إنّ اللّه سبحانه لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم و نهارهم، لطف به خبرا، و أحاط به علما، أعضائكم شهوده، و جوارحكم جنوده، و ضمائركم عيونه، و خلواتكم عيانه. (48831- 48531)
اللغة:
و (العيان) بالكسر المعاينة يقال لقاه عيانا أى معاينة لم يشكّ في رؤيته إيّاه.
الاعراب:
و قوله: لا يخفى عليه ما العباد مقترفون، كلمة ما موصولة منصوبة محلا مفعول يخفى و ما بعدها صلة لها و العايد محذوف أى مقترفون له.
المعنى:
و كيف كان فلمّا أمر و أوصى أصحابه بالصّلاة و الزّكاة و أداء الأمانة، و شدّد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 340
الترغيب فيها و التحذير من مخالفتها بكون الخائن أو المقصّر ظلوما جهولا، عقّبه بالتّنبيه على أنّ كلّ ما يفعله العباد من خير أو شرّ بعين اللّه الّتي لا تنام و علمه الّذى لا تخفى عليه خافية لتأكيد تحضيض المخاطبين بمواظبة هذه العبادات الثلاث و ساير الحسنات و تحذيرهم من مخالفتها فقال:
(إنّ اللّه سبحانه لا يخفى عليه) و لا يعزب عن علمه (ما العباد مقترفون) أى مكتسبون له من خير أو شرّ حسن أو قبيح (فى ليلهم و نهارهم) يعني أنّ الليل و النهار سيّان بالنسبة إلى علمه، و ليس كغيره من مخلوقاته يكون إدراكه للمحسوسات بطريق الاحساس حتّى تكون ظلمة اللّيل حجابا و حجازا عن إدراكه.
و قدّم الليل على النهار لمزيد الاهتمام من حيث كونها مظنّة لاختفاء ما يفعل فيها من المعاصي، و أردف بالنهار لدفع توهّم الاختصاص.
(لطف به خبرا) أراد به علمه بخفيّات أفعال العباد و خبرويّته بها، و اللّطيف الخبير حسبما تقدّم في شرح الخطبة السابقة من جملة أسمائه الحسنى عزّ و علا.
و تسميته باللّطيف من جهة علمه بالشيء اللّطيف مثل البعوضة و أخفى منها و موضع النشوء منها و العقل و الشهوة للفساد و الحدب على نسلها و نقلها الطعام و الشراب إلى أولادها في المفاوز و الأودية و القفار.
و معنى الخبير هو الّذى لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجرى شيء في الملك و الملكوت و لا تتحرّك ذرّة و لا تضطرب نفس و لا تطمئنّ إلّا و يكون عنده خبره، و هو بمعنى العليم إلّا أنّ العلم إذا اضيف إلى الخفايا الباطنة سمّى خبرة، و قد مرّ تفصيل نفاذ علمه في خفاء الأشياء في الفصل الثامن من الخطبة التسعين.
(و أحاط به علما) و قد تقدّم في شرح غير واحدة من الخطب المتقدّمة كالخطبة الاولى و الخطبة التاسعة و الأربعين و الخامسة و الثمانين و غيرها تحقيق إحاطة علمه تعالى بالكلّيات و الجزئيات و لا حاجة إلى الاعادة.
(أعضاؤكم شهوده) يعني أنّها تشهد على العباد بما اقترفوه من المعاصي و الاثام.
(و جوارحكم جنوده) يعني أنّها تكون معينة له عليهم، و ذلك لأنّ جنود
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 341
الملك عبارة عن أعوانه على أعدائه فتلك الأعضاء و الجوارح لما شهدت على المجرمين بما فعلوه صارت بمنزلة المعين له بذلك الاعتبار.
و يشهد بشهادة الأعضاء و الجوارح قول اللّه تعالى في سورة يس «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» أى نستنطق الأعضاء الّتي كانت لا تنطق في الدّنيا لتشهد عليهم و نختم على أفواههم الّتي عهد منها النطق و هذا حقيقة الختم يوضع على أفواه الكفار بمنعها من النطق و الكلام.
قال عليّ بن إبراهيم القمّي قال: إذا جمع اللّه عزّ و جل الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ انسان كتابه فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئا، فتشهد عليهم الملائكة فيقولون: يا ربّ ملائكتك يشهدون لك، ثمّ يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئا و هو قول اللّه عزّ و جلّ «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ» فاذا فعلوا ذلك ختم اللّه على ألسنتهم و تنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون و قال تعالى في سورة فصّلت «وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» .
قال أمين الاسلام الطبرسيّ: أى يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا و لا يتفرّقوا، حتّى إذا جاءوا النّار الّتي حشروا إليها شهد عليهم سمعهم بما قرعه من الدّعاء إلى الحقّ فأعرضوا عنه و لم يقبلوه، و أبصارهم بما رأوا من الايات الدّالّة على وحدانيّة اللّه تعالى فلم يؤمنوا، و ساير جلودهم بما باشروه من المعاصي و الأفعال القبيحة.
و قيل في شهادة الجوارح قولان: أحدهما أنّ اللّه تعالى يبيّنها بيّنة الحيّ و يلجئها إلى الاعتراف و الشهادة بما فعله أصحابها، و الاخر أنّ اللّه يفعل فيها الشهادة أى يجعل فيها كلاما، و إنّما نسب الكلام إليها لأنّه لا يظهر إلّا من جهتها.
و قيل فيه وجه ثالث: و هو أنّ معنى شهادتها و كلامها أنّ اللّه تعالى يجعل
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 342
فيها من الايات ما يدلّ على أنّ أصحابها عصوا اللّه بها، فسمّى ذلك شهادة منها كما يقال: عيناك تشهدان بسهرك.
و قيل: إنّ المراد بالجلود الفروج.
أقول: و هو المروىّ فى الصافى عن الكافى عن الصادق عليه السّلام و من الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام.
ثمّ أنطق اللّه ألسنتهم فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا، فتقول في جوابهم أنطقنا اللّه الّذى أنطق كلّ شيء، ثمّ قال سبحانه: «و هو خلقكم..» الاية، و ليس هذا من جواب الجلود.
و قوله: و ما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم، معناه و ما كنتم تستخفون أى لم يكن يتهيّأ لكم أن تستتروا أعمالكم عن هذه الأعضاء لأنّكم كنتم بها تعملون، فجعلها اللّه شاهدة عليكم يوم القيامة، و لكن ظننتم أنّ اللّه لا يعلم كثيرا ممّا تعملون فاجترأتم على المعاصي لذلك، و قيل: بل معناهما كنتم تتركون المعاصي حذرا أن يشهد عليكم جوارحكم بها لأنكم ما كنتم تظنّون ذلك، و لكن ظننتم أنّ اللّه لا يعلم كثيرا ممّا تعملون، لجهلكم باللّه فهان عليكم ارتكاب المعاصي لذلك، هذا.
و فى الصافى من الكافى عن الباقر عليه السّلام و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال اللّه عزّ و جلّ «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ».
و قوله (و ضمائركم عيونه) قال الشارح البحراني: أي طلايعه و جواسيسه كقوله تعالى يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ* و تلك الشهادة بلسان الحال، انتهى.
أقول: يعني أنّ الضمائر لا تخفى ما فيها من الأسرار و لا تكتمها عليه تعالى كما أنّ من شأن الجاسوس المراقب بشيء أن لا يكتمه ممّن و كلّه به، و على ذلك
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 343
فالمراد بالضّماير القلوب، و يحتمل أن يكون المراد بالضّماير ما يضمره القلوب من الأسرار و الخفيّات.
و العيون جمع العين بمعنى الحاضر و هو أحد معانيه كما في القاموس و غيره، فيكون المعنى أنّ جميع ما أضمره نفوسكم فهو حاضر لديه سبحانه غير محجوب عنه كما قال تعالى «وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» و قال «قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» .
و محصّل المراد أنّه لا يخفى ما في النفوس عليه عزّ و جل كما يخفى على غيره، فيكون مساقه مساق قوله عليه السّلام في الخطبة التسعين: عالم السرّ من ضماير المضمرين و نجوى المتحافتين، و قوله في الخطبة المأة و السابعة: خرق علمه باطن غيب السترات و أحاط بغموض عقايد السّريرات.
و قوله (و خلواتكم عيانه) قال البحراني: كني بالخلوات عمّا يفعل فيها من معاصي اللّه مجازا، و إنّما خصصها لأنها مظنّة المعصية، و يحتمل أن يريد بالخلوة مصدر قولك خلوت اخلو لا المكان، فيكون حقيقة، و ظاهر كونها عيانا للّه أى معاينة له.
و كلّ ذلك تحذير و تنفير عن تحريك الجوارح و الخلوة بها فيما لا ينبغي من المعاصي، و باللّه التوفيق و العصمة.
تذييل:
الاية الّتي استدل بها أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الكلام على وجوب المحافظة على الصلاة أعني قوله تعالى حكاية عن المجرمين «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» مما استدلّ بها أكثر أصحابنا الاصوليّون كالمعتزلة على أنّ الكفار مكلّفون بالفروع حسبما أشار إليه أمين الاسلام الطبرسيّ «ره» أيضا في تفسير الاية على ما حكيناه عنه سابقا، و حيث إنّ هذه المسألة من المسائل الغامضة المعظمة، و يتفرّع عليها كثير من الأحكام الشرعيّة فلا بأس بتحقيق الكلام و بسطه فيها لكونها حقيقا بذلك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 344
فأقول و باللّه التوفيق: المشهور بين أصحابنا بل كاد أن يكون اجماعا أنّ الكفّار مكلّفون بفروع العبادات كما أنّهم مكلّفون باصول الاعتقادات و هو مذهب جمهور العامّة أيضا، و لم ينقلوا فيها خلافا إلّا عن أبي حنيفة و لم أجد منّا مخالفا أيضا إلّا شرذمة من الأخباريّة كالأمين الاسترابادى و صاحب الحدائق و صاحب الوافي، و هو الحقّ الموافق للتحقيق، و استدلّ له بوجوه:
الاول عموم الأدلّة على التكاليف مثل قوله تعالى «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» و قوله «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» و قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» و «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ»* و غيرها، فانّها يشمل الكافر مثل شمولها للمؤمن.
و الاعتراض عليه بحملها على المؤمنين حملا للمطلق على المقيّد و العامّ على الخاصّ كما في الحدائق فاسد، لما تطلع عليه عند ذكر أدلّة الخصم.
الثاني أنّ الكفر لا يصلح للمانعيّة حيث إنّ الكافر متمكّن من الاتيان بالايمان أوّلا حتّى يصير متمكّنا من الفروع.
و اعترض عليه صاحب الحدائق أيضا بأنّه مصادرة محضة.
و فيه مع عدم كونه مصادرة لأنّ المدعى أنّ الكفّار مكلّفون بالعبادات و مخاطبون بها، و الدّليل أنّ ما زعمه الخصم مانعا من توجّه الخطاب عليهم و من الاتيان بها على الوجه الصحيح و هو الكفر لا يصلح للمانعيّة فكيف يكون مصادرة.
و محصّله أنّ ما دلّ على التكليف بالفروع عام و لا يمنع من ذلك عدم التمكن من الصحيح حال الكفر لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، على أنّ الايمان من شرايط الوجود الّتي يجب تحصيلها على المكلّف لا شرايط الوجوب، فلا مانع من التكليف حال عدمها مع التمكّن منها.
الثالث قوله تعالى «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» فانّه حكاية عن الكفّار و أنّهم علّلوا دخولهم النّار بتركهم للصّلاة على ما تقدّم تفصيله سابقا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 345
و اعترض صاحب الحدائق أيضا ما يحمل على المخالفين المقرّين بالاسلام إذ لا تصريح فيه بالكفّار، و يدلّ عليه ما ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم من تفسيرها باتّباع الائمة، أى لم نك من أتباع الأئمة و هو مروىّ عن الصادق عليه السّلام حسبما عرفت سابقا و عن الكاظم عليه السّلام يعني أنّا لم نتولّ وصيّ محمّد من بعده و لم نصلّ عليهم.
و فيه إنّ الصلاة حقيقة شرعيّة في الأركان المخصوصة و ظاهر معنى المصلّين هو المقيمون للصلاة أى الأركان المخصوصة و الحمل على المعنى اللّغوى أى التابعين خلاف الظاهر المتبادر منه فلا وجه لحملها على المخالفين، و إنكار التصريح فيه بالكفار مورد تعجّب لأنّ قوله حكاية عنهم: و كنّا نكذّب بيوم الدّين، صريح في كونهم كافرين منكرين للمعاد فكيف يكونون مقرّين بالاسلام و أمّا الخبران المروّيان عن الصّادق و الكاظم عليهما السّلام فلا دلالة فيهما، لكونهما تفسيرا بالباطن كما قلناه عند شرح المتن فلا يوجبان رفع اليد عن الظاهر، و يشهد بذلك استدلال أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الكلام الّذى نحن في شرحه بظاهرها على وجوب المحافظة على الصلوات الخمس و تعاهدها.
الرابع قوله تعالى «فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى. وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى» .
و اعترض عليه أيضا بجواز حمل الصّلاة فيها على ما دلّت عليه الأخبار في الاية الاولى و أنّ اللفظ من الألفاظ المجملة المتشابهة المحتاج في تعيين المراد منها إلى التوقيف، فالاستدلال بها و الحال كذلك مردود بتصادم الاحتمالات و الدّخول تحت قوله «فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ» الاية، على أنّ ما ذكرنا من المعنى هو الموجود في تفسير عليّ بن إبراهيم كما لا يخفى على من راجعه.
و فيه أوّلا منع كون الاية من المتشابهات الّتي يتّبعها الّذين في قلوبهم زيغ، بل من المحكمات الّتي تؤخذ بظواهرها و هنّ امّ الكتاب، و ظاهر الاية كما ترى أنّه لم يصدّق بكتاب اللّه و رسوله و لا صلّى للّه و لكن كذّب بالكتاب و الرّسول و أعرض عن الايمان، و هذا وصف الكافر لا المخالف.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 346
و يدلّ على ذلك ما فى مجمع البيان قال: و جاءت الرّواية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بيد أبى جهل ثمّ قال له: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» * «1» «ثمّ أولى لك...» فقال أبو جهل: بأىّ شيء تهدّدنى لا تستطيع أنت و ربّك أن تفعلا بى شيئا و انّي لأعزّ أهل هذا الوادى، فأنزل اللّه سبحانه كما قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا.
و أمّا ما فى تفسير علىّ بن إبراهيم من أنه كان سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا إلى بيعة علىّ يوم غدير خم فلمّا بلّغ الناس و أخبرهم فى علىّ ما أراد أن يخبر رجع الناس فاتكى معاوية على المغيرة بن شعبة و أبى موسى الأشعرى ثمّ أقبل يتمطّى «2» نحوه و يقول: ما نقرّبا لولاية لعلىّ أبدا و لا نصدّق محمّدا مقالته، فأنزل اللّه جلّ ذكره «فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى» الايات، فصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المنبر و هو يريد البراءة منه فأنزل اللّه عزّ و جلّ «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ» فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فالجواب عنه أنّ ظاهر قوله سبحانه: فلا صدّق و لا صلّى و لكن كذّب و تولّى، يفيد أنّه لم يصدّق أصلا لا ظاهرا و لا باطنا، و لم يقم الصّلاة بل كذّب و أعرض ظاهرا و باطنا، و هذا شأن الكافر لا المخالف المصدّق ظاهرا فقط، و المكذّب المعرض باطنا فقط.
و على ذلك فاللّازم ترجيح الرّواية المفيدة لكون المراد بهذه الاية هو أبو جهل الكافر كما فى مجمع البيان على ما تفسير القمىّ المفيد كون المراد بها معاوية لأنّ فى الأخذ بالرّواية الأولى إبقاء الاية على ظاهرها و الأخذ بالثانى يوجب صرفها إلى خلاف ما هو الظاهر المتبادر.
و يؤيد كون المراد به أبو جهل أنّ هذه الاية فى سورة القيامة و هى مكيّة كما صرّح به فى مجمع البيان فى تفسير هذه السورة و رواه أيضا فى تفسير سورة هل أتى فانّه يقوى الظنّ بكون نزولها بمكّة فى حقّ أبى جهل لا فى غدير خم فى حقّ معاوية، و اللّه العالم.
______________________________
(1)- أى ويل لك، م
(2)- يتبختر افتخارا، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 347
الخامس قوله تعالى «وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» و هو نصّ صريح في المطلوب.
السادس قوله تعالى «وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ» ذمّ اللّه المكذّبين بتركهم للرّكوع.
قال في الصّافي: روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصّلاة فقالوا لا نحنى، و في رواية لا نجبّى فانّها سبّة، رواها في المجمع قال: فقال: لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود أقول: أى لا نحنى بالمهملة و النّون أى لا نعطف ظهورنا و على الرّواية بالجيم و الباء الموحّدة المشدّدة أى لا ننكبّ على وجوهنا و هما متقاربان.
و أما ما في تفسير عليّ بن إبراهيم عن الصّادق عليه السّلام قال: إذا قيل لهم تولّوا الامام لم يتولّوه، فهو تفسير بالباطن لا يوجب صرف اليد عن الظاهر كما لا يخفى و احتج القائلون بالعدم بوجوه، فصّلها صاحب الحدائق في مبحث غسل الجنابة من الكتاب المذكور لا بأس بذكر عبارته على تفصيلها ثمّ نتبع كلّ وجه وجه بما يتوجّه عليه من وجوه الكلام و ضروب الملام.
فأقول: قال في الحدائق: المشهور بين الأصحاب رضي اللّه عنهم بل كاد أن يكون إجماعا أنّه يجب الغسل على الكافر لأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع و لم ينقلوا في المسألة خلافا من أحد من الخاصة بل من العامة إلّا عن أبي حنيفة، قالوا: لكن لا يصحّ منه حال كفره لاشتراط الصحّة بالاسلام و لا يجبّه الاسلام و إنّ جبّ الصّلاة لخروجها بدليل خاص و ما ذكروه منظور عندي من وجوه:
الاول عدم الدّليل على التّكليف المذكور و هو دليل العدم كما هو مسلّم بينهم، و ما استدلّوا به هما سيأتى ذكره مدخول بما سنذكره.
أقول: و فيه انك قد عرفت الأدلّة المحكمة على هذا التكليف كما عرفت اندفاع الاعتراضات التي اعترض بها عليها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 348
الثاني الأخبار الدّالة على توقف التكليف على الاقرار و التصديق بالشهادتين منها ما رواه فى الكافى في الصحيح عن زرارة قال: قلت للباقر عليه السّلام: أخبرني عن معرفة الامام منكم واجبة على جميع الخلق؟ قال: إنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الناس أجمعين رسولا و حجّة للّه على خلقه في أرضه، فمن آمن باللّه و بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اتبعه و صدّقه فانّ معرفة الامام منّا واجبة عليه، و من لم يؤمن باللّه و رسوله و لم يتبعه و لم يصدّقه و يعرف حقّهما فكيف يجب عليه معرفة الامام، و هو لا يؤمن باللّه و رسوله و يعرف حقّهما الحديث.
و هو كما ترى صريح الدّلالة على خلاف ما ذكروه و أنه متى لم يجب معرفة الامام قبل الايمان باللّه و رسوله فبالطريق الأولى معرفة ساير الفروع التي هي متلقّاة من الامام، و الحديث صحيح السند باصطلاحهم صريح الدّلالة فلا وجه لردّه و طرحه و العمل بخلافه إلّا مع الغفلة عن الوقوف عليه.
قال: و إلى العمل بالخبر المذكور ذهب المحدّث الكاشاني حيث قال في الوافي بعد نقله ما صورته: و في هذا الحديث دلالة على أنّ الكفار ليسوا مكلّفين بشرايع الاسلام كما هو الحقّ، خلافا لما اشتهر بين أصحابنا، انتهى.
قال: و يظهر ذلك أيضا من الأمين الاسترابادى في الفوايد المدنيّة حيث صرّح فيها بأنّ حكمة اللّه اقتضت أن يكون تعلّق التكاليف بالناس على التدريج بأن يكلّفوا أوّلا بالاقرار بالشهادتين ثمّ بعد صدور الاقرار عنهم يكلّفون بساير ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و من الأحاديث الدّالة على ذلك صحيحة زرارة في الوافي ثمّ ساق الرّواية بتمامها.
قال: و قال أيضا بعد نقل جملة من أخبار الميثاق المأخوذ على العباد في عالم الذّرّ بالتوحيد و الامامة و نقل جملة من الأخبار الدّالة على فطرة الناس على التوحيد و أنّ المعرفة من صنع اللّه تعالى ما لفظه: أقول: هنا فوائد إلى أن قال:
الثالثة أنه يستفاد منها أنّ ما زعمه الأشاعرة من أنّ مجرّد تصوّر الخطاب من غير
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 349
سبق معرفة إلهامية بحقايق العالم، و بأنّ له رضا و سخطا و أنه لا بدّ له من معلّم من جهته ليعلّم الناس ما يصلحهم و ما يفسدهم كاف في تعلّق التكليف لهم ليس بصحيح، انتهى و اعترض عليه أوّلا بأنّ الاستدلال يتوقف على القياس بطريق الأولى، و هو ممن أنكره في مقدّمات الكتاب و أنكره أشدّ الانكار فكيف يجوز له التمسك به في هذا المقام مضافا إلى أنه مع القول بحجّيته كما هو الحقّ الحقيق بالاتباع الموافق للاية و للأخبار المسلّم عند كافّة علمائنا الأبرار حتى عند المستدلّ في مواضع عديدة و منها هذا الموضع يتوقّف على ثبوت الحكم في المقيس عليه و مسلميّته و قبوله و عدم مخالفته للضرورة، و الأمر في المقام ليس كذلك و ذلك فانّه لا خلاف و لا إشكال عند أحد حتّى عند المستدلّ حيث جعل محلّ نزاعه مع كافّة العلماء عدا أبي حنيفة في خصوص الفروع، و الامامة من الاصول لا من الفروع إجماعا منه و من علمائنا.
و ثانيا أنّ مقتضى هذه الصحيحة عدم التكليف بالامامة و ساير الفروع إلّا بتصديق اللّه و رسوله و هو حقيقة في التّصديق و الاذعان القلبي لا مجرّد الاقرار باللّسان، و على تقدير تسليم العموم فالمراد هنا التّصديق القلبي جزما لقوله عليه السّلام و يعرف حقّهما، فانّ المعرفة ليس ممّا يتوهّم فيه حصوله باللّسان خاصّة بل هو أمر قلبيّ جزما و إذعان نفسانيّ قطعا فحينئذ تدلّ هذه الصحيحة على أنّ المنافقين و منهم الخلفاء الثلاثة لم يكونوا مأمورين بالامامة و لا ساير الفروع، و مقتضى هذا أنّه لم يكن عليهم اثم في غصب الخلافة و ساير ما فعلوه بالنّسبة إلى أهل البيت من ضرب فاطمة عليها السّلام و غصب حقّها و إضرام النّار حول بيتها و إلقاء الحبل على رقبة مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام و غير ذلك ممّا فعلوه بالنّسبة إليهم و إلى غيرهم من البدع الّتي ابتدعوها في الدّين و تضييع دين خاتم النّبيين و سيّد المرسلين، و كذا ما فعله يزيد و ساير جنود المخالفين مع سبط الرّسول الأمين و ما فعله المخالفون بالنسبة إلى شيعتهم و غير ذلك، و في جميع ذلك لم يكونوا مأثومين أصلا بل هم و غيرهم من الكفّار الّذين لم يصدر منهم شيء من ذلك متساويين في عقاب واحد، و هو عدم الايمان باللّه و رسوله، و ذلك من حيث عدم تصديقهم للّه و رسوله و معرفة حقّهما فانّهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 350
و إن أقرّوا باللّسان إلّا أنّهم لم يصدقوهما قلبا و لم يعرفوا حقّهما، فبمقتضى الصّحيحة نظرا إلى عدم إيمانهم باللّه و رسوله و معرفتهم حقّهما كيف يكلّفهم اللّه تعالى بالامامة و ساير الفروع، و ليس في الصحيحة أنّ مجرّد الاقرار باللّسان كان في ذلك، و على هذا لم يكن لشكاويهم عليهم السّلام عن المخالفين و الخلفاء الثلاثة و طعنهم و لعنهم و إثبات الويل عليهم و تكفيرهم من الجهات الّتي ذكرت و تفسيقهم و كذا طعن علمائنا و منهم المستدلّ عليهم وجه، بل كان لغوا محضا و يلزمه أنّه لو فعل ذلك أو شيئا من ذلك غير المنافقين من ساير الكفّار الذين لم يقروا بالاسلام بالنّسبة إلى سادة الأنام و فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سبطيه عليهما السّلام و غيرهم من شيعتهم و أولادهم و ذراريهم بالقتل و النهب و الاسر أنّه لم يكن عليهم في ذلك شيء، و يكونون هم و ساير من لم يحدث أمثال هذا عنه في العقاب متساويين، و قطعيّ أنّ المستدلّ لا يقول به أيضا إذا القول بذلك من أشنع الشّنايع و أقبح الفضايح، و هل كان مراد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله في حقّ فاطمة عليها السّلام من آذاها فقد آذاني و غير ذلك بالنّسبة إليها و إلى غيرها من الحسنين و أمير المؤمنين عليهم السّلام و أولادهم خصوص المؤمنين المصدّقين للّه و لرسوله العارفين بحقّهما، أو المراد منه الأعمّ بل ملحوظ نظره خصوص المخالفين أ فيجوّز المستدلّ ذلك بالنّسبة إلى غيرهم فيحكم بجواز اسر غيرهم للسادات و العلويّات و الفاطميّات و قتلهم و نهب أموالهم و هتك عرضهم و غير ذلك من النّاس بل الأنبياء ما هذا إلّا شيء عجيب أقرب من الكفر لو لم يكن كفرا.
و ثالثا انّ المخالفين عند المستدلّ كفار حقيقة بالكفر المقابل للاسلام، فيلزمه جريان أحكامهم فيه و منها القول الذى استحدثه من عدم العقاب على ترك شيء من التكاليف ما هذا إلّا أمر غريب و شيء عجيب و بالجملة فانّ الصحيحة صريحة في عدم تكليف المخالفين بالامامة و لا بشيء من الفروع، و يفصح عنه قوله عليه السّلام:
فكيف يجب عليه معرفة الامام و هو لا يؤمن باللّه و رسوله، و يعرف حقّهما، و ذلك بالتّقريب الذى تقدّم، و نزيد حينئذ وجه دلالته على ذلك هنا فنقول: إنّ مقتضاها أنّ التّكليف بالامامة فرع الايمان باللّه و رسوله و هو على ما عرفوه و ورد به الخبر و قد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 351
ذكره في أوّل كتاب الصّلاة هو الاقرار باللّسان و التصديق بالجنان و العمل بالأركان و لا ريب في أنّ ذلك لم يتحقّق في حقّ الخلفاء الثلاث لعدم تصديقهم بالجنان، هذا أ فتجوّز أيّها العاقل أنّ الكفّار المحاربين للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الكاسرين لأسنانه و القاتلين للمسلمين في زمنه صلّى اللّه عليه و آله و المتصدّين لايقاع البلايا و المحن عليه أن يكونوا في جميع ذلك معذورين غير مأثومين و أنّ دعاءه صلّى اللّه عليه و آله عليهم في بعض الحروب كان عبثا و لغوا بلا منشاء و أنّ المنشأ هو عدم الاقرار مع أنّه لا وجه لدعائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليهم في ذلك الحين خاصّة دون غيرهم أولهم في غير تلك الحال.
و رابعا أنّ هذه الصحيحة معارضة بما في التهذيب في باب أنّ الجزية واجبة على جميع أهل الكتاب عن محمّد بن يعقوب الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صدقات أهل الذّمّة و ما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم و لحم خنازيرهم و ميتتهم، قال عليه السّلام: عليهم الجزية في أموالهم يؤخذ منهم من ثمن لحم الخنزير أو خمر كل ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم و ثمنه للمسلمين حلال، يأخذونه في جزيتهم.
و هذا الخبر ليس في سنده من يتوقّف فيه سوى إبراهيم بن هاشم و هو على المشهور حسن كالصحيح و عند المحقّقين من المتأخّرين كما ذكره المستدلّ و ارتضاه ثقة، و السّند المشتمل عليه إذا كان الباقي من رجال السّند لا يتوقّف فيه صحيح، هذا مع أنّه لم يقل بهذا الاصطلاح الذى تصدّى لنا سلبه متأخّر و أصحابنا شكر اللّه سعيهم، فالحديث حجّة عنده و لو كان راويه من أكذب البريّة و صرّح بكذبه الأئمة و تصحيح سنده منّا تبرعيّ و سدّ لباب فرار الخصم لو ادّعى مراعاة الصّحة فى السّند بعد وقوع المعارضة بينه و بين ما صحّ سنده، و مع صحّة سنده كما ترى صريح في ثبوت الوزر عليهم في استحلالهم ثمن ما لا يحلّ ثمنه في ملّة الاسلام و مع ثبوت الوزر عليهم في ذلك يثبت في المعاصى الّتي ذكرناها الّتي هى أشدّ منها و مقتضى الأولويّة الّتي تمسّك بها في اثبات مطلبه ثبوت الوزر عليهم في المعاصى التي هى أشدّ بطريق الأولويّة هذا، مضافا إلى عدم القول بالفصل
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 352
قال المحقّق الثاني المحقق الشيخ على بعد ذكر هذا الخبر:
فيه دلالة على أنّ الكافر يؤخذ بما يستحلّه إذا كان حراما في شريعة الاسلام و أنّ ما يأخذونه على اعتقاد الحلّ حلال علينا و إن كان ذلك الأخذ حراما عندنا.
و مراده بقوله: يؤخذ بما يستحلّه المؤاخذة عليه و ايجاب ذلك العقاب لا أخذ الجزية لتبادر الأوّل من العبارة.
و به اعترف من كتاب الزّكاة في مسألة استحباب ما سوى الزّكاة من الحقوق التي فى المال من الضّغث بعد الضغث و الحفنة بعد الحفنة يوم الجذاذ حيث إنه من القائلين بالاستحباب مستندا إلى رواية معاوية بن شريح قال: سمعت الصادق عليه السّلام يقول: في الزّرع حقّ تؤخذ به و حقّ تعطيه.
حيث قال: المتبادر من هذه العبارة العقاب على تركه، و هو كناية عن الوجوب و الالزام به شرعا.
و استشهد لذلك بما في المصباح المنير من قوله: و أخذ بذنبه، عاقبه عليه، و إن كان في الاستشهاد نوع تأمّل.
و هذه الصّحيحة مع صراحتها في ذلك معتضدة بعمل كافّة العلماء إلّا أبا حنيفة على اعترافه و معتضدة بأدلّة العقلاء الّتي ديدنه التمسّك بها فكيف يعارضها التي ذكرها المستدلّ.
مضافا إلى معارضة الكتاب العزيز لها قال اللّه تعالى «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ » و قد نهاهم اللّه عن القرب من المسجد الحرام و بمقتضى الصّحيحة لم يكن لهذا التّكليف وجه، و كذا تكليفهم بالجزية و أخذها منهم و ايجابها عليهم.
و يدلّ على أنّهم مكلّفون بشريعة الاسلام و فروعها زيادة على الايمان قوله عزّ من قائل: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 353
انظر ايّدك اللّه تعالى إلى ظهور هذه الاية في كونهم مكلّفين بتحريم ما حرّم اللّه و التّدين بدين الحق بل و صراحتها في ذلك، فانّهم لو لم يكونوا مكلّفين بذلك لما كان لإرداف قوله: لا يحرّمون ما حرّم اللّه، إلى آخره بقوله: لا يؤمنون باللّه و لا باليوم الاخر و إيراد ذلك في بيان منشاء مقابلتهم و أخذ الجزية منهم وجه، إذ كان عدم الايمان كافيا في ذلك، فيصير الإرداف المذكور لغوا بحتا و خاليا عن الفايدة بالمرّة تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
و قال سبحانه أيضا «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» انظر إلى صراحة هذه الاية أيضا فجعل العذاب المضاعف جزاء لهم على الأفعال المذكورة و من جملتها قتل النفس و الزّنا، فلو لا أنّ كلا من الامور المذكورة يصير سببا لضعف العذاب يوم القيامة أو المجموع من حيث المجموع لما كان لتأخير الاشارة أى لفظة ذلك عن جميع ذلك وجه، بل كان المناسب بل اللازم دفعا لتوهّم الاشتراك إردافها بالأمر الأوّل فقط و هو الشّرك ليفيد انفراده في السّببيّة.
و الايات الظاهرة في ذلك كثيرة، و العمل بالصّحيحة يوجب ردّها بأجمعها و أىّ عاقل يرضى بهذا و قد أمروا عليهم السّلام في أخبار كثيرة مستفيضة بالأخذ بما وافق الكتاب، و هذه الأخبار متلقّاة بالقبول حتّى عند المستدلّ فالصّحيحة الموافقة له و هى ما ذكرناها ترجّح على الصحيحة المخالفة له و هى ما ذكرها.
و بعد هذا كلّه نقول: الذى يفهم من الصحيحة غير ما فهمه المستدلّ و ذكره، بل المراد منها و اللّه العالم و قائله أعلم: أنّ مخاطبة الكفّار المنكرين غير المقرّين باللّه و رسوله إلى معرفة الامام الذى هو نائبه و خليفته و من تجب إطاعته و توجيه الخطاب بذلك إليهم يكاد أن يكون ذلك لغوا، و ذلك لا يستلزم عدم إرادتها و مطلوبيّتها منهم.
و نظير ذلك في الشّرع كثير منه تكليف النائم و كذا الغافل و كذا فاقد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 354
الطهور عند المحقّقين في الأخير و عند الكلّ في الأوّلين بقضاء الصلاة التي فاتتهما الذى هو عبارة عن تدارك ما فات اتفاقا، فلو لا أنّ الصلاة مرادة و مطلوبة منهم في تلك لأحوال لما كان للأمر بالقضاء معنى.
و لذلك مثال في العرف كأن يكون لشخص عبد لا يطيعه و يعصيه فلا يأمره باطاعة وكيله مثلا، و لا يوجه إليه الخطاب باطاعة الوكيل مع أنّه لو وجّهه لا يطيعه جزما، فانّ ذلك لا يوجب عدم المطلوبيّة منه و عدم إرادته على وجه الوجوب و اللزوم لينحصرا فيما دلّ عليه الأمر الخطابىّ.
فالمراد بقوله عليه السّلام: كيف يجب عليه معرفة الامام، أنّه كيف يوجّه الخطاب إليه.
و لذلك مثال آخر و هو أنّ الأمر بالشيء عند المحقّقين لا يستلزم الامر بما هو مقدّمة لوجوده، و يقولون بعدم حرمته من حيث إنّها مقدّمة و مع ذلك يقولون إنّ الخطاب بالاباحة و عدم الحرمة يكون لغوا و إن كان ما تضمّنه الخطاب حقّا، و يكون مثله كبيان الواضحات مثل أنّ النّائم لا يبصر و الأسود الزّنجى لا يعلم الغيوب و أمثال ذلك، فعدم توجّه الخطاب من حيث القبح في الصدور لا يستلزم عدم ما تضمّنه لو صدر و قبحه و ذلك واضح لا يخفى.
قال صاحب الحدائق: و منها ما رواه الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث الزّنديق الذى جاء إليه مستدّلا عليه باى القرآن قد اشتبهت حيث قال عليه السّلام:
فكان أوّل ما قيّدهم به الاقرار بالوحدانيّة و الرّبوبيّة و شهادة أن لا إله إلّا اللّه، فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالاقرار لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنّبوة و الشهادة بالرّسالة، فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ، الحديث.
و فيه بعد تسليم حجّيته بحسب السند حيث إنّه ليس من أخبار الكتب التي يدعى قطعيّتها، أنّ التكليفات في صدر الاسلام و أوّل البعثة صدرت تدريجا و لم ينسخ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 355
الشريعة السابقة دفعة، بل إنّما نسخ شيئا فشيئا، و ليس ذلك من محلّ النزاع في شيء، فانّه لا ريب أنّهم متعبّدون بشريعتهم السابقة، و لكن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينسخها عنهم دفعة بل أبقاهم في أوّل الشريعة على شريعتهم و نسخ منها شيئا فشيئا فأوجب عليهم بعض التكاليف تدريجا، و ذلك لا يستلزم عدم كونها مكلّفين بالتكاليف في شريعتنا بعد انتساخ شريعتهم، قال:
و منها ما رواه الثقة الجليل علىّ بن إبراهيم القمّى في تفسيره عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى «وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» حيث قال عليه السّلام:
أ ترى أنّ اللّه عزّ و جلّ طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به حيث يقول: و ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزّكوة و هم بالاخرة هم كافرون، إنّما دعى اللّه العباد للايمان به فاذا آمنوا باللّه و رسوله افترض عليهم الفرض.
قال المحدّث الكاشاني في كتاب الصافي بعد نقل الحديث المذكور: أقول: هذا الحديث يدلّ على ما هو التحقيق عندي من أنّ الكفّار غير مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ما داموا باقين على الكفر، انتهى.
و فيه بعد تسليم السّند الحمل على التّقيّة لكونه مذهب أبي حنيفة كما اعترف، و هو قد كان في زمان مولينا الصادق عليه السّلام و من تلامذته، و مذهبه كان مشهورا بينهم في زمانه.
و الشاهد على الحمل على التّقيّة و تعيّنه أنّه مع عدم هذا الحمل يلزم مناقضة مضمون الخبر لنصّ الاية، فانّها صريحة فى أنّ المراد بالمشركين هم الكفّار الذين لا يؤمنون بالاخرة حيث وصفهم فيها بقوله: «وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ».
و حينئذ فمقتضى الخبر أنّ مورد الاية إمّا المسلمون أو الذين لا نعرفهم أولا مورد لها، و الأخيران باطلان جزما و كذلك الأوّل لأنّه يلزم أن يكون المسلمون و المؤمنون مشركين كافرين بيوم الاخر، فيحكم بنجاستهم و كفرهم و عدم قربهم من المسجد الحرام و غير ذلك من أحكام الكفر، كما فعل ذلك المستدلّ في الحكم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 356
بكفر المخالفين من حيث إطلاق الكفر عليهم في الأخبار و جعلهم بذلك كفارا حقيقة بالكفر المقابل للاسلام فاذا كان مؤمن لا يؤتى الزّكاة يلزم الحكم بكفره و شركه و نجاسته و استحقاقه للخلود في النار و هو قطعىّ الفساد عند المستدلّ و عند الكلّ، هذا.
مع أنّ الشرك و الكفر بالاخرة الواقعين في الاية وصفا لمن لا يؤتي الزكاة حقيقة فيمن صدر عنه هذان الوصفان، و ليس المسلم كذلك جزما و وجدانا، و حينئذ فالعمل بالخبر يستلزم إلغاء الاية و عدم وجود مصداق لها أو القول بكفر من لا يؤت الزّكاة من المؤمنين و شركه و ترتّب أحكامهما عليه و لا أراه يقول به.
و بالجملة ظاهر الخبر مناقض لصريح الاية و قد قالوا في أخبار كثيرة: ما خالف الكتاب فاضربوه على الحائط، و أىّ مخالفة أشدّ من هذه المخالفة.
و لو قيل بكون هذا الخبر تفسيرا لها و وجوب المصير إليه لزم منه طرح تلك الأخبار و يلزم منه أن لا يوجد مصداق تلك الأخبار الامرة لضرب المخالف للقرآن على الحائط إذ كلّ خبر مخالف يحتمل أن يكون تفسيرا للقرآن و إن لم يرد في تفسيره فأىّ خبر يعلم منه المخالفة للقرآن.
و بمقتضى جميع ما ذكر يتعيّن الحمل على التقيّة الّتي هي باعتراف المستدلّ رأس كلّ آفة و بليّة.
مع أنّه يحتمل أن يكون المراد بهذا الخبر ما قدّمناه في الاعتراض على الخبر الأوّل من أنّ عدم توجّه الخطاب إليهم لا ينافي مطلوبيّته منهم، أو ما قدّمناه في الاعتراض على الخبر الثاني من أنّهم في صدر الاسلام و أوّل البعثة لم يؤمروا بذلك، و إنّما كلّفوا بالتكاليف شيئا فشيئا، و إليه يشير قوله عليه السّلام في آخر الخبر: إنّما دعا اللّه العباد للايمان، و على ذلك فلا دلالة فيه على ما رامه.
قال صاحب الحدائق:
و مما يدلّ على ذلك ما ورد عن الباقر عليه السّلام في تفسير قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» حيث قال: كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص في
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 357
منازعتهم، إنّما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول.
أقول: تمام الحديث ما رواه في الكافي عن بريد العجلى قال: تلا أبو جعفر عليه السّلام أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول و اولى الأمر منكم فان خفتم تنازعا في الأمر فارجعوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى اولى الأمر منكم، ثمّ قال: كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص في منازعتهم إنما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول.
و هو كما ترى لا دلالة فيه على ما رامه المستدلّ بوجه، بل محصّل معناه أنّه كان في مصحفهم عليهم السّلام فارجعوه مكان فردّوه و يحتمل أن يكون تفسيرا له كما أنّ قوله فان خفتم تنازعا للأمر تفسير لقوله فان تنازعتم في شيء، و يستفاد منه أيضا أنّه كان في مصحفهم و إلى اولى الأمر منكم، فيدلّ على أنّه لا يدخل أولو الأمر في المخاطبين بقوله: إن تنازعتم، كما زعمه المفسّرون من المخالفين، فقوله: كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص فى منازعتهم، يريد به أنّ اللّه سبحانه أمر بطاعتهم أولا بقوله: و أطيعوا الرّسول و اولى الأمر منكم، و مع ذلك فلا يجوز إدخالهم في المخاطبين بقوله: فان تنازعتم إذ وجوب الاطاعة لا يجتمع مع التّرخيص في المنازعة فلا بدّ أن يكون المقصود بالخطاب غيرهم، و هم الذين امروا أوّلا باطاعة اللّه و الرّسول و اولى الأمر، فامروا ثانيا عند التّنازع بالرّد و الرّجوع إليهم أيضا، فافهم جيّدا.
الثالث لزوم تكليف ما لا يطاق إذ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تصوّرا و تصديقا عين تكليف ما لا يطاق، و هو ممّا منعته الأدلة العقليّة و النّقلية لعين ما تقدّم في حكم معذورية الجاهل، و إليه يشير كلام الذخيرة في مسألة الصلاة مع النّجاسة عامدا حيث نقل عن بعضهم الاشكال في إلحاق الجاهل بالعامد، و قال بعده:
و الظاهر أنّ التكليف متعلّق بمقدّمات الفعل كالنّظر و السعى و التعلّم، و إلّا لزم تكليف الغافل أو التكليف بما لا يطاق، و العقاب يترتّب على ترك النظر «إلي أن قال» و لا يخفى أنّه يلزم على هذا أن لا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام و إنّما يكونون
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 358
مخاطبين بمقدّمات الأحكام، و هذا خلاف ما قرّره الأصحاب رضي اللّه عنهم و تحقيق المقام من المشكلات.
قال صاحب الحدائق بعد نقل هذا الكلام:
إشكال بحمد اللّه سبحانه فيما ذكره بعد ورود الأخبار بمعذوريّة الجاهل حسبما مرّ، و ورودها بخصوص الكافر كما نقلنا هنا، و لكنّهم يدورون مدار الشّهرة في جميع الأحكام و إن خلت عن الدّليل في المقام سيّما مع عدم الوقوف على ما يضادّها من أخبار أهل الذكر عليهم السّلام.
و فيه أوّلا أنّ هذا الدّليل أخصّ من المدّعى لا يشمل من تصوّر أحكام الاسلام و عرفه.
و ثانيا إن كان مراده بذلك الجاهل المستضعف الذى لا يعرف الاسلام، و لم يسمع صيته أصلا فلا كلام فيه.
و إن أراد من سمع صيت الاسلام و عرفه فلا نسلم أنّه جاهل تصوّرا و تصديقا بل لا ريب أنّه عالم بالشّرايع الموظفة و لو إجمالا.
نعم ليس عالما بذلك تفصيلا فهو متصوّر لما في الاسلام من شريعة و أحكام كما أنّا مثلا عارفون بدين أهل الكفر و أنّ لهم شرايع و أحكاما و إن كنّا جاهلين بذلك تفصيلا، و هذا القدر من العلم يكفى.
و لذلك انّ أصحابنا لا يعذرون الجاهل في الأحكام نظرا إلى علمه بذلك إجمالا و لو لم يكف هذا المقدار لزم أن لا يكلّف المقرّ باللّه و رسوله بمعرفة الامام و الفروع أصلا حتّى الصّلاة و الزّكاة و الحجّ و لا يعاقب بتركها أيضا، و يكون الأمر بالمعرفة الواردة في الأخبار ليس فيه فايدة، و من الفروع وجوب تحصيل المعرفة بالأحكام و على ما ذكره يلزم أن لا يكونوا مكلّفين، و هو ممّن يقول بوجوب تحصيل المعرفة على المسلمين.
و على قوله لم يكن فرق بينها و بين ساير الواجبات و المحرّمات إذ الجهل الذى هو علّة لعدم تعلّق التكليف بما وراء المعرفة من حيث استلزامه التكليف بما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 359
لا يطاق جاء في نفس المعرفة أيضا فأنّى له بالفارق، هذا.
مع أنّه لو صحّ ما ذكر يلزم قبح التكليف بالاصول أيضا لاتّحاد العلّة بل ازديادها فيها، و ذلك فانّ من تيقّن بطلان الاسلام فضلا عن أن يجهله مكلّف بالاصول جزما فتكليف من هو جاهل بها أولى كما لا يخفى.
و يلزم على ذلك خروج اكثر الكفار لو لم يكن كلّهم عن التكليف بالاسلام لاستحالة تكليف الجاهل فضلا عن العالم، و لا ريب أنّ كلّ من دان بدين إلّا من شذّ متيقّن بدينه جازم بصحّته، ففي حال الجزم و اليقين كيف يكلّف بالعلم ببطلان ما علمه و فساد ما تيقّن به.
و بذلك يظهر أنّهم ليسوا مكلّفين بالاصول و الحال أنّ المستدلّ لا يقول به، و ليت شعرى كيف لا يلتزم به مع اقتضاء دليله ذلك و جريانه فيه بل أولى بالجريان كما عرفت، هذا.
و قد يقرّر هذا الدّليل أعني لزوم التكليف بما لا يطاق بوجه آخر و هو أنّ الكافر غير قادر على الاتيان بالعبادة الصّحيحة المشروطة بالايمان.
و اجيب عنه بأنّا نقول انّهم مكلّفون بالفروع حال الكفر لا بشرط الكفر فالكفر ظرف للتّكليف لا للمكلّف فلا يلزم التكليف بما لا يطاق.
الرابع الأخبار الدّالة على وجوب طلب العلم كقولهم عليهم السّلام طلب العلم فريضة على كلّ مسلم فانّ موردها المسلم دون مجرّد البالغ العاقل.
و فيه أنّ الاستدلال بتلك الأخبار موقوف على القول بحجيّة مفهوم اللّقب و هو مع كونه خلاف التّحقيق لا يقول به المستدلّ أيضا فلا وجه لاستدلاله بها على المدّعى.
الخامس اختصاص الخطاب القرآنى بالذين آمنوا، و ورود يا أيّها النّاس في بعض و هو الأقلّ يحمل على المؤمنين حملا للمطلق على المقيّد و العام على الخاص كما هو القاعدة المسلّمة بينهم. و الجواب ما قدّمنا في الدّليل السّابق، و هو أنّ دلالته من حيث مفهوم اللّقب الذى ليس بحجّة عنده و عند المحقّقين.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 360
تكملة:
هذا الكلام الشّريف له عليه السّلام حسبما أشرنا إليه مروىّ في الكافي عن على ابن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن أبي حمزة عن عقيل الخزاعى أنّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه كان إذا حضر الحرب يوصى للمسلمين بكلمات يقول:
تعاهدوا الصّلاة و حافظوا عليها، و استكثروا منها، و تقرّبوا بها فانّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، و قد علم ذلك الكفّار حين سئلوا، ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلّين و قد عرف حقّها من طرقها و أكرم بها من المؤمنين الذين لا يشغلهم عنها زين متاع و لا قرّة عين من مال و لا ولد يقول اللّه عزّ و جلّ: «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ»، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منصبا «1» لنفسه بعد البشرى له بالجنّة من ربّه فقال عزّ و جلّ: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها، الاية، فكان يأمر بها أهله و يصبر عليها نفسه.
ثمّ إنّ الزكاة جعلت مع الصلاة قربانا لأهل الاسلام على أهل الاسلام، و من لم يعطها طيب النّفس بها يرجو بها من الثّمن ما هو أفضل منها فانّه جاهل بالسنة مغبون الأجر ضالّ العمر طويل النّدم بترك أمر اللّه عزّ و جلّ و الرغبة عمّا عليه صالحو عباد اللّه يقول اللّه عزّ و جلّ: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى» من الأمانة فقد خسر من ليس من أهلها و ضلّ عمله عرضت على السّماوات المبنيّة و الأرض المهاد و الجبال المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم و لو امتنعن «امتنعت خ ل» من طول أو عرض أو عظم أو قوّة أو عزّة امتنعن، و لكن أشفقن من العقوبة.
ثمّ إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الاسلام، و هو قوام الدّين و الأجر فيه عظيم مع العزّة و المنعة و هو الكرّة فيه الحسنات و البشرى بالجنّة بعد الشّهادة و بالرّزق غدا عند الرّب و الكرامة يقول اللّه عزّ و جلّ: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ»، الاية.
______________________________
(1)- أى متعبا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 361
ثمّ إنّ الرّعب و الخوف من جهاد المستحقّ للجهاد و المتوازرين على الضلال ضلال في الدّين و سلب للدّنيا مع الذلّ و الصّغار، و فيه استيجاب النار بالفرار من الزّحف عند حضرة القتال يقول اللّه عزّ و جلّ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ».
فحافظوا على أمر اللّه عزّ و جلّ في هذه المواطن الّتي الصّبر عليها كرم و سعادة، و نجاة في الدّنيا و الاخرة من فظيع الهول و المخافة، فانّ اللّه عزّ و جلّ لا يعبأ بما العباد مقترفون ليلهم و نهارهم لطف به علما، و كان «كل خ ل» ذلك في كتاب لا يضلّ ربّى و لا ينسى، فاصبروا و صابروا و اسألوا النّصر، و وطنوا أنفسكم على القتال و اتّقوا اللّه عزّ و جلّ، فانّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذينهم محسنون.
بيان:
رواه المحدّث العلامة المجلسيّ في البحار من الكافي كما رويناه و قال بعد نقله:
قوله: من طرقها، لعلّه من الطروق بمعنى الاتيان باللّيل أى واظب عليها في اللّيالى و قيل: أى جعلها دأبه و صنعته من قولهم هذا طرقة رجل أى صنعته.
و لا يخفى ما فيه و لا يبعد أن يكون تصحيف طوّق بها على المجهول أى ألزمها كالطّوق بقرينة اكرم بها على بناء المجهول أيضا.
قوله على أهل الاسلام، الظاهر أنّه سقط هنا شيء قوله: من الأمانة، لعلّه بيان لسبيل المؤمنين، أى المراد بسبيل المؤمنين ولاية أهل البيت عليهم السّلام و هي الامانة المعروفة.
قوله عليه السّلام: و هو الكرّة، أى الحملة على العدوّ و هي في نفسها أمر مرغوب فيه اذ ليس هو الّا مرّة واحدة و حملة فيها سعادة الأبد، و يمكن أن يقرأ الكرّة بالهاء، أى هو مكروه للطباع فيكون إشارة إلى قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» ، و لعلّه أصوب.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 12، ص: 362
و قال الجوهرى: زحف إليه زحفا، مشى و الزّحف الجيش يزحفون إلى العدوّ، و قوله: لطف به، الضمير راجع إلى الموصول في قوله: ما العباد مقترقون.
الترجمة:
بدرستى كه خداى تعالى مخفى نمى ماند بر او چيزى كه بندگان كسب نمايند آنرا در شب و روز خودشان، لطيف خبير است به كار ايشان، و محيط است با علم خود بان، أعضاء شما شاهدان اويند، و جوارح شما لشكران او، و قلبهاى شما جاسوسان او، و خلوتهاى شما آشكار است در نظر آن.