منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 21، ص: 10
(4) و قال عليه السّلام: و العلم وراثة كريمة و الاداب حلل مجدّدة، و الفكر مرآة صافية. (73266- 73250)
المعنى:
(و العلم) فطري و هو موهبة إلهيّة الهم على قلب العالم بعناية اللَّه، أو اكتسابي اوحى إليه بعد تحصيل مقدّماته المفضية إليه، و التعبير عنه بأنّه (وراثة) تشير إلى أنّ العلم و هو النور الساطع من باطن العالم ينكشف به الأشياء المجهولة لديه، موهبة من اللَّه و إن تكلّف تحصيل مقدّماته في العلوم الاكتسابيّة، فهو كالرزق للأبدان بذله اللَّه لكلّ من يستحقّه مؤمنا كان أو غيره، إلّا ما كان من العلوم الإلهيّة و المعارف القدسيّة الّتي تختصّ بالمؤمن و من يرد اللَّه أن يهديه.
و الإرث ما يتحصّل للوارث بلا عوض، و بهذا الاعتبار عبّر عنه بالوراثة و ليس المقصود أنّ العلم ميراث من العلماء و الأساتذة، كما في الشرحين لابن ميثم و ابن أبي الحديد، فانّ العلم أعمّ، و المقصود أتمّ.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 21، ص: 14
استعاره (و الاداب حلل مجدّدة) الأدب لفظة يشعر بالنظم و الترتيب، و منه مأدبة لسفرة الغذاء، لأنّه يراعى فيه النظم و الأدب رعاية القوانين المقرّرة في الشرع و تنظيم الوظائف الدّينيّة و رعاية القوانين المقرّرة في المعاشرة و المعاملة مع الناس فرعاية الأدب التحلّي بأعمال و أقوال تجاه الخالق أو الخلق.
و حيث إنّ الانسان دائما مسئول من فعله و قوله أمام الخالق و المخلوق و لا بدّ له من رعاية وظائفه حينا بعد حين فكأنه برعاية الاداب يجدّد حلية جماله المعنوي، و يلبس حللا و يبدلها باخرى، و هذا من أحسن التعبيرات و الاستعارات.
و قد ذكر صاحب الشرح في ذيل هذه الجملة قصّة لنا عليها نكتة و تعليق نذكرها بنصّها ثمّ نردفها بهذه النكتة و نعلّق عليها و هذا نصّها (في ص 96 ج 18 ط مصر- عيسى البابي الحلبي). و أنشد منشد بحضرة الواثق هارون بن المعتصم:
أ ظلوم أنّ مصابكم رجلا أهدى السلام تحيّة ظلم
فقال شخص: رجل هو خبر «انّ» و وافقه على ذلك قوم و خالفه آخرون فقال الواثق: من بقي من علماء النحويّين؟ قالوا: أبو عثمان المازني بالبصرة فأمر باشخاصه إلى سرّ من رأى بعد ازاحة علّته، قال أبو عثمان: فاشخصت، فلمّا ادخلت عليه قال: ممّن الرّجل؟ قلت: من مازن، قال: من مازن تميم، أم من مازن ربيعة، أم من مازن قيس، أم مازن اليمن؟ قلت: من مازن ربيعة، قال: باسمك؟ -بالباء- يريد «ما اسمك؟» لأنّ لغة مازن ربيعة هكذا يبدلون الميم باء و الباء ميما، فقلت: مكر أي «بكر» فضحك و قال: اجلس و اطمئنّ، فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا، فقال: فأين خبر «انّ»؟ فقلت «ظلم» قال: كيف هذا؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أنّ البيت إن لم يجعل «ظلم» خبر «انّ» يكون مقطوع المعنى معدوم الفائدة، فلما كرّرت القول عليه فهم، و قال: قبح اللَّه من لا أدب له ثمّ قال: ألك ولد؟ قلت: بنيّة، قال: فما قالت لك حين ودّعتها؟ قلت: ما قالت بنت الأعشى:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 21، ص: 15
تقول ابنتي حين جدّ الرحيل أرانا سواء و من قد يتم
أبانا فلا رمت من عندنا فانا بخير إذا لم ترم
أبانا إذا اضمرتك البلاد نخفى و تقطع منا الرّحم
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت: أنشدتها بيت جرير:
ثقي باللّه ليس له شريك و من عند الخليفة بالنّجاح
فقال: ثق بالنجاح إن شاء اللَّه تعالى ثمّ أمر لي بألف دينار و كسوة، و ردّني إلى البصرة انتهى.
أقول: فيها نكتتان:
1- صاحب الشرح حمل لفظة الاداب الواردة في كلام مولانا عليه السّلام على المعنى الاصطلاحي المحدث، و هو علم العربية و ما يلحق بها و ما يسمّونه بعلوم الأدب، و الأدبيّات، و مفهوم العلوم الأدبيّة ليس بواضح من وجهين:
الأوّل: ما هي العلوم الأدبيّة؟
الثاني: لما ذا سمّيت تلك العلوم بالأدبيّة و أدبيّات؟
أمّا جواب السؤال الأوّل فليس بمحرّر من حيث إنّ علم اللّغة و الصرف و النحو و البلاغة و الشعر أدبيّات و لكن هل تشتمل اللفظة علم التاريخ و المنطق؟
و نوضح أوّلا جواب السؤال الثاني فنقول: إنّ لفظة أدب كما ذكر يشعر بالنظم و الترتيب، و علوم اللغة و الصرف و النحو ينظّم الكلام فيقال لها: علوم الأدب أو الأدب العربي قال في «المنجد» آدب إيدابا السلطان البلاد ملأها قسطا و عدلا- و العدل هو استقرار النظم الاجتماعي الصّحيح- إلى أن قال: الاداب تطلق على العلوم و المعارف عموما، أو على المستظرف منها فقط و يطلقونها على ما يليق بالشيء أو الشخص فيقال: آداب الدرس و آداب القاضي- إلخ، و علم الأدب هو علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا و كتابة انتهى.
و على كلّ حال حمل لفظة الاداب في كلام مولانا عليه السّلام على هذا الاصطلاح، كما يشعر به كلام الشارح المعتزلي بعيد جدّا، فانّ هذا الاصطلاح غير موجود في هذا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 21، ص: 16
العصر و ليس بمقصود في المقام، كما أوضحناه.
2- يظهر من هذه القصّة انحطاط بلاط الخلافة في العلم و الأدب إلى حيث لا يفهم المعتصم هذا البيت العربي الصريح حتّى فهمه المازني و أوضح له المراد مع أنّه قريب العصر بالمأمون العبّاسي الشهير بالفضل و التوجّه إلى أهله.
و أما تعليقنا على هذه القصّة فقد نفلت نظر القرّاء الكرام إلى وضع هذه الشخصيّة الفذّة و هو أبو عثمان المازني أحد أعيان العلوم الأدبية و واضع علم الصرف و قد كان من أعيان الشّيعة الإماميّة في عصره الرّهيب.
قال في تنقيح المقال ج 1 ص 180: بكر بن محمّد بن حبيب بن بقية أبو عثمان المازني- إلى أن قال: قال النجاشي: بكر بن محمّد بن حبيب بن بقية أبو عثمان المازني مازن بني شيبان كان سيّد أهل العلم بالنحو و الغريب و اللغة بالبصرة و مقدّمته مشهورة بذلك- إلى أن قال: و لا إشكال في كون الرّجل إماميّا، و قد سمع من النجاشي أنّه من علماء الاماميّة إلخ.
أقول: و يشعر بعض مضامين القصّة المنقولة أنّه من الاماميّة حيث إنّ دعوته إلى سرّ من رأى بأمر الخليفة كانت رهيبة و معرض خطر، و بهذه المناسبة سأله المعتصم عن أولاده و عمّا قالت له ابنته حين سفره و أعطاه الأمان بقوله:
اجلس، و اطمئنّ، فيظهر منها أنّه كان معروفا بالتشيّع و مبتلى بالضغط و ضيق المعاش، فطمع فيه ذمّي و أعطاه مائتي دينار ليعلّمه كتاب سيبويه، و كما نقل عن المبرّد امتنع عن ذلك بأنّ في الكتاب ثلاثمائة و كذا و كذا آية من كتاب اللَّه عزّ و جلّ، و لست أرى أن امكّن ذمّيا منها، غيرة و حميّة للإسلام، و يكشف ذلك عن غاية ورعه و تقواه.
و ذكر العلّامة الأوحد الاقا رضا الاصبهاني قدّس سرّه أحد أساتيدي و شيخ إجازتي أنّ حفظ حرمة كتاب اللَّه صار سببا لحدوث المناقشة بحضرة المعتصم و أدّى إلى إحضاره و إكرامه و بذل المال و الكسوة له و تعريفه بحضرة الخليفة استاذا منحصرا للأدب و اللغة في عصره، فنال تأييدا منه بمنّه تعالى و صار سببا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 21، ص: 17
لشهرته و رفع الضيق عنه ببركة حرمة القرآن الشريف، و من هنا يتوجّه هذا السّؤال:
هل يجوز تعليم القرآن بغير المسلم أم لا؟
ربما يستفاد من ظاهر الاية الشريفة «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» (79- سورة الواقعة) عدم الجواز، لأنّ أظهر أفراد مسّ القرآن درك صورته العلميّة و حفظه في القلب، و يستفاد من هذه الاية النهي عن مسّ غير المطهّر، و الكافر غير مطهّر.
كما أنّ خباب بن أرت امتنع عن تسليم جزء من القرآن كان يعلّمه فاطمة أخت عمر المسلمة حين طلبه عمر ليقرئه و قال أو قالت «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ».
و يشعر امتناع المازني أحد شيوخ الإماميّة عن تعليم كتاب سيبويه المتضمّن لايات القرآن الذمّي الغير المسلم بذلك، و لعلّه يتفرّع على ذلك حرمة بيع المصحف بغير المسلم كما ذكره الفقهاء في مسائل المكاسب المحرّمة.
و لكن يضعف ذلك كلّه أنّ القرآن الشريف اوحي إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ليقرأها على المشركين فيفهمونه و يصير سببا لاسلامهم، و كان تعليم القرآن لغير المسلم سيرة ثابتة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله.
(و الفكر مرآة صافية) الفكر أشعاع عقلي ينور القلب و ينكشف به الحقائق و هي حركة روحيّة من المبادي إلى المقاصد و من المقاصد إلى المبادي و عرّفه الشيخ البهائي قدّس سرّه في المبادي المنطقيّة لزبدة الأصول بأنّه تأمّل معقول لكسب مجهول.
و وصفها عليه السّلام بأنّها مرآة صافية ينعكس فيها الحقائق فيجب على كلّ استعمالها في شتّى اموره و يخلّصها من شوب الوهم و التخيّل ليرى الأشياء فيها، كما هي.
الترجمة:
و دانش بهره ايست ارجمند- رعايت آداب جامه ايست زيبا و تازه- و انديشه آئينه ايست زلال-.