منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 176
الفصل السابع عشر:
كتاب ربّكم مبيّنا حلاله و حرامه، و فضائله و فرائضه، و ناسخه و منسوخه، و رخصه و عزائمه، و خاصّه و عامّه، و عبره و أمثاله، و مرسله و محدوده، و محكمه و متشابهه، مفسّرا جمله، و مبيّنا غوامضه، بين مأخوذ ميثاق علمه، و موسّع على العباد في جهله، و بين مثبت في الكتاب فرضه، و معلوم في السّنّة نسخه، و واجب في السّنّة أخذه، و مرخّص في الكتاب تركه، و بين واجب لوقته، و زايل في مستقبله، و مباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، و بين مقبول في أدناه، و موسّع في أقصاه. (2094- 1945)
اللغة:
و (الفضايل) جمع الفضيلة و هو الخير، و هو خلاف النقيصة و (الفرائض) جمع الفريضة بمعنى المفروضة، و هي الأحكام الواجبة يقال: فرض اللّه الأحكام أى أوجبها و (النّسخ) إزالة ما كان ثابتا و (الرّخص) جمع الرّخصة كغرف و غرفة و هو التّسهيل في الأمر و التّيسير يقال: رخص الشّرع لنا في كذا ترخيصا و ارخص إرخاصا إذا يسّره و سهله و (العزائم) جمع العزيمة و فسرها أهل اللغة بالفريضة و الظاهر بقرينة المقابلة بالرّخص إرادة الفرائض المشتملة على الجدّ و الضّيق و (العبر) جمع عبرة و هو الاعتبار و الاتعاظ بما مضى و (المحكم) من اللّفظ ما اتّضح دلالته و (المتشابه) خلافه و (غمض) الحقّ غموضا من باب قعد خفى و نسب غامض لا يعرف و (المباين) بفتح الياء مفعول من باين بمعنى المفاصل و (ارصد له) أى أعدله.
الاعراب:
و كتاب منصوب على أنّه عطف بيان لما، و مبيّنا حال من فاعل خلّف، و هو العامل فيه، و مفسّرا حال بعد حال، و الضّماير كلها راجعة إلى الكتاب المشتمل على الأحكام المذكورة، و بين مأخوذ متعلق بمقدّر حال من الكتاب، أى حال كون ذلك الكتاب دائرا بين مأخوذ، و مباين بالجرّ عطف على سابقه أى بين مباين بين محارمه.
و ما توهّمه الشّارح المعتزلي و تبعه غيره من أنّ الواجب كونه بالرّفع لا بالجرّ نظرا إلى أنّه ليس معطوفا على ما قبله، بدليل أنّ جميع ما قبله يستدعي الشي ء و ضدّه، أو الشي ء و نقيضه و قوله و مباين بين محارمه لا نقيض و لا ضدّ له، لأنّه ليس القرآن العزيز على قسمين أحدهما مباين بين محارمه، و الآخر غير مباين، فانّ ذلك لا يجوز، فوجب رفع مباين و أن يكون خبر مبتدأ محذوف فيه أنّه إن أراد أنّ كلمة بين يستدعي الاضافة إلى اثنين فصاعدا نقيضا كان أحدهما للآخر أو ضدّا نظرا إلى عدم تماميّة المعنى بدونهما، ففيه منع ذلك، لما قد عرفت في الفصل السّابق من تجويزهم إضافته إلى شي ء واحد يقوم مقام شيئين كما في قوله تعالى: عوان بين ذلك، و قول امرء القيس: بين الدّخول فحومل، حيث
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 177
ردّوا من جوّز العطف بعدها بالفاء، استدلالا بالبيت المذكور بأنّ الدّخول اسم لمواضع شتى.
و إن أراد أنّ جميع ما ذكره عليه السّلام قبل قوله و مباين ممّا اقحم فيه كلمة بين قد ذكر عليه السّلام فيه الشي ء و ضدّه أو الشي ء و نقيضه، و مباين لو كان مجرورا بالعطف للزم أن يذكر له ضدّا و نقيض و ليس فليس، ففيه أنّ كون ما قبله على النّسق المذكور لا يستدعي كون ذلك على ذلك النّسق أيضا، ألا ترى إلى قوله عليه السّلام بعد ذلك بين محارمه حيث لم يذكر له ضدّ و لا نقيض فان قلت: إنّ المحارم لما لم تكن شيئا واحدا بل بعضها من قبيل الكبائر و بعضها من قبيل الصّغائر كما بينها بقوله عليه السّلام: من كبير أوعد عليه نيرانه أو صغيراه لا جرم حسن الاكتفاء بها في مقام الاضافة قلت: أوّلا إنّ هذا هدم لما أسّسته، و ثانيا أنّ المباين ليس أيضا شيئا واحدا شخصيّا، بل هو مثل المحارم، و بعبارة اخرى الحرمة المباينة بين المحارم تابعة للمحارم في تعدّد الأفراد فافهم جيّدا و أمّا قوله: لأنّ القرآن العزيز ليس على قسمين، أحدهما مباين، و الآخر غير مباين، ففيه ان ذلك مما تضحك منه الثكلى، ضرورة أنّ الكتاب ليس منحصرا في المباين، بل بعضه جدل و بعضه قصص و بعضه مثل و بعضه أحكام و بعضه ترغيب و بعضه ترهيب، كما أنّ بعضه مباين بين محارمه إلى غير ذلك ممّا اشتمل عليه، و بالجملة فقد تلخص ممّا ذكرنا كله أنّ مباين مجرور معطوف على ما قبله و ليس بمرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، مضافا إلى أن جعله مرفوعا خلاف ما يستفاد «1» من سياق كلامه عليه السّلام سابقا و لاحقا.
______________________________
(1) يعنى ان توسط قوله و مباين بين قوله عليه السّلام بين مأخوذ ميثاق علمه الى قوله و زايل فى مستقبله و بين قوله عليه السّلام و بين مقبول فى ادناه اه يفيد كونه جاريا على ذلك النّسق بان يكون مجرورا بكلمة بين أيضا جريا للكلام على نسق واحد، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 178
المعنى:
و لمّا كان شرع نبينا صلّى اللّه عليه و آله مستمرّا إلى يوم القيامة وجب له أن يخلّف لمن يليه ما يكون ذكرى و تذكرة في هذه المدّة المتطاولة و قد خلّف الثقل الأكبر مضافا إلى الثقل الاصغر و هو حبل ممدود من السماء إلى الارض ينجى به من المهالك و من فارقه فهالك و بيّن فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام و جميع ما يحتاج إليه النّاس كملا، و كما جعله اللّه سبحانه خاتما للأنبياء فقد جعل كتابه خاتما للكتب، فلا كتاب بعده أحلّ فيه حلالا و حرّم حراما، فحلاله حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة فيه شرعكم و خبر من قبلكم و خبر من بعدكم و هو (كتاب ربّكم) و جعله النبي صلّى اللّه عليه و آله علما باقيا و طريقا قائما بين امّته حالكونه (مبيّنا حلاله و حرامه) كما قال تعالى:
«أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» و قد يجعل الحلال أعمّ من المباح و المكروه ليكون ذلك مع قوله عليه السّلام: (و فضائله و فرائضه) إشارة إلى الأحكام الخمسة التي عليها مدار الفقه، ليكون الفضائل إشارة إلى المندوبات، و الفرائض إشارة إلى الواجبات، و ذلك مثل قوله سبحانه:
«فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 180
فانّ ذكر اللّه سبحانه بعد قضاء الصّلاة و فعلها داخل في المندوبات، و إقامة الصّلاة بعد الاطمينان موقوتة مفروضة (و ناسخه و منسوخه) و المراد بالأوّل الحكم الرّافع للحكم الثّابت بالنصّ المتقدّم، و يسمّى الثّاني و هو الحكم المرفوع منسوخا، و مثال ذلك قوله تعالى:
«وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «1» فانّه منسوخ بقوله تعالى:
«وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ» و بقوله: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» كما يدلّ عليه ما رواه في الكافي عن الحسن بن الجهم قال: قال لى أبو الحسن الرّضا عليه السّلام: يا با محمّد ما تقول في رجل يتزوّج نصرانيّة على مسلمة؟ قلت جعلت فداك و ما قولي بين يدك، قال: لتقولنّ فانّ ذلك تعلم به قولي، قلت: لا يجوز تزويج نصرانية على مسلمة و لا على غير مسلمة، قال: و لم؟ قلت: يقول اللّه عزّ و جلّ «وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» قال: فما تقول في هذه الآية «وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» قلت: فقوله: و لا تنكحوا المشركات نسخت هذه الآية فتبسّم عليه السّلام ثمّ سكت (و رخصه و عزائمه) الظاهر أنّ المراد بالعزائم الاحكام التي لا يجوز مخالفتها بحال من الأحوال، مثل وجوب الاعتقاد و الاقرار بالتّوحيد كما قال تعالى:
______________________________
(1) اى احل لكم العقد على المحصنات كما يدل عليه سابق الاية و هو قوله احل لكم الطيبات و طعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم حل لهم و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين الاية، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 181
«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» و بالرّخص ما يجوز مخالفته و اذن في تركه في بعض الأحيان لقيام الدّاعي إلى المخالفة كأكل الميتة في حال المخمصة على ما يدلّ عليه الآية الشّريفة «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» و قريب منه ما قيل: من انّ الرّخص ما اذن في فعله مع قيام السّبب المحرّم لضرورة أو غيرها، و العزائم ما كان من الاحكام الشّرعيّة جاريا على وفق سببه الشّرعى أقول: و ذلك مثل صوم شهر رمضان، فانّه رخصة بمعنى أنّه يجوز تركه في حقّ الحامل المقرب و المرضعة القليلة اللّبن و الشيخ و الشيخة، و يجب تركه في حقّ المريض و المسافر، فيكون الافطار عزيمة لهما و «الصوم ظ» عزيمة في حقّ غيرهم من الجامعين لشرائط الوجوب، قال تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» فانّ الصّيام عزيمة في حقّ المؤمنين، و رخص في تركه لمن كان مريضا أو على سفر فيجب له الافطار كما رخص جوازا في حقّ الذين لهم طاقة و ليس لهم وسع من الحامل المقرب و نحوها ممّن ذكرناه، و إليه الاشارة بقوله: و على الذين يطيقونه، فانهم مرخّصون في الافطار مخيرون بين الصّوم و الفدية و ان يصوموا خير لهم إن كانوا يعلمون (و خاصّه و عامّه) العام هو اللّفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه أو جزئياته، و الخاص خلافه و الأوّل مثل قوله تعالى:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 182
«أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ»* و قوله: «أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ»* و الثّاني مثل قوله: «وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ» و يحتمل أن يكون المراد بالعام ما لفظه موضوع للعموم و اريد منه ذلك أيضا:
كقوله تعالى: «وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»* و بالخاص ما لم يرد به ذلك و إن كان اللفظ موضوعا له، مثل قوله تعالى حكاية عن بلقيس: «وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» فانّ لفظه عامّ و معناه خاصّ، لأنّها لم تؤت شيئا كثيرا منها الذكر و اللحية و قوله:
«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»* لأنّ معناه خاصّ، لأنّهم إنّما فضلوا على أهل زمانهم بأشياء خصّهم بها (و عبره و امثاله) العبر جمع العبرة مأخوذة من العبور الذي هو انتقال الجسم من مكان إلى آخر، و معناها انتقال ذهن الانسان من شي ء إلى آخر بسبب من الأسباب، كانتقاله من المصائب و الآلام الواقعة على الغير إلى نفسه فيقدّرها كانّها نازلة به، فيحصل له بذلك رغبة عن الدنيا و ميل إلى العقبى، قال تعالى:
«فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى » «1» و هذا أكثر مواقع استعمالها، و قد يستعمل في الانتقال من آثار الصّنع و القدرة إلى وجود الصّانع و صفات كماله، قال سبحانه: «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ»
______________________________
(1) يعنى اخذ فرعون بعقوبة الاخرة و الدنيا و فيه عبرة لمن فى قلبه خوف و خشية و لم يتغشاه غطاء و قساوة منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 183
و قال أيضا: «وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» و أمّا الأمثال فكقوله عزّ من قائل: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» و قوله: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ».
(و مرسله و محدوده) المراد بالمرسل هو المطلق، و هو على ما عرفه أكثر الأصوليّين اللفظ الدّالّ على شايع في جنسه، و فرق الشّهيد في التّمهيد بينه و بين العام، بأن المطلق هو الماهيّة لا بشرط شي ء و العام هو الماهيّة بشرط الكثرة المستغرقة، و التّفصيل في ذلك موكول إلى الأصول، و المراد بالمحدود هو المقيد مثال الأوّل قوله تعالى:
«وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» و مثال الثّاني قوله: «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها- الآية» المجاز من باب اطلاق اسم السبب على المسبب (و محكمه و متشابهه) قال تعالى:
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ» و المحكم مأخوذ من حاكمت و أحكمت بمعنى رددت و منعت، و الحاكم يمنع
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 184
الظّالم من الظلم، و بناء محكم أى وثيق يمنع من تعرّض له، و سمّيت الحكمة حكمة لمنعها عمّا لا ينبغي، و التّشابه أن يكون أحد الشّيئين شبيها بالاخر بحيث يعجز الذّهن عن التّميز بينهما، قال تعالى:
«إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا» و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك، و لما كان من شأن المتشابهين عجز الانسان عن التّميز بينهما سمّي كلّ ما لا يهتدى الانسان إليه بالمتشابه إطلاقا لاسم السّبب على المسبّب هذا.
و عرّفهما المحقّقون من العامة و الخاصّة بأنّ اللفظ الموضوع لمعنى إمّا أن يحتمل غير ذلك أم لا، الثّاني النّص، و على الأوّل فإمّا أن يكون أحدهما راجحا و الآخر مرجوحا أم لا، بل يكون احتماله لهما على السّواء، فعلى الأوّل الرّاجح الظاهر، و المرجوح المأوّل، و الثّاني المشترك أو المجمل، و القدر المشترك بين النّص و الظاهر هو المحكم، و بين المجمل و المأوّل هو المتشابه.
فقد ظهر من ذلك أنّ المحكم ما اتّضح دلالته، و المتشابه خلافه و قد حقّقنا الكلام فيهما بما لا مزيد عليه في حواشينا على القوانين مثال الأوّل قوله:
«إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، وَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» و مثال المتشابه قوله: «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» و قوله: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » و التشابه في الاولى من جهة الاشتراك، و في الثّانية من تعذّر الحقيقة و اختفاء قرينة المجاز، و من المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السّور مثل الم و حم و طه و نحوها و قوله عليه السّلام (مفسرا جمله) المراد بالجمل الألفاظ المجملة المحتملة المحتاجة إلى التّفسير و البيان، مثل ثلاثة قروء في الآية السّابقة المردّدة بين الطهر و الحيض، و منه على مذهب البعض قوله:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 185
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ، و حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ ، وَ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» و أمثالها ممّا اضيف فيه التحليل و التّحريم إلى الأعيان «1» فانّ إرادة الحقيقة فيها غير ممكنة، و المجازات متعدّدة، و اللفظ مجمل بالنّسبة إليها و محتمل لكلّ منها (و مبينا غوامضه) أى معضلاته و مشكلاته.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى تقسيم الكتاب بنحو آخر بقوله: (بين مأخوذ ميثاق علمه) أي على كلّ أحد لا يقبل العذر فيه، و ذلك مثل معرفة الصّانع و توحيده قال تعالى:
«وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى - الآية» (و) بين (موسّع على العباد في جهله) كالمتشابهات التي جعل علمها مخصوصا بالرّاسخين في العلم، و غيرهم منها في سعة كما قال:
(وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (و بين مثبت في الكتاب فرضه، و معلوم في السنة نسخه) هذا الكلام نصّ و صريح في وقوع نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة، فيدلّ على جوازه بطريق أولى، لأنّ الوقوع أخصّ من الامكان، و هو مذهب أصحابنا رضي اللّه عنهم و المتكلمين من المعتزلة و الأشاعرة، و إليه ذهب أصحاب أبي حنيفة و مالك، و خالف فيه الشافعي و أكثر الظاهريّة على المحكى عنهم في النّهاية و الحنبلى في إحدى الرّوايتين عنه، و المسألة معنونة في الاصول و يشهد بوقوعه قوله:
______________________________
(1) لا يخفى ان الاية الاولى اعنى قوله ثلثة قروء مثال لما كان الاجمال من جهة الاشتراك و تعدد المعاني الحقيقية و الايات الاخيرة امثلة لما كان جهة الاجمال كثرة المعاني المجازية و تردد اللفظ بينها، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 186
(وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) فانّ مفاد الآية الاولى حبس الفواحش من النّساء في البيوت إلى حين الممات، كما أنّ مفاد الثّانية وجوب ايذاء الآتين للفاحشة، ثمّ نسخ ذلك أى الحبس و الايذاء بالجلد الثابت لغير المحصن و المحصنة بالكتاب أعني قوله:
(الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) و بالرّجم الثابت لهما بالسنة النبويّة و أمّا ما قيل: من أنّ الآية الاولى منسوخة بآية الجلد و الرّجم الثّابت بالسنة مضاف إلى الجلد زيادة و ليس نسخا له، و أنّ الآية الثانية باقية بحالها غير منسوخة إذ الزّاني المستحق للحدّ يذمّ أوّلا و يعنف، ثمّ يحدّ فليست الآيتان منسوختين بالسنة ففيه منع اضافة الجلد إلى الرّجم دائما كمنع إضافة الرّجم إليه كذلك، بل بعض الفاحشات مستحقّة للجلد فقط و بعضها للرّجم فقط و بعضها يجمع لها بين الحدّين على ما فصل في الكتب الفقهية و أمّا ما قاله الشّارح البحراني في تقرير الاستشهاد بهما على المدّعى: من أنّه كانت الثيب إذا زنت في بدء الاسلام تمسك في البيوت إلى الممات، و البكر تؤذى بالكلام و نحوه بمقتضى هاتين الآيتين، ثمّ نسخ في حقّ الثّيب بالرّجم و في حقّ البكر بالجلد و التعزير بحكم السّنة ففيه أوّلا أن الآية الأولى غير مختصّة بالثّيب بل شاملة لها و للبكر، اللهمّ إلّا أن يقال باستفادة الثّيبوبة من الاضافة، لأنّه سبحانه أضافهن إضافة زوجيّة إذ لو أراد غير الزوجات لقال: من النّساء، و لم يقل: من نسائكم، فالبكر تكون خارجة عنها
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 187
و ثانيا أنّ السنّة لم تقم على الرجم في حقّ الثيب مطلقا بل في حقّ المحصنة منها فاللازم تبديل لفظ الثّيب في قوله: ثمّ نسخ، في حقّ الثّيب بالمحصنة و ثالثا أنّ ثبوت الجلد للبكر إنّما هو بالكتاب لا بحكم السنّة، لا يقال إنّ غاية ما يستفاد من الكتاب هو جلد الزّانية مأئة جلدة، و كون المراد بها هي البكر الغير المحصنة ممّا استفيد من السّنة، فثبوت الجلد في حقّها قد كان بحكم السنّة فكان النّاسخ هو السنّة دون الكتاب، لأنا نقول: إنّ النّاسخ هو الكتاب، و السنّة بيان لما هو المراد بالنّاسخ فافهم و رابعا أنّ المستفاد من كلامه (ره) أنّ الآية الاولى واردة في حقّ الثيب و الآية الثّانية في حقّ البكر و هو خلاف ما يستفاد من الأخبار، فانّ المستفاد منها أن الأولى واردة في حقّ النّساء، و الثّانية في حقّ الرّجال قال عليّ بن إبراهيم القميّ (ره) عند تفسير الآيتين: فانّ في الجاهليّة إذا زنى الرّجل يؤذى و المرأة تحبس في بيت إلى أن تموت، ثمّ نسخ ذلك بقوله: الزّانية و الزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مأئة جلدة.
و روى في الوسائل عن رسالة المحكم و المتشابه للمرتضى، نقلا من تفسير النّعماني بإسناده عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام في حديث النّاسخ و المنسوخ، قال: كان من شريعتهم في الجاهليّة أنّ المرأة إذا زنت حبست في البيت و اقيم بادوها حتّى يأتيها الموت، و إذا زنى الرّجل نفوه عن مجالسهم و شتموه و آذوه و عيّروه و لم يكونوا يعرفون غير هذا، قال اللّه تعالى في أوّل الاسلام و اللّاتي يأتين الفاحشة إلى آخر الآيتين، فلمّا كثر المسلمون و قوى الاسلام و استوحشوا امور الجاهليّة أنزل اللّه تعالى: الزّانية و الزّاني، الاية، فنسخت هذه آية الحبس و الأذى أقول: و لعلّ مراده عليه السّلام نسخ هذه الآية لتلك الآيتين في حقّ غير المحصن و المحصنة فلا ينافي ما قرّرناه في مقام الاستشهاد كما لا يخفى (و) بين (واجب في السنّة أخذه، و مرخّص في الكتاب تركه) هذا الكلام كسابقه صريح في عكس
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 188
سابقه، و هو وقوع نسخ السنّة بالكتاب، فيدلّ على الجواز بالأولويّة حسبما مرّ و هو مذهب الاماميّة و الأشاعرة و المعتزلة و جميع فقهاء العامّة، و المخالف منحصر في الشّافعي على ما حكى عنه، و الشّاهد على وقوعه أنّ التّوجّه إلى بيت المقدّس كان واجبا في ابتداء الاسلام بالسنّة خاصّة، لعدم دليل في الكتاب عليه ثمّ نسخ بقوله تعالى:
(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)* و أنّ مباشرة النّساء في اللّيل كانت محرّمة على الصّائمين بالسنّة أيضا، و قد نسخ بقوله تعالى:
(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) و أنّ صوم عاشوراء كان واجبا بالسنّة، ثمّ نسخ بصوم شهر رمضان بقوله:
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) كما رواه في الوسائل عن الحارث العطار، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن صوم عاشوراء فقال صوم متروك بنزول شهر رمضان، و المتروك بدعة، و فيه أيضا عن زرارة بن أعين و محمّد بن مسلم جميعا أنّهما سألا أبا جعفر الباقر عليه السّلام عن صوم يوم عاشور، فقال:
كان صومه قبل شهر رمضان، فلمّا نزل شهر رمضان ترك (و بين واجب لوقته و زايل في مستقبله) كالنّذر و العهد و اليمين الموقت بوقت معيّن، قال تعالى:
(وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) و قال أيضا: (وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) و تمثيل الشّارح البحراني له بالحجّ الواجب في العمر مرّة لا معنى له، إذ الحجّ و إن كان واجبا في العمر مرّة إلّا أنّه لا يزول وجوبه في المستقبل، مع عدم الاتيان،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 189
بل يجب في العام القابل و يجب قضاؤه مع عدم الاتيان به دوام العمر فان قيل: لعلّ مراده عليه السّلام بقوله: و زايل في مستقبله، هو زوال الوجوب بعد الاتيان بالواجب، و على ذلك فيصحّ التّمثيل قلت: لو بنى على ذلك لاستوى فيه جميع الواجبات سواء كان وجوبه في العمر مرّة أو غير مرّة ضرورة أنّ كلّا منها مع الاتيان يوجب سقوط التكليف، فلا يبقى بعد الاتيان و الامتثال وجوب كما هو ظاهر لا يقال كيف يمكن إنكار الفرق بين الحجّ و بين صلاة الظهر و أمثالها من الواجبات المكرّرة، مع أنّ الحجّ إذا اتى به مرّة يزول التكليف به بعده، بخلاف الظهر فان الاتيان به في ذلك اليوم لا يوجب سقوط الوجوب في الغد لأنّا نقول: إن أردت من عدم سقوط الوجوب في الغد عدم سقوط وجوب الظهر المأتي به في ذلك اليوم، ففيه انّه ساقط قطعا إذ لا معنى للامتثال عقيب الامتثال و إن أردت عدم سقوط وجوب الظهر الواجب عند زوال الغد، ففيه أنّه واجب مستقبل لا منافاة بين وجوبه و سقوط وجوب ظهر اليوم بعد الاتيان به في وقته فافهم جيّدا و من العجب جعله الحجّ من الموقتات مع أنّه لا وقت له فلو بدّله بصلاة الجمعة و مثل بها كما فعله الشّارح المعتزلي لكان له وجه (و) بين حكم (مباين بين محارمه) جمع محرم كمقعد، و المراد بها المحرّمات التي هي محل الحرمة، و المراد بالحكم المباين أى المفاصل هو الحرمة، و المعنى و بين حرمة مفاصلة بين محال الحرمة، اى مفرقة بين محرّمات الكتاب بالشدّة و الضّعف كما بيّنه بقوله: (من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه) فرّق بين الكبير و الصغير بأنّ الأوّل ما توعّد عليه بالنّيران، و الثاني ما اعدّ له الغفران و بهذا صرّح في جمع من الأخبار، مثل ما رواه المفيد عن عباد بن كثير قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الكبائر، فقال كلّ ما أوعد اللّه عليه النّار و في الوسائل عن عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن الكبائر التي قال اللّه عزّ و جلّ:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 190
«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ» قال: التي أوجب اللّه عليه النار، و بمعناهما أخبار اخر و في بعض الأخبار أنّها سبع، و هو ما رواه في الكافي عن ابن محبوب، قال كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه السّلام يسأله عن الكبائر كم هي و ما هي؟
فكتب عليه السّلام: الكبائر من اجتنب ما أوعد اللّه عليه النّار كفّر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا و السّبع الموجبات قتل النّفس الحرام و عقوق الوالدين و أكل الرّبوا و التعرب بعد الهجرة و قذف المحصنة و أكل مال اليتيم و الفرار من الزّحف.
و مثله في تعيين السّبع المذكور رواية ثواب الأعمال باسناده عن أحمد بن عمر الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و زيد في بعض الأخبار على السّبع، و نقص في اخرى و اختلف الحاصر لها في السّبع أيضا في تعيينها، و بالجملة الأخبار كالأقوال في المقام مختلفة جدّا و قد جمعوا بينها بحمل الكبيرة على ما هو كذلك بالنسبة إلى ما هو أصغر منه و الصّغيرة على ما هو كذلك بالنسبة إلى ما هو أكبر منه، فالقبلة صغيرة بالنسبة إلى الزّنا، و كبيرة بالنسبة إلى النّظر و هكذا قال الصّدوق: الأخبار في الكبائر ليست مختلفة، لأن كلّ ذنب بعد الشّرك كبير بالنّسبة ألي ما هو أصغر منه، و كلّ كبير صغير بالنّسبة إلى الشّرك باللّه و في مجمع البيان عند تفسير قوله تعالى:
«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» قال: اختلف في معنى الكبيرة، فقيل: كلّ ما أعد اللّه عليه في الاخرة عقابا و أوجب عليه في الدّنيا حدّا فهو كبيرة، و هو المرويّ عن سعيد بن جبير و مجاهد، و قيل:
كلّ ما نهى اللّه عنه فهو كبيرة، عن ابن عباس و إلى هذا ذهب أصحابنا، فانّهم قالوا:
المعاصي كلّها كبيرة من حيث كانت قبايح لكن بعضها أكبر من بعض، و ليس في الذّنوب صغيرة و إنّما تكون بالاضافة إلى ما هو أكبر منه و يستحق العقاب عليه أكثر هذا و أكثر الأخبار جمعا و احتواء لها، ما رواه الصّدوق باسناده، و الطبرسي في
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 191
مجمع البيان جميعا عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني، قال حدثني أبو جعفر الثاني عليه السّلام قال سمعت أبي يقول: سمعت أبي موسى بن جعفر عليه السّلام يقول: دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد اللّه عليه السّلام فلمّا سلم و جلس تلا هذه الآية:
«الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ»* ثمّ امسك، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام ما أسكتك؟ قال أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه، فقال عليه السّلام: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الاشراك باللّه يقول اللّه:
«مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» و بعده الاياس من روح اللّه، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» ثمّ الأمن من مكر اللّه، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» و منها عقوق الوالدين، لأنّ اللّه سبحانه جعل العاق جبّارا شقيّا، و قتل النفس التي حرّم اللّه إلّا بالحقّ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» إلى آخر الآية، و قذف المحصنة لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» و أكل مال اليتيم، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» و الفرار من الزحف، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 192
فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» و أكل الرّبوا لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» و السّحر لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» و الزّنا، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» و اليمين الغموس الفاجرة لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» و الغلول لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
«وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» و منع الزّكاة المفروضة، لأنّ اللّه عزّ و جل يقول:
(فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ) و شهادة الزّور و كتمان الشّهادة، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
(وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) و شرب الخمر، لأنّ اللّه عزّ و جلّ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان، و ترك
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 193
الصّلاة متعمّدا أو شيئا ممّا فرض اللّه عزّ و جلّ، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من ترك الصّلاة متعمّدا فقد برء من ذمة اللّه و ذمّة رسوله، و نقض العهد و قطيعة الرّحم لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
(لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)* قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه و يقول: هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم (و بين مقبول في أدناه و موسّع في أقصاه) كالقيام إلى صلاة اللّيل، فانّ قليله مقبول و الكثير منه موسّع، قال تعالى:
(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) و قال أيضا: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ، وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ، عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أى صلّوا ما تيسّر من الصلاة في اللّيل، عبّر عن الصّلاة بالقرآن، لأنّها تتضمّنه و كقرائة القرآن، فانّه مرغوب فيها و من القربات المستحبة قليلها مقبول و النّاس من الكثير منها في سعة، و بها فسّرت الآية الأخيرة في أحد التّفسيرين، و روى في مجمع البيان عن الرّضا عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: ما تيسّر منه أى من القرآن لكم فيه خشوع القلب و صفاء السّر هذا.
و ينبغي تذييل هذا الفصل بامور مهمة مفيدة لزيادة البصيرة:
الاول في الاشارة إلى فائدة إنزال القرآن و نعته بلسان الرّمز و الاشارة و بيان جملة من القابه و أسمائه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 194
فاقول: اعلم هداك اللّه إلى الصّراط المستقيم، و ثبّتك على المنهج القويم، أنّ القرآن لما كان اصله مكتوبا:
«فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» بلا صحائف و لا أوراق، لكونه قبل وجود الأنفس و الآفاق، و كنا في ابتداء وجودنا ضعفاء العقول، ضعفاء الأبصار و لم يكن تصل قوة أنظارنا إلى أطراف هذه الأرقام، و أكناف هذه الكلمات العظام، لتعاظم حروفها، و تعالى كلماتها، و تباعد أطرافها و حافاتها، لا جرم تضرعنا إليه سبحانه بلسان احتياجنا و استعدادنا، و قلنا: إلهنا ارحم على قصورنا، و لا تؤيسنا عن روحك و رحماتك، و اهدنا سبيلا إلى مطالعة كلماتك، و وصولا إلى رضوانك و جنّاتك، فتلطف سبحانه بنا بمقتضى عنايته الشّاملة، و حكمته الكاملة و رحمته الواسعة، و قدرته البالغة، فاعطى لنا نسخة مختصرة من أسرار كتبه الجامعة، و أنموذجا وجيزا من معاني كلماته التّامة و هو القرآن الكريم و الصّراط المستقيم، و التّنزيل من العزيز الرّحيم، نزّله على النّبي الأمين، لانجاء العباد من سلاسل تعلّقات النّفس، و وساوس الشّيطان اللّعين، فلو كشف نقاب العزّة عن وجهه، و رفع جلباب العظمة و الكبرياء عن سرّه، لشفى كلّ عليل، و روى كلّ غليل، و داوى كلّ مريض القلب بعلل الأخلاق الذميمة، و أسقام الجهالات المهلكة، و أنجى المقيدين بسلاسل التعلّقات، و المزيّنين بحبّ الأهل و الأولاد و الشّهوات، و هو مع عظمة قدره و علوّ منزلته و سموّ مكانه، قد تلبّس بلباس الحروف و الأصوات، و اكتسى بكسوة الألفاظ و العبارات، رحمة منه سبحانه على العباد، و شفقة على خلقه و تقريبا إلى أفهامهم و مداراة معهم، و منازلة إلى اذواقهم، و إلّا فما للتّراب و ربّ الأرباب، ففي كلّ حرف منه ألف رمز و إشارة، و فيكلّ لفظ ألف سرّ و كناية.
و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما رواه في الكافي باسناده إلى الصّادق عليه السّلام عن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 195
آبائه، عنه صلّى اللّه عليه و آله: أيّها النّاس إنّكم في دار هدنة و أنتم على ظهر سفر «1» و السّير بكم سريع و قد رأيتم اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر يبليان «2» كلّ جديد و يقربان كلّ بعيد و يأتيان بكل موعود، فأعدّوا الجهاز «3» لبعد المجاز قال:
فقام المقداد بن الأسود، فقال يا رسول اللّه: و ما دار الهدنة؟ قال: دار بلاغ و انقطاع فاذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفّع و ماحل «4» مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنّة و من جعله خلفه ساقه إلى النار و هو الدّليل يدلّ على خير سبيل و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل «5» ليس «6» بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم، و باطنه علم، ظاهره أنيق «7» و باطنه عميق له تخوم «8» و على تخومه تخوم «9»، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة، و دليل على المعرفة لمن عرف الصّفة، فليجل «10» جال بصره، و ليبلغ الصّفة نظره، ينج من عطب و يتخلص من نشب «11» فانّ التفكر حياة قلب البصير كما يمشى المستنير في الظلمات بالنّور، فعليكم بحسن التخلص و قلة التربص هذا.
و لغاية عظمته و منتهى جلالته سمّي بأسماء مختلفة و لقّب بألقاب كثيرة،
______________________________
(1) التنكير اشارة الى ما هو به و عظمته و هيبته
(2) اى يفنيان
(3) جهاز السفرا هبة السفر و ما يحتاج إليه فى قطع المسافة
(4) قال الطريحى فى الحديث من محل به القرآن يوم القيامة صدق اى سعى به يقال محل بفلان اذا قال عليه حولا يوقعه فى مكروه انتهى، فعلى هذا يكون قوله و ما حل اشارة الى سعاية القرآن فى يوم الحساب ممن ضيعه و نبذه وراء ظهره، منه
(5) اى الفاصلة بين الحقّ و الباطل
(6) اى ليس فيه من الهزلات الشعرية
(7) اى حسن معجب
(8) تخم الارض حده و الجمع تخوم كفلس و فلوس
(9) و فى بعض النسخ له نجوم و على نجومه نجوم و قد فسره المجلسى فى عين الحيوة بالائمة «ع»
(10) من جال يجول دار،
(11) هو من قولهم نشب فى الشيء اذا وقع فيما لا مخلص منه، مجمع
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 196
لأنّ الشي ء كلما ازداد جلالة و رفعة ازداد نعتا و وصفا:
فمنها الكتاب قال تعالى: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» و منها القرآن: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» و منها الفرقان لكونه فارقا بين الحقّ و الباطل، قال سبحانه:
«وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ» و منها النّور، لأنّه نور عقليّ ينكشف به أحوال المبدأ و المعاد و يترا أى منه حقائق الأشياء، و يهتدى به في ظلمات برّ الاجسام و بحر النفوس و يظهر به للسالكين إلى الدار الاخرى طريق الجنة و طريق النار، قال تعالى:
«قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ».
و منها الحكمة، قال تعالى: «وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ»* و هي عبارة عن أفضل علم بأحكم معلوم و لا يوصف بها إلّا المتجرّدون عن جلباب البشريّة، و المنسلخون عن لباس هذا الوجود الكوني و لذلك قال سبحانه بعد قوله: «و يعلّمهم الكتاب و الحكمة»:
«ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»* و منها الرّوح، قال تعالى: «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ» و منها الحقّ، لأنّه ثابت لا يتغيّر أبدا من حقّ الأمر إذا ثبت، و لأنّه صادق مطابق للواقع لا يعتريه شكّ و ريب، قال تعالى:
«بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 197
و منها الهدى، لأنّه يهدى إلى الصّراط المستقيم، قال تعالى:
«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ، و ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ»* و منها الذّكر، «إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ» سمّي به لأنّه يتذكر به امور الآخرة و أحوال المبدأ و المعاد.
و منها النّبأ العظيم، لأنّه يخبر عن عالم الغيب و المغيبات، قال:
«قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ» و منها الشّفاء، لأنّه يقع به الشّفاء على الأمراض النّفسانيّة و الأسقام الباطنية قال تعالى:
«قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ» و منها الرّحمة، قال تعالى: «وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» و منها العليّ الحكيم، قال تعالى: «وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» أمّا كونه عليّا فلأنّ أصله من العالم العلوي، و أمّا كونه حكيما فواضح.
و منها التّنزيل و منها البشير النّذير و منها العزيز و منها الموعظة الحسنة و منها المجيد إلى غير ذلك من الألقاب و الأسماء و لا شكّ أنّ كثرة الأسامى و الأوصاف تدلّ على عظم شأن المسمّى و الموصوف، و اللّه العالم بجلالة شأن كلامه و رفعة مرتبة كتابه و مقامه.
الثاني أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ القرآن الذي نزل به الرّوح الأمين على سيّد المرسلين صلوات اللّه عليه و آله أجمعين هل هو ما بين الدّفتين و ما وصل إلينا و تناولته أيدينا أم لا، بل الواصل إلينا بعض القرآن و أنّ القرآن الأصيل الذي نزل به جبرئيل
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 198
قد حرّف و بدّل و زيد عليه و نقص عنه، اختلف فيه الأصحاب.
فالذي ذهب إليه أكثر الأخباريّين على ما حكى عنهم السّيد الجزايري في رسالة منبع الحياة و كتاب الأنوار هو وقوع التحريف و الزّيادة و النّقصان.
و إليه ذهب عليّ بن إبراهيم القميّ، و تلميذه محمّد بن يعقوب الكليني، و الشّيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي، و المحدّث العلامة المجلسي قدّس اللّه روحهم.
و ذهب المرتضى على ما حكي عنه، و الصدوق في اعتقاداته، و الشّيخ في التّبيان و الطبرسي في مجمع البيان إلى عدمه، و عزى ذلك إلى جمهور المجتهدين بل الظاهر من الصّدوق قيام الاجماع عليه حيث قال في اعتقاداته: إنّ اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزل اللّه على نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله هو ما بين الدّفتين، و هو ما في أيدي النّاس ليس بأكثر من ذلك إلى أن قال و من نسب إلينا انّا نقول: إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب انتهى.
و مثله الشّيخ، حيث ادّعى قيامه على عدم الزّيادة، قال في محكي كلامه:
و أمّا الكلام في زيادته و نقصانه فممّا لا يليق به، لأنّ الزّيادة فيه مجمع على بطلانه، و أمّا النّقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، و هو الأليق بالصّحيح من مذهبنا، و هو الذي نصره المرتضى (ره)، و هو الظاهر من الرّوايات، غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة و العامّة بنقصان كثير من آى القرآن طريقها الآحاد لا توجب علما، فالأولى الاعراض و ترك التشاغل بها، لأنّها يمكن تأويلها انتهى.
و مثله الطبرسي في مجمع البيان حيث قال: فأمّا الزّيادة فيه فمجمع على بطلانه و أمّا النّقصان فيه فقد روى جماعة من أصحابنا و جماعة من حشويّة العامة، أنّ في القرآن تغييرا و نقصانا، و الصّحيح من مذهب أصحابنا خلافه.
قال: و هو الذي نصره المرتضى و استوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيّات، و ذكر في مواضع أنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار و الوقايع العظام و الكتب المشهورة و أشعار العرب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 199
المسطورة، فانّ العناية اشتدت و الدّواعي توفّرت على نقله و حراسته، و بلغت إلى حدّ لم تبلغه فيما ذكرناه لأنّ القرآن معجزة النّبوة و مأخذ العلوم الشّرعية، و الأحكام الدّينيّة، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية، حتّى عرّفوا كلّ شي ء اختلفوا فيه من إعرابه و قراءة حروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا أو منقوصا مع العناية الصادقة و الضّبط الشّديد.
و قال «1» أيضا قدّس سرّه: و إنّ العلم بتفصيل القرآن و أبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته و جرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة، ككتاب سيبويه و المزنى فان أهل العناية بهذا الشّان يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النّحو ليس من الكتاب لعرف و ميّز و علم أنّه ملحق، و ليس من أصل الكتاب، و كذلك القول في كتاب المزنى، و معلوم أنّ العناية بنقل القرآن و ضبطه أضبط من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشّعراء.
ثم قال الطبرسيّ: و ذكر أى المرتضى أنّ من خالف في ذلك من الاماميّة و الحشويّة لا يعتدّ بخلافهم، فانّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته انتهى ما ذكره في مجمع البيان.
و هذه العبارات منه و ممّن سبق ذكره كما ترى مطبقة في صحّة نقل ما بين الدّفتين و عدم وقوع تغير فيه بوجه من الوجوه، و إنّما اختلفت في دعوى الاجماع.
فالظاهر من الصّدوق كما عرفت قيامه على عدم التغير بوجه، حيث نسب ذلك إلى اعتقاد الاماميّة.
و عبارة الشّيخ و الطبرسي حسبما حكيناها صريحة في قيامه على عدم الزّيادة و تبعهما على ذلك من متأخري المتأخّرين السيّد المحقق الكاظمي في شرح الوافية
______________________________
(1) الظاهر ان كلامه هذا اشارة الى نفى الزيادة فى القرآن كما ان ما ذكره قبل ذلك اشارة الى نفى مطلق التغيير، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 200
حيث، قال: اتّفق الكلّ لا تمانع بينهم على عدم الزّيادة، و نطقت به الأخبار، و المرتضى رضي اللّه عنه و إن لم يدّع الاجماع عليه إلّا أنّه (ره) حسبما عرفت أشد نكيرا منهم لدعواه العلم الضّروريّ به.
إذا عرفت ذلك فأقول: المختار عندي هو وقوع النّقصان فيه دون الزّيادة، و لا بأس بذكر أدلّة الطرفين و ما يمكن الاستدلال به عنهم حتّى يتّضح الحقّ من البين، و لنقدّم أدلة النّافين لكون قولهم مطابقا للأصل، ثمّ نتبعها بأدلة المثبتين فنقول:
احتج النّافون القائلون بالعدم بوجوه، بعضها دالّ على عدم التغيير مطلقا و بعضها مختص بنفى الزّيادة.
الاول الاجماع المستفاد من كلام الصّدوق السّابق و المنقول في كلام الشيخ و الطبرسي صريحا حسبما تقدم.
و فيه بعد الغضّ عن حجّية الاجماع المنقول في نفسه أنّ حجيّته إنّما هو من جهة افادته الظنّ و هو لا يكافؤ القطع الحاصل من الأخبار المتواترة المفيدة للنقيصة حسبما تعرفها إنشاء اللّه، نعم هو حجّة على مدّعي الزّيادة، لأنّ الظنّ الحاصل من أدلتها لا يقاوم الظنّ الحاصل منه.
الثاني ما ظهر من كلام المرتضى من توفّر الدّواعي و اشتداد العنايات على حفظه و ضبطه،
لكونه معجزة النّبوة و مأخذ العلوم الشّرعيّة و مدرك الأحكام الدّينية.
و فيه منع توفر الدّواعي على الحفظ و الضبط لو لم يقم على التّضييع و التّحريف.
و ما استدلّ به عليه أولا من كونه متضمنا للتحدّي و الاعجاز، و ثانيا من كونه مدرك الأحكام الشّرعيّة لا ينهض على الاثبات:
أما الأول فلأنّه إنّما يتمّ لو انحصر طريق إثبات النّبوة فيه، كانحصار معجزة عيسى عليه السّلام في الطب و إبراء الأكمه و الأبرص، و معجزة موسى عليه السّلام في
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 201
العصا و اليد البيضاء، و أمّا مع عدم الانحصار فلا تتوفّر الدّواعي عليه، كأكثر معجزاته لم يتوافر بعد.
فان قلت: سلّمنا عدم انحصار معجزته فيه و لكنّه أظهر المعجزات و أقويها و آكدها فتوفّر الدّواعي عليه.
قلت: إنّ الاعجاز كما يحصل بالجميع كذلك يحصل بالبعض، إذ المناط في الاعجاز هو الفصاحة و البلاغة و غرابة الاسلوب و حسن النّظم، و هي باقية بحالها لم تتغيّر و لم تتبدّل، فلا يخرجه وقوع التّحريف فيه عن كونه دليلا للنّبوة و الرّسالة، بل لو فرض و العياذ باللّه سقوط جميع آياته عن الاعجاز لكفانا فيه قوله:
«وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» فانّها مع اختصارها و وجازتها مشتملة على أمرين و نهيين و خبرين و بشارتين.
و حكى أن بعضهم سمع بدويّة تنشد أبياتا، فقال لها: للّه درّك ما أفصحك، فقالت: الفصاحة للّه و ذكرت هذه الآية، و قوله سبحانه:
(وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ - الآية) لأنّها مشتملة على وجوه عديدة «1» من الفصاحة يقطع معها بأنّها خارجة عن وسع البشر.
______________________________
(1) منها قوله و قيل فانه يدل على انه سبحانه فى الجلال و العلو و العظمة بحيث لا يتبادر الذهن من القائل الا اليه و لا يتوجه الفكر الا الى ان ذلك القائل هو هو و منها مخاطبة الارض و السماء بما يخاطب به العاقل فان فيه اشارة الى انهما مع كونهما جمادا فى مقام الخضوع و الانقياد و قبول الامر التكوينى مثل العقلاء فى قبول الامر التكليفى و ان حكمه نافذ فيهما و انهما مقهور ان مغلوبان تحت قدرته و قهره مع ما هما عليه من الشدّة و القوة و العظمة، و منها ما فى قوله و قضى الامر من الدلالة على ان كل ما قضى به و قدره سبحانه فى الازل فصار حتما و قدرا لازما لا محالة يكون واقعا و انه لا راد لقضائه و لا مانع من نفاذ حكمه فى ارضه و سمائه، و منها حسن تقابل الالفاظ و ايتلاف المعنى، و منها حسن البيان فى تصوير الحال، و منها الايجاز من غير اخلال الى غير هذه من الوجوه التي لا يخفى على المتدبر منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 202
و قد روي أنّ من تكلّم من قريش بكلام فصيح كان يعلّقه على الكعبة مباهاة و تفاخرا، فلمّا نزل الآية هذه ذهبوا في ظلام اللّيل و أخذوا ما علّقوه مخافة الفضاحة و الشّناعة.
و في مجمع البيان يروي أن كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن، فعكفوا على لباب البرّ و لحوم الضأن و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم، فلما أخذوا فيما أرادوا و سمعوا هذه الآية تركوا ما اخذوا فيه و افترقوا.
و كيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ وقوع التّحريف لا يخرجه عن الاعجاز حتّى تبقى النّبوة الخاصّة بلا دليل، لأنّ الفصاحة باقية على حالها بل ساير وجوه الاعجاز أيضا موجودة فيه كالصّرفة و اشتماله على القصص و الحكايات، و الاخبار عن المغيبات و عدم الاختلاف فيه مع طوله إلى غير هذه من الجهات.
و أما الثاني فلأنّ المتيقّن الثّبوت من الأخبار الآتية هو طروّ التّحريف على الآيات المشتملة على فضائل أهل البيت و فضايح أهل النّفاق، و أمّا طروّه على آيات الأحكام فهو بعد غير ثابت، فالأدلة القطعية الدّالة على جواز العمل بالظواهر و استنباط الأحكام الشّرعية منها محكمة، و لم يثبت مانع منها، فلا يرفع اليد عن مقتضاها، و مجرّد احتمال وجود المانع لا يكفي في رفع اليد عن اقتضاء المقتضى.
و بالجملة كون القرآن مدرك الأحكام الشّرعيّة إنّما يدلّ على عدم وقوع التّحريف و النّقصان في آيات الأحكام، و يستلزم توفّر الدّواعي فيها فحسب لا مطلقا.
و هذا كلّه مبنىّ على التّنزل و المماشاة و إلّا فنقول إنّ كونه مدركا للأحكام و إن كان مقتضيا لتوفر الدّواعي إلّا أنّه إنّما يتمّ إذا لم يمنع منه مانع و لم يمنع المكلفون على أنفسهم اللطف إذ قد يتوفر الدّواعي على تضييعه و كتمانه أكثر منها على ضبطه و إعلانه، نظير الامام عليه السّلام، فانّ وصيّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحفظه و إعانته و كونه حجة اللّه على خلقه و بريّته و أصل أحكامه و شريعته، ممّا يوجب توفّر الدّواعي عليه مع
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 203
أنّ الدّواعي قد توفّرت على حجبه و غيبته، و نعم ما قال في التّجريد: وجوده لطف و تصرفه لطف آخر، و عدمه منّا.
و بالجملة وقوع التّحريف و النّقصان في آيات الأحكام على فرض ثبوته ليس بأبعد من غيبة الامام، فكما أنّ المكلفين صاروا سببا لاختفائه و غيبته، و مانعا عن تبليغه و الرّجوع إليه مع كونه أساس الأحكام و عماد الاسلام، فكذلك صاروا مانعا عن استنباط الأحكام من القرآن بسبب ما فعلوه فيه من التّحريف و أحدثوه فيه من النّقصان.
الثالث قوله تعالى: (وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزيزٌ لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِه )
فانّ ورود التّحريف عليه إتيان الباطل من خلفه، و قد أخبر اللّه سبحانه بعدمه فلابدّ أن يكون سالما محفوظا.
و فيه أنّ المراد بالآية أنّه ليس في إخباره عمّا مضى باطل، و لا في إخباره عمّا يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلّها موافقة لمخبراتها، رواه الطبرسيّ في مجمع البيان عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، و في تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لا يأتيه الباطل من قبل التّوراة و لا من قبل الانجيل و الزّبور، و لا من خلفه لا يأتيه من بعده كتاب يبطله
الرابع قوله تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ)
فانّ اللّه سبحانه قد أخبر بكونه حافظا للقرآن فلا بدّ من كونه محفوظا عن تطرق التغيير، قال الفخر الرّازي في الآية دلالة قويّة على كون التسمية آية من كلّ سورة، لأنّ اللّه قد وعد بحفظ القرآن و الحفظ لا معنى له إلّا أن يبقى مصونا من الزّيادة و النّقصان، فلو لم تكن التّسمية من القرآن لما كان القرآن مصونا من التّغيير، و لما كان محفوظا عن الزّيادة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 204
و فيه أنّ كون أصل القرآن الذي نزل به الرّوح الأمين على خاتم النّبيين صلّى اللّه عليه و آله محفوظا عند الأئمة الذين هم خزّان علم اللّه و كهوف كتبه، يكفي في صدق الآية و لا دلالة فيها على كون ما بأيدينا محفوظا كما لا يخفى، مضافا إلى احتمال أن يكون المراد أنّه سبحانه يحفظه إلى آخر الدّهر بأن بعث جماعة يحفظونه و يدرسونه و يشتهرونه بين الخلق، فتحفظه الامة و تناولته الأيدى قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة لقيام الحجّة به على الخلق و كونه معجزة النّبوة.
هذا كله بعد الغضّ عن رجوع الضّمير في له إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إلّا كما ذهب إليه الفرّاء فيسقط الاستدلال رأسا، قال ابن الانباري لما ذكر اللّه الانزال و المنزل و المنزل دلّ ذلك على المنزل عليه، فحسنت الكناية عنه لكونه أمرا معلوما كما في قوله:
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فانّ عود الضّمير إلى القرآن مع عدم تقدّم ذكره لكونه معلوما من المقام.
الخامس الأخبار الدّالة على وجوب التّمسّك بالقرآن و الآمرة بالرّجوع إليه كحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين و نحوه، و الأخبار المفيدة بعرض الأخبار المتعارضة عليه، مثل مقبولة عمر بن حنظلة و فيها: فما وافق حكمه حكم الكتاب و السّنة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنّة و وافق العامة.
و ما رواه السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ على كلّ حقّ حقيقة و على كلّ صواب نورا فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فدعوه.
و ما رواه عبد الرّحمن بن أبي عبد اللّه، قال: قال الصّادق عليه السّلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فردّوه إلى غير هذه ممّا هي قريبة من التواتر أو متواترة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 205
تقريب الاستدلال أنّ المراد بالكتاب الذي امرنا بالتمسك به و الرّجوع إليه و عرض الأخبار المتعارضة عليه إن كان هو الكتاب المنزل المحفوظ عن تطرّق السّوانح و طرو الزّيادة و النّقصان الذي هو موجود عند الأئمة عليهم السّلام على قول المدّعين للتّحريف، ففيه أنّ التمسّك به و الرّجوع إليه ممّا لا يستطاع.
و ان كان المراد به المحرّف المبدّل، فلا وجه له، لأنّه لم يبق فيه حجية و ليس به وثوق و اطمينان فلا بدّ أن يكون الموجود بأيدينا سالما محفوظا.
قال الشّيخ في محكي كلامه: و رواياتنا متناصرة بالحثّ على قراءته و التمسك بما فيه و ردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه و عرضها عليه، فما وافقه عمل عليه و ما خالفه يجنب و لم يلتفت إليه.
و قد ورد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله رواية لا يدفعها أحد انّه قال انّي مخلّف فيكم الثّقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي، و أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض، و هذا ممّا يدل على أنّه موجود في كلّ عصر، فانّه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسّك بما لا نقدر على التمسّك به، كما أنّ أهل البيت و من يجب اتّباع قوله حاصل في كلّ وقت انتهى كلامه.
و ملخّصه أنّ ظاهر هذه الأخبار أنّه لم يتطرّق على هذا القرآن الموجود بأيدينا تحريف و تغيير، لأنّ المستفاد منها وجوب الرّجوع إليه إذ الرّجوع إلى غيره غير مقدور، فلا بدّ من كونه محفوظا من الخلل و النّقصان، و إلّا لم يبق به وثوق و اطمينان، فلا يكون وجه للأمر بالرّجوع إليه.
و فيه أوّلا أنّ الأخبار المذكورة إمّا نبويّة كخبر الثّقلين و بعض أخبار العرض، و إمّا مرويّة عن الأئمة عليهم السّلام.
أمّا الطائفة الأولى فلا دلالة فيها على المدّعى أصلا، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله قد كان امرنا بالاتباع بالكتاب و العرض عليه و لم يتطرّق عليه تحريف يومئذ، كما امرنا باتباع أهل بيته و عترته و أخذ الأحكام عنهم و الاقتباس من أنوارهم، و إنّما طرئت السوانح
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 206
بعد ما اختار اللّه سبحانه له صلّى اللّه عليه و آله، لقائه فمنع المكلفون على أنفسهم اللّطف بسوء اختيارهم، و غيّروا كتاب اللّه و نبذوه وراء ظهورهم كما تركوا العترة و صاروا سببا لاعتزالهم و تشريدهم إلى أن انتهى الأمر إلى الغيبة الكبرى، فكما أنّ غيبة الامام عليه السّلام و اعتزال الأئمة و قصور اليد عن التمسّك بهم و أخذ الأحكام عنهم النّاشي من سوء فعل المكلفين لا منافاة له مع أمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله بالتمسّك، فكذلك قصور اليد عن اتّباع القرآن المنزل على ما هو عليه لا ينافي أمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله باتّباعه و التّمسك به، بل نقول: إنّ أمره صلّى اللّه عليه و آله لم يكن إلّا لأجل أن لا يفعلوا في كتاب اللّه ما فعلوه، و أن لا يقصروا في حقّ الآل على ما قصّروا.
و أمّا الطائفة الثّانية فلا دلالة فيها أيضا، لأنا نقول: إنّ الأئمة عليهم السّلام إنّما أمرونا بالرّجوع إلى هذا الكتاب الموجود بأيدينا مع ما هو عليه من التّحريف و النّقصان لأجل التقية و الخوف على أنفسهم و شيعتهم، فيكون ما استفدناه حكما ظاهريا بالنسبة الينا فافهم «1» و ثانيا أن يجاب عنه بما ذكره في الصّافي، فانّه بعد نقله كلام الشّيخ الذي حكيناه قال: أقول: يكفي في وجوده في كلّ عصر وجوده جميعا كما أنزل اللّه محفوظا عند اللّه و وجود ما احتجنا إليه منه عندنا و إن لم نقدر على الباقي، كما أن الامام كذلك فان الثقلين سيان في ذلك انتهى.
و أورد عليه المحقّق الكاظمي (ره) بأنّ التمسّك بهم عبارة عن موالاتهم و سلوك طريقتهم، و ذلك ممكن مع الغيبة للعلم بهم، و هذا بخلاف التمسّك بالقرآن فانّه إنّما يتحقّق بالأخذ و الاطلاع عليه، فقد بان الفرق و اتّضح الأمر انتهى أقول: و الانصاف أنّه إن اريد بلفظ تمسّكتم في الرّواية، التمسّك التّفصيلي بأن يتمكن من الرّجوع الى المتمسّك به و يؤخذ عنه الأحكام مهما اريد، فهو غير ممكن في حال الغيبة الكبرى، لظهور انسداد باب العلم فيه، مع أنّ انفتاحه في
______________________________
(1) اشارة الى ان حمل الاخبار على الورود على عنوان التقية بعيد فى الغاية عن سياق اخبار العرض و انما يتمشى فى اخبار التمسك و الاتباع فتدبر، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 207
حال ظهور الأئمة عليهم السّلام أيضا محلّ كلام حسبما قرّرناه في الاصول، و إن اريد به التمسّك الاجمالي بأن نرجع إليه بقدر الامكان و مع عدم التمكن و القدرة نكون في مقام التّسليم و الاذعان و العزم على الرجوع مع التمكن و التّوفيق، فالحقّ أنّ الثقلين سيان فيه.
و بالجملة هما في حال الغيبة الكبرى سيّان في عدم امكان التمسّك بهما تفصيلا و في امكانه إجمالا، بأن يصدّقا و يسلّما و يؤخذ عنهما الأحكام بقدر الوسع و الطاقة، و التّفرقة بينهما بحمل التمسّك بالثّقل الأصغر على التمسّك التّفصيلي و التمسّك بالأكبر على التمسّك الاجمالي ممّا لا وجه له.
و ثالثا أنّا نقول: إنّ أهل بيت العصمة سلام اللّه عليهم لعلمهم بعدم طرو التّحريف على آيات الأحكام رخصونا في الرّجوع و العرض، فبملاحظة ترخيصهم يحصل لنا القطع بكونها محفوظة عن الخلل أو أنهم رخّصونا في ذلك، لعلمهم بانّه ليس في السّاقط ما يرجع إليه أو يعرض عليه إلّا و في الثّابت ما يقوم مقامه.
هذا تمام الكلام في أدلة النّافين، و قد عرفت أنّها غير ناهضة على إثبات المدّعى كما لا يخفي.
و حجة القائلين بالتّحريف أيضا وجوه كثيرة بعضها مثبت لوقوع مطلق التّحريف، و بعضها مختص باثبات الزّيادة و النقيصة، و بعضها دالّ على النّقصان فقط فالأدلة في المقام على ثلاثة أقسام.
القسم الاول الأدلة الدّالة على مطلق التّحريف و التغيير فيه.
اولها ما ذكره السيّد الجزائري من أنّ القرآن كان ينزل منجما على حسب المصالح و الوقايع،
و كتّاب الوحى كانوا أربعة عشر رجلا من الصّحابة، و كان رئيسهم أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد كانوا في الأغلب ما يكتبون إلّا ما يتعلّق بالاحكام و إلّا ما يوحى إليه صلّى اللّه عليه و آله في المحافل و المجامع، و أمّا الذي كان يكتب ما ينزل عليه في خلواته و منازله فليس هو إلّا أمير المؤمنين عليه السّلام، لأنّه كان يدور معه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 208
كيفما دار، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف، فلما مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إلى لقاء حبيبه و تفرّقت الأهواء بعده، جمع أمير المؤمنين عليه السّلام القرآن كما انزل، و شدّه بردائه و أتى به إلى المسجد، فقال لهم: هذا كتاب ربّكم كما انزل، فقال عمر: ليس لنافيه حاجة هذا عندنا مصحف عثمان، فقال عليه السّلام لن تروه و لن يراه أحد حتّى يظهر القائم عليه السّلام.
أقول: أمّا قوله: فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف فيشهد به:
ما رواه في الكافي باسناده عن جابر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سمعته يقول:
ما ادّعى أحد أنّه جمع القرآن كلّه كما انزل إلّا كذاب، و ما جمعه و حفظه كما أنزله اللّه إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و الأئمة من بعده.
و أمّا ما ذكره من اتيان أمير المؤمنين عليه السّلام بالكتاب إلى المسجد فيدلّ عليه ما رواه الطبرسيّ في الاحتجاج عن أبي ذر الغفاري أنّه لمّا توفى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع عليّ عليه السّلام القرآن و جاء به إلى المهاجرين و الأنصار و عرضه عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما فتحه ابو بكر خرج في أوّل صفحة فتحها فضايح القوم، فوثب عمر و قال: يا علي اردده لا حاجة لنا فيه، فأخذه عليّ عليه السّلام و انصرف، ثمّ أحضر زيد بن ثابت و كان قاريا للقرآن، فقال له عمر: انّ عليّا جاءنا بالقرآن و فيه فضايح المهاجرين و الأنصار، و قد أردنا ان تؤلف لنا القرآن و تسقط منه ما كان فيه فضيحة و هتك المهاجرين و الأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فان أنا فرغت من القرآن على ما سألتم و أظهر عليّ عليه السّلام القرآن الذي ألفه أليس قد بطل كلّ ما عملتم؟
قال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنت أعلم بالحيلة، فقال عمر: ما الحيلة دون أن نقتله و نستريح منه، فدبّر في قتله على يد خالد بن الوليد فلم يقدر على ذلك، فلما استخلف عمر سأل عليّا أن يدفع إليهم فيحرّفوه فيما بينهم، فقال يا أبا الحسن: إن كنت جئت به إلى أبي بكر فائت به إلينا حتّى نجتمع عليه، فقال عليّ عليه السّلام هيهات (ج 13)
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 209
ليس إلى ذلك سبيل إنّما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجّة عليكم و لا تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو تقولوا ما جئتنا به، إنّ القرآن الذي عندي لا يمسّه إلّا المطهّرون و الأوصياء من ولدي، فقال عمر: فهل وقت لاظهاره معلوم؟
قال: نعم إذا قام القائم من ولدي يظهره و يحمل النّاس عليه فتجري السنّة به صلوات اللّه عليه.
الثاني ما رواه الطبرسيّ في الاحتجاج عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في جواب سؤال الزّنديق حيث سأله عن تصريح اللّه سبحانه بهفوات الأنبياء و زلّاتهم مثل قوله:
(وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) و نحوه، و توريته أسماء من اغترّ و فتن خلقه و ضلّ و أضلّ و تعبيره عنهم بالكناية مثل قوله:
(يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) و نحوه، فقال عليه السّلام: إنّ الكناية عن أسماء ذو الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى، و إنّها من فعل المغيرين و المبدّلين الذين جعلوا القرآن عضين «1»، و اعتاضوا الدّنيا من الدّين، و قد بيّن اللّه قصص المغيرين بقوله:
(لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) و بقوله: (وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ «2» أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) و بقوله: (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) «3»
______________________________
(1) اى اجزاء متفرقة من العضة، منه.
(2) اى يحرفون و يعدلون به عن القصد قال الطريحى قيل يكتب بواو واحد و ان كان لفظها بواوين و هى كذلك في المصاحف القديمة و آخر الاية لتحسبوه من الكتاب و ما هو من الكتاب و يقولون هو من عند اللّه و ما هو من عند اللّه و يقولون على اللّه الكذب و هم يعلمون، منه
(3) آخر الاية و كان اللّه بما يعملون محيطا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 210
بعد فقد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و ما يقيمون «1» به اود باطلهم حسب ما فعلته اليهود و النصارى بعد فقد موسى و عيسى عليه السّلام من تغيير التّوراة و الانجيل و تحريف الكلم عن مواضعه و بقوله:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ... وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) يعنى أنّهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله اللّه ليلبسوا على الخليقة فأعمى اللّه قلوبهم حتّى تركوا فيه ما دلّ على ما أحدثوه فيه و حرفوا منه، و بيّن عن افكهم و تلبيسهم و كتمان ما علموه منه، و لذلك قال لهم:
(لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ) و ضرب مثلهم بقوله:
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً «2» وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فالزّبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن، فهو يضمحلّ و يبطل و يتلاشي عند التّحصيل، و الذي ينفع الناس منه فالتّنزيل الحقيقى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و القلوب تقبله و الأرض في هذا الموضع هي محلّ العلم و قراره، و ليس يسوغ مع عموم التقية التّصريح بأسماء المبدّلين، و لا الزّيادة في آياته على ما أنبتوه من تلقائهم في الكتاب لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل و الكفر و الملل المنحرفة من قبلتنا و إبطال هذا العلم الظاهري الذي قد استكان له الموافق و المخالف بوقوع الاصطلاح على الايتمار «3» لهم و الرّضا بهم، و لأنّ أهل الباطل في القديم و الحديث أكثر عددا من أهل الحقّ، و لأن الصّبر على ولاة الأمر
______________________________
(1) الظاهر انه عطف على قوله سبحانه ما لا يرضى فكان كلامه «ع» متم كلام اللّه سبحانه فيكون المعنى انهم يدبرون فى الليل بعد فقد الرسول «ص» ما يقيمون و يصلحون به اعوجاج باطلهم و الاود الاعوجاج يقال قام اوده اى اعوجاجه، منه
(2) بالضم و المد الباطل، لغة
(3) ايتمر الامر امتثله، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 211
مفروض بقول اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله:
(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) و ايجابه مثل ذلك على أوليائه و اهل طاعته بقوله:
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ثم، قال عليه السّلام فحسبك من الجواب عن هذا الموضع ما سمعت، فانّ شريعة التقية نحظر بأكثر منه.
الثالث ما رواه عليّ بن إبراهيم القميّ عن الصّادق عليه السّلام في قوله تعالى:
(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) انّه قال: كيف يحفظ الشّي ء من أمر اللّه و كيف يكون العقب من بين يديه؟ فقيل له كيف ذلك يابن رسول اللّه؟ فقال: إنّما انزلت له معقّبات من خلفه و رقيب من بين يديه يحفظونه بأمر اللّه.
الرابع ما رواه عنه عليه السّلام أيضا في قوله:
(لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ) أنّ الآية هكذا نزلت لقد تاب اللّه بالنّبيّ على المهاجرين.
الخامس ما رواه أيضا قال: إنّه قرء على أبي عبد اللّه عليه السّلام:
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لقد سألوا اللّه عظيما أن يجعلهم للمتقين اماما، فقيل يابن رسول اللّه كيف ذلك؟ فقال عليه السّلام: إنّما نزلت و اجعل لنا من المتّقين إماما.
السادس ما رواه أيضا عن ابن أبي عمير عن ابن سنان قال قرأت على أبي عبد اللّه عليه السّلام:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 212
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام خير امّة يقتلون أمير المؤمنين و الحسن و الحسين ابني عليّ عليهم السّلام، فقال القارى: جعلت فداك كيف نزلت؟ فقال عليه السّلام نزلت خير أئمة اخرجت للنّاس، أ لا ترى مدح اللّه لهم في آخر الآية: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)
السابع ما رواه السيّد المعتمد السيّد هاشم البحراني عن المفيد في كتاب الاختصاص، قال: و روي عن جابر الجعفي قال: كنت ليلة من بعض اللّيالي عند أبي جعفر عليه السّلام فقرأت هذه الآية:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) فقال: مه يا جابر كيف قرأت، يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه، قال: قال: قلت فكيف أقرء جعلني اللّه فداك؟ قال: هذا تحريف يا جابر، قال: فقال عليه السّلام: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصّلاة فامضوا إلى ذكر اللّه هكذا نزلت يا جابر، لقد كان يكره أن يعدو الرّجل إلى الصّلاة يا جابر لم سمّيت الجمعة يوم الجمعة؟ قال: قلت: تخبرني جعلني اللّه فداك، قال: أفلا أخبرك بتأويله الأعظم؟
قال: قلت: بلى جعلني اللّه فداك، قال: فقال: يا جابر سمّى اللّه الجمعة جمعة لأنّ اللّه عزّ و جلّ جمع في ذلك الأولين و الآخرين و جميع ما خلق اللّه من الجنّ و الانس و كلّ شي ء خلق ربّنا و السّماوات و الارضين و البحار و الجنّة و النّار و كلّ شي ء خلق اللّه في الميثاق فأخذ الميثاق منهم له بالرّبوبيّة و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بالنّبوة و لعليّ عليه السّلام بالولاية، و في ذلك اليوم قال اللّه للسّماوات و الأرض:
(ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فسمّى اللّه ذلك اليوم الجمعة، لجمعه فيه الأولين و الآخرين، ثمّ قال عزّ و جلّ يا أيّها الذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة من يومكم هذا الذي جمعكم فيه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 213
و الصّلاة أمير المؤمنين عليه السّلام، يعني بالصّلاة الولاية، و هي الولاية الكبرى ففي ذلك اليوم أتت الرّسل و الأنبياء و الملائكة و كلّ شي ء خلق اللّه و الثقلان الجنّ و الانس و السّماوات و الأرضون و المؤمنون بالتلبية للّه عزّ و جلّ، فامضوا إلى ذكر اللّه و ذكر اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام، و ذروا البيع، يعني الأوّل، ذلكم، يعني بيعة أمير المؤمنين و خلافته، خير لكم من بيعة الأوّل و ولايته، ان كنتم تعلمون، فاذا قضيت الصّلاة يعني بيعة أمير المؤمنين، فانتشروا في الأرض يعني بالأرض الأوصياء أمر اللّه بطاعتهم و ولايتهم، كما أمر بطاعة الرّسول و طاعة أمير المؤمنين كنى اللّه في ذلك من أسمائهم فسمّاهم بالأرض، و ابتغوا من فضل اللّه، قال جابر: و ابتغوا من فضل اللّه، قال:
تحريف هكذا نزلت و ابتغوا من فضل اللّه على الأوصياء و اذكروا اللّه كثيرا لعلكم تفلحون، ثمّ خاطب اللّه عزّ و جلّ في ذلك الموقف محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، فقال يا محمّد: فاذا رأوا الشّكاك و الجاحدون تجارة، يعنى الأوّل أو لهوا، يعني الثّاني، انصرفوا إليها، قال:
قلت انفضّوا إليها قال: تحريف هكذا نزلت، و تركوك، مع عليّ قائما، قل يا محمّد ما عند اللّه، من ولاية عليّ و الأوصياء، خير من اللّهو و التجارة، يعنى بيعة الأوّل و الثّاني للّذين اتقوا، قال: قلت: ليس فيها للّذين اتّقوا، قال: فقال: بلى هكذا نزلت الآية، و أنتم هم الذين اتّقوا، و اللّه خير الرّازقين.
الثامن ما رواه الصّدوق في التوحيد باسناده عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال عن أبيه عن الرّضا عليّ بن موسى عليهما السّلام قال سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ:
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ) قال: يقول: هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه بالملائكة في ظلل من الغمام، و هكذا نزلت، و العجب من الصّدوق مع روايته ذلك كيف أنكر وقوع التّحريف فيه.
القسم الثاني الأدلة الدالة على وجود الزيادة و النّقصان. اولها ما رواه في الصافي عن العياشي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لو لا أنّه زيد في كتاب اللّه و نقص ما خفي حقّنا على ذي حجى الثاني ما رواه العيّاشي عنه عليه السّلام أيضا أنّ القرآن قد طرحت منه آى كثيرة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 214
و لم يزد فيه إلّا حروف أخطأت به الكتبة و توهّمتها الرّجال.
الثالث ما في تفسير عليّ بن ابراهيم في قوله: (وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) قال: هذه الواو زيادة في قوله و منك، و إنّما هو منك و من نوح.
القسم الثالث الأدلة الدّالة على وجود النّقصان فقط، و هي كثيرة:
اولها ما رواه في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله سبعة عشر ألف آية، و وجه دلالته أنّ الموجود بأيدينا من القرآن لا يزيد على سبعة آلاف آية، و على ما ضبطه الشّيخ الطبرسي ستّة آلاف و مأتا آية و ستّة و ثلاثون آية.
الثاني ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن عليّ عليه السّلام في جواب الزّنديق الذي احتجّ عليه بتناقض ظواهر بعض الآيات أنّه عليه السّلام قال: و أمّا ظهورك على تناكر قوله:
(وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) و ليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النّساء و لا كلّ النّساء أيتام، فهو ممّا قدّمت ذكره من إسقاط المنافقين في القرآن بين القول في اليتامى و بين نكاح النساء من الخطاب و القصص أكثر من ثلث القرآن، و هذا و ما أشبهه ممّا أظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النّظر و التّأمل و وجد المعطلون و أهل الملل المخالفة للاسلام مساغا إلى القدح في القرآن، و لو شرحت لك كلما اسقط و حرّف و بدّل ممّا يجرى هذا المجرى لطال و ظهر ما يحظر التّقية إظهاره من مناقب الأولياء و مثالب الأعداء.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 215
الثالث ما رواه في الكافي عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال دفع إلىّ أبو الحسن عليه السّلام مصحفا، فقال: لا تنظر فيه، ففتحته و قرأت فيه: لم يكن الذين كفروا، فوجدت فيها اسم سبعين من قريش بأسمائهم و أسماء آبائهم، قال فبعث إلىّ ابعث إلىّ بالمصحف.
الرابع ما رواه أبو عبيدة بسنده عن ابن عمر قال: لا يقولنّ أحدكم قد اخذت القرآن كلّه و ما يدريه ما كلّه، قد ذهب منه قرآن كثير، و لكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر.
و بسنده عن عايشة، قال: كانت سورة الأحزاب تقرء في زمان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مأتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّا على ما هو الآن.
و بسنده عن زر بن حبيش، قال: قال لي أبيّ بن كعب: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين و ستين آية أو ثلاثا و ستّين آية، قال: ان كانت لتعدل سورة البقرة.
و في الكشاف عن زرّ مثله إلّا أنّ فيه قلت ثلاثا و سبعين آية، قال فو الذي يحلف به أبيّ ابن كعب ان كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول و لقد قرأنا منها آية الرّجم، الشّيخ و الشّيخة اذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم.
الخامس ما رواه في كتاب تذكرة الأئمة عن تفسير الكازر، و المولى فتح اللّه عن مصحف ابن مسعود، و هو آيات كثيرة في سور متعدّدة.
ففي المائدة: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في شَأْنِ عَلِيٍّ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) و في الرّعد و هو قوله تعالى: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ عَلِيٌّ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) و في الشّعراء: (وَ سَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ حَقَّهُمْ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، و رواه القمي أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 216
و في الصّافّات قوله: (وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسؤلُونَ في وِلايَةِ عَلِيٍّ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ).
و في النّساء قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهيمَ وَ آلَ مُحَمَّدٍ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظيماً) و في الزّمر قوله: (فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ) و رواه الطّبرسي أيضا عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري.
و في طه قوله تعالى: (وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ كَلِماتٍ في محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و التّسعة من ذرّيّة الحسين فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) و رواه أيضا في الكافى عن الصّادق عليه السّلام إلّا أنّ في آخره و الأئمّة من ذرّيتهم بدل قوله و التّسعة، ثم قال هكذا و اللّه نزلت على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و في النّجم قوله تعالى: (وَ أَوْحى إِلى عَبْدِه في عليّ لَيْلَةَ الْمِعْراجِ ما أَوْحى) و في آية الكرسي: (أَللَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما في السّماواتِ وَ ما في الْأَرْضِ وَ ما تَحْتَ الثَّرى ، عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) و في الأحزاب قوله: (وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنينَ الْقِتالَ بعليّ بن أبي طالب وَ كانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزيزاً) و منها سورة الولاية: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ يا أَيُّهَا الَّذينَ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 217
آمَنُوا آمِنُوا بِالنَّبِيِّ وَ الْوَلِيِّ اللذَيْنِ بَعَثْناهُما يَهْدِيانِكُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ نَبِيٌّ وَ وَلِيٌّ بَعْضُهُما مِنْ بَعْضٍ، وَ أَنَا الْعَليمُ الْخَبيرُ، إِنَّ الَّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ لَهُمْ جَنّاتُ النَّعيمِ، فَالَّذينَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُنا كانُوا بِآياتِنا مُكَذِّبينَ، إِنَّ لَهُمْ في جَهَنَّمَ مَقامٌ عَظيمٌ، نُودِيَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَيْنَ الضّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلمُرْسَلينَ، ما خَلَفَهُمُ الْمُرْسَلينَ إِلّا بِالْحَقِّ، وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُنْظِرَهُمْ إِلى أَجَلٍ قَريبٍ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ عَلِيٌّ مِنَ الشّاهِدينَ) و منها سورة النّورين، تركت ذكرها لكونها مع طولها مغلوطة لعدم وجود نسخة مصحّحة عندي يصحّ الرّكون إليها.
السادس ما رواه عليّ بن إبراهيم القميّ في تفسيره و هو أيضا كثير.
منها قوله تعالى: (وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في ولاية عليّ و الأئمّة من بعده فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظيماً).
و منها قوله تعالى: وَ لكِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ في علي أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) و منها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذينَ كَفرُوا وَ ظَلَمُوا آل محمّد حقّهم لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) و منها (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جآؤُكَ يا عليّ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) و منها قوله تعالى: (وَ لَوْ تَرَى الَّذينَ ظَلَمُوا آل محمّد حقّهم في
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 218
غَمَراتِ الْمَوْتِ) السابع ما رواه في الصّافي عن العيّاشي عن الباقر عليه السّلام في قوله:
(وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) أنّها نزلت و إذ أخذ اللّه ميثاق أمم النّبيين.
الثامن ما فيه عنه في قوله: فبدّل الذين اه أنّها نزلت فبدّل الذين ظلموا آل محمّد حقهم غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمّد حقهم رجزا من السّماء بما كانوا يفسقون.
التاسع ما رواه في الكافي «1» عن أبي بصير مقطوعا في حديث طويل، ثمّ أتى الوحى إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال:
(سَئَلَ سآئِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلكافِرينَ بولاية عليّ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذي الْمَعارِجِ) قال: قلت: جعلت فداك إنّا لا نقرئها هكذا، فقال: هكذا و اللّه نزل بها جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هكذا هو و اللّه مثبت في مصحف فاطمة عليها السّلام، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبع المجدّ و أكثر التّفاسير احتواء لذلك تفسير القميّ، و فيما ذكرناه كفاية لمن طلب الحقّ، لأنّها على اختلاف مؤدّياتها متفقة على الدلالة على النقيصة في الكتاب فيحصل منها العلم الضّروري بها.
و المناقشة فيها بأنّ الزّيادات المذكورة فيها إنّما هي من قبيل الأحاديث القدسية لا القرآن فبعيدة جدّا كما أنّ احتمال أن يكون النّاقصات من قبيل التفاسير و بيان المعاني كذلك، لما عرفت من التّصريح في بعضها بأنّها هكذا نزلت، و في بعضها هكذا و اللّه نزلت، و مع ذلك التّصريح كيف يمكن القول بكون المنقوصات من قبيل التفاسير كما توهّمه الصّدوق.
______________________________
(1) و رواه فى غاية المرام بسند آخر عن ابى بصير عن أبي عبد اللّه «ع» منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 219
و الانصاف أنّ القول بعدم النّقص فيه ممّا يمكن إنكاره بعد ملاحظة الأدلة و الأخبار التي قدّمناها، فانّها قد بلغت حدّ التّواتر، مضافا إلى أخبار ورود الامة على الحوض و قولهم بعد سؤال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنهم كيف خلّفتموني في الثقلين: أمّا الأكبر فحرقناه (فبدلناه خ ل) و أمّا الأصغر فقتلناه، و هذه الأخبار أيضا متواترة، و مع التّنزل عن بلوغها حدّ التواتر نقول: إنّه بانضمامها إلى الأخبار الاول لا محالة تكون متواترة مفيدة للعلم بثبوت النّقصان، إذ لو كان القرآن الموجود بأيدينا اليوم بعينه القرآن المنزل من السّماء من دون أن يكون فيه تحريف و نقصان، فأىّ داع كان لهم على الطبخ و الاحراق الذي صار من أعظم المطاعن عليهم.
فان قلت: إذا ثبت وقوع التّغيير في القرآن فكيف يجوز لنا قراءته؟ بل اللازم قراءته على نحو ما انزل فيما اطلعنا عليه.
قلت: إنّ الأئمة عليهم السلام رخّصونا على ما هو الموجود الآن و لم يأذنوا بقراءته على نحو ما انزل.
يدلّ على ذلك ما رواه في الكافي مرسلا عن سهل بن زياد عن محمّد بن سليمان عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قلت له: جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها و لا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم؟
فقال عليه السّلام: لا، اقرءوا كما تعلّمتم فسيجيئكم من يعلّمكم.
و فيه أيضا باسناده إلى سالم بن سلمة، قال: قرء رجل على أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرئها النّاس، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:
مه كفّ عن هذه القرائة و اقرء كما يقرأ النّاس حتّى يقوم القائم عليه السّلام: فاذا قام قرء كتاب اللّه على حدّه و أخرج المصحف الذي كتبه عليّ عليه السّلام.
فان قلت: سلّمنا وجود التّحريف فيه فلم لم يصحّحه أمير المؤمنين عليه السّلام حيثما جلس على سرير الخلافة مع أنّه لم يكن منه مانع يومئذ.
قلت: إنّه عليه السّلام لم يتمكن منه لوجود التقية المانعة من حيث كونه مستلزما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 220
للتشنيع على من سبقه كما لم يتمكن من إبطال صلاة الضحى، و من إجراء متعتي الحجّ و النّساء، و من عزل شريح عن القضاوة، و معاوية عن الامارة، و قد صرّح بذلك في رواية الاحتجاج السّابقة في مكالمته عليه السّلام مع الزّنديق.
مضافا إلى اشتمال عدم التّصحيح على مصلحة لا تخفى، و هو أن يتمّ الحجة في يوم القيامة على المحرّفين المغيّرين من هذه الجهة أيضا بحيث يظهر شناعة فعلهم لجميع أهل المحشر، و ذلك بأن يصدر الخطاب من مصدر الرّبوبيّة إلى امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يقال لهم: كيف قرأتم كتابي الذي أنزلته إليكم؟ فيصدر عنهم الجواب، بأنّا قرأناه كذا و كذا، فيقال لهم: ما أنزلناه هكذا فلم ضيّعتموه و حرّفتموه و نقصتموه؟
فيجيبوا أن يا ربّنا ما قصّرنا فيه و لا ضيّعناه و لا فرطنا، بل هكذا وصل إلينا.
فيخاطب حملة الوحى و يقال لهم: أنتم قصّرتم في تبليغ وحيي و أداء أمانتي؟ فيقولوا ربّنا ما فرطنا في وحيك من شي ء و إنّما فرط فيه فلان و فلان بعد مضيّ نبيّهم، فيظهر شناعه فعلهم و فضاحة عملهم لجميع أهل المحشر و يستحقّوا بذلك الخزى العظيم و العذاب الأليم مضافا إلى استحقاقهم للنّكال و العقاب بتفريطهم في أمر الرّسالة و تقصيرهم في غصب الخلافة.
فان قلت: سلّمنا أنّ عليّا عليه السّلام لم يتمكن من تصحيحه و أنّ بقائه على التّحريف كان مشتملا على المصلحة التي ذكرتها، و لكن بقي هنا شي ء و هو أنّ الأئمة لم لم يدفعوا ما عندهم من الكتاب المنظم المحفوظ السّالم عن التّحريف إلى الامّة و ما كان المانع لهم من ذلك؟
قلت: السّر في عدم إظهارهم عليهم السلام له وجوه كثيرة:
منها أنّه لو أظهر ذلك الكتاب مع بقاء هذا الكتاب المحرّف لوقع الاختلاف بين النّاس و يكون ذلك سببا لرجوع النّاس إلى كفرهم الأصلي و أعقابهم القهقرى.
و منها أنّ شوكة النّفاق يومئذ كان أكثر فلو أظهروه لأحدث المنافقون فيه مثل ما أحدثه رئيسهم قبلهم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 221
و منها أنّه مع إظهاره أيضا لا يكون له رواج، لمكان شهرة ذلك المحرّف إلى غير هذه من الأسرار التي تستفاد من الأخبار.
و كيف كان فقد ظهر و تحقّق ممّا ذكرنا كله أنّ حدوث التّحريف و النّقصان في القرآن ممّا لا غبار عليه.
و أمّا الزّيادة ففيها تردّد و الأقوى العدم إذ الدّليل عليها ليس إلّا عدّة روايات و هي لا تقاوم الاجماعات التي ادّعاها الشّيخ و الصّدوق و الطبرسي و المحقّق الكاظمي.
فان قلت: قد ظهر من كلام الصّدوق الاجماع على عدم النقيصة أيضا، فان كان الاجماع المنقول حجّة فهو حجّة في المقامين كليهما، و إلّا فلا يعبأ به في شي ء منهما و التّفرقة بينهما بالعمل به في أحدهما دون الآخر شطط من الكلام.
قلت: الاجماع المنقول إنّما هو معتبر لأجل إفادته الظن، و هو لا يكافؤ القطع الحاصل من الأخبار المتواترة الدّالة على النّقيصة، و لكن لما كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الظن الحاصل من أدلة الزّيادة لا جرم رجّحناه عليها. هذا تمام الكلام في المقام، و قد تكلّمنا فيه بمقتضى أفهامنا، و اللّه العالم بحقايق الامور.
التذييل الثالث:
اعلم أنّه قد تواترت الأخبار عن العترة الزّاكية و أجمعت الأصحاب من الفرقة النّاجية الاماميّة على أنّ قيم القرآن بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله أى العالم بتفسير محكماته و تأويل متشابهاته، و الحافظ لأسراره و آياته و أنوار بيّناته، هو عليّ و الطيّبون من أولاده عليهم السلام، و قد طابق العقل في ذلك النّقل فكلاهما متطابقان في علمهم بالقرآن.
أمّا العقل فلأنه قد علمت عند شرح قوله عليه السّلام: و لم يخل اللّه خلقه من نبيّ مرسل أو كتاب منزل أو حجّة لازمة، أنّ الأرض لا تبقى بلا حجّة من بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، إذ الحاجة من الخلق ماسّة دائما إلى وجود من يقرّبهم إلى اللّه و يهديهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 222
إلى سبيل ربّهم بالحكمة و الموعظة الحسنة، فلا بدّ أن يكون ذلك الحجّة عالما بجميع القرآن، إذ القرآن لا يكون بنفسه حجّة من دون قيّم، ضرورة أن القرآن ليس كتابا يقوم بعلمه عامة أهل النّظر من الفضلاء، فضلا عن غيرهم كيف؟ و أكثر أرباب النظر عاجزون عن مطالعة كتب الحكماء و فهمها، ككتب أفلاطن و أرسطو فكيف يمكنهم أن يعلموا القرآن و يفهموه، و هو كتاب الهيّ و كلام ربّانيّ نسبته إلى ساير الكتب كنسبة الرّب تعالى إلى مصنّفي تلك الكتب، و هو مشتمل على رموز و بطون و أسرار و نكات، فلا يهتدى إلى نوره إلّا بتأييد إلهيّ و إلهام رباني و تعليم نبويّ، و لم نجد أحدا يقال: إنّه علم القرآن كله، و إنّه قيمه إلّا عليّا و أولاده المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين فهم قيّم القرآن و عارفوه.
و في رواية الكافي عن منصور بن حازم، قال: قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام إلى أن قال: و قلت للنّاس: تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان هو الحجة من اللّه على خلقه، قالوا: بلى، قلت: فحين مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كان الحجة على خلقه؟
فقالوا: القرآن، فنظرت فاذا هو يخاصم فيه المرجئي و القدري و الزّنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرّجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلّا بقيم، فما قال فيه من شي ء كان حقّا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، و عمر يعلم، و حذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا: لا فلم أجد أحدا يقال: إنه يعرف ذلك كله إلّا عليّا صلوات اللّه عليه، و إذا كان الشي ء بين القوم، فقال هذا:
لا ادري، و قال هذا: لا أدري، و قال هذا: لا أدري و قال هذا: أنا أدري فاشهد أنّ عليا عليه السّلام كان قيّم القرآن، و كانت طاعته مفروضة، و كان الحجة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ ما قال في القرآن فهو حقّ فقال عليه السّلام «1» رحمك اللّه.
و اما النّقل فقد روي عن ابن عبّاس أنّه كان ليلة من الليالي عند أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يفسّر فاتحة الكتاب، فرأى نفسه عنده كجرّة عند بحر عظيم، و هو عليه السّلام قال لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب.
______________________________
(1) اى قال ابو عبد اللّه «ع» لمنصور، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 223
و في غاية المرام عن محمّد بن الحسن الصّفار باسناده عن الأصبغ بن نباتة، قال قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو كسرت لي و سادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، و أهل الانجيل بإنجيلهم و أهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى اللّه يزهر و اللّه ما نزلت آية في كتاب اللّه في ليل أو نهار إلّا و قد علمت فيمن انزل، و لا أحد مرّ على رأسه الموسى إلّا و قد نزلت فيه آية من كتاب اللّه تسوق إلى الجنة أو إلى النار، فقام إليه رجل، فقال يا أمير المؤمنين عليه السّلام: ما الآية التي نزلت فيك؟ قال عليه السّلام له: أما سمعت اللّه يقول:
«أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ» فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على بينة من ربّه، و أنا شاهد له فيه و أتلوه معه.
و في غاية المرام أيضا عن الشّيخ في أماليه باسناده عن عليّ عليه السّلام، قال: سلوني عن كتاب اللّه، فو اللّه ما انزلت آية من كتاب اللّه عزّ و جلّ في ليل أو نهار و لا مسير و لا مقام إلّا و قد أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علّمني تأويلها، فقام ابن الكوّا، فقال يا أمير المؤمنين: فما كان ينزل عليه و أنت غائب عنه؟ قال: كان يحفظ علىّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان ينزل عليه من القرآن و أنا عنه غائب حتّى اقدم عليه فيقرئنيه و يقول لي يا عليّ أنزل اللّه علىّ بعدك كذا و كذا، و تأويله كذا و كذا فيعلّمني تأويله و تنزيله.
و في البحار عن بصائر الدّرجات باسناده عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبيه عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام، قال: قلت له جعلت فداك: النبي صلّى اللّه عليه و آله ورث علم النّبيين كلهم؟ قال لي: نعم قلت: من لدن آدم إلى أن انتهى إلى نفسه، قال: نعم، قلت ورثهم النّبوة و ما كان في آبائهم من النّبوة و العلم، قال: ما بعث اللّه نبيّا إلّا و قد كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعلم منه، قال: قلت: إنّ عيسى بن مريم كان يحيي الموتى باذن اللّه، قال: صدقت، و سليمان بن داود كان يفهم كلام الطير، قال: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقدر على هذه المنازل، فقال: إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده و شكّ في أمره:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 224
«ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» و كانت المردة و الرّيح و النمل و النّاس و الجنّ و الشّياطين له طائعين، و غضب عليه، فقال:
«لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» و إنّما غضب عليه لأنّه كان يدله على الماء فهذا و هو طير قد أعطى ما لم يعط سليمان، و إنّما أراد ليدله على الماء فهذا لم يعط سليمان و كانت المردة له طائعين و لم يكن يعرف الماء تحت الهواء و كانت الطير تعرفه، إنّ اللّه يقول في كتابه:
«وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى » «1» فقد ورثنا نحن هذا القرآن فعندنا ما تسير به الجبال و تقطع به البلدان و يحيى به الموتى باذن اللّه، و نحن نعرف ما تحت الهواء و إن كان في كتاب اللّه لآيات لا يراد بها أمر من الامور التي اعطاها اللّه الماضين النّبيين و المرسلين إلّا و قد جعله اللّه ذلك كله لنا في امّ الكتاب، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول:
«وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ثمّ قال عزّ و جلّ: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» فنحن الذين اصطفانا اللّه، فقد ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان كلّ شيء.
و في الكافي باسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:
______________________________
(1) شرط حذف جوابه و المراد منه تعظيم شان القرآن او المبالغة في عناد الكفرة و تصميمهم اى و لو ان قرانا زعزعت به الجبال عن مقارها لكان هذا القرآن لانه الغاية فى الاعجاز و النهاية فى التذكير و الانذار، تفسير بيضاوى. «ج 14»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 225
«قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» قال: ففرّج أبو عبد اللّه عليه السّلام بين أصابعه فوضعها في صدره، ثم قال و عندنا و اللّه علم الكتاب كله.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن اذينة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أيضا قال: الذي عنده علم الكتاب، هو أمير المؤمنين عليه السّلام و سئل عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم أم الذي عنده علم الكتاب؟ فقال عليه السّلام ما كان علم الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلّا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر.
و في غاية المرام عن محمّد بن الحسن الصّفار باسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: قد ولدني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا أعلم كتاب اللّه، و فيه بدؤ الخلق و ما هو كائن إلى يوم القيامة و فيه خبر السّماء و خبر الأرض و خبر الجنّة و خبر النّار و خبر ما كان و خبر ما هو كائن، أعلم ذلك كانّما أنظر إلى كفّي إنّ اللّه يقول:
«فيهِ تِبْيانُ كُلِّ شَيْ ءٍ» و قريب منه ما في الكافي باسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: و اللّه إنّي لأعلم كتاب اللّه من أوّله إلى آخره كأنّه في كفي، فيه خبر السّماء و خبر الأرض و خبر ما كان و خبر ما هو كائن، قال اللّه عزّ و جل فيه تبيان كلّ شي ء.
قال بعض المحقّقين: قوله عليه السّلام: كأنّه في كفّي تنبيه على أنّ علمه بما في الكتاب شهودي بسيط واحد بالذّات متعلّق بالجميع، كما أن رؤية ما في الكفّ رؤية واحدة متعلقة بجميع أجزائه، و التّعدد إنّما هو بحسب الاعتبار.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 226
و قوله عليه السّلام: فيه خبر السّماء يعنى من أحوال الأفلاك و حركاتها و احوال الملائكة و درجاتها و حركات الكواكب و مداراتها و منافع تلك الحركات و تاثيراتها إلى غير ذلك من الامور الكاينة في العلويات و المنافع المتعلقة بالفلكيات.
و قوله عليه السّلام: و خبر الأرض يعنى من جوهرها و انتهائها و ما فى جوفها و أرجائها و ما في تحتها و أهوائها و ما فيها من المعدنيات و ما تحت الفلك من البسايط و المركبات التي يتحير في إدراك نبذ منها عقول البشر، و يتحيّر دون بلوغ أدنى مراتبها ظاهر الفكر و النّظر.
و قوله عليه السّلام: و خبر ما كان و خبر ما هو كائن أى من أخبار السّابقين و أخبار اللّاحقين كلياتها و جزئياتها و أحوال الجنّة و مقاماتها و تفاوت مراتبها و درجاتها و أخبار المثاب فيها بالانقياد و الطاعة و المأجور فيها بالعبادة و الزّهادة و أهوال النّار و دركاتها و أحوال مراتب العقوبة و مصيباتها، و تفاوت مراتب البرزخ في النّور و الظلمة، و تفاوت أحوال الخلق فيه بالرّاحة و الشّدة، كلّ ذلك بدليل قوله: فيه تبيان كل شي ء، أى كشفه و ايضاحه فلا سبيل إلى إنكاره.
التذييل الرابع:
اعلم أنّه قد ورد الأخبار المتظافرة في النّهى عن تفسير القرآن بالرّأى منها ما في مجمع البيان، قال: اعلم أنّ الخبر قد صحّ عن النّبيّ و الأئمة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصّحيح و النّص الصّريح، قال: و روى العامّة أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ و منها ما عن تفسير العيّاشي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال من فسّر القرآن إن أصاب لم يوجر، و إن أخطأ سقط أبعد من السماء.
و منها ما عن الرّضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام، قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ «قال ظ» اللّه عزّ و جلّ في الحديث القدسي ما آمن بي من فسّر كلامى برأيه، و ما عرفني من شبّهني بخلقى، و ما على ديني من استعمل القياس في ديني.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 227
و منها ما رواه في الكافي عن زيد الشّحام في حديث قتادة مع أبي جعفر عليه السّلام قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام: و يحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت إنّما أخذته من الرّجال فقد هلكت و أهلكت إلى أن قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ طائفة من متأخّري أصحابنا و هم الأخباريّون قالوا:
بعدم جواز استنباط حكم من الأحكام من القرآن و عدم جواز الاستدلال به على شي ء من المسائل إلّا بعد صدور بيانه من الأئمة عليهم السّلام، متمسكا بالأخبار المذكورة، و بأدلة أخرى استدلّوا بها على مذهبهم في محالها، و قد خالفوا في ذلك جميع المجتهدين، لاتّفاقهم على جواز العمل بمحكمات الكتاب نصّا كان أو ظاهرا و استدلّوا عليه بأدلة وافية و براهين شافية تعرّضوا لها في علم الاصول، و لا حاجة لنا في المقام إلى إشباع الكلام في هذه المسألة، و إنّما مقصودنا تحقيق معنى الأخبار المذكورة ليتّضح المراد بها و يظهر أيضا عدم دلالتها على ما رامه الأخبارية فنقول: إنّ التفسير مأخوذ من الفسر و هو كشف السّتر عن المستور، يقال:
فسّر الشّي ء فسرا إذا كشف عن غطائه، و قد يقال: إنّه كشف المراد عن اللفظ المشكل، و في الاوقيانوس انّه في عرف المفسرين مرادف للتّأويل و في المصباح فسّرت الشّي ء فسرا من باب ضرب بيّنته و اوضحته، و عن الصحاح الفسر البيان، و قد فسرت الشي ء افسره بالكسر فسرا و التّفسير مثله.
اذا عرفت هذا فاعلم انّه إن اريد بالتّفسير المذكور في الأخبار المعنيان الأوّلان، فلا يكون فيها دلالة على المنع عن العمل بالظواهر و بالنّصوص بطريق اولى، لظهور انّ التّفسير على المعنيين المذكورين إنّما يكون في الألفاظ التي معانيها خفية مستورة، و الألفاظ التي معانيها مشكلة كالمجملات و المتشابهات، و لا ريب انّ المعاني الظاهرة من الألفاظ بنفسها لا سترة عليها حتّى يحتاج إلى الكشف، و لا إشكال فيها حتّى يحتاج إلى الفسر.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 228
و امّا على القول بكونه مرادفا للتّاويل فكذلك، إذ نحن لا ننكر عدم جواز تأويل ما يحتاج إلى التّأويل من تلقاء النّفس و نعترف بانحصار علم المتشابهات المحتاجة إليه في الأئمة عليهم السّلام، لقوله تعالى:
«وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» و لكن اين ذلك من اتّباع المحكمات من العمل بالظواهر، نعم على القول بأنّ معناه البيان و الايضاح كما حكيناه عن المصباح و الصّحاح يكون للاستدلال بالأخبار المذكورة وجه، لعدم اختصاص التّفسير على ذلك المعنى بالالفاظ المجملة و المتشابهة إلّا أن يقال: إنّ المراد بالرّأى في الأخبار المذكورة هو الاعتبار العقلي الظني الرّاجع إلى الاستحسان، فالمراد من التّفسير بالرّأى حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو أحد احتماليه، لرجحان ذلك في نظره القاصر، فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية و العرفية الظاهرة، فالمقصود بهذه الرّوايات ذمّ المخالفين و طردهم من حيث استغنائهم بآرائهم الفاسدة عن مراجعة أهل البيت عليهم السلام، و يشعر بذلك ما قاله سبحانه. في الحديث القدسي السّالف: و ما على ديني من استعمل القياس في ديني، و يرشد إليه ما روي عن الصّادق عليه السّلام، قال في حديث طويل:
هلك النّاس في المتشابه، لأنّهم لم يقفوا على معناه و لم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم فاستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء، و يمكن أن يراد بالرّأى الهوى و ميل الطبع.
توضيحه ما ذكره الغزالي في إحياء العلوم و هو أن يكون له في الشّي ء رأى و إليه ميل من طبعه و هواه فيتأوّل القرآن على وفق رايه و هواه ليحتجّ على تصحيح غرضه، و لو لم يكن له ذلك الرّأي و الهوى فكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى، و هذا تارة يكون مع العلم، كالذي يحتجّ ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته و هو يعلم أنّه ليس المراد بالاية ذلك، و لكن يلبس به على خصمه و تارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن و يستدل عليه بما يعلم أنّه ما اريد به كالذي يدعو
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 229
إلى مجاهدة القلب القاسى فيقول قال اللّه عزّ و جلّ: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى »* و يشير إلى قلبه و يؤمي إلى أنّه المراد بفرعون، و هذا الجنس قد يستعمله بعض الوعّاظ في المقاصد الصّحيحة، تحسينا للكلام و ترغيبا للمستمع، و قد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير النّاس و دعوتهم إلى مذهبهم الباطل فينزلون القرآن على وفق رأيهم و مذهبهم على امور يعلمون قطعا أنّها غير مرادة به انتهى ملخصا.
و قد ظهر و اتّضح ممّا ذكرنا كله أنّ الأخبار المأثورة لا تنهض دليلا على المنع من استنباط الأحكام من الظواهر و محكمات الكتاب، و لا على المنع من العمل بها إلّا بعد السّماع و النّقل كيف و قد مدح اللّه سبحانه المستنبطين بقوله: لعلمه الذين يستنبطونه، و ورد الأخبار المتواترة بعرض الأخبار المتعارضة على كتاب اللّه و أخذ الموافق له و طرح المخالف، فتدل على أنّ الكتاب حجة و معروض عليه، و لو لم يصحّ فهم معناه إلّا بالنّص كيف يمكن العرض عليه و هو غير مفهوم المعنى، و تمام الكلام في ذلك موكول إلى حواشينا على قوانين الاصول هذا.
و قد بقي في المقام بعض أبحاث قرآنية من تواتره و تواتر قراءات السّبع و فضائله و فضائل قراءته و سماعه و النّظر فيه و غير ذلك من المباحث الشّريفة النّفيسة، إلّا أنّا طوينا عنها كشحا لخوف الاطالة و الاطناب، و لعلّنا نشير إلى بعضها في المقام المناسب، و اللّه الموفّق و المعين.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى) ؛ ج 2 ؛ ص229
الترجمة:
كه عبارتست آن خليفه گذاشته شده از كتاب پروردگار شما در حالتى كه بيان كننده بود آن حضرت حلال آنرا و حرام آن را و فضيلتهاى آن را كه مندوبات است و فريضه هاى آن را كه واجباتست و نسخ كننده آنرا و نسخ كرده شده آن را و رخصتهاى آن را كه در حال ضرورت اذن داده شده و عزيمتهاى آن را كه در هيچ حال اذن مخالفت آنها داده نشده، و خاصهاى آنرا و عامهاى آن را و عبرت هاى آنرا و مثل هاى آنرا و مطلقات آنرا و مقيدات آن را و محكمات آنرا كه واضح الدلالة هستند و متشابهات آنرا كه غير واضح الدلالة مى باشند در حالتى كه آن حضرت تفسير كننده بود مجمل هاى آن را، و بيان كننده بود مشكل هاى آنرا، در حالتى كه آن كتاب ميان چيزى است كه اخذ كرده شده است پيمان دانستن آن، و ميان چيزيست كه وسعت داده شده بر بندگان در جهالت آن، و ديگر ميان آن چيزيست كه ثبت شده است در كتاب فرض و وجوب آن، و دانسته شده است در سنت نبوى نسخ آن، و ديگر ميان آن چيزيست كه واجبست در سنت اخذ و فرا گرفتن آن و اذن و رخصت داده شده است در آن كتاب ترك نمودن آن، و ديگر مسائل آن چيزيست كه واجبست در وقت خود و زايل است در زمان استقبال خود، و ديگر ميان حكمى است كه جدا شده است ميان محرمات خود با شدت و ضعف، كه آن محرمات عبارتست از كبيرى كه وعده داده است بر آن آتش سوزان خود را، و از صغيرى كه آماده و مهيا فرموده است بجهة آن رحمت و غفران خود را، و ديگر ميان چيزيست كه مقبول است در مرتبه ادناى خود و موسع است يعنى وسعت داده شده در مرتبه اعلاى خود.