى رواية علىّ بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام في أوّل تنبيهات شرح الفصل الحادى عشر من الخطبة الاولى و قد قال تعالى «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها».
و اتيان البيوت من الأبواب هو الأخذ بقول الحجج و الرجوع في سلوك نهج الحقّ إليهم، كما يدلّ عليه رواية الصافى عن أمير المؤمنين المتقدّم فى شرح الفصل الرابع من الخطبة الاولى.
و مرّ هنا رواية عليّ بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السّلام أنه قال: ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأشياء و رضى الرحمن الطاعة للامام بعد معرفته أما لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره و تصدّق بجميع ماله و حجّ جميع دهره و لم يعرف ولاية ولىّ اللّه فيواليه و يكون جميع أعماله بدلالته ما كان له على اللّه حقّ فى ثوابه.
فحاصل الكلام و ملخّص المرام أنّ العبادة المحصّلة للقرب و الزّلفي هى العبادة المتلقّاة من بيت النبوّة و الولاية، و المعلومة الثبوت في الكتاب و السّنة فما لم يعلم ثبوتها فيهما مثل ما علم عدم ثبوتها بدعة و ضلالة موجبة لسخط الرّحمن و رضى الشّيطان، مؤدّية إلى العذاب الأليم و الخزى العظيم.
إلّا أنّ جماعة من العامّة و الجهّال الخاصّة غفلوا عمّا قرّرناه في هذه المقدّمة و استبدّوا بعقولهم الفاسدة و آرائهم الكاسدة، و سلكوا السّبيل من غير دليل و أضلّهم الشّيطان و ضلّوا عن سواء السّبيل، و مع ذلك يزعمون أنّهم أهل السّلوك و المعرفة و الزّهد و القشف و الرّياضة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 13، ص: 135
و هم قوم يسمّون بأهل الذّكر و التّصوّف، يدّعون البراءة من التّصنع و التّكلّف، يلبسون خرقا، و يجلسون حلقا، يخترعون الأذكار، و يتغنّون بالأشعار و يغلبون بالتّهليل، و ليس لهم إلى العلم و المعرفة دليل، ابتدعوا شهيقا و نهيقا، و اخترعوا رقصا و تصفيقا، قد خاضوا في الفتن، و أخذوا بالبدع دون السّنن، رفعوا أصواتا بالنداء، و صاحوا صيحة الشّقاء، أمن الضّرب يتألّمون؟ أم من الطّعن يتظلّمون؟ أم مع أكفائهم يتكلّمون؟ إنّ اللّه لا يسمع بالصّماخ، و لا يحتاج في سماعه إلى الصّراخ، أ تنادون باعدا؟ أم توقظون راقدا؟ تعالى اللّه لا تأخذه السّنة، و لا تحيط به الألسنة، سبّحوه تسبيح الحيتان في البحر، و ادعوه تضرّعا و خيفة دون الجهر، إنّه ليس منكم ببعيد، بل هو أقرب إليكم من حبل الوريد. (.....)
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 22
استدراك:
لا يذهبنّ عليك ممّا أوردته فى شرح هذا الكلام على طوله من الطّعن و التّعريض و الازراء على الصّوفية و ابطال مذاهبهم و اضلال مشاربهم و اظهار مثالبهم و تسفيه أحلامهم و تزييف مناقبهم و الاعلان بعداوتهم و الحكم بفسق طائفة و كفر الاخرين منهم، أنّا منكرون لحسن العرفان باللّه و جاحدون لسلوك سبيل المعرفة معاندون للعارفين بالحقّ الّذين سلكوا سبيل الهدى و نهوا النّفس عن الهوى و زهدوا فى الدّنيا و رغبوا فى الأخرى و صدّقوا بالحسنى و شربوا من كأس المحبّة و خاضوا فى تيّار المعرفة فلم يكن لهم همّ إلّا رضى المولى و النّيل إلى مقام الزّلفى و السّكنى فى حظاير القدس و التّأنس فى محافل الانس مع النّبيّين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقا و كيف لا و لم يكن بعث الأنبياء و الرّسل مبشرين و منذرين من لدن خلق آدم عليه السّلام أبى البشر إلى الختم بسيد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا لذلك المقصود فانهم على اختلاف شرايعهم و تفاوت مللهم و مذاهبهم لم يكن همّهم الّا هما واحدا و هو جذب الخلق إلى الحقّ بالهداية إلى الصراط المستقيم، و الدّلالة على النهج القويم، و التنحية عن الرزائل و التحلية بالفضايل، و الحثّ على مكارم الأخلاق و الحضّ على إحياء العقول بالمعارف و الكمالات، و التأكيد فى اماتة النفوس بالمجاهدة و الرّياضات فالعارف الحقيقى الذى يحقّ أن يسمّى بهذا الاسم هو من اتّصف بهذه الكمالات لا من أخذ بالبدع و الضلالات، و من تبع فى أقواله و أفعاله بالأئمة لا من قال: إنّا وجدنا آبائنا على امّة و إنّا على آثارهم لمهتدون.
و ان شئت أن تعرف تفصيل أوصاف هذا الشخص الذى يليق بهذا الاسم فاعرف ذلك من تضاعيف خطب أمير المؤمنين عليه السّلام لا سيّما الخطبة المأة و الثانية و التسعين الوارد فى شرح حال المتّقين، و الكلام المأتين و الثامن عشر المسوق فى وصف حال العارفين
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 23
و لئن رجعت اليهما و إلى شرحهما تعرف معنى المعرفة و العرفان، و تعلم أنّ الصوفية فى متاه الجهل و الضلال حيران، نعوذ باللّه من الضلالة بعد الهدى، و من تبدّل البصيرة بالعمى، إنه لا يضلّ من هداه، و الحمد للّه على ما هدانا و ما كنا لنهتدى لولا أن هدانا اللّه.
يا ربّ أدخل فى عبادك عبدك الرّاجى بفضلك و اعطف به نظرا
وجد يا الهى لى بجودك و الطف بعبد ذليل عاجز متحيرا
و أدخله فى أرباب علم و حكمة و أصحاب عرفان الذى منك مخبرا
و أشربه كاس الحبّ و الصدق و الصفا و أكرم به فى روضة الخلد منظرا
و فى محفل الانس انسه بمحمد و أولاده الطهر الكرام المطهّرا
الترجمة:
از جمله كلام هدايت نظام أمير مؤمنان عليه السّلام است در بصره در حالتى كه داخل شد بر علاء پسر زياد حارثى و او از أصحاب آن حضرت بود عيادت مى فرمود او را پس وقتى كه ديد وسعت خانه او را فرمود:
چه كار مى كنى با وسعت اين خانه در دنيا آگاه باش كه تو بسوى وسعت خانه در آخرت هستى محتاج تر، و بلى اگر بخواهى مى توانى برسى با آن باخرت مهماندارى بكنى در آن مهمانان را و صله أرحام نمائى، و اخراج حقوق اللّه كنى و در مصارف شرعيه صرف نمائى، پس در اين صورت تو محققا رسيده با او بسوى آخرت.
پس عرض كرد بان حضرت علاء كه يا أمير المؤمنين شكايت ميكنم بسوى تو از برادرم عاصم بن زياد. فرمود آن حضرت چه خبر است او را عرض نمود كه عبا پوشيده و از دنيا خلوت گزيده.
فرمود: كه حاضر كنيد او را نزد من، پس وقتى كه آمد فرمود أى دشمنك نفس خود بتحقيق كه سرگردان كرده تو را شيطان خبيث آيا رحم نكردى أهل خود را و اولاد خود را، آيا همچنين اعتقاد ميكنى كه خدا حلال كرده از براى تو پاكيزه ها و طيّبات دنيوى را و حال آنكه آن خدا كراهت دارد كه تو فراگيرى آنها را، تو خوارترى نزد خدا از اين.
عرض كرد أى أمير مؤمنان اين تو هستى در خشونت و زبرى پوشاك و غلظت و بى مزگى خوراك.
فرمود: واى بر تو بدرستى من نيستم مثل تو، بدرستى خداوند تعالى واجب ساخته بر امامان حقّ عادل كه تنگ بگيرند بر نفسهاى خود يا قياس نمايند نفسهاى خودشان را بضعفا و فقراى خلق در رفتار و كردار تا اين كه غالب نشود و مضطرب نسازد فقير را فقر و پريشانى او. و باللّه التّوفيق و منه الاستعانة و عليه التوكّل و الاعتماد حتّى وفّقنا لما يحبّ و يرضى و هدانا سبيل الرّشد و طريق الوصول إليه.