منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 345
و من خطبة له عليه السّلام و هى الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية:
نسبة لها إلى ما عبر به عنها و هو لفظة الشّقشقية، حيث قال عليه السّلام: تلك شقشقة هدرت اه، و ربّما تعرف بالمقمصة أيضا من حيث اشتمالها على لفظ التقمّص الوارد في أوّلها، و هو نظير التّعبير عن السّور بأشهر ألفاظها كالبقرة و آل عمران و الرّحمن و الواقعة و غير ذلك، و لا بدّ قبل الشروع في المقصود من تمهيد مقدّمات:
الاولى إنّه قد وقع الخلاف بين علماء الخاصة و كثير من علماء العامة في أنّ هذه الخطبة من كلام الامام عليه السّلام أو من كلام الرّضيّ رضي اللّه عنه.
أمّا الخاصّة فالظاهر اتّفاقهم على الأوّل، و لم يظهر لى إلى الآن من ينكر كونها منه عليه السّلام، و قد نقلها جمع كثير من المحققين من الفقهاء و المتكلّمين و المحدّثين و غيرهم في مؤلفاتهم من دون إشارة إلى خلاف فيها منهم.
و أمّا العامة فكثير منهم ذهبوا إلى الثّاني و أنكروا كونها من كلامه عليه السّلام نظرا إلى ما اشتملت عليه من التّظلم و الشكاية في أمر الامامة و دلالتها على اغتصاب الخلافة، و قد أفرط بعضهم و قال: إنّه عليه السّلام لم يصدر منه شكاية قط و لا كلام في هذا الأمر أصلا.
و منهم من أذعن بكونها منه عليه السّلام إلّا أنّه على زعمه الفاسد أوّل المطاعن المشتملة عليها على وجه لا يوجب القدح في سلفهم، و من هؤلاء الفرقة القاضي عبد الجبار البغدادي و الشّارح المعتزلي حسبما تعرفه في كلامه الذي نحكيه.
أقول: و الحقّ أنّه لا غبار على كونها منه عليه السّلام و لا معنى لانكار ذلك.
أمّا أولا فلشهادة فصاحتها و حسن اسلوبها و بديع نظمها على أنّها كلام فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق، فهي بنفسها شاهد صدق على أنّها صادرة من مصدر الامامة و معدن الولاية.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 346
و أمّا ثانيا فلضعف مستند المنكر إذ الألفاظ المشتملة على التّظلم و الشكاية قد صدرت منه عليه السّلام فوق حد الاحصاء، كما يشهد به ملاحظة أخبار السقيفة و غيرها، و المناقشة بينه عليه السّلام و بين المتخلّفين في أمر الخلافة ممّا صارت من الضروريات لا ينكره إلّا جاهل أو متجاهل.
و أمّا ثالثا فلأنّ هذه الخطبة قد وجدت في كتب جماعة من العامة و الخاصة صنّفت قبل زمن الرّضي.
قال الشّارح البحراني: قد وجدتها في موضعين تاريخهما قبل مولد الرّضيّ بمدّة أحدهما أنّها مضمنة كتاب الانصاف لأبي جعفر بن قبة تلميذ أبي القاسم الكعبي أحد شيوخ المعتزلة و كانت وفاته قبل مولد الرّضيّ الثاني أني وجدتها بنسخة عليها خط الوزير أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات، و كان وزير المقتدر باللّه و ذلك قبل مولد الرّضيّ بنيف و ستين سنة، و الذي يغلب على ظني أنّ تلك النسخة كانت كتبت قبل وجود ابن الفرات بمدة انتهى.
و قال الشّارح المعتزلي حدّثني شيخي أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث و ستمائة، قال: قرأت على الشّيخ أبي محمّد عبد اللّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فقلت له: أتقول إنّها منحولة؟ فقال: لا و اللّه، و إنى لأعلم أنّه كلامه كما أعلم أنّك مصدّق، قال: فقلت: له إنّ كثيرا من النّاس يقولون: إنّها من كلام الرّضيّ، فقال: أنى للرضيّ و لغير الرّضيّ هذا النّفس و هذا الاسلوب، قد وقفنا على رسايل الرّضيّ و عرفنا طريقته و فنّه في المنثور و ما يقع مع هذا الكلام في خلّ و لا خمر، قال: و اللّه لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنّفت قبل أن يخلق الرضيّ بمأتي سنة، و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها و أعرف خطوط من هي من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النّقيب أبو محمّد والد الرّضىّ.
قال الشّارح: قلت: و قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة فى تصانيف شيخنا أبى القاسم البلخى إمام البغداديين من المعتزلة و كان فى دولة المقتدر قبل أن يخلق
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 347
الرضيّ بمدة طويلة، و وجدت أيضا كثيرا منها فى كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الاماميّة و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الانصاف، و كان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبى القاسم البلخى و مات فى ذلك العصر قبل أن يكون الرضيّ (ره) موجودا، انتهى.
و قال المحدّث العلامة المجلسى (ره) فى البحار و من الشواهد على بطلان تلك الدعوى الواهية الفاسدة أنّ القاضى عبد الجبار الذي هو من متعصبي المعتزلة قد تصدّى فى كتابه المبنى لتأويل بعض كلمات الخطبة و منع دلالتها على الطعن فى خلافة من تقدّم عليه و لم ينكر استناد الخطبة إليه، و ذكر السيّد المرتضى رضي اللّه عنه كلامه فى الشّافى و زيّفه و هو أكبر من أخيه الرضيّ (ره) و قاضى القضاة متقدّم عليهما، و لو كان يجد للقدح فى استناد الخطبة إليه مساغا لما تمسك بالتّأويلات الرّكيكة فى مقام الاعتذار و قدح كما فعل فى كثير من الروايات المشهورة، و كفى للمنصف وجودها في تصانيف الصّدوق (ره) و كانت وفاته سنة تسع و عشرين و ثلاثمأة، و كان مولد الرضيّ سنة تسع و خمسين و ثلاثمأة، انتهى كلامه (ره) و يشهد به أيضا رواية المفيد لها في كتاب الارشاد، و هو (ره) شيخ الرّضيّ و استاده.
فقد ظهر و استبان ممّا ذكرنا كله أنّه لا وجه لانكار كون الخطبة منه عليه السّلام، و ظني أنّ من أنكر ذلك إنّما أنكره من حيث إنّه رأى صراحتها في الطعن على المنتحلين للخلافة لا جرم بادر إلى الانكار كي لا يلتزم بمقتضاها كما هو دأبهم و ديدنهم في اكثر النّصوص المفيدة لانحصار الخلافة فيه عليه السّلام، أو للطعن في غيره و كفى بذلك إنكار بعضهم حديث الغدير المتواتر الذي قاله النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمحضر سبعين ألفا من المهاجر و الأنصار و الحاضر و الباد، و ليت الشّارح المعتزلي أنكرها أيضا من أصلها كي يستريح من تكلّفاته الفاسدة و تأويلاته الباردة التي ارتكبها لرفع العار و الشّناعة عن الثلاثة و لن يصلح العطار ما أفسد الدّهر.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 348
الثانية اعلم أنّه قد طال التّشاجر بين الخاصّة و العامة في مسألة الامامة فاختلفوا تارة في أنّ نصب الامام بعد انقراض زمن النّبوة هل هو واجب على اللّه أم علينا عقلا أو سمعا و ثانية في أنّ العصمة هل هي لازمة للامام أم لا و ثالثة في أنّ الامام هل يجب أن يكون أفضل من رعيّته و رابعة في أنّ الامام بعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله من هو إلى غير ذلك من المسائل التي صارت معركة للارآء بين علماء الاسلام، و تفصيلها موكول إلى علم الكلام و لا حاجة لنا إلى إشباع الكلام فيها.
و إنّما المقصود بالبحث في هذه المقدّمة هو انّ الشّارح المعتزلي مع قوله بأفضليّة أمير المؤمنين عليه السّلام و اختياره تفضيله على المتخلّفين الثلاثة بأىّ معنى حمل الأفضل أعنى الأكثر ثوابا أم الاجمع لمزايا الفضل و الخلال الحميدة و مع مبالغته و مزيد اصراره في ديباجة الشّرح في تشييد مبانى هذا الأصل و تاسيس اساسه أنكر فرع ذلك الأصل كشيوخه البغداديّين، و ضاعت منه ثمرة هذه الشّجرة و التزم بترجيح المرجوح على الرّاجح، و تقديم المفضول على الأفضل مع كونه قبيحا عقلا و نقلا.
و أسند ذلك القبيح تارة إلى اللّه سبحانه و تعالى كما قال في خطبة الشّرح: و قدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف، و أسنده اخرى إلى أنّ الامام عليه السّلام بنفسه قدّم غيره على نفسه لما تفرّس من اضطراب دعائم الاسلام مع عدم التّقديم له من حيث ضغن العرب و حقدهم له و وجود السخايم في صدورهم.
و قد كرّر ذلك الكلام في تضاعيف الشّرح و بالغ فيه شدّة المبالغة كمبالغته في إنكار النّصّ الجليّ على إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و ذهابه إلى أنّ استحقاقه عليه السّلام الخلافة إنّما كان من أجل الأفضلية لا من جهة التّنصيص و وجود النّص به من اللّه أو من النّبي صلّى اللّه عليه و آله من حيث قصور النّصوص عن الدّلالة على رأيه الفاسد و نظره الكاسد أو التزامه بتأويلها مع تسليمه صراحتها نظرا إلى قيام الدّليل القطعي على زعمه على خلافها و هو الاجماع المنعقد على خلافة الأوّل و كون بيعته بيعة صحيحة شرعيّة إلى غير ذلك من المزخرفات التي طوس منها شرحه و شيّد بها مذهبه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 349
و قد ذكر منها شطرا يسيرا في ذيل الخطبة السّابقة حسبما عرفت هناك و لفّق منها كثيرا في شرح هذه الخطبة و غيرها من الخطب الآتية، و قد التزمنا في شرحنا ذلك أن ننبّه على هفواته و نكشف عن خطاياه و زلّاته بقدر الامكان على حسب ما يقتضيه المقام.
و لما كان بسط الكلام في كلّ ما زلّ فيه قدمه أو طغى فيه قلمه يوجب الاطالة و الاطناب أحببنا أن نذكر في هذه المقدّمة أصلا كافيا يرجع إليه، و دليلا وافيا يعتمد عليه في إبطال جميع ما ذهب إليه ينتفع به في شرح هذه الخطبة و سابقتها، و يسهل الحوالة إليه في شرح الخطبة التّالية ممّا احتيجت إلى الاحالة فيها، فالمقصود في هذه المقدّمة هو إثبات خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام و إقامة الدّليل على انحصار الخلافة بالنّقل و العقل كليهما. فأقول و باللّه التكلان و هو المستعان: إنّ هنا مقصدين. المقصد الاول في الأدلة النّقلية و النّصوص اللّفظية و هي على قسمين.
القسم الاول الآيات القرآنية، و هي كثيرة لا تحصى و نحن نذكر منها طايفة ممّا هي اقوى دلالة و أثبت حجة.
منها [آية الولاية]:
قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ».
تقريب الاستدلال أنّ الوليّ قد جاء في اللّغة تارة بمعنى النّاصر و المعين، كقوله تعالى: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».
و اخرى بمعنى المتصرف و الأحقّ به و الأولى بذلك، و من ذلك السلطان وليّ من لا وليّ له و قوله صلّى اللّه عليه و آله: أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليها، و لا يجوز أن يراد به في الآية
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 350
المعنى الأول، إذ الولاية بذلك المعنى عامة لجميع المؤمنين كما يشهد به الآية السّابقة، فلا بدّ أن يكون المراد به المعنى الثّاني كي يستقيم الحصر المستفاد من كلمة إنّما، فاذا ثبت أنّ المراد به الأولى بالتصرف فالمراد به أمير المؤمنين عليه السّلام لا غير.
أما أولا فللاجماع المركب. إذ كلّ من قال: إنّ المراد بالآية هو الشخص الخاص بمقتضى كلمة الحصر فقد قال: إنّ المراد به هو عليّ عليه السّلام.
و أمّا ثانيا فللاجماع على أنّ ايتاء الزكاة في حال الرّكوع لم يكن إلّا في حقّ عليّ عليه السّلام، فتكون الآية مخصوصة به و دالة على إمامته.
و أمّا ثالثا فلاتفاق المفسرين على ما حكاه شارح التّجريد القوشجي على أنها نزلت في حقه عليه السّلام حين أعطى السّائل خاتمه و هو راكع في صلاته، و مثله ابن شهرآشوب في كتاب الفضائل حيث قال في محكي كلامه: اجتمعت الامة على أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام انتهى.
و أمّا رابعا فلدلالة الأخبار المتظافرة بل المتواترة من العامة و الخاصة على نزولها فيه عليه السّلام، و قد نقل السيّد المحدّث العلامة السيّد هاشم البحراني في كتاب غاية المرام من طرق العامة أربعة و عشرين حديثا في نزولها فيه عليه السّلام، و من طريق الخاصّة تسعة عشر حديثا، من أراد الاطلاع فليرجع إليه و في ذلك قال حسان بن ثابت:
أبا حسن تفديك نفسي و مهجتى و كلّ بطي ء في الهواء و مسارع
أ يذهب مدحي و المخبر ضايع و ما المدح فى جنب الاله بضايع
فأنت الذي اعطيت اذ كنت راكعا فدتك نفوس القوم يا خير راكع
فأنزل فيك اللّه خير ولاية و بيّنها فى محكمات الشّرايع
هذا، و أورد النّاصب الفخر الرّازي فى التّفسير الكبير على الاستدلال بالآية تارة بعدم إمكان أن يكون المراد بها عليّ عليه السّلام، و أخرى بأنّها على تقدير أن يكون المراد بها هو ذلك لا دلالة فيها على ولايته عليه السّلام، لأنّه إنّما يتمّ إذا كان المراد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 351
بلفظ الولي هو المتصرف لا النّاصر و المحبّ، و هو ممنوع بل حمله على الثّانى أولى.
و استدل على الأوّل أعنى عدم امكان كون المراد بها أمير المؤمنين سلام اللّه عليه بوجوه:
الاوّل أنّ الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى: و آتوا الزكاة، فلو أنه أدّى الزكاة الواجبة فى حال كونه فى الرّكوع لكان قد أخّر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب، و ذلك عند أكثر العلماء معصية و أنّه لا يجوز إسناده الى عليّ عليه السّلام، و حمل الزكاة على الصّدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أنّ قوله: و آتوا الزكاة، ظاهره يدلّ على أنّ كل ما كان زكاة فهو واجب.
الثاني هو أنّ اللائق بعليّ عليه السّلام أن يكون مستغرق القلب بذكر اللّه حال ما يكون فى الصلاة، و الظاهر أنّ من كان كذلك فانه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير و لفهمه، و لهذا قال تعالى:
«الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و من كان قلبه مستغرقا في الفكر كيف يتفرّغ لاستماع كلام الغير.
الثّالث أنّ دفع الخاتم في الصّلاة للفقير عمل كثير و اللّايق بحال عليّ عليه السّلام أن لا يفعل ذلك.
الرّابع أنّ المشهور أنّه عليه السّلام كان فقيرا و لم يكن له مال تجب فيه الزّكاة، و لذلك فانّهم يقولون: إنّه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة هل أتى، و ذلك لا يمكن إلّا إذا كان فقيرا، فأمّا من كان له مال تجب فيه الزّكاة يمتنع أن يستحقّ المدح العظيم المذكور في تلك السّورة على اعطاء ثلاثة أقراص و إذا لم يكن له مال تجب فيه الزّكاة امتنع حمل قوله: و يؤتون الزكاة و هم راكعون، عليه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 352
أقول: و يتوجه على الأوّل منع كون الزكاة اسما للواجب فقط، بل هو كساير أسامي العبادات موضوع للواجب و المندوب كليهما، و إلّا لزم أن يكون للمندوبات اسم تختصّ به وراء أسامي الواجبات، و هو خلاف ما اتّفق عليه الكلّ إذ لم نطلع إلى الآن على أحد يفرّق بين الواجب و المندوب في الاسم، و لم نجد للمندوبات أسامي مستقلّة غير أسماء الواجبات في كتبهم الفقهية و الأصوليّة، و لا في شي ء من الكتاب و السنّة، و كون الزكاة في الآية واجبة من حيث تعلّق الأمر بها لا يدلّ على كون مطلق التّسمية للواجب، إذ التّسمية مقدّمة على الحكم ذاتا و رتبة فلا دلالة فيها على أنّ كلّ ما كان زكاة فهو واجب و لو في غير مقام تعلّق الأمر كما في الآية التي نحن بصددها، و كما في قولنا الزّكاة عبادة، و نحو ذلك، و على فرض التنزل و المماشاة نمنع كون تأخير أدائها عن وقت الوجوب مطلقا معصية إذ ربّما يجوز تأخيرها لعدم وجود المستحقّ، أو لعذر آخر و لا إثم على ذلك بوجه، بل يجوز التّأخير مع العزل أيضا على مذهب البعض، بل و مع عدم العزل أيضا إلى شهرين على مذهب أبي حنيفة و غيره من العامة، و كيف كان فلا خفاء في فساد ما توهّمه.
و على الثّاني أنّ استغراق القلب بالذكر فى الصلاة إنما ينافي التّوجه إلى الامور الدّنيوية الشّاغلة عن الذكر، و أمّا إعطاء الخاتم للفقير المستحقّ ابتغاء لمرضاته سبحانه و التّوجه إلى سؤاله فلا ينافي الاستغراق، بل هو عين الذكر.
يعطي و يمنع لا تلهيه سكرته عن النّديم و لا يلهو عن الكاس
أطاعه سكره حتّى تمكّن من فعل الصّحات فهذا أفضل النّاس
و لو كان مطلق التوجّه إلى الغير منافيا للاستغراق لم يتصوّر ذلك في حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه قد حصل ذلك في حقّه كما يدلّ عليه: ما استدلّ به الشّافعيّ على جواز التّنبيه في الصّلاة على الحاجة بتسبيح و نحوه، بأنّ عليّا عليه السّلام قال: كانت لي ساعة أدخل فيها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فان كان في الصّلاة سبّح و ذلك إذنه، و إن كان في غير الصّلاة، أذن، و ما استدلّ به أبو حنيفة على عدم جواز ردّ جواب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 353
السّلام في الصّلاة بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل مسجد بني عمرو بن عوف يصلي و دخل معه صهيب، فدخل معه رجال من الأنصار يسلّمون عليه، فسألت صهيبا كيف كان يصنع إذا سلّم عليه؟ قال: يشير بيده، و لو كان استماع كلام الغير مطلقا منافيا للاستغراق كيف يستمع السّلام و يشير بيده على ما مرّ أو يردّ الجواب، علي ما رواه الباقر عليه السّلام من أنّ عمّارا سلّم عليه صلّى اللّه عليه و آله فردّ عليه السّلام و يأتي على ذلك دليل آخر «1» فانتظر و على الثّالث منع كون ذلك فعلا كثيرا اولا إذ ليس ذلك بأزيد من خلع النّبي صلّى اللّه عليه و آله نعليه في الصّلاة و هما فعلان و ليس بأكثر من حمله صلّى اللّه عليه و آله أمامة بنت أبي العاص، و كان إذا سجد وضعها و إذا قام رفعها، و قتل عقربا و هو يصلّي، و أخذ بأذن ابن عباس و أداره عن يساره إلى يمينه، و أمر بقتل الأسودين في الصّلاة:
الحيّة و العقرب و ثانيا على فرض التنزل و المماشاة أنّ الكثرة إنّما يسلم لو كان عليه السّلام مباشرا للخلع و الاعطاء، و أمّا إذا كان خلعه بفعل السّائل باشارة منه عليه السّلام فلا.
و هو الذي رواه الحمويني من علماء العامة باسناده عن أنس بن مالك أن سائلا أتى المسجد و هو يقول: من يقرض المليّ الوفيّ، و عليّ صلوات اللّه عليه راكع يقول بيده خلفه للسّائل أن اخلع الخاتم من يدي، قال: فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: يا عمرو جبت قال: بأي و أمي يا رسول اللّه ما وجبت؟ قال: وجبت له الجنّة، و اللّه ما خلعه من يده حتّى خلعه من كلّ ذنب و من كل خطيئة، و قال الزّمخشري في الكشّاف:
إنّ الآية نزلت في عليّ عليه السّلام حين سأله سائل و هو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنّه كان مرحبا «مرخيا ظ» في خنصره فلم يتكلّف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته و في هذا المعنى قال دعبل الخزاعي:
اذا جاءه المسكين حال صلاته فامتدّ طوعا بالذّراع و باليد
فتناول المسكين منه خاتما هبط الكريم الاجودي الاجود
فاختصّه الرّحمن في تنزيله من حاز مثل فخاره فليعدد
______________________________
(1) و هو ما يأتي بعيد هذا من حمل النبي لامامة و قتله العقرب، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 354
انّ الاله وليّكم و رسوله و المؤمنين فمن يشأ فليجحد
يكن الاله خصيمه غدا و اللّه ليس بمخلف فى الموعد
و على الرّابع أنّ المراد بالزكاة فى الاية الصّدقة النّافلة لما عرفت من صحة إطلاقها عليها كصحّة اطلاقها على الواجبة و كونه فقيرا لم يكن له مال يجب فيه الزّكاة فلا ينافي إعطاء الزّكاة تطوعا كما قال الفرزدق:
لا يقبض العسر بسطا من اكفهم سيّان ذلك ان أثروا و ان عدموا
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما يستوكفان و لا يعروهما العدم
هذا، و غير خفيّ أنّ فقره عليه السّلام لم يكن من عجزه و عدم تمكنه من جمع المال بل إنّما هو من كثرة الجود و السّخاء، و كفى بذلك أنّه لم يخلّف ميراثا و كانت الدّنيا كلّها بيده إلّا ما كان من الشّام و نحوه، و شاهد صدق على ما ذكرنا الخاتم الذي أعطاه للسّائل و قد ذكر الغزالى فى محكي كلامه عن كتاب سرّ العالمين أن ذلك الخاتم كان خاتم سليمان بن داود عليه السّلام و فى رواية عمّار بن موسى السّاباطى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ الخاتم الذي تصدّق به أمير المؤمنين عليه السّلام وزن أربعة مثاقيل حلقته من فضّة و فصّه خمسة مثاقيل و هو من ياقوتة حمراء و ثمنه خراج الشّام، و خراج الشام ثلاثمأة حمل من فضة و أربعة أحمال من ذهب و كان الخاتم لمرّان بن طوق قتله أمير المؤمنين عليه السّلام و أخذ الخاتم من اصبعه و أتى به إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من جملة الغنائم و أمره النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يأخذ الخاتم فأخذ الخاتم و أقبل و هو فى اصبعه و تصدّق به على السّائل فى أثناء صلاته خلف النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و كيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ عدم وجوب الزّكاة عليه لم يكن من أجل عدم تملكه للنّصاب كما يتوهّم من ظاهر كلام النّاصب بل قد تملّك نصبا كثيرة و بذل نصبا كثيرة و إنّما المانع من تعلّق الوجوب هو أنّه لم يكن حريصا على جمع المال حتى يحول عليه الحول، يمنعه من الادّخار ملكة الجود و السخاء و الزهد، و لأنّ اللازم على
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 355
أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة النّاس كيلا يتبيغ «1» بالفقير فقره، و حاصل الكلام منع كونه فقيرا بالمعنى الذي يتوهّم من كلام الناصب أوّلا، و منع امتناع حمل الآية عليه على تقدير كونه عادما لمال يجب فيه الزكاة ثانيا فافهم جيّدا هذا.
و استدل على الثاني أعنى أولوية إرادة الناصر و المحب من لفظ الوليّ بالنسبة إلى المتصرف بوجوه.
الأول أنّ اللايق بما قبل هذه الآية و ما بعدها ليس إلّا هذا المعنى، أمّا ما قبل هذه الآية فلأنه تعالى قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ».
و ليس المراد لا تتخذوا اليهود و النصارى أئمة متصرّفين فى أرواحكم و أموالكم، لأنّ بطلان هذا كالمعلوم بالضّرورة، بل المراد لا تتخذوا اليهود و النصارى أحبابا و أنصارا و لا تخالطوهم و لا تعاضدوهم، ثمّ لما بالغ في النّهي عن ذلك قال: إنّما وليكم اللّه و رسوله و المؤمنون الموصوفون، و الظاهر أنّ الولاية المأمور بها هاهنا هي المنهىّ عنها فيما قبل، و لما كانت الولاية المنهيّ عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النّصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النّصرة، و أمّا ما بعد هذه الآية فهي قوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
فأعاد النّهي عن اتخاذ اليهود و النصارى و الكفّار أولياء، و لا شك أنّ الولاية المنهيّ عنها هي الولاية بمعنى النّصرة فكذلك الولاية في قوله: إنّما وليكم اللّه، يجب أن يكون هي بمعنى النصرة، و كلّ من أنصف و ترك التعصب و تأمل في مقدمة الآية
______________________________
(1) تبيغ عليه الامر و اختلط و الدم هاج ق
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 356
و في مؤخرها قطع بأنّ الوليّ في قوله: إنّما وليكم اللّه، ليس إلّا بمعنى النّاصر و المحبّ، و لا يمكن أن يكون بمعنى الامام، لأنّ ذلك يكون القاء الكلام الأجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد، و ذلك يكون في غاية الركاكة و السّقوط و يجب تنزيه كلام اللّه تعالى عنه.
الثّاني أنّا لو حملنا الولاية بمعنى التّصرف و الامامة لما كان المؤمنون المذكورون في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية، لأنّ عليّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه ما كان نافذ التّصرف حال حياة الرّسول، و الآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال، أمّا لو حملنا الولاية على المحبة و النصرة كانت الولاية حاصلة فى الحال، فثبت أنّ حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التّصرف، و الذي يؤكد ما قلناه أنّه تعالى منع من اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين، فلا بدّ و أن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة فى الحال حتّى يكون النّفى و الاثبات متواردين على شي ء، و لما كانت الولاية بمعنى التصرّف غير حاصلة فى الحال امتنع حمل الآية عليها.
الثّالث أنّه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع، و هى قوله: و الذين آمنوا الذين يقيمون الصّلاة و يؤتون الزّكاة و هم راكعون، و حمل الألفاظ الجمع و إن جاز على الواحد على سبيل التّعظيم لكنّه مجاز لا حقيقة و الأصل حمل الكلام على الحقيقة.
الرّابع انّا قد بيّنا بالبراهين البيّن أن الآية المتقدّمة و هي قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه إلى آخر الآية من أقوى الدّلالة على صحّة إمامة أبي بكر، فلو دلت هذه الآية على صحة إمامة عليّ بعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لزم التناقض بين الآيتين و ذلك باطل، فوجب القطع بأنّ هذه الآية لا دلالة فيها على أنّ عليّا هو الامام بعد الرّسول.
الخامس انّ عليّ بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الرّوافض، فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتجّ بها في محفل من المحافل، و ليس للقوم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 357
أن يقولون إنّه تركه للتقية، فانّهم ينقلون عنه أنّه تمسك يوم الشّورى بخبر الغدير و خبر المباهلة و جميع فضائله و مناقبه و لم يتمسّك البتة بهذه الآية في إثبات إمامته، و ذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الرّوافض لعنهم اللّه.
السّادس هب أنّها دالة على إمامة عليّ لكنّا توافقنا على أنّها عند نزولها ما دلت على حصول الامامة في الحال، لأنّ عليّا ما كان نافذ التّصرف في الامة حال حياة الرّسول عليه الصّلاة و السّلام، فلم يبق إلّا أن تحمل الآية على أنّها تدلّ على أنّ عليّا سيصير إماما بعد ذلك، و متى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه و نحمله على إمامته بعد أبي بكر و عمر و عثمان، إذ ليس في الآية ما يدلّ على تعيين الوقت، فان قالوا: الامة في هذه الآية على قولين، منهم من قال: إنّها لا تدلّ على إمامة عليّ، و منهم من قال إنّها تدلّ على إمامته و كلّ من قال بذلك قال: إنّها تدلّ على إمامته بعد الرّسول من غير فصل: فالقول بدلالة الآية على إمامة عليّ لا على هذا الوجه قول ثالث، و هو باطل، لأنا نجيب عنه، فنقول: و من الذي أخبركم أنّه ما كان أحد في الامة قال هذا القول، و من المحتمل بل من الظاهر أنّه منذ استدلّ مستدلّ بهذه الآية على إمامة عليّ فانّ السائل يورد على ذلك الاستدلال هذا السؤال، فكان ذكر هذا الاحتمال و هذا السّؤال مقرونا بذكر هذا الاستدلال.
السّابع أنّ قوله: إنّما وليكم اللّه و رسوله لا شك أنّه خطاب مع الامة، و هم كانوا قاطعين بأنّ المتصرف هو اللّه و رسوله، و إنّما ذكر اللّه هذا الكلام تطييبا لقلوب المؤمنين و تعريفا لهم بأنّه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب و الانصار من الكفار، و ذلك لأنّ من كان اللّه و رسوله ناصرا له و معينا فأىّ حاجة له إلى طلب النصرة و المحبة من اليهود و النصارى، و إذا كان كذلك كان المراد بقوله: إنّما وليكم اللّه و رسوله، هو الولاية بمعنى النّصرة و المحبة، و لا شك أنّ لفظ الوليّ مذكور مرّة واحدة، فلما اريد هاهنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف، لما ثبت أنّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا.
الثامن أنّه تعالى مدح المؤمنين في الآية السابقة بقوله:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 358
«يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» فاذا حملنا قوله: إنّما وليكم اللّه و رسوله، على معنى المحبّة و النصرة كان قوله:
إنما وليكم اللّه و رسوله، يفيد فايدة قوله: يحبهم و يحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، و قوله: يجاهدون في سبيل اللّه، يفيد فايدة قوله: يقيمون الصّلاة و يؤتون الزّكاة و هم راكعون، فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكّدة لمعناها فكان ذلك أولى، فثبت بهذه الوجوه أنّ الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف.
ثم قال الناصب أمّا الوجه الذي عوّلوا عليه و هو أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامة و الولاية بمعنى النصرة عامة فجوابه من وجهين.
الاوّل أنّا لا نسلّم أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامة و لا نسلّم أنّ كلمة إنّما، للحصر و الدّليل عليه قوله:
«إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» و لا شك أنّ الحياة الدّنيا لها أمثال اخرى سوى هذا المثل، و قال:
«إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ»* و لا شك أنّ اللّعب و اللّهو قد يحصل في غيرها.
الثاني لا نسلّم أنّ الولاية بمعنى النصرة عامة في كلّ المؤمنين و بيانه أنّه تعالى قسم المؤمنين قسمين أحدهما الذين جعلهم موليا عليهم و هم المخاطبون بقوله إنما وليكم اللّه و الثاني الأولياء، و هم المؤمنون الذين يقيمون الصّلاة و يؤتون الزّكاة و هم راكعون، فاذا فسرنا الولاية هاهنا بمعنى النصرة كان المعنى أنّه تعالى جعل أحد القسمين أنصارا للقسم الثّاني، و نصرة القسم الثاني غير حاصلة لجميع المؤمنين و لو كان كذلك لزم في القسم الذي هم المنصورون أن يكونوا ناصرين لأنفسهم، و ذلك محال، فثبت أن نصرة أحد قسمى الامة غير ثابتة لكلّ الامة، بل مخصوصة بالقسم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 359
الثاني من الامة، فلم يلزم من كون الولاية المذكورة في هذه الآية خاصّة أن لا تكون بمعنى النصرة، و هذا جواب حسن دقيق لا بدّ من التّأمل فيه، انتهى كلامه هبط مقامه.
أقول: و الجواب عن الوجه الأوّل أوّلا أنّ كون الولي في الآية السابقة و اللاحقة بمعنى الناصر لا دلالة فيه على كون المراد به في هذه الآية ذلك المعنى أيضا باحدى من الدلالات، و ما استدلّ به عليه من أنّه لو لا ذلك لزم إلقاء الكلام الأجنبيّ بين كلامين مسوقين لغرض واحد و ذلك في غاية الركاكة، ففيه منع الأجنبيّة أولا إذ الولاية بمعنى النصرة شأن من شئونات الولاية المطلقة، فحيث إنه سبحانه نهى عن اتخاذ الكفار أولياء أى أنصارا أثبت الولاية المطلقة لنفسه و لرسوله و للمؤمنين الموصوفين، و من المعلوم أنّ الولاية المطلقة أعني التصرف في امور المؤمنين على وجه الاطلاق شاملة على التصرف بالنصرة، فعلى ذلك يكون في الآية دلالة على كون اللّه و رسوله و المؤمنين الموصوفين ناصرين لساير المؤمنين على وجه الكمال، فعلى ذلك التئم أجزاء الكلام على أحسن اتساق و انتظام، و منع كون هذه الاجنبية موجبة للركاكة ثانيا، إذ المجانبة بينها ليست بأزيد من المجانية بين الشّرط و الجزاء في قوله تعالى:
«وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» و على تقدير تسليم الرّكاكة فيكون ذلك اعتراضا على خليفتهم عثمان ثالثا، لظهور أنّ هذه الآيات الثلاث لم تنزل دفعة واحدة، بل قد نزلت تدريجا و نجوما، و قد جمعها عثمان بهذا الوجه و حرّف الكلم عن مواضعها و لم يرتّب الآيات كما هو حقّها.
و ثانيا أنّ توافق الآيات و جريها على نسق واحد و إن كان مقتضيا لحمل الوليّ هاهنا على النّاصر و موجبا لظهوره فيه، إلّا أنّه إذا امتنع حمله عليه بمقتضى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 360
كلمة الحصر و الجملة الوصفيّة الظاهرتين في المعنى الآخر حسبما عرفت في تقريب الاستدلال و ستعرفه أيضا، فلا بدّ من رفع اليد عن ذلك الظهور، و بعبارة اخرى ظهور التّناسق يوجب حمله على النّاصر إلّا أنّه معارض بظهور الحصر و الوصف في المعنى الآخر ان لم يكونا نصّين فيه، و الثّاني أقوى من الأوّل فيجب المصير اليه.
و عن الثّاني بأنّه إنّما يتمّ على مذهب من يجعل المشتقّ حقيقة في الحال كما هو الأشهر، و أمّا على مذهب من يجعله حقيقة في مطلق ما اتّصف بالمبدإ سواء كان في الماضي أو في الحال أو الاستقبال إذا كان محكوما عليه فلا، فيكون ذلك مثل قوله تعالى:
«السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» حيث إنّهم يستدلّون بهذه الآية على وجوب قطع يد السّارق، و لو لم يكن سارقا حين نزول الآية إلّا أنّ هذا القول لما كان غير مرضيّ عندنا على ما حقّقناه في حاشيتنا على القوانين و نبّهنا هناك أيضا على ضعف الاستدلال بآية السّرقة، فالأولى الاعراض عنه و الجواب على المذهب المختار الموافق للمشهور، و هو أنا لا ننكر كون المشتقّ حقيقة في الحال أى حال التّلبس، و لازمه الاتصاف بالولاية حال نزول الآية لظهور الجملات الخبريّة في كون حال التّلبس فيها هو حال النّطق إلا أنّا نقول:
إنّ الحقيقة إذا كانت متعذّرة بما ذكره النّاصب من عدم الاتصاف بالولاية بمعنى التصرف حال النّزول، فلا بدّ من المصير إلى المجاز و هو المتلبس به في المستقبل، و أما ما ذكره من أنّا لو حملنا الولاية على النّصرة كانت الولاية حاصلة في الحال، ففيه أنّ حصول النصرة حين نزول الآية من المؤمنين الموصوفين بل و من الرّسول أيضا غير معلوم.
فان قلت: سلّمنا و لكن بين المعنين فرق واضح، و هو أن تصرّفهم أعني المؤمنين حال النزول معلوم العدم و نصرتهم غير معلومة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 361
قلت: اللّازم في صحة الاطلاق الحقيقى للمشتقّ هو العلم بالاتصاف بالمبدإ حال الاطلاق، و عدم العلم به غير كاف في صحة الاطلاق، بل هو كالعلم لعدم الاتصاف يوجب مجازية الاطلاق، و بالجملة فقد تحقّق بما ذكرنا أنّ جعل الولي بمعنى النّاصر لا يكفي في صحة الاطلاق الحقيقي و أنّ ما اعترض به على جعله بمعنى المتصرف وارد على جعله بمعنى الناصر حرفا «1» بحرف. فاللّازم حينئذ حمله على المعني المجازي و هو المتّصف بالولاية أعمّ من أن يكون في الماضى و الحال و الاستقبال جميعا كما في اللّه و رسوله، و من أن يكون في خصوص الاستقبال كما في المؤمنين الموصوفين، و هذا كله مبني على المماشاة مع الخصم، و إلّا فنقول: إن المراد بالوليّ في الآية هو الأولى بالتّصرف كما هو أحد معانيه اللغويّة و عليه فالاعتراض ساقط من أصله كما لا يخفى.
و عن الثّالث أوّلا بالنّقض، فانّه قد قال في تفسير قوله تعالى:
«وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ» انّ المراد من اولى الفضل ابو بكر و كنى عنه بلفظ الجمع، و الواحد إذا كني عنه بلفظ الجمع دلّ على علوّ شأنه كقوله تعالى:
______________________________
(1) لا يقال سلمنا ورود هذا الايراد على جعله بمعنى الناصر و لكنه لا يتوجه على جعله بمعنى المحب اذ المحبة قد كانت موجودة حال نزول الآية لانا نقول اولا انه استدل بالادلة الثمانية على اولوية ارادة الناصر بالنسبة الى المتصرف لا على اولوية ارادة المحب كما هو صريح كلامه في اصل العنوان، و ثانيا سلمنا ان غرضه الاستدلال على اولويتهما كليهما بالنسبة اليه حسبما يظهر من كلامه فى اصل العنوان و من اراداته المحبة بالنصرة و المحب بالناصر فى تضاعيف الادلة لكنا نقول انه ان اراد بالنصرة النصرة الناشئة عن المحبة و بالمحبة المحبة المشتملة على النصرة، و بعبارة اخرى معنى واحدا شاملا عليهما فيتوجه عليه الايراد كتوجهه على ارادة النصرة فقط حرفا بحرف و ان اراد بالمحبة مجرد الحب الخالى عن النصرة ففيه حينئذ انه مغاير للنصرة قطعا فلا وجه لعطفه عليه غير مرة فى كلامه لاستلزام ارادتها معا استعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد و هو غير مرضى عند المحققين و عنده أيضا حسبما صرح به فى كلامه و استدل به على عدم جواز ارادة الناصر و المتصرف معا، فافهم جيد، امنه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 362
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» فانظر انّ الشّخص الذي كناه اللّه سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علوّ شأنه انتهى.
و ثانيا بالحلّ، و هو أنّ الأصل في الاستعمال و إن كان هو الحقيقة إلّا أنّه مع قيام القراين القطعية من الأخبار العامية و الخاصيّة على إرادة المعنى المجازي لابدّ من حمل اللفظ عليه، مضافا إلى ما في حسن التعبير بلفظ الجمع من اشتماله على التّعظيم و النكتة اللطيفة التي لا تخفى، و هي ما أشار إليه في الكشّاف، قال:
فان قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ عليه السّلام و اللفظ لفظ الجماعة؟ قلت: جي ء به على لفظ الجمع و إن كان السبب فيه رجلا واحدا ليرغب النّاس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه و لينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين لا بدّ أن يكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ و الاحسان و تفقد الفقراء حتّى أن لزمهم أمر لا يقبل التأخير و هم في الصّلاة لم يؤخّروه إلى الفراغ منها انتهى.
و عن الرابع بأنّه مما تضحك منه الثكلى، لانّه خلاف ما اتفقت عليه الامة، أما الخاصة فلأنهم اتفقوا على أنّ الآية أعنى قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتداه، إنما هي إشارة إلى ظهور الدّولة الحقة القاهرة و إلى رجعة آل محمّد و سلطنتهم سلام اللّه عليه و عليهم، و عليه قد دلت الاخبار المتظافرة من طرقهم و من طريق العامة كما رواها فى غاية المرام، أو إلى أنّ المراد بالمرتدّين هم الناكثون و القاسطون و المارقون، و بقوم يحبّهم و يحبّونه، هم أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه كما فى أخبار اخر و أمّا العامة فلاتفاقهم على أنّ خلافة أبي بكر كانت مستندة إلى البيعة لا إلى النّص و أيضا لو كان الآية دالّة على صحّة خلافته للاستدلال بها يوم السّقيفة و ليس فليس، و العجب كل العجب أنّ النّاصب يقول: إنّ المراد بقوم يحبّهم و يحبّونه هو ابو بكر و أصحابه، و الشّيعة يقولون: إنّ هؤلاء داخلون في قوله: من يرتدّ منكم عن دينه و إنّ المراد بالمرتدّين هم الغاصبون لحقّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله فانظر ما ذا ترى من التّفاوت بين القولين و يأتي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 363
إنشاء اللّه تحقيق ابطال مقال هذا الناصب في هذه الآية بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثامن من الخطبة المائة و الحادية و التسعين.
و عن الخامس بأنّ عدم تمسّكه سلام اللّه عليه بهذه الآية ممنوع، بل قد تمسك بها كما تمسك بخبر الغدير و المباهلة و غيرهما، و قوله: و لم يتمسك البتة بهذه الآية إن أراد به عدم ورود تمسكه بها في أخبارهم فهو مسلّم إلّا أنّه لا يوجب القطع بعدم التمسّك، إذ جلّ مسائل الحقّة لم يرد به رواية منهم، و هو لا يدلّ على انتفاء تلك المسائل واقعا و إن أراد به عدم ورود خبر على ذلك من طرق الخاصّة كوروده في تمسّكه بخبر الغدير و المباهلة، ففيه منع ذلك، لورود تمسكه بها في بعض أخبارهم مثل ورود التمسك بغيرها، و هو ما رواه في كتاب غاية المرام من مجالس الشيخ باسناده إلى أبي ذر في حديث منا شدة أمير المؤمنين عليه السّلام عثمان و الزّبير و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص يوم الشّورى و احتجاجه عليهم بما فيه من النّصوص من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الكلّ منهم يصدّقه فيما يقوله، فكان فيما ذكره عليه السّلام: فهل فيكم أحد آتى الزّكاة و هو راكع فنزلت فيه:
«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» غيرى؟ قالوا: لا، و في ذلك الكتاب أيضا عن ابن بابويه باسناده عن أبي سعيد الوراق عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام في حديث منا شدة عليّ عليه السّلام لأبي بكر حين ولى أبو بكر الخلافة و ذكر عليه السّلام فضائله لأبي بكر و النّصوص عليه من رسول اللّه فكان فيما قال له: فانشدك باللّه ألي الولاية من اللّه مع ولاية رسول اللّه في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال: بل لك، فقد ظهر ممّا ذكرنا غفلة النّاصب اللعين عن أخبار الشّيعة و لا غرو في ذلك فانّه جاهل بما هو أعظم من ذلك و ليس ذلك من الظالمين ببعيد.
و عن السّادس أوّلا بمنع عدم ثبوت الولاية له عليه السّلام حال نزول الآية، لما قد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 364
ذكرنا سابقا أنّ المراد بالولي هو الأولى بالتّصرف، و هذا المعنى كان حاصلا له حال النزول، و ثانيا سلّمنا أنّ الآية مفيدة لكونه وليا في المستقبل نظرا إلى كون الوليّ بمعنى المتصرف، إلّا أنّا نمنع قوله. و نحمله على إمامته بعد أبي بكر و عمر و عثمان اه، إذ الآية كما هي مثبتة لامامته عليه السّلام، كذلك نافية للامامة عن غيره حسبما حققناه في تقريب الاستدلال و سنحقّقه أيضا بما لا مزيد عليه، و عليه فلا يبقى للثّلاثة خلافة حتّى يتأخّر عليّ عليه السّلام عنهم أو يتقدّم عليهم و هو ظاهر، و ثالثا أنّ قوله: فانّ المحتمل اه، واضح الفساد، إذ مجرّد احتمال الخلاف لا يوجب القدح في حجّية الاجماع، و إلا لم يسلم شي ء من الاجماعات للحجية، و العجب كلّ العجب أنّ الناصب اللّعين يسقط الاجماع عن الحجّية هنا بمجرّد احتمال المخالف، و يحتج له كغيره على خلافة أبي بكر مع وجود الخلاف القطعي المحقق هناك من غير واحد من أعاظم الصّحابة، فكيف يكون الاجماع على البيعة حجة مع وجود الخلاف القطعي و لا يكون ذلك دليلا بمجرّد احتمال الخلاف.
و عن السّابع أنّا قد ذكرنا سابقا أنّ التّصرف بالنّصرة شأن من شئونات الولاية المطلقة و عليه فتطيب قلوب المؤمنين كما يحصل بتعريفهم كون اللّه و رسوله ناصرا لهم كذلك يحصل بتعريفهم كونه سبحانه و رسوله أولى بالتّصرف فى أرواحهم و أبدانهم و متصرفا فيهم بالنصرة و بغير النصرة في جميع حالاتهم و أطوارهم، بل حصول التطيب بالثّاني أقوى و آكد من حصوله بالأوّل كما هو غير خفيّ على العارف الفطن.
و عن الثّامن أنّ الآيتين لا ربط لاحداهما بالاخرى، و لا داعي إلى تكلف التطبيق بينهما، إذ كلّ منهما مسوقة لمقصود غير ما قصد بالاخرى، مضافا إلى ما في المناسبة التي أبدئها بينهما من سخافة لا تخفى هذا.
و بقى الكلام في الوجهين اللذين أجاب بهما النّاصب اللعين عمّا عوّل عليه أصحابنا من كون الولاية المذكورة في الآية غير عامة، و الولاية بمعنى النّصرة عامة فاقول:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 365
أما الوجه الأوّل ففيه أنّه إن أراد بقوله: لا نسلّم أنّ كلمة انّما للحصر عدم إفادتها الحصر في خصوص تلك الآية فيتوجّه عليه أنه لا يناسب على ذلك الاستدلال له بالآيتين، لعدم دلالة عدم إفادتها للحصر فيهما على زعمه عدم إفادتها له في هذه الآية بشي ء من الدّلالات، و إن أراد به عدم إفادتهما مطلقا كما هو الظاهر من كلامه، ففيه مضافا إلى أنّه خلاف ما صرّح به نفسه في تفسير قوله:
«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ»* أوّلا أنّ المتبادر منها هو الحصر فيكون حقيقة فيه، لأنّ التبادر علامة الحقيقة، و ثانيا أنّ المشهور بين الاصوليّين و اللغويين و النّحويين هو ذلك، و إليه ذهب الجوهري و صاحب القاموس و حكى عن البيضاوي في المنهاج، و السّكاكي في المفتاح، و القزويني في الايضاح، و إليه ذهب من أصحابنا رضوان اللّه عليهم الشيخ و المحقّق و العلامة و الطبرسي و الطريحي و العميدي و نجم الأئمة الرّضي و غيرهم بل قد ادعى عليه الاتفاق جماعة منّا و منهم، منهم العلامة في التّهذيب قال: إنّما للحصر بالنقل عن أهل اللغة، و في النّهاية قال أبو علي الفارسي: إنّ النحاة أجمعوا عليه و صوّبهم فيه و نقله و قوله حجة، و الطريحي في مجمع البحرين قال: و إنّما المتكرّر في الكتاب و السنة و كلام البلغاء فهي على ما نقل عن المحققين موضوعة للحصر عند أهل اللغة، و لم نظفر بمخالف لذلك و استعمال العربيّة و الشّعراء و الفصحاء إيّاها بذلك يؤيّده انتهى.
و عن الأزهري في كتاب الزّهر عن أهل اللغة أنّ إنّما يقتضى ايجاب شي ء و نفي غيره، و في التّلخيص تبعا للمفتاح في مقام الاستدلال لافادتها للحصر قال لتضمّنه معنى ما و إلّا، لقول المفسرين:
«إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ»* بالنّصب معناه ما حرّم اللّه عليكم إلّا الميتة، و هو المطابق لقرائة الرّفع و لقول النّحاة: إنّما لاثبات ما يذكر بعده و نفى ما سواه انتهى، و مع ذلك كلّه لا وجه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 366
لمنع إفادتها الحصر إذ قول اللغوى الواحد معتبر في باب الأوضاع فضلا عن الشّهرة المحصّلة و الاتفاقات المحكيّة مضافا إلى الأدلة التي استدلوا بها في كتب الاصول و البيان و النّحو و غيرها.
و امّا الآيتان اللتان استدل بهما ففيهما أولا منع عدم إفادتهما الحصر فيهما و لو بالتّأويل القريب يشهد بذلك وقوع كلمة ما و إلّا عوضها فى الآية الاخرى و هو قوله: «وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ».
إذ لا خلاف فى افادتها للحصر و ثانيا سلّمنا ذلك إلّا أنّهما لا تثبتان الدّعوى لكونهما أخصّ من المدّعى حسبما أشرنا إليه سابقا و ثالثا أن الاستعمال أعمّ من الحقيقة، و المجاز خير من الاشتراك، فقد تحصّل ممّا ذكرنا كله أنّها حقيقة فى الحصر فتكون مجازا في غيره فبطل القول بكونه حقيقة في الثّاني كما حكى عن الامدى و أبى حيان و غيرهما، و القول بكونها مشتركة بينهما بالاشتراك اللفظى كما هو محتمل كلام الفيومى فى المصباح، و تفصيل الكلام زيادة عن ذلك فليطلب من مواضعه.
و أمّا الوجه الثّاني ففيه أنّ جعل المؤمنين على قسمين أحدهما الناصرون و الآخر المنصورون لا يسمن و لا يغنى من جوع بيان ذلك أنّ كلمة إنّما مفيدة للحصر و مقتضية لاثبات الولاية للّه و لرسوله و للمؤمنين الموصوفين نافية لها عمّن سواهم، فمقتضى الآية بحكم أداة الحصر هو اختصاص الولاية لهؤلاء الثلاثة و هو إنّما يتمّ لو جعل المراد بالآية الأولى بالتّصرف بخلاف ما لو اريد بها النّصرة، ضرورة عدم اختصاص النصرة بهم بل يعمهم و غيرهم من المؤمنين الغير الموصوفين بالصّفة المذكورة لحصولها منهم و من غيرهم و حينئذ فلا يكون للحصر فايدة و هذا معنى قولنا: إنّ الولاية بمعنى النصرة عامة من حيث عدم اختصاصها بالمؤمنين المتّصفين بايتاء الزّكاة فى حال الرّكوع و ليس معناه أنها عامة لجميع المؤمنين حتّى يعترض عليه بجعلهم على قسمين و تخصيصها بأحد القسمين كما توهمه الناصب.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 367
لا يقال: إنّ هذا يتمّ لو جعل جملة و هم راكعون حالية، و أمّا لو جعلت معطوفة فلا.
لانا نقول: لا يجوز جعلها عطفا لأنّ الصّلاة قد تقدّمت و هى مشتملة على الرّكوع فيكون إعادة ذكر الرّكوع تكرارا، فوجب جعلها حالا أى يؤتون الزّكاة حالكونهم راكعين و قد وقع الاجماع على أنّ ايتاء الزّكاة حال الرّكوع لم يكن إلّا من عليّ عليه السّلام، فقد تحقق ممّا ذكرنا كله أنّ الآية الشريفة من أقوى الدلايل على خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام و أنّ اعتراضات الناصب اللعين أو هن من نسج العنكبوت فهو من:
«الْأَخْسَرينَ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ» و أقول على رغم الناصب:
يا من بخاتمه تصدّق راكعا إنّى ادّخرتك للقيامة شافعا
اللّه عرّفني و بصّرنى به فمضيت فى دينى بصيرا سامعا
و منها [آية الإطاعة]:
قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»: تقريب الاستدلال أنّه سبحانه أمر بطاعة اولى الامر كما أمر بطاعة الرّسول، و هو يقتضى عموم طاعتهم حيث إنّه سبحانه لم يخصّ طاعتهم بشي ء من الاشياء ففى فقد البيان منه تعالى دلالة على ارادة الكلّ و إذا ثبت ذلك لا بدّ و أن يكون وليّ الامر معصوما عن الخطاء، إذ مع عدم عصمته عن الخطاء لم يؤمن من وقوع الخطاء منه، و على تقدير وقوع الخطاء منه يلزم أن يكون قد أمرنا اللّه بمتابعته فيلزم منه أمره سبحانه بالقبيح و هو محال، فثبت أن أمره سبحانه بمتابعة اولى الامر و طاعتهم مستلزم لعصمتهم، و إذا ثبت دلالة الآية على العصمة و عموم الطاعة ثبت أنّ المراد باولى الامر فيها الأئمة عليهم السّلام، إذ لا أحد يجب طاعته على ذلك الوجه بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا هم سلام اللّه عليهم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 368
و بهذا التّقرير ظهر ضعف ما ذهب إليه العامة من حمل أولى الأمر على المتخلّفين الثّلاثة كما ذهب إليه منهم طائفة، و حمله على امراء السّرايا كما ذهبت إليه طائفة اخرى، و على علماء العامة كما هو مذهب طائفة ثالثة، ضرورة انتفاء العصمة عنهم جميعا مضافا إلى عدم وجوب طاعة الامراء كالعلماء على نحو العموم باتّفاق منّا و منهم، و إنّما طاعة الامرآء واجبة فيما تعلّق بإمارتهم، و طاعة العلماء كذلك في الأحكام الشّرعيّة، على أن الامرآء كالعلماء ربّما يختلفون في الآراء، ففي طاعة بعضهم عصيان بعض، و إذا أطاع المؤمن بعضهم عصى الآخر لا محالة هذا.
و ذهب النّاصب فخر المشكّكين إلى أنّ المراد بأولى الأمر أهل الحلّ و العقد و أنّ الآية دالة على أنّ اجماع الامة حجّة حيث قال بعد ما أثبت دلالة الآية على وجوب عصمة اولى الأمر بمثل ما أثبتناه ما هو صريح عبارته: فثبت قطعا أنّ اولى الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوما قطعا، ثمّ نقول: ذلك المعصوم إمّا مجموع الامة أو بعض الامة لا جايز أن يكون بعض الامة لأنّا بيّنا أن اللّه تعالى أوجب طاعة اولى الأمر في هذه الآية قطعا، و ايجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم و الاستفادة منهم، و نحن نعلم بالضّرورة أنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم عاجزون عن استفادة الدين و العلم منهم، و إذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر اللّه المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الامة، و لا طائفة من طوايفهم، و لما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله و اولى الأمر أهل الحلّ و العقد من الامة و ذلك يوجب القطع بأنّ اجماع الامة حجّة.
ثمّ إنّه بعد طائفة من الكلام في النقض و الابرام في ذلك المرام قال:
و أمّا حمل الآية على ما تقوله الرّوافض ففي غاية البعد لوجوه.
أحدها ما ذكرناه أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم و قدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق، و لو أوجب علينا طاعتهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 369
إذا صرنا عارفين بهم و بمذاهبهم صار هذا الايجاب مشروطا، و ظاهر قوله: أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول و أولى الأمر منكم، يقتضى الاطلاق، و أيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، و ذلك لأنّه تعالى أمر بطاعة الرّسول و طاعة اولى الأمر فى لفظة واحدة و هو قوله: و أطيعوا الرّسول و اولى الأمر منكم، و اللّفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة و مشروطة، فلما كانت هذه اللّفظة مطلقة في حقّ الرّسول وجب أن تكون مطلقة في حقّ اولى الأمر.
الثّاني أنّه تعالى أمر بطاعة اولى الأمر، و أولو الأمر جمع و عندهم لا يكون في الزّمان إلّا إمام واحد و حمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.
و ثالثها أنه قال: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ».
و لو كان المراد بأولى الأمر الامام المعصوم لوجب أن يقال: فان تنازعتم في شي ء فردّوه إلى الامام، فثبت أنّ الحقّ تفسير الآية بما ذكرناه، انتهى كلامه هبط مقامه.
أقول: و أنت خبير بما فيما ذهب اليه من الضعف و الفساد.
أما اولا فلأنّ ما ذكره من دلالة الآية على حجيّة الاجماع، إمّا أن يكون مراده به إجماع جميع الامة كما هو المستفاد من صدر كلامه و ذيله أعني قوله:
الآية دالة على أنّ إجماع الامة حجّة و قوله: و ذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الامة حجة، و إمّا أن يكون مراده به خصوص إجماع أهل الحلّ و العقد و هم المجتهدون و هو الأظهر بملاحظة قوله: فوجب أن يكون ذلك المعصوم أهل الحلّ و العقد، فان كان مراده به الأوّل، ففيه أنّ إجماع جميع الامة لا يمكن انعقاده إلى يوم القيامة فكيف يحمل الآية على غير الممكن، و ذلك لأنّ امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كلّ من تابعه إلى يوم القيامة و كلّ موجود في عصره فانّه بعض الامة، و إن كان مراده به الثّاني، ففيه أنّه لم يقم دليل على عصمة أهل الحلّ و العقد فلا يمكن حمل المعصوم الذي هو المراد بقوله و اولي الامر على ما حققناه و حققه عليهم بل لم يقم دليل على عصمة جميع الامة أيضا و إن استدلوا عليها بما رووه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قوله: لا يجتمع امّتى على الخطاء أو على خطاء، و قوله صلّى اللّه عليه و آله لا يجتمع
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 370
امّتي على الضّلالة، و قوله: سألت ربّي أن لا يجمع امّتي على الضّلالة فأعطانيها إلى غير ذلك من الاخبار التي استدلّوا بها في باب حجيّة الاجماع الغير النّاهضة لاثبات الدّعوى من حيث ضعف سندها و دلالتها من وجوه عديدة، على ما حقّقه أصحابنا رضوان اللّه عليهم في كتبهم الاصوليّة.
و أمّا ثانيا فلانّ المراد من المؤمنين المخاطبين. بقوله: يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه الآية: إمّا المجتهدون خاصّة، أو المقلّدون خاصّة، أو الاعمّ الشّامل للجميع، و لا يمكن إرادة واحد من الاولين لما فيه من التّخصيص الذي هو خلاف الاصل، مضافا إلى استلزامه اختصاص وجوب طاعة اللّه و رسوله باحدى الطائفتين، و إلى استلزامه حجيّة إجماع العوام على تقدير إرادة الثّاني، لانّ المخاطبين بقوله: فان تنازعتم في شي ء، هم المخاطبون الاولون، و مفهومه عدم وجوب الردّ إلى اللّه و الرّسول حين الاتفاق فيلزم حجية إجماع العوام حينئذ و لا يقول به الخصم، و إذا لم يمكن إرادة أحد الاوّلين تعيّن إرادة الثّالث أعني جميع المؤمنين الشّاملين للمجتهدين و المقلّدين، و عليه فلا بدّ و أن يكون أولو الامر غير المجتهدين، لئلا يلزم اتّحاد المطيع و المطاع، مع أنّ ظاهر اللفظ أيضا المغايرة فتعيّن أنّ المراد باولى الامر الائمة المعصومون و بطل ما توهّمه الناصب من حمله على أهل الحلّ و العقد و هذا تحقيق نفيس فافهمه جيّدا هذا.
و أمّا الوجوه الثّلاثة التي استبعد بها حمل اولى الامر في الآية على الائمة، فيتوجه على أوّلها أولا «1» أنّه مشترك الورود، إذ كما أنّ طاعة الامام المعصوم موقوف على معرفته و على قدرة الوصول إليه و استفادة الأحكام منه، فكذلك طاعة أهل الحلّ و العقد موقوفة على معرفتهم و على قدرة الوصول إليهم و استفادة الأحكام منهم و كما أنّا عاجزون في زماننا هذا عن الوصول إلى حضرة الامام عليه السّلام و عن استفادة الدّين و العلم منه فكذلك عاجزون عن الوصول إلى حضرة جميع أهل الحلّ و العقد و عن استفادة العلم منهم و الاطلاع على آرائهم و إن كان عجزنا في
______________________________
(1) هذا ايراد نقضى، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 371
الأوّل مستندا إلى غيبته عليه السّلام، و في الثّاني إلى كثرتهم و انتشارهم في شرق الارض و غربها.
و ثانيا «1» أنّ توقف طاعة اولى الأمر على معرفتهم و استفادة الأحكام منهم لا يوجب كون وجوبها مشروطا بذلك، و إنّما هي من مقدّمات الوجود، و بالجملة إطاعة اولى الأمر واجب مطلق، و الواجب المطلق تحصيل مقدّماته على عهدة المكلف، فيجب تحصيل العلم برأيهم حتّى يطيعهم، و عجزنا في هذا الزّمان عن الوصول إلى حضرة وليّ الأمر و عن العلم برأيه إنّما هو مستند إلى أنفسنا، لأنّه إذا كنا نحن السّبب في استتاره فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به و بتصرّفه و بما معه من الاحكام يكون قد أتينا من قبل نفوسنا فيه، و لو أزلنا سبب الاستتار لظهر و انتفعنا به و أدّى إلينا الحقّ الذي عنده و تمكنّا من طاعته و امتثاله، هذا كله مضافا إلى عدم تمشى ما ذكره في زمان حضور الائمة فلم يكن مانع يومئذ عن حمل اولى الامر عليهم، و إنّما المانع الذي توهّمه النّاصب و هو العجز عن الوصول إلى وليّ الامر مختصّ بزمان الغيبة الكبرى فدليله أخصّ من مدّعاه.
و على الثّاني أولا نمنع أنّه لا يكون في الزّمان إلا إمام واحد، فانّه متعدّد في زمان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و من بعده من الائمة، لوجود أولادهم المعصومين معهم و ثانيا أنّ الجمع باعتبار تعدّدهم و ان تعدّدت الازمنة، و لا دلالة في الآية على أنّ طاعتهم جميعا لا بدّ و أن يكون في زمان واحد، لامكان حصولها تدريجا كما وجد واحد منهم و ثالثا بعد الاغماض عمّا ذكر أنّ حمل الجمع على الفرد و إن كان خلاف الظاهر إلا أنّه مع قيام المقتضي عليه لا ضير فيه بل اللّازم حينئذ المصير إليه و المقتضى في المقام موجود، و هو أنّك قد عرفت أنّ وليّ الامر لا بدّ و أن يكون معصوما، و قد عرفت انحصار العصمة فيهم و بطلان ما توهّمه النّاصب كغيره من وجودها في الاجماع، فلا بدّ أن يكون المراد من اولى الامر الامام المعصوم و إن كان استعمال
______________________________
(1) هذا جواب بالحل منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 372
الجمع في الفرد خلاف الظاهر كما توهّمه النّاصب.
و على الثّالث أنّه غير مفهوم المراد إذ لا ملازمة بين كون المراد من اولي الامر الامام المعصوم و بين وجوب أن يقال: فان تنازعتم في شي ء فردّوه إلى الامام، اللّهم إلّا أن يوجّه بأن مراده أنّه لو كان المراد من اولى الامر الامام المعصوم لوجب أن يقال:
فان تنازعتم في شي ء فردّوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى اولى الامر منكم، و حيث لم يقل كذلك علم أنّ اولى الامر داخلون في المخاطبين بقوله: فان تنازعتم، فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد باولى الامر في قوله: و أطيعوا الرّسول و اولى الامر منكم، هو أهل الحلّ و العقد، و الجواب انّا قد بيّنا سابقا أنّ الظاهر أنّ المخاطبين بقوله: فان تنازعتم، هم المخاطبون بقوله: يا أيّها الذين آمنوا، فكما أنّ اولى الامر خارجة عن الخطاب الاوّل قطعا حسبما ذكرنا سابقا، فكذلك خارجة عن ذلك الخطاب أيضا، و أمّا عدم ذكر الرّد إليهم هنا فلا غناء ذكر الرّد إلى الرّسول عن الرّد إليهم، لانّ الرّد إلى الائمة القائمين مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد وفاته هو مثل الرّد إلى الرّسول في حياته لانهم الحافظون لشريعته و الهادون لامّته فجروا مجراه فيه.
لا يقال: هذا الكلام جار في الرّد إلى الرّسول أيضا، لأنّ الرّد إليه ردّ إلى اللّه فلم لم يستغن عنه بذكره؟
لانّا نقول: إنّ المراد بالرّد إلى اللّه هو الرّد إلى كتاب اللّه، و بالردّ إلى الرّسول هو الرد إلى السّنة، و من المعلوم عدم وفاء الكتاب بالمتنازعات و عدم كفايته في رفع النّزاغ عنها، إذ الاحكام المشتمل عليها الكتاب أقلّ قليل من الاحكام، فلا يغني ذكر الرد إليه عن ذكر الرد إلى السّنة المشتملة على جميع الاحكام الشّرعية الكافية في رفع النزاع عنها إلا قليل منها هذا.
و يؤيّد «1» ما ذكرنا أعني كون الردّ إلى اولي الامر مرادا بالآية أيضا ما رواه
______________________________
(1) و انما جعلناه مؤيد العدم كونه حجة على الناصب اللعين و ان كان من اقوى الادلة عندنا منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 373
عليّ بن إبراهيم القميّ في تفسيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: نزل فان تنازعتم في شي ء فارجعوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى أولى الامر منكم، و هو يدلّ على أنّ في مصحفهم عليهم السّلام كان قول و إلى اولى الامر منكم، و إن عدم وجوده في المصاحف التي بأيدينا من اسقاط المحرّفين الذين جعلوا القرآن عضين، و اعتاضوا الدّنيا بالدّين، فقد تحقّق و اتّضح ممّا ذكرنا أنّ الآية الشّريفة نصّ ظاهر جليّ لو لا اتّباع الهوى من امثال النّاصب اللّعين.
«أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً».
و منها [آية الإبلاغ]:
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» فقد ذهب الخاصّة ككثير من العامة إلى أنّها نزلت في عليّ عليه السّلام، و رووا في ذلك أخبارا كثيرة، مثل ما رواه الفخر الرّازي بعد ما ذكر وجوها سخيفة في شأن النزول قال: العاشر نزلت الآية في فضل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و لما نزلت هذه الآية أخذ بيده، و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، فلقاه عمر فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاى و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، و هو قول ابن عباس و البراء بن عازب و محمّد بن عليّ.
و في غاية المرام من تفسير الثّعالبي في تفسيره هذه الآية قال: قال أبو جعفر محمّد بن عليّ عليهما السّلام: معناه بلّغ ما انزل إليك من ربّك في فضل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و في نسخة اخرى أنّه عليه السّلام قال: يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك في عليّ، و قال:
هكذا نزلت، رواه جعفر بن محمّد، فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السّلام و قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه.
و في كتاب فصول المهمة للمالكي قال روى الامام أبو الحسن الواحدي في
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 374
كتابه المسمّى بأسباب النزول يرفعه بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال:
نزلت هذه الآية: يا أيّها الرّسول بلغ ما انزل إليك من ربّك يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، إلى غير ذلك من الاخبار المروية من طرق العامة البالغة حدّ الاستفاضة و المراد من قوله: بلّغ ما انزل، هو تبليغ ولاية عليّ عليه السّلام إلى النّاس و قد بلغه و أدّاه حيث نزل بالغدير و أخذ بيده و قال: أيّها النّاس أ لست اولى بكم من أنفسكم قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و ادر الحق معه كيف ما دار، و في ذلك اليوم قال حسان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخم و اكرم بالنّبي مناديا
يقول فمن مولاكم و وليكم فقالوا و لم يبدوا هناك التّعاديا
الهك مولانا و أنت وليّنا و لن تجدن منّا لك الدّهر عاصيا
فقال له قم يا عليّ فانّني رضيتك من بعدي اماما و هاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له انصار صدق مواليا
هناك دعا اللهمّ وال وليّه و كن للذي عادى عليّا معاديا
و قال قيس بن سعد:
قلت لما بغى العدوّ علينا حسبنا ربّنا و نعم الوكيل
حسبنا ربّنا الذي فتق النصرة بالامس و الحديث طويل
و عليّ امامنا و امام لسوانا أتى به التّنزيل
يوم قال النّبي من كنت مولاه فهذا مولاه خطب جليل
انّما قاله النّبي على الامة حتما ما فيه قال و قيل
و المراد من المولى في قوله: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، هو الاولى بالتّصرف بقرينة قوله أ لست أولى اه، و لعدم صلاحيّة إرادة غير هذا من معانيه الستّة، و هو المعتق و المعتق و الجار و الحليف و النّاصر، أمّا الاربعة الاول فواضح، و أمّا الخامس فلعدم احتياجه إلى البيان سيّما و قد قال اللّه تعالى:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 375
«وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».
و يؤيّد إرادة ذلك المعنى اقتران هذه الجملة ببعض القرائن الموجودة في بعض طرق ذلك الحديث.
و هو ما رواه عليّ بن أحمد المالكي من أعيان علماء العامة قال: روى الحافظ أبو الفتوح سعد بن أبي الفضائل بن خلف العجلي في كتابه الموحد في فضل الخلفاء الاربعة رضى اللّه عنهم، يرفعه بسنده إلى حذيفة بن أسد الغفاري و عامر بن ليلى بن حمزة، قالا: لما صدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجة الوداع و لم يحجّ بعد غيرها أقبل حتّى إذا كان بالجحفة «1» و هى عن سمرات «2» متقاربات بالبطحاء أن لا ينزل تحتهنّ أحد حتّى إذا أخذ القوم منازلهم أرسل فقمّ ما تحتهنّ حتّى نودي بالصّلاة صلاة الظهر عمد إليهن فصلى بالنّاس تحتهن، و ذلك يوم غدير خم، ثمّ بعد فراغه من الصّلاة قال: أيّها النّاس إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لن يعمر نبيّ إلا نصف عمر النّبيّ الذي كان قبله و إنّى لاظن أنّى ادعى فاجيب. فانّى مسئول و أنتم مسئولون هل بلّغت فما أنتم قائلون؟ قالوا: نقول: قد بلّغت و جهدت و نصحت و جزاك اللّه خيرا، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمّدا «رسول اللّه خ» عبده و رسوله، و أن جنّته حقّ و أنّ ناره حقّ، و البعث بعد الموت حقّ؟ قالوا: بلى نشهد، قال:
اللهمّ اشهد، ثمّ قال: أيها النّاس ألا تسمعون ألا فانّ اللّه مولاى و أنا أولى بكم من أنفسكم ألا و من كنت مولاه فعليّ مولاه، و أخذ بيد عليّ عليه السّلام فرفعها حتّى نظرها
______________________________
(1) قال فى القاموس الجحفة كانت قرية جامعة على اثنين و ثمانين ميلا من مكة و كانت تسمى مهيعة و الخم على ثلاثة اميال من الجحفة و قال ابن شهر آشوب فى المناقب الغدير فى وادى الاراك على عشرة فراسخ من المدينة و على أربعة اميال من الجحفة عند شجرات خمس دوحات عظام و قوله و هى عن سمرات هكذا فى النسخة و الظاهر انه تحريف من النساخ و لعل الاصل و نهى عن سمرات و يكون قوله ان لا ينزل تحتهن تفسير له و الفقم بالضم جانبا الفم و لعل المراد هنا جانباهن، منه أقول: هكذا ذكره المصنف اعلى اللّه مقامه فى الحاشية لكن الظاهر ان الفاء من قوله:
فقم، ليست جزءا للكلمة، و القم بمعنى الكنس، فمعنى فقم ما تحتهن أى فكنس ما تحتهن «المصحح»
(2) واحدتها سمرة شجر معروف، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 376
القوم، ثمّ قال: اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه.
فانّ قراين الدّلالة على المعنى المقصود في هذه الرّواية غير خفيّة منها جمعه صلّى اللّه عليه و آله بين التّنبيه على الولاية و بين اصول العقائد من التّوحيد و النّبوة و المعاد، فيعلم منه أنّ المراد بالمولى هو الامام الأولى بالتّصرف، إذ هو الذي يليق بان يعتقد به بعد الاعتقاد بالتّوحيد و الرسالة و منها تصدير كلامه صلّى اللّه عليه و آله بحرف التّنبيه «1» ثمّ توكيدها بتكرارها تنبيها على عظم المقصود، و من المعلوم أن النّصرة لا يليق بأن يبالغ فيها تلك المبالغة و يهمّ بها ذلك الاهتمام و منها حثهم على الاستماع بقوله ألا تسمعون، إلى غير هذه من وجوه الدلالة.
و بالجملة فقد تحقّق ممّا ذكرنا كله أنّه لا غبار على دلالة الآية على خلافته عليه السّلام و لو بمعاونة الأخبار المفسرة المستفيضة العاميّة و الخاصيّة كما ظهر دلالة تلك الأخبار و غيرها من أحاديث الغدير المتواترة على المدّعى لو لم نقل بكونها صريحة في إثبات الدّعوى.
و أنت بعد الخبرة بما تلوناه عليك تقدر على دفع ما أورده بعض النّواصب علينا في الاستدلال بهذه الأخبار.
منها ما ذكره الشّارح القوشجي في شرح التّجريد عند شرح قول المحقّق الطوسي: و لحديث الغدير المتواتر، حيث قال: و أجيب بأنّه غير متواتر بل هو خبر واحد في مقابلة الاجماع كيف؟ و قد قدح في صحته كثير من أهل الحديث، و لم ينقله المحققون منهم كالبخارى و مسلم و الواقدي، و أكثر من رواه لم يرو «2» المقدمة التي جعلت دليلا على أنّ المراد بالمولى الأولى بالتصرف.
و منها ما ذكره أيضا كصاحب المواقف. من أنّ قوله: اللّهمّ وال من والاه يشعر بانّ المراد بالمولى هو النّاصر و المحب، قال القوشجي: بل مجرّد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال، و ما ذكر من أن ذلك معلوم ظاهر من قوله: و المؤمنون
______________________________
(1) حيث قال الا فان اللّه مولاى ثم اكدها بقوله الا و من كنت مولاه، منه
(2) و هو قوله الست اولى بكم من انفسكم، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 377
و المؤمنات بعضهم أولياء بعض، لا يدفع الاحتمال، لجواز أن يكون الغرض على التّنصيص على موالاته و نصرته ليكون أبعد عن التّخصيص الذي يحتمله أكثر العمومات، و ليكون أوفى بافادة الشّرف حيث قرن بموالاة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و منها ما ذكراه أيضا و هو أنّه و إن سلّم أن المراد بالمولى هو الأولى فأين الدّليل على أنّ المراد الأولى بالتّصرف و التّدبير، بل يجوز أن يراد به الأولى في أمر من الامور كما قال تعالى:
«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ».
و أراد الأولوية في الاتباع و الاختصاص به و القرب منه لا في التّصرف فيه.
و منها ما ذكره صاحب المواقف و بعض شرّاح التّجريد من أنّ أولى بمعنى أفعل و مولى بمعنى مفعل و لم يرد أحدهما بمعنى الآخر و إلّا لصحّ أن يقترن لكلّ منهما ما يقترن بالآخر، و ذلك بأن يقال: فلان مولى من فلان كما يقال: فلان أولى من فلان، و فلان أولى فلان كما يقال مولى فلان، و ليس فليس إلى غير ذلك من الوجوه السّخيفة التي لفّقوها و صرف العمر فيها ظلم في حقّه فالتشاغل عنها أولى.
و لا باس بأن نشير إلى دفع هذه الاعتراضات لتعرف أنّها أضغاث أحلام من عمل الشيطان و ليقاس عليها غيره من الوجوه الضّعيفة البيان فنقول:
أمّا الاعتراض الأول و هو انكار تواتر الحديث، ففيه أنه لم يصدر إلّا عن التّعنت و التعصب يشهد بذلك مراجعة كتب الأخبار العاميّة و الخاصية.
و قد رواه المحدث العلّامة السيّد هاشم البحراني في كتاب غاية المرام بتسعة و ثمانين طريقا من طرق العامة و ثلاثة و أربعين طريقا من طرق الخاصّة، قال السيّد في الكتاب المذكور: أقول: خبر غدير خمّ قد بلغ حدّ التّواتر من طرق العامة و الخاصة حتّى أنّ محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ أخرج خبر غدير خمّ و طرقه من خمسة و سبعين طريقا و أفرد له كتابا سمّاه كتاب الولاية و هذا الرّجل عاميّ المذهب.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 378
و ذكر أبو العباس أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة خبر يوم الغدير و أفرد له كتابا و طرقه من مأئة و خمسة طرق و هذا قد تجاوز حدّ التواتر فلا يوجد خبر قط نقل من طرق بقدر هذا الطرق، و الدّليل على ما ذكرناه من أنّه لم يوجد خبر له طرق كخبر غدير خم ما حكاه السّيد العلامة عليّ بن موسى بن طاوس، و عليّ بن محمّد بن شهر آشوب ذكرا عن شهر آشوب، قال: سمعت أبا المعالي الجويني يتعجب و يقول شاهدت مجلّدا ببغداد في يد صحاف فيه روايات غدير خم مكتوبا عليه المجلّدة الثامنة و العشرون من طرق قوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و يتلوه المجلّد التّاسع و العشرون انتهى.
و قال قاضي نور اللّه نوّر اللّه مرقده في كتاب إحقاق الحقّ في ردّ النّاصب اللعين فضل بن روزبهان: أنّه روى الحديث في صحاح القوم كالبخاري و رواه أحمد بن حنبل امامهم في مسنده بطرق متعددة على الوجه الذي ذكره المصنف «1»، و كذا رواه الثعلبي في تفسيره، و ابن المغازلي الشّافعي في كتابه من طرق شتى، و ابن عقدة في مأئة و خمس طرق، و ذكر الشيخ ابن الكثير الشّامي الشّافعي عند ذكر أحوال محمّد بن جرير الطبري الشّافعي انّى رأيت كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلّدين ضخمين و كتابا جمع فيه طرق حديث الطير، و نقل عن أبي المعالي الجويني أنّه كان يتعجب إلى آخر ما حكاه عنه في غاية المرام، ثمّ قال: و أثبت الشيخ ابن الجزري الشّافعي في رسالته الموسومة بأسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تواتر هذا الحديث من طرق كثيرة، و نسب منكره إلى الجهل و العصبية.
و قال ابن شهر آشوب: العلماء مطبقون على قبول هذا الخبر و إنّما وقع الخلاف في تأويله، ذكره محمّد بن إسحاق، و أحمد البلادري، و مسلم بن الحجاج، و أبو نعيم الاصفهاني، و أبو الحسن الدارقطني، و أبو بكر بن مردويه، و ابن شاهين
______________________________
(1) و هو مطابق لما ذكرناه فيما سبق بقولنا حيث نزل بالغدير و اخذ بيده و قال إلى آخر ما سبق هناك، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 379
و أبو بكر الباقلاني، و أبو المعالي الجويني، و أبو اسحاق الثعلبي، و أبو سعيد الخرگوشي و أبو المظفر السّمجاني، و أبو بكر بن شيبة، و عليّ بن الجعد، و شعبة، و الأعمش و ابن عباس، و ابن الثّلاج، و الشعبي، و الزّهري، و الاقليشي، و ابن اليسع، و ابن ماجه، و ابن عبدربّه، و الاسكافي، و أبو يعلى الموصلي من عدّة طرق، و أحمد بن حنبل من أربعين طريقا، و ابن بطة من ثلاث و عشرين طريقا، و ابن جرير الطبري من نيف و ستّين طريقا، في كتاب الولاية، و ابو العباس بن عقدة عن مأئة و خمس طرق، و أبو بكر الجعاني من مأئة و خمس و عشرين طريقا.
و قد صنف عليّ بن هلال المهلبي كتاب الغدير، و أحمد بن محمّد بن سعد كتاب من روى غدير خم، و مسعود السحرى كتابا فيه رواة هذا الخبر و طرقها.
و استخرج منصور اللالي «اللالكائي ظ» الرّازي فى كتابه أسماء رواتها على حروف المعجم، و ذكر عن الصاحب الكافي أنه قال: روى لناقصة غدير خم القاضى أبو بكر الجعابى عن أبي بكر، و عمر، و عثمان، و عليّ، و طلحة، و الزّبير، و الحسن، و الحسين، و عبد اللّه بن جعفر، و عباس بن عبد المطلب، و عبد اللّه بن عباس، و أبو ذر، و سلمان، و عبد الرّحمن، و أبو قتادة، و زيد بن أرقم، و جرير بن حميد، و عديّ بن حاتم، و عبد اللّه بن أنيس، و البراء بن عازب، و أبو أيوب، و أبو بريدة الأسلمي، و سهل ابن حنيف، و سمرة بن جندب، و أبو الهيثم، و عبد اللّه بن ثابت الأنصاري، و سلمة ابن الأكوع، و الخدري، و عقبة بن عامر، و ابو رافع، و كعب بن عجرة، و حذيفة ابن اليمان، و أبو مسعود البدري، و حذيفة بن أسيد، و زيد بن ثابت، و سعد بن عبادة، و خزيمة بن ثابت، و حباب بن عتبة، و جند بن سفيان، و عمر بن أبي سلمة، و قيس بن سعد، و عبادة بن الصامت، و أبو زينب، و ابو ليلى، و عبد اللّه بن ربيعة، و اسامة بن زيد، و سعد بن جنادة، و حباب بن سمرة، و يعلى بن مرّة، و ابن قدامة الأنصاري، و ناحية بن عميرة، و أبو كاهل، و خالد بن الوليد، و حسان بن ثابت، و النّعمان بن عجلان، و أبو رفاعة، و عمر بن الحمق، و عبد اللّه بن يعمر، و مالك بن الحويرث، و أبو الحمراء، و ضمرة بن الحبيب «الحديد خ»، و وحشي بن حرب، و عروة ابن أبي الجعد،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 380
و عامر بن النميري، و بشر بن عبد المنذر، و رفاعة بن عبد المنذر، و ثابت بن وديعة و عمرو بن حريث، و قيس بن عاصم، و عبد الأعلى بن عديّ، و عثمان بن حنيف، و ابيّ بن كعب، و من النّساء فاطمة الزّهراء، و عايشة، و امّ سلمة، و امّ هاني، و فاطمة بنت حمزة، انتهى.
و بالجملة فقد بلغ هذا الخبر في الاشتهار إلى حدّ لا يوازيه خبر من الأخبار و تلقته محقّقوا الامة بالقبول و الاعتبار، فلا يردّه إلّا معاند جاحد، أو من لا اطلاع له على كتب الحديث و الآثار.
و أمّا الاعتراض الثّاني و هو اشعار آخر الحديث بارادة النّصرة و المحبة، فهو إنّما يتمّ لو قيل إنّ اللّفظ بعد ما اطلق على أحد معانيه لا يناسب أن يطلق ما يدانيه و يناسبه في الاشتقاق على معنى آخر، و ليس كذلك، بل قد يعدّ ذلك من المحسنات البديعية، فالاشعار بذلك خصوصا مع المقدمة المتواترة ممنوع، على أنّ مؤخر الخبر جملة دعائية مستأنفة ليس ارتباطه بوسط الحديث كارتباط المقدّمة به، فاشعاره بذلك لا يكافؤ إشعار المقدمة بخلافه.
هذا كله مضافا إلى أنّ من تأمّل في الآية بعين البصيرة و الاعتبار يعلم أنّ سياقها يقتضي أنّ المأمور بتبليغه أمر عظيم يفوت بفوات تبليغه ركن من أركان الشريعة على ما يقتضيه قوله: و إن لم تفعل فما بلّغت رسالته، خصوصا على قراءة فما بلّغت رسالاته بصيغة الجمع كما في الكشّاف و غيره، و اىّ أمر يفوت من الشّريعة بعدم تبليغ أنّ عليّا عليه السّلام ناصر المؤمنين، و أىّ خوف كان للرّسول صلّى اللّه عليه و آله في إظهار نصرته عليه السّلام حتّى يقول اللّه و اللّه يعصمك من النّاس مع أنّ نصرته للايمان و حمايته للاسلام و كونه ناصرا للمؤمنين و ذابّا عن دين سيّد المرسلين كان بديهيّا غير محتاج إلى البيان.
فبديهة العقل حاكمة بأنّ نزول النّبي صلّى اللّه عليه و آله في زمان و مكان لم يكن نزول المسافر متعارفا فيهما، حيث كان الهواء على ما روي في بعض طريق الحديث في شدّة الحرارة حتّى كان الرّجل يستظلّ بدابته و يضع الرّدآء تحت قدميه من شدّة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 381
الرّمضاء و حرّ الهاجرة، و المكان ملؤمن الاشواك، ثمّ صعوده على منبر من الأقتاب و الدّعاء لعلي عليه السّلام على وجه يناسب شأن الملوك و الخلفاء لم يكن إلّا لنزول الوحى الحتمي الفوري في ذلك الزّمان لاستدراك أمر عظيم الشّأن جليل الخطب يختص بخصوص علي عليه السّلام كنصبه للامامة و الخلافة، لا لمجرّد طلب المحبة و النصرة الجارية في حقّه و في حقّ غيره من أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله.
و مع ذلك كله فلا مجال لاحتمال إرادة النصرة حتّى يدفع به الاستدلال كما توهّمه النّاصب القوشجي، كما لا مجال لاحتمال التّخصيص بعد ملاحظة كثرة مجاهداته في الدّين، و نهاية نصرته في غزواته للمؤمنين حتّى يحتاج إلى التّنصيص على ما توهّمه أيضا.
و أمّا الاعتراض الثّالث ففيه أنّ التقييد بقوله: من أنفسهم، أو من أنفسكم، على اختلاف الرّوايتين دليل على أنّ المراد بالأولى هو الأولى بالتّصرف دون الأولى في أمر من الامور، إذ لا معنى للأولوية من النّاس بنفس النّاس إلّا الاولوية في التصرف نعم لو لم يوجد القيد لتمّ المعارضة بقوله: إنّ أولى النّاس بابراهيم، فانّه لو كان نظم الآية مثلا إنّ أولى النّاس بابراهيم من نفسه، لكان المراد الأولى بالتصرف.
و أمّا الاعتراض الرّابع ففيه أنّ عدم ورود مولى بمعنى الأول ممنوع، و قد نقله الشّارح القوشجي في قوله تعالى:
«فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ» عن أبي عبيدة، و استدلّ على مجيئه بهذا المعنى بهذه الآية، و بقوله صلّى اللّه عليه و آله أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها، أى الاولى بها و المالك لتدبير أمرها، ثمّ قال: و مثله في الشّعر كثير.
و أمّا الاستدلال عليه بعدم صحة اقتران كلّ منهما بما يقارنه الآخر، ففيه أن كون أحد اللفظين بمعنى الآخر لا يقتضي صحة اقترانه بكل ما يقترن به الآخر و لا جريان حكم أحدهما على الآخر مطلقا ألا ترى أنّ الصّلاة بمعنى الدّعاء مع أنّ تعدية الأوّل بعلى و تعدية الثاني باللام، يقال: صلى عليه و دعا له، و لو قيل دعا عليه لم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 382
يكن بمعناه، و أنّ كلمة إلّا بمعنى غير لا يجوز حذف موصوفها، و لا يقال جائني إلا زيد بخلاف غير فانّه يقال: جائني غير زيد، و السّر في ذلك أنّ استعمالات كلام العرب منوطة على التّوقيف و التّوظيف فكلّ مقام استعملت فيه كلمة مخصوصة على كيفية خاصة فلا بدّ من متابعتها، و لا يجوز التعدّى عنها لبطلان القياس في اللغات.
و حاصل الكلام أنّه بعد تواتر الحديث كما اعترف به أكابر أهل السنة و وضوح دلالته، يكون ارتكاب القدح فيه و المنع عليه ناشيا عن اعوجاج الفطرة و سوء الاستعداد و التّورّط في العصبية و العناد، ذلك جزاؤهم جهنم بما اتخذوا آيات اللّه و أوليائه هزوا هذا.
و الآيات القرانية النّازلة في حقّ أمير المؤمنين و أولاده المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين كثيرة جدا و سيأتي الاشارة إليها إجمالا في أخبار مناشدته صلوات اللّه عليه مع الصّحابة يوم الشورى و غيرها، و طوينا عن الزّيادة على ما ذكرناه لغرضين، أحدهما مخافة الاطناب، و الثّاني الخوف عن عدم مساعدة العمر لاتمام الكتاب و من اراد الاطلاع عليها تفصيلا فليرجع إلى كتب اصحابنا المؤلفة في ذلك المقصد، ككتاب كشف الحقّ للعلامة الحلي، و كتاب غاية المرام للسيّد هاشم المحدث البحراني، و غيرهما من مؤلفات القوم، فانّ فيها كفاية لمن له علم و دراية، و إذا عرفت عذرنا في الاقتصار من الآيات على هذا المقدار فلنتصد إلى الاخبار فنقول:
القسم الثاني السنة النّبوية و الاخبار الدالة على إمامته عليه السّلام، و هي أكثر من أن تحصى، و قد صنف علماؤنا في ذلك و اكثروا و لنقتصر هاهنا على القليل لانّ الكثير غير متناه.
فمنها خبر الغدير المتواتر الذي رويناه سابقا.
و منها قوله صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: أنت اخي و وصيّي و خليفتي من بعدي و قاضي ديني، تمسك به في التّجريد و هو نصّ صريح دالّ على خلافته عليه السّلام و اورد عليه بعض
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 383
شرّاحه اولا «1» بأنّه خبر واحد في مقابلة الاجماع و لو صحّ لما خفي على الصّحابة و التابعين و المهرة المتفننين و المحدثين سيما عليّ و اولاده الطاهرين، و لو سلم فغايته إثبات خلافته عليه السّلام لا نفى خلافة الآخرين و ثانيا «2» انّه اراد به الوصية و الخلافة على المدينة، و يحتمل ذلك في قضاء دينه و إنجاز موعده، و مع تطرق هذه الاحتمالات لا يمكن التمسك به في وجوب خلافته.
أقول: اما ما ذكره من انّه خبر واحد في مقابلة الاجماع، ففيه منع صحة الاجماع حسبما يأتي في مقامه إنشاء اللّه، و ما ذكره من أنّه لو صح لما خفي على الصحابة، ففيه انّه لم يخف على عليّ و اولاده الذين هم رؤساء الصّحابة، و قد تمسكوا به و بنظيره في غير واحد من احتجاجاتهم و صرّحوا به في اخبارهم و رواياتهم، اما غيرهم ممن عقدوا قلبهم على إطفاء نور اللّه و أجمعوا أمرهم على غصب خلافة اللّه فلم يخف عليهم أيضا و إنما أخفوه عمدا حيث كان إظهاره نقضا لغرضهم، و ما ذكره من أنّه على تقدير تسليمه إنّما يثبت خلافته و لا ينفي خلافة الآخرين، ففيه بعد تسليم «3» عدم نفيه لخلافة الآخرين أنّ كفايته لاثبات خلافته عليه السّلام فقط كافية لنا، و ما المقصود إلّا ذلك، و أمّا خلافة الآخرين فقد قامت الأدلة القاطعة و البراهين السّاطعة على عدمها حسبما تطلع عليها في مواردها إن شاء اللّه تعالى.
و أمّا الايراد باحتمال كون الوصيّة و الخلافة على المدينة ففيه أنّه خلاف الظاهر، إذ ظاهر اللفظ الاطلاق و لا يعدل عنه إلّا بدليل و ليس فليس، بل نقول:
إنّ حذف المتعلق دليل العموم، بل قوله صلّى اللّه عليه و آله: من بعدي، لا يخلو من إشعار بعدم
______________________________
(1) هذا الايراد من الشارح القوشجي، منه
(2) هذا الايراد من الشارح الراغب منه
(3) قوله بعد تسليم عدم نفيه اه اشارة إلى دلالة الحديث على النفى بمقتضى ظهور لفظ بعدى فى ذلك حيث ان لفظ بعدى و ان كان من حيث الوضع محتملا للبعدية بلا فصل و بفصل الا ان المفهوم منه بحسب العرف هو الاول الا ترى ان القائل اذا قال هذا المال للفقراء بعدى تبادر منه الى الافهام انه اراد بعد موته بلا فصل فيكون حقيقته العرفية ذلك و كذا اذا ذكر اهل التواريخ ان فلانا جلس على سرير الملك بعد فلان لا يفهم منه الا ذلك، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 384
كون مراده الخلافة على المدينة كما لا يخفى، و كيف كان فلا ريب في بطلان الاحتمال المذكور كما لا ريب في بطلان احتمال كون متعلق الوصيّة قضاء الدّين و انجاز الموعد لما ذكرنا من أصالة الاطلاق خصوصا بملاحظة قوله: و قاضي ديني فانّ تصريحه به مشعر بل مفيد لعدم كون متعلق الخلافة و الوصاية ذلك فقط و إلا كان الأنسب أن يقال و وصيّي في قضاء ديني.
و هذا كله على التنزل و المماشاة و إلّا فنقول: إنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن له دين يبقى على ذمّته إلى وفاته حتّى يوصي به إليه، لما روي أنّه في أيام مرضه طلب برائة الذّمة عن النّاس و لم يدّع عليه أحد شيئا سوى من ادّعى عليه ضرب سوط من عمد، و على هذا فالظاهر أنّ الدّين في قوله صلّى اللّه عليه و آله: و قاضي ديني بكسر الدّال كما صرح به المحقّق الطوسي في التّجريد، و عليه فهو دليل آخر على المدّعى إذ الحاكم في أمر الدّين لا بد و أن يكون خليفة معصوما.
و منها ما رواه الشّارح المعتزلي فى شرح الخطبة القاصعة و هى الخطبة المأة و الحادية و التسعون، عن جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام قال: كان علي عليه السّلام يرى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الرّسالة الضّوء و يسمع الصّوت، و قال صلّى اللّه عليه و آله له عليه السّلام:
لو لا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكا فى النبوة، فان لا تكن نبيّا فانّك وصيّ نبيّ و وارثه بل أنت سيّد الأوصياء و إمام الأتقياء.
و منها ما رواه الشّارح هناك أيضا عن الطبرسى فى تاريخه عن عبد اللّه بن عباس عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قال: لما نزلت هذه الآية.
«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» و ساق الحديث إلى أن قال: ثمّ تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا بني عبد المطلب إنّى و اللّه ما أعلم أنّ شابا فى العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به إنى قد جئتكم بخير الدّنيا و الآخرة و قد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 385
أخى و وصيّي و خليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعا و قلت: أنا و إني لأحدثهم سنّا و أرمضهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا، انا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه فأعاد القول فامسكوا و أعدت ما قلت: فأخذ برقبتي ثمّ قال لهم: هذا اخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و اطيعوا، فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب قد أمرك ان تسمع لابنك و تطيع.
أقول: وجوه الدلالة في هذه الرّواية من طرق شتّى غير خفيّة على من استضاء قلبه بنور الولاية أو ألقى السّمع و هو شهيد، و سيأتي إنشاء اللّه بتمامه في مقامه، و العجب كلّ العجب من الشّارح كيف خفي عليه وجوه الدّلالة و عزب عن الاهتداء إليها.
و منها ما رواه هناك أيضا قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الخبر المجمع على روايته بين ساير فرق الاسلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، ثم قال: فأثبت له جميع مراتب هارون و منازله عن موسى، فاذا هو وزير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و شادّ ازره، و لولا أنّه خاتم النّبيين لكان شريكا في أمره انتهى.
أقول: توضيح الاستدلال و تحقيقه أنه صلّى اللّه عليه و آله أثبت لعليّ عليه السّلام جميع مراتب هارون من موسى و استثنى النّبوة و يبقى الباقي على عمومه، و من جملة المنازل أنّه كان خليفة لموسى عليه السّلام بدليل قوله تعالى: اخلفني في قومي، فكان خليفة في حياته فيكون خليفة بعد وفاته لو عاش، لكنه لم يعش و عليّ عليه السّلام عاش فتكون خلافته ثابتة.
قال القوشجي في شرح التّجريد: و اجيب بأنّه غير متواتر بل هو خبر واحد في مقابلة الاجماع، و بمنع عموم المنازل بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الاطلاق، و ربّما يدعى كونه معهودا معيّنا كغلام زيد، و ليس الاستثناء المذكور إخراجا لبعض أفراد المنزلة بمنزلة قولك إلّا النّبوة، بل منقطع بمعنى لكن، فلا يدلّ على العموم كيف، و من منازله الاخوّة و لم يثبت لعليّ عليه السّلام، اللّهمّ إلّا أن يقال إنّها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها، و لو سلّم العموم فليس من منازل هارون الخلافة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 386
و التّصرف بطريق النّيابة على ما هو مقتضى الامامة لأنّه شريك له في النّبوة، و قوله اخلفني ليس استخلافا، بل مبالغة و تأكيدا في القيام بأمر القوم، فلو سلّم فلا دلالة على بقائها بعد الموت، و ليس انتفاؤها بموت المستخلف عزلا و لا نقصا، بل ربّما تكون عودا إلى حالة أكمل هي الاستقلال بالنبوّة و التّبليغ من اللّه، و تصرف هارون و نفاذ أمره لو بقي بعد موسى إنّما يكون لنبوّته، و قد انتفت النّبوة في حقّ عليّ فينتفى ما يبنى عليها و يتسبّب عنها، و بعد اللتيا و التي لا دلالة فيه على نفى إمامة الأئمة الثّلاثة قبل عليّ عليه السّلام انتهى.
و يتوجه عليه وجوه من الكلام و ضروب من الملام الأوّل أنّ إنكار تواتر الخبر ممّا لا يصغى إليه بعد ما سمعته من الشّارح المعتزلي من كونه مجمعا على روايته بين فرق الاسلام، و قد رواه السّيد المحدث البحراني في كتاب غاية المرام بمأة طريق من طرق العامة، و بسبعين طريقا من طرق الخاصّة.
الثّاني أنّ عدم إفادة المفرد المضاف للعموم بحسب الوضع مسلم، إلّا أنّه لا غبار على إفادته له في المقام بخصوصه بقرينة الاستثناء و بدليل الحكمة، لأنّا لو حملنا المنزلة على بعض المنازل دون بعض فامّا أن يكون معيّنة أو مبهمة، و الأوّل ممتنع، ضرورة عدم دلالة اللفظ على التّعيين، و الثّاني أيضا ممتنع لما فيه من الاجمال و عدم الافادة، نظير ما قاله الاصوليون في إفادة المفرد المعرّف للعموم إذا لم يكن ثمّ معهود، مثل قوله: أحلّ اللّه البيع.
الثّالث أنّ الأصل في الاستثناء الاتّصال و حمل إلّا بمعنى لكن خلاف الظاهر.
الرّابع أنّ معنى قوله: اخلفني في قومي، كن خليفتي فيهم كما صرّح به في الكشّاف، و على ذلك فكان تصرّفه في القوم بطريق النّيابة عن موسى كما كان نافذ التّصرف بالاصالة بمقتضى نبوّته و حيث انتفى النّبوة في حقّ عليّ عليه السّلام فيكون تصرّفاته بطريق النّيابة.
الخامس هب أنّ بقاء هارون بعد موسى لا يقتضى كونه نافذ التّصرف من حيث
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 387
النّيابة و الخلافة لامكان النبوة المستقلة في حقّه من اللّه التي هي أعلى و أكمل رتبة من مرتبة الخلافة من موسى، إلّا أنّ النّبوة لما كانت غير ممكنة في حقّ عليّ عليه السّلام بمقتضى الاستثناء فلا بدّ و أن يكون نفوذ تصرّفه المستند إلى الخلافة في حال حياة النبيّ المستفاد من عموم المنزلة مستمرا إلى ما بعد الوفاة، و إلا لزم العزل و النّقص و تنفر الطباع، إذ نفوذ التّصرف مرتبة جليلة لا يحط عنها من ثبت له هذه المرتبة، لأنّ ذلك يقتضي غاية التنفير، و بعبارة اخرى المجيب قد سلم كون انتفاء الخلافة بموت المستخلف موجبا للعزل و النّقص إلّا أنّه قد ذبّ عنه بامكان جبران ذلك النقصان بحصول مرتبة هي أكمل من مرتبة الخلافة، و عليه فأقول: إنّ الجابر للنّقص لما لم يمكن في حقّ عليّ عليه السّلام، لزم بقاء الخلافة في حقّه على حالها لوجود مقتضى البقاء و هو ظاهر لا يخفى.
السّادس أنّ عدم دلالته على نفى إمامة الثّلاثة ممنوع، لأنّه إذا دلت الرّواية على عموم المنزلة حسبما عرفت، فمن جملة منازل هارون هو التّدبير و التّصرف و نفاذ الحكم على فرض التّعيّش بعد موسى عليه السّلام على عامة الامّة بحيث لم يشدّ منهم أحد، فبعد إثبات العموم و تسليم الخصم يلزم دخول عامة امّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حال حياته و ارتحاله تحت تصرّف أمير المؤمنين عليه السّلام كما كان عامة قوم موسى تحت تصرّف هارون، و هذا ينفي إمامة الثلاثة مطلقا، فقد تحقق مما ذكرنا كله كفاية الرواية في إثبات خلافته و نفى خلافة الثّلاثة، و يأتي إنشاء اللّه مزيد تحقيق و بسط لذلك في التّنبيه الثالث من شرح الفصل الثّامن من فصول الخطبة المأة و الحادية و التّسعين، و لنعم ما قال زيد بن علي عليه السّلام:
فمن شرّف الاقوام يوما برأيه فانّ عليّا شرّ فته المناقب
و قول رسول اللّه و الحقّ قوله و ان رغمت منه انوف الكواذب
بأنك منّى يا عليّ معالنا كهارون من موسى اخ لي و صاحب
و قال آخر:
و انزله منه على رغمة العدى كهارون من موسى على قدم الدّهر
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 388
فمن كان في اصحاب موسى و قومه كهارون لازلتم على زلل الكفر
و قال ابن حماد:
نصّ النّبيّ على الهادي أبي الحسن نصّا على صدقه اجمعت انت معي
في قوله لك منّي اليوم منزلة كانت لهارون من موسى فلا نرع
و انّما قال هذا حين خلّفه على المدينة ان انصفت فاقتنع
و منها ما رواه في غاية المرام عن ابن المغازلي الشّافعي باسناده عن جابر بن عبد اللّه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: انّ اللّه عزّ و جلّ أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم فساقها حتّى قسمها جزئين فجعل جزء في صلب عبد اللّه و جزء في صلب أبي طالب، فأخرجني نبيّا و أخرج عليّا وصيّا.
و منها ما رواه في غاية المرام أيضا عن ابن شيرويه الدّيلمي و هو من أعيان علماء العامة من كتاب الفردوس في باب الخاء، قال باسناده عن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خلقت أنا و عليّ من نور واحد قبل أن يخلق اللّه آدم بأربعة الآف عام، فلما خلق اللّه آدم ركب ذلك النّور في صلبه فلم نزل في شي ء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطلب ففيّ النّبوة، و في عليّ الخلافة.
و منها ما رواه في كشف الحقّ من كتاب المناقب لأبي بكر أحمد بن مردويه، و هو حجة عند المذاهب الأربعة، رواه باسناد إلى أبي ذر، قال: دخلنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلنا: من احبّ أصحابك إليك و إن كان أمر كنا معه، و إن كانت نائبة كنا من دونه؟ قال هذا عليّ أقدمكم سلما و إسلاما.
و اورد «1» عليه بأنّه يدلّ على فضيلة أمير المؤمنين عليه السّلام و أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبه حبّا شديدا و لا يدلّ على النّص بامارته، و لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ناصّا على خلافته لكان هذا محلّ إظهاره، و هو ظاهر، فانّه لما لم يقل إنّه الأمير بعدي علم عدم النّص فكيف يصحّ الاستدلال به.
و اجيب «2» بأنّ النّص على المعنى المراد كما يكون بالدّلالة على ذلك من
______________________________
(1) المورد هو الناصب فضل بن روزبهان، منه
(2) المجيب قاضى نور اللّه، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 389
مجرّد مدلول اللّفظ، كذلك يكون باقامة القراين الواضحة النّافية للاحتمالات المخالفة للمعنى المقصود، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فانّ قول السّائل و إن كان أمر كنّا معه و ان كانت نائبة كنّا من دونه مع قوله صلّى اللّه عليه و آله: هذا عليّ أقدمكم اه، نصّ على إرادة الخلافة، فانّ قوله: أقدمكم، بمنزلة الدّليل على أهليّته للتقدّم على ساير الامة، فقوله: لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ناصّا لقال إنّه الأمير بعدى، من باب تعيين الطريق الخارج عن شرح المحصلين، بل لو قال النّبي ذلك لكان يتعسف النّاصب الشقيّ و يقول الامارة ليست نصّا صريحا في الخلافة لاستعماله في امارة الجيوش و في امارة قوم دون قوم، كما قال الأنصار، منّا أمير و منكم أمير و بالجملة التّصريح و التطويل لا ينفع المعاند المحيل و لو تليت عليه التّوراة و الانجيل.
و منها ما رواه فيه أيضا من كتاب ابن المغازلي الشّافعي باسناده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لكل نبيّ وصيّ و وارث، و إن وصيّي و وارثي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و احتمال كون المراد بالوصاية غير الخلافة مدفوع، بأنّ الظاهر من قوله صلّى اللّه عليه و آله: لكلّ نبيّ وصيّ و وارث هو أنّ المراد بالوصيّ الوصيّ في أمر النّبوة، و إلا يقال إنّ لكلّ احد وصيّ و من المعلوم أنّ الوصاية في أمر النّبوة هو عبارة اخرى للخلافة و سيأتي لذلك مزيد توضيح بعيد ذلك.
و منها ما رواه فيه أيضا من مسند أحمد بن حنبل عن سلمان أنّه قال: يا رسول اللّه من وصيك؟ قال: يا سلمان من وصيّ أخي موسى؟ قال: يوشع بن نون، قال: فان وصيّي و وارثي يقضي ديني و ينجز موعدي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و أورد عليه النّاصب فضل بن روزبهان بأنّ الوصيّ قد يطلق و يراد به من أوصى له بالعلم و الهداية و حفظ قوانين الشّريعة و تبليغ العلم و المعرفة، فان اريد هذا من الوصيّ فمسلم أنّه كان وصيّا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا خلاف في هذا، و إن اريد الوصيّة بالخلافة فقد ذكرنا بالدلايل العقليّة و النّقلية عدم النّص في خلافة عليّ، و لو كان نصّا جليا لم يخالفه الصّحابة و إن خالفوا لم يطعهم العساكر و عامة العرب سيما الأنصار.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 390
و فيه اولا أن الوصيّ بمعنى الأوّل الذي سلم اتّصافه به أيضا لا بدّ و أن يكون خليفة إذ لا نعني بالخلافة إلّا حفظ قوانين الدين و حماية شريعة سيد المرسلين و هداية الامة إلى أعلام المعرفة و منار اليقين، و أنّى حصل هذا المعنى في حق الثّلاثة المتحيّرين في بوادي الضّلالة التائهين في مفازة الجهالة العاجزين عن معرفة ظواهر الكتاب و السّنة و عن تفسير معنى الأب و الكلالة، فضلا عن ضبط معانيها و عن معرفة أحكامها و عن هداية الامة إليها.
و ثانيا أنّ ضرب يوشع مثلا لعليّ عليه السّلام يعطي كون مراده بالوصاية الخلافة، حيث إنّ يوشع كان خليفة لموسى بعده كما صرّح به غير واحد منهم الشهرستاني في بيان أحوال اليهود حيث قال في محكيّ كلامه: إنّ الأمر كان مشتركا بين موسى و بين أخيه هارون إذ قال: أشركه فى امرى، فكان هو الوصيّ فلما مات هارون فى حياته انتقل الوصاية إلى يوشع وديعة ليوصلها إلى شبير و شبرا بني هارون قرارا و ذلك انّ الوصيّة و الامامة بعضها مستقرّ و بعضها مستودع.
و ثالثا أنّ أىّ دليل عقلىّ أو نقلىّ قام على عدم النّص و إن هو إلّا مصادرة على الدّعوى.
و أمّا ما ذكره من أنّه لو كان نصّا جليّا لم يخالفه الصحابة، ففيه أنّ من الصحابة من كان قلبه منورا بنور الايمان و العرفان فلم يخالفوه بل ائتمّوا به و اقتبسوا أنواره و اتّبعوا آثاره حتّى أتيهم اليقين و مضوا إلى لقاء ربّ العالمين، و أمّا غيرهم فقد كان همّهم من أوّل الأمر على اطفاء نور اللّه و كتمان آيات اللّه فلا غرو فى كتمانهم و إخفائهم ذلك، و أمّا العساكر فمخالفتهم إنما هو للحقد و السّخايم الثابتة فى صدورهم من أجل قتله أقاربهم و أحبائهم و إخوانهم و أولادهم، و لم يكن بطن من بطون قريش إلّا و كان لهم على عليّ عليه السّلام دم أراقه فى سبيل اللّه كما اعترف به غير واحد منهم منهم ذلك النّاصب، و منهم الشّارح المعتزلي و غيرهما، و من المعلوم أنّ الطبايع البشرية مجبولة على بغض من قتل أقارب قوم و أقوامهم، و حري
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 391
على المبغض بمقتضى جبلته أن يخالف القاتل و يعانده و يمنعه ممّا يرومه بقدر وسعه و طاقته.
و منها خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين، و قد رواه فى غاية المرام بتسعة و ثلاثين طريقا من طرق العامة و اثنين و ثمانين طريقا من طرق الخاصة، و من جملة طرقه أحمد بن حنبل فى المسند عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنى قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدى: الثّقلين واحدهما أكبر من الاخر كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتى أهل بيتى هذا و الاخبار الناصّة على خلافته و إمامته بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله فوق حدّ الاحصاء و المقام لا يقتضى الزّيادة على ما رويناه، و سيأتى إنشاء اللّه كثير منها فى تضاعيف الشرح في مواضعها المناسبة و من اللّه التّوفيق و الاستعانة.
المقصد الثاني فى الادلة العقليّة الدالة على إمامته عليه السّلام و هي كثيرة:
منها أنّ الامام يجب أن يكون معصوما و غير عليّ عليه السّلام لم يكن معصوما فتعين أن يكون هو الامام، أمّا الكبرى فبالاجماع منّا و من العامة، و أمّا الصغرى أعني وجوب عصمة الامام فلما قد مرّ في الاستدلال بقوله:
«أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» و محصل ما ذكرناه هناك أن طاعة اولى الامر واجبة مطلقا فلو لم يكن معصوما لم يؤمن منه الخطاء، فاما أن يجب متابعته عند صدوره منه، و إما أن يجب ردعه عنه و إنكاره منه، فعلى الاوّل يلزم أن يكون قد أمرنا اللّه سبحانه بالقبيح و هو محال، و على الثاني فيكون الانكار له مضادّا لوجوب طاعته، و أيضا الحاجة إلى الامام إنما هو لاقامة الحدود و الاحكام و حمل الناس على فعل الواجب و الكفّ عن الحرام و انتصاف حقّ المظلوم من الظالم و منع الظالم من الظلم، فلو جازت عليه المعصية
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 392
و صدرت عنه انتفت هذه الفوائد و افتقر إلى إمام آخر و تسلسل، و يأتي في شرح الفصل الثامن من الخطبة المأة و الحادية و التسعين تقرير آخر لوجوب عصمة الامام إن شاء اللّه تعالى.
و منها أنّ الامام يجب أن يكون منصوصا و غير عليّ عليه السّلام لم يكن منصوصا بالاجماع فهو المتعين
، و إنما قلنا بوجوب التنصيص لما عرفت من انّ شرط الامام العصمة و هي من الامور الخفية التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى و ايضا سيرة النبىّ صلّى اللّه عليه و آله تقتضى التنصيص، لانه اشفق بالامة من الوالد بولده و لهذا لم يقصر في إرشاد امور جزئية مثل ما يتعلّق بدخول المسجد و الخروج منه و لم يترك شيئا مما يحتاج إليه الامة إلا بيّنه حتى ارش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة، و مع ذلك كيف يهمل أمرهم فيما هو من أهمّ الواجبات و أعظم المهمات و لا ينصّ على من يتولى أمرهم بعده و يأتي تقرير آخر إنشاء اللّه لوجوب النّص و لزومه في شرح الكلام المأة و الحادي و السّتين من النّقيب أبي جعفر البصري، و هو ألطف كلام و أمتن دليل نقله الشارح المعتزلي عن النّقيب هناك فليراجع ثمة.
هذا مضافا إلى أنّ اللّه تعالى قد أخبرنا باكمال الدّين و إتمام النعمة، و من المعلوم أنّ الامامة من تمام الدّين فمن زعم أن اللّه لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه و من ردّ كتاب اللّه فهو كافر، و توضيح هذا الدّليل يظهر من رواية الكافي عن الرّضا عليه السّلام التي سبقت في آخر فصول الخطبة السّابقة عند شرح قوله عليه السّلام: و لهم خصايص حقّ الولاية، فارجع إليها تجدها في إثبات هذه الدّعوى كنزا مشحونا بأنواع الدّرر و الجواهر، و بحرا موّاجا ليس له ساحل.
و منها أنّ الامام لا بدّ أن يكون أفضل من رعيته:
و غير عليّ عليه السّلام من الثلاثة لم يكن أفضل فتعين عليه السّلام، أمّا أنّ الامام لابدّ أن يكون أفضل فلأنّه لو لم يكن أفضل لا يخلو إمّا أن يكون مساويا أو مفضولا، أما المساوي فيستحيل تقديمه لأنّه يفضي إلى التّرجيح بلا مرجح، و أمّا المفضول فترجيحه على الفاضل يبطله العقل لحكمه بقبح تعظيم المفضول و إهانة الفاضل و رفع مرتبة المفضول و خفض مرتبة الفاضل،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 393
و هو بديهي عند العوام فضلا عن الخواص فانظر إلى عقلك هل يحكم بتقديم المبتدي في الفقه على مثل ابن عباس، و قد نصّ على إنكاره القرآن أيضا فقال تعالى:
«أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».
و قال «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ».
و أمّا أنّ غير عليّ عليه السّلام لم يكن أفضل منه فبتسليم الخصم أعني الشّارح المعتزلي الذي عمدة مقصودنا من تمهيد هذه المقدّمة إبطال مذهبه الذي أشرنا إليه في صدر المقدّمة، حيث ذهب إلى كونه أفضل منهم، و قد قال في أوائل شرحه بعد ذكر اختلاف العامة في تفضيل الأربعة ما هذا لفظه: و أمّا نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديّون من تفضيله عليه السّلام، و قد ذكرنا في كتبنا الكلاميّة ما معنى الأفضل و هل المراد به أكثر ثوابا أم الأجمع لمزايا الفضل و الخلال الحميدة، و بيّنا أنه عليه السّلام أفضل على التفسيرين معا، و ليس هذا الكتاب موضوعا لذكر اللّجاج في ذلك أو فى غيره من المباحث الكلاميّة لنذكره و لهذا موضع هو أليق به انتهى.
أقول: و لا بأس بأن نبسط الكلام في المقام ايضاحا للمرام و نذكر يسيرا من مناقب أمير المؤمنين و فضائله عليه السّلام رغما لانوف النّواصب اللّئام إذ الاستقصاء غير ممكن، كما روى الخطيب الخوارزمي و هو من أعيان علماء العامة باسناده إلى ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو أنّ الرّياض أقلام و البحر مداد و الجنّ حسّاب و الانس كتاب ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و روى مثله من طريق الخاصة، و هو ما عن الصّدوق في أماليه باسناده عن سعيد بن جبير قال: أتيت عبد اللّه بن عبّاس فقلت: يابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّي جئتك أسألك عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و اختلاف النّاس فيه، فقال ابن عباس: جئت
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 394
تسألني عن خير خلق اللّه من الامة بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله جئت تسألنى عن وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وزيره و خليفته و صاحب حوضه و لوائه و شفاعته، و الذي نفس ابن عبّاس بيده لو كانت بحار الدّنيا مدادا و أشجارها أقلاما و أهلها كتّابا فكتبوا مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و فضائله من يوم خلق اللّه عزّ و جلّ الدّنيا إلى أن يفنيها ما بلغوا معشار ما آتاه اللّه تبارك و تعالى.
فمن يقول عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ابن عباس مثل هذا كيف يمكن درك فضائله لكن ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، و الميسور لا يسقط بالمعسور. فينبغى أن نورد شطرا منها ليعلم بذلك أفضليّته على غيره المقتضية لأحقيّته بالخلافة و الوصاية و استحقاقه عليه السّلام لها فقط دون غيره، لقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح، و المفضول على الفاضل.
فأقول و باللّه التّوفيق: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أفضل جميع امّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل أفضل جميع من فى الأرض بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من حيث كثرة الثّواب و من حيث جمعه للخصال الحميدة و الكمالات الذّاتيّة و الفضائل النّفسانية.
أمّا كثرة الثّواب فلظهور أنّ الثّواب مترتب على العبادة و بكثرتها و قلتها تتفاوت الثّواب و الجزاء زيادة و نقصانا، و ستعرف أنّه أعبد من الكل فيكون أكثر مثوبة و لو لم يكن له من العبادات إلّا ضربته يوم الخندق التي قال فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
إنّها أفضل من عبادة الثقلين، لكفى في إثبات هذا المرام فضلا عن ساير عباداته التي لا يضبطها الصّحف و الدّفاتر، و لا يحصيها الزّبر و الطوامير.
و أمّا الخصال الحميدة و الفضائل و الفواضل النّفسانية و ساير جهات الفضل فكثيرة جمّة.
منها سبقه إلى الاسلام:
و قد صرّح به نفسه فى المختار السّابع و الثّلاثين بقوله أ ترانى أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنا أوّل من صدّقه، و فى المختار السّادس و الخمسين بقوله: فانّى ولدت على الفطرة و سبقت إلى الايمان و الهجرة، و تعرف تفصيل سبقته عليه السّلام إليه و تحقيقه فى شرح المختار إن شاء اللّه تعالى.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 395
و أقول هنا: قد اعترف أبو بكر أيضا بمسابقته عليه السّلام إلى الاسلام منه فيما رواه أبو ذرعة الدّمشقى و أبو اسحاق الثعلبى فى كتابيهما أنّه قال ابو بكر: يا أسفا على ساعة تقدّمنى فيها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فلو سبقته لكان لى سابقة الاسلام.
و فى مناقب ابن شهر آشوب من أنساب الصّحابة عن الطبري التّاريخي، و المعارف عن القتيبى انّ أوّل من أسلم خديجة ثمّ عليّ ثمّ زيد ثمّ أبو بكر، يعقوب النسوي في التّاريخ، قال الحسن بن زيد: كان ابو بكر الرّابع فى الاسلام، تاريخ الطبري انّ عمر اسلم بعد خمسة و اربعين رجلا واحدى و عشرين امرأة و فى هذا المعنى قال الحميرى.
من كان وحّد قبل كلّ موحّد يدعو الآله الواحد القهارا
من كان صلّى القبلتين و قومه مثل النّواهق تحمل الأسفارا
و قال أيضا
من فضله انّه قد كان اول من صلى و آمن بالرّحمن اذ كفروا
سبع سنين و اياما محرّمة مع النّبى على خوف و ما شعروا
و له أيضا
ا لم يؤت الهدى و النّاس حيرى فوحّد ربّه احد العليّا
و صلّى ثانيا فى حال خوف سنين بحريث سبعا اسيّا
و قال آخر
ا ما لا يرون اقام الصّلاة و توحيده و هم مشركونا
و يشهد ان لا اله سوى ربّنا احسن الخالقينا
سنين كوامل سبعا ببيت يناجى الاله له مستكينا
بذلك فضّله ربّنا على اهل فضلكم اجمعينا
و منها المسابقة بالصّلاة:
و ستعرف تفصيلها أيضا فى شرح المختار إن شاء اللّه تعالى.
و اقول هنا روى فى المناقب عن المرزبانى عن الكلبى عن ابى صالح عن ابن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 396
عباس فى قوله تعالى:
«وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
نزلت فى عليّ عليه السّلام خاصّة و هو أوّل مؤمن و أوّل مصلّ بعد النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و فيه عن السّدى عن ابى مالك عن ابن عبّاس فى قوله:
«وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ».
فقال: سابق هذه الامة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و فيه من كتاب ابى بكر الشيرازى عن مالك بن انس عن سمى عن ابى صالح عن ابن عباس قال: «وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ».
نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام سبق النّاس كلّهم بالايمان و صلّى القبلتين و بايع البيعتين بيعة بدر و بيعة الرّضوان، و هاجر الهجرتين: مع جعفر من مكّة إلى حبشة و من حبشة إلى المدينة، و في هذا المعنى قال الحميري:
وصيّ رسول اللّه و الاول الذي أناب الى دار الهدى حين أيفعا
غلاما فصلّى مستسرّا بدينه مخافة ان يبغى عليه فيمنعا
بمكّة اذ كانت قريش و غيرها تظلّ لاوثان سجودا و ركعا
و له ايضا
أ لم يصلّ عليّ قبلهم حججا و وحّد اللّه رب الشّمس و القمر
و هؤلاء و من في حزب دينهم قوم صلاتهم للعود و الحجر
و له أيضا
فانك كنت تعبده غلاما بعيدا من اساف و من منات
و لا وثنا عبدت و لا صليبا و لا عزى و لم تسجد للات
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 397
و منها السّبقة إلى البيعة:
روى في المناقب عن ابن جبير أنّه لما نزل قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ».
جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني هاشم و هم يومئذ أربعون رجلا و أمر عليّا أن ينضج رجل شاة و خبز لهم صاعا من طعام و جاء بعسّ من لبن ثمّ جعل يدخل إليه عشرة عشرة حتّى شبعوا، و إنّ منهم لمن يأكل الجذعة «1» و يشرب الفرق.
و في رواية مقاتل عن الضّحاك عن ابن عباس أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: و قد رأيتم هذه الآية ما رأيتم و في رواية براء بن عازب و ابن عباس أنّه بدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرّجل، ثمّ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إني بعثت على الأسود و الأبيض و الأحمر إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين، و إني لا أملك لكم من اللّه شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا اللّه، فقال أبو لهب لهذا دعوتنا، ثمّ تفرّقوا عنه فنزلت: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ».
ثمّ دعاهم دفعة ثانية و أطعمهم و سقاهم، ثمّ قال لهم يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض و حكامها، و ما بعث اللّه نبيّا إلّا جعل له وصيّا أخا و وزيرا فأيكم يكون أخي و وزيري و وصيّي و وارثي و قاضي ديني، و في رواية الطبري عن ابن جبير عن ابن عباس فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فأحجم القوم.
و في رواية أبي بكر الشيرازي عن مقاتل عن الضّحاك عن ابن عباس، و في سند العشرة و فضايل الصّحابة عن أحمد باسناده عن ربيعة بن ناجد عن علي عليه السّلام فأيكم يبايعني على أن يكون أخي و صاحبي؟ فلم يقم إليه أحد و كان عليّ أصغر
______________________________
(1) الجذع من الابل ما دخل فى السنة الخامسة و من البقر و المعز ما دخل فى السنة الثانية و الفرق وران سدر جمع فرقة السقاء الممتلي لا يمكن ليمخض حتى يفرق هكذا في النهاية و القاموس منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 398
القوم يقول: أنا فقال في الثّالثة: أجل و ضرب بيده على يد أمير المؤمنين عليه السّلام و في تفسير الخركوشي عن ابن عباس و ابن جبير و أبي مالك، و في تفسير الثعلبى عن البراء بن عازب فقال عليّ عليه السّلام و هو أصغر القوم: أنا يا رسول اللّه، فقال أنت فلذلك كان وصيه قالوا: فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب أطع ابنك فقد امر عليك، و قد نظمه السّيد الحميري بقوله:
و يوم قال له جبريل قد علموا انذر عشيرتك الادنين ان بصروا
فقام يدعوهم من دون امّته فما تخلّف عنهم منهم بشر
فمنهم آكل فى مجلس جذعا و شارب مثل عسّ و هو محتقر
فصدّهم عن نواحى قصعة شبعا فيها من الحبّ صاع فوقه الوزر
فقال يا قوم انّ اللّه ارسلنى اليكم فاجيبوا اللّه و ادّكروا
فايكم يجتبى قولى و يؤمن بى انى نبىّ رسول فانبرى «1» عذر
فقال «2» تبا أ تدعونا لتلفتنا عن ديننا ثمّ قال القوم فانشمروا
من الذي قال منهم و هو أحدثهم سنا و خيرهم فى الذكر اذ سطروا
آمنت باللّه قد اعطيت نافلة لم يعطها احد جنّ و لا بشر
و انّ ما قلته حقّ و انّهم ان لم يجيبوا فقد خانوا و قد خسروا
ففارقه تايها و اللّه اكرمه فكان سبّاق غايات اذا ابتدروا
و قال آخر
فلمّا دعا المصطفى اهله الى اللّه سرّا دعاه رفيقا
و لاطفهم عارضا نفسه على قومه فجزوه عقوقا
فبايعه دون اصحابه و كان لحمل اذاه مطيقا
و وحّد من قبلهم سابقا و كان على كلّ فضل سبوقا
و اما العلم:
فهو عليه السّلام ينبوعه و مصدره و مورده و مأواه و عنه اخذ العلوم
______________________________
(1) برى السهم نحته و قد انبرى ق
(2) اى قال قائل منهم و هو ابو لهب اللعين، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 399
جميعها و هو أبو عذرها و سابق مضمارها و النّاس كلهم عياله فى جميع فنونها و هو البحر المتراكم الزّخار و المتلاطم التّيار، و قد أشار عزّ و جلّ إلى غزارة علمه عليه السّلام بلسان الرّمز و الاشارة فى قوله: حمّ عسق، روى الصّفوانى فى الاحن و المحن عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال حم اسم من أسماء اللّه عسق علم علي سبق كلّ جماعة و تعالى عن كل فرقة بالكناية، و فى قوله: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً»* الآية قال ابن شهر آشوب فى المناقب ما لفظه: محمّد بن مسلم و أبو حمزة الثّمالى و جابر بن يزيد عن الباقر عليه السّلام، و عليّ بن فضّال و الفضيل بن يسار عن الصّادق عليه السّلام، و أحمد بن محمّد الحلبى و محمّد بن الفضيل عن الرّضا عليه السّلام، و قد روى عن موسى ابن جعفر عليه السّلام، و عن زيد بن علي عليه السّلام، و عن محمّد بن الحنفيّة، و عن سلمان الفارسى و عن أبى سعيد الخدري، و عن إسماعيل السّدى أنّهم قالوا فى قوله: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ».
هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فاذا انضمّ إلى ذلك قوله تعالى: «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
يثبت كونه عليه السّلام عالما بجميع فنون العلم، قال العونى:
و من عنده علم الكتاب و علم ما يكون و ما قد كان علما مكتما
و شهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا له بالعلم فى قوله: عليّ عيبة علمى، و قوله صلّى اللّه عليه و آله عليّ أعلمكم علما و أقدمكم سلما، و قوله صلّى اللّه عليه و آله أعلم امّتى من بعدى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، رواه فى المناقب عن عليّ بن هاشم و ابن شيرويه الدّيلمى باسنادهما إلى سلمان، و قال صلّى اللّه عليه و آله أيضا باجماع المخالف و المؤالف: أنا مدينة العلم و عليّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب، فى المناقب رواه أحمد من ثمانية طرق، و إبراهيم الثّقفى من سبعة طرق، و ابن بطة من ستّة طرق، و القاضى الجعابى من خمسة طرق، و ابن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 400
شاهين من أربعة طرق، و الخطيب التّاريخى من ثلاثة طرق، و يحيى بن معين من طريقين، و قد رواه السّمعانى و القاضى الماوردى و أبو منصور السّكرى و أبو الصلت الهروي و عبد الرّزاق و شريك عن ابن عباس و مجاهد و جابر، و نعم ما قيل:
هذا الامام لكم بعدي يسدّدكم رشدا و بوسعكم علما و آدابا
إنّى مدينة علم اللّه و هو لها باب فمن رامها فليقصد البابا
قال ابن شهر آشوب بعد روايته هذا الحديث: و هذا يقتضى وجوب الرّجوع إلى أمير المؤمنين عليه السّلام لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كنّى عنه بالمدينة و أخبر أنّ الوصول إلى علمه من جهة علىّ عليه السّلام خاصة، لأنّه جعله كباب المدينة الذي لا يدخل إليها إلّا منه، ثمّ أوجب ذلك الأمر به بقوله: فليأت الباب، و فيه دليل على عصمته، لأنّه من ليس بمعصوم يصحّ منه وقوع القبح، فاذا وقع كان الاقتداء به قبيحا فيؤدّي إلى أن يكون صلّى اللّه عليه و آله قد أمر بالقبيح، و ذلك لا يجوز، و يدلّ أيضا أنّه أعلم الامة انتهى، أقول: و مثل هذا الحديث قوله تعالى:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ ...».
و قد مضى فى شرح الفصل الرّابع من الخطبة الاولى حديث شريف فى تفسير هذه الآية فليراجع ثمّة، و قد روى المخالف و المؤالف أيضا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتح له ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب، و إليه أشار الحميري بقوله:
عليّ أمير المؤمنين أخو الهدى و أفضل ذى نعل و من كان حافيا
اسرّ اليه احمد العلم جملة و كان له دون البرية داعيا
و دوّنه فى مجلس منه واحد بألف حديث كلّها كان هاديا
و كلّ حديث من اولئك فاتح له الف باب فاحتواها كما هيا
و فى المناقب النّقاش فى تفسيره قال ابن عباس: عليّ علم علما علمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رسول اللّه علمه اللّه، فعلم النّبيّ علم اللّه و علم عليّ من علم النّبيّ، و ما علمي و علم أصحاب محمّد فى علم عليّ إلّا كقطرة فى سبعة أبحر، الضّحاك عن ابن عباس قال: اعطي عليّ بن أبي طالب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 401
عليه السّلام تسعة أعشار العلم و أنّه لأعلمهم بالعشر الباقي فامّا قول عمر بن الخطاب و اعترافه بعلمه عليه السّلام فكثير رواه الخطيب في الأربعين قال: قال عمر: العلم ستّة أسداس لعليّ من ذلك خمسة أسداس، و للناس سدس، و لقد شاركنا في السّدس حتّى لهو أعلم به منّا، ابانة بن بطة كان عمر يقول فيما يسأله عن عليّ فيفرّج عنه: لا أبقاني اللّه بعدك، تاريخ البلادري لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبو الحسن الابانة و الفايق أعوذ باللّه من معضلة ليس لها أبو الحسن، في المناقب و قد ظهر رجوعه إلى عليّ عليه السّلام في ثلاث و عشرين مسألة حتّى قال:
«لَوْ لا عَليٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ» و قد رواه الخلق منهم أبو بكر بن عبّاس «عياش ظ» و ابو المظفر السّمعاني قال الصّاحب:
هل في مثل فتواك اذ قالوا مجاهرة لو لا عليّ هلكنا فى فتاوينا
خطيب خوارزم:
اذا عمر تخطأ في جواب و نبّهه عليّ بالصّواب
يقول بعدله لو لا عليّ هلكت هلكت في ذاك الجواب
هذا و قد مضى في شرح الفصل الرّابع من الخطبة السّابقة عند شرح قوله عليه السّلام: و عيبة علمه الاشارة الاجماليّة إلى ميزان علمه عليه السّلام.
و قد أفصح عن غزارة علمه بما رواه في التّوحيد عن الصّادق عن الباقر عليه السّلام في حديث طويل قال: و لم يجد جدّى أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه حتّى كان يتنفس الصّعداء و يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فانّ بين الجوانح منّي علما جما هاه هاه ألا لا أجد من يحمله.
و أفصح عنه أيضا بقوله عليه السّلام في هذه الخطبة التي نحن في شرحها: ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إلىّ الطير.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 402
و عن إحاطته و كونه غير فاقد لشي ء من فنون العلوم بقوله الذي ما زال عليه السّلام يقول: سلوني قبل ان تفقدوني.
و عن إحاطته بالاخبار الارضيّة بما يأتي في الخطبة الثّانية و التّسعين من قوله عليه السّلام: فاسالوني قبل أن تفقدونى فو الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي ء فيما بينكم و بين السّاعة و لا عن فئة تهدى بآية و تضل بآية إلّا أنبئتكم بناعقها و قائدها و سائقها و مناخ ركابها و محط رحالها و من يقتل من اهلها قتلا و يموت منهم موتا.
و عن علمه بالأخبار السّماوية بل كونه عليه السّلام أخبر بها من الأخبار الأرضية بقوله في الخطبة المأة و الثّامنة و الثّمانين: أيّها النّاس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السّماء أعلم منّي بطرق الأرض.
و عن إحاطته بالأخبار الغيبيّة خطبه المتضمّنة للاخبار عن الملاحم، و هى كثيرة مثل كلامه السّادس و الخمسين و يأتي إنشاء اللّه فى شرحه جملة من أخباره الغيبية، و هكذا الخطبة الثّانية و التّسعون و مثل الخطبة المأة و الخطبة المأة و الثمانية و العشرين إلى غير هذه ممّا لا نطيل بتعدادها.
و عن إحاطته بالكتب المنزلة بما رواه فى المناقب عن ابن البختري من ستّة طرق، و ابن المفضّل من عشر طرق، و إبراهيم الثقفى من أربعة عشر طريقا أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال بحضرة المهاجرين و الأنصار و أشار إلى صدره كيف ملاء علما لو وجدت له طالبا سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط العلم هذا لعاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذا ما زقّنى رسول اللّه زقّا فاسألونى فانّ عندي علم الأولين و الآخرين، أما و اللّه لو ثنيت لي الوسادة ثمّ اجلست عليها لحكمت بين أهل التّوراة بتوراتهم و بين أهل الانجيل بإنجيلهم و بين أهل الزّبور بزبورهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم حتّى ينادى كلّ كتاب بأنّ عليّا حكم فىّ بحكم اللّه، و فى رواية حتّى ينطق اللّه التّوراة و الانجيل، و فى رواية اخرى حتّى يزهر كلّ كتاب من هذه الكتب و يقول: يا ربّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 403
إنّ عليّا قضى بقضائك ثمّ قال: سلونى قبل ان تفقدونى فو الذي فلق الحبّة و برء النسمة لو سألتمونى عن آية آية فى ليلة انزلت او فى نهار مكيها و مدنيها و سفريها و حضريها ناسخها و منسوخها و محكمها و متشابهها و تأويلها و تنزيلها لأخبرتكم هذا مجمل ما يتعلّق بجهات علمه عليه السّلام.
و أمّا التفصيل فاستمع لما يملاء عليك إن كنت طالبا للهدى مبتغيا رشدا، فأقول و باللّه التّوفيق:
أمّا العلم الالهى فيظهر سبقه عليه السّلام فيه على الجميع من خطبه الشّريفة المتضمّنة للتّوحيد و المعرفة و تمجيد الحقّ الأوّل عزّ و جل باعتبار نعوت جلاله و صفات جماله لا سيّما الخطبة التسعون المعروفة بالأشباح، و الخطبة المأة و الخامسة و الثمانون التي تجمع من اصول العلم ما لا تجمعه خطبة، فراجع المقامين و انظر كيف خاض فى غمار عمّانه و غاص على فرائده و جمانه.
و أمّا علم التفسير و القرائة فيصحّ مسابقته فيه بما مرّ آنفا و بما تقدّم فى ثالث تذييلات الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى، و أقول: هنا مضافا إلى ما سبق:
قال الشّارح المعتزلي: إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك لأنّ أكثره عنه عليه السّلام و عن عبد اللّه بن عباس و قد علم الناس حال ابن عباس فى ملازمته له و انقطاعه إليه و أنّه تلميذه و خريجه و قيل له أين علمك من علم ابن عمّك، قال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط انتهى.
و قد روى عن ابن عباس أنّه قال: حدّثنى أمير المؤمنين عليه السّلام فى باء بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من أوّل اللّيل إلى الفجر و لم يتمّ، و عن قوّة قال عليّ عليه السّلام لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا فى تفسير فاتحة الكتاب، و عن فضائل العكبرى قال الشعبى: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد نبيّ اللّه من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و فى المناقب القراء السّبعة إلى قراءته يرجعون، فأمّا حمزة و الكسائى فيقولان على قراءة علي و ابن مسعود و ليس مصحفهما مصحف ابن مسعود فهما إنّما يرجعان إلى علي عليه السّلام و يوافقان ابن مسعود فيما يجرى مجرى الاعراب، و قد قال ابن مسعود
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 404
ما رأيت أحدا أقرء من عليّ بن أبي طالب للقرآن، و أمّا نافع و ابن كثير و أبو عمرو فمعظم قراءاتهم يرجع إلى ابن عباس، و ابن عباس قرء على ابى بن كعب و عليّ عليه السّلام و الذي قرأه هؤلاء القراء يخالف قراءة ابىّ فهو إذا مأخوذ عن علي عليه السّلام و أمّا عاصم فقرأ على أبى عبد الرّحمن السّلمى، و قال أبو عبد الرّحمن قرأت القرآن كله على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقالوا: أفصح القراءات قراءة عاصم لأنه أتى بالأصل و ذلك أنّه يظهر ما ادغمه غيره و يحقّق من الهمز ما ليّنه غيره و يفتح من الالفات ما أماله غيره، و العدد الكوفي فى القرآن منسوب إلى عليّ عليه السّلام و ليس فى الصّحابة من ينسب إليه العدد غيره، و إنّما كتب عدد ذلك كلّ مصر من التّابعين.
و أمّا علم الفقه و الفروع فهو عليه السّلام مرجع الفقهاء كلهم فيه و عنه عليه السّلام تلقوه أمّا فقهاؤنا الامامية أنار اللّه برهانهم فحالهم ظاهر، و أمّا فقهاء العامة فقد قال الشارح المعتزلي كلّ فقيه فى الاسلام فهو عيال و مستفيد من فقهه، أمّا أصحاب أبى حنيفة كأبى يوسف و محمّد و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة، و أمّا الشّافعى فقرأ على محمّد ابن الحسن فيرجع فقهه أيضا إليه، و أمّا أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة و قرء أبو حنيفة على جعفر بن محمّد عليهما السّلام، و قرء جعفر على أبيه و ينتهى الأمر إلى عليّ عليه السّلام، و أما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة، و قرء ربيعة على عكرمة، و قرء عكرمة على عبد اللّه بن عباس، و قرء عبد اللّه بن عباس على علي عليه السّلام انتهى ما قاله الشارح.
و أقول: ما عند فقهاء العامة من الحقّ فى الفروع الفقهية فقد خرج من أمير المؤمنين و أولاده المعصومين عليهم السّلام، و ما عندهم من الباطل فقد نسجتها استحساناتهم العقلية و أقيستهم الباطلة و آراؤهم الفاسدة.
و قال في المناقب: إنّ جميع فقهاء أهل الأمصار إليه يرجعون و من بحره يغترفون أمّا أهل الكوفة و فقهاؤهم سفيان الثّوري و الحسن بن صالح بن حيّ و شريك بن عبد اللّه و ابن أبي ليلى و هؤلاء يقرعون المسائل و يقولون هذا قياس قول
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 405
عليّ عليه السّلام و يترجمون الأبواب بذلك، و أمّا أهل البصرة و فقهاؤهم الحسن و ابن سيرين و كلاهما كانا يأخذان عمّن أخذ عن عليّ عليه السّلام، و ابن سيرين يفصح بأنه أخذ عن الكوفيّين، و عن عبيدة بن السّمانى و هو أخصّ النّاس بعليّ عليه السّلام، و أما أهل مكّة فأخذوا عن ابن عباس و عن عليّ عليه السّلام و قد أخذ عبد اللّه معظم علمه عنه عليه السّلام و امّا أهل المدينة فعنه عليه السّلام أخذوا، و قد صنّف الشّافعي كتابا مفردا في الدّلالة على اتّباع أهل المدينة لعليّ عليه السّلام و عبد اللّه، و قال محمّد بن الحسن الفقيه لو لا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ما علمنا حكم أهل البغى.
و أمّا علم المناظرة ففي الأخبار أنّ أوّل من سنّ دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحقّ عليّ عليه السّلام، و قد ناظره الملاحدة و الزّنادقة في متناقضات القرآن فأجاب لهم بأجوبة متينة، و أجاب مشكلات مسائل الجاثليق حتّى أسلم، و قال عليه السّلام لرأس الجالوت لما قال له: لم تلبثوا بعد نبيّكم إلّا ثلاثين سنة حتّى ضرب بعضكم وجه بعض بالسّيف، فقال عليه السّلام: و أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتم لموسى عليه السّلام: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، روى أبو بكر بن مردويه في كتابه عن سفيان أنّه قال ما حاجّ عليّ عليه السّلام أحدا إلّا حجّه «1» أقول: و يشهد بذلك الرّجوع إلى احتجاجاته المروية في كتاب الاحتجاج لأحمد بن أبي طالب الطبرسي و في مجلّد احتجاجات الأئمة عليه السّلام و مجلّد الفتن و المحن من البحار للمحدّث العلامة المجلسي (ره).
و أمّا القضاء و الفصل بين الخصوم فيدل على سبقه عليه السّلام فيه على الكلّ شهادة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في حقه و قوله: أقضاكم عليّ، و يفصح عنه ما أخبر به عن نفسه فيما رويناه عنه قريبا من قوله لو ثنيت لي الوسادة ثم اجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم الحديث، و من قوله عليه السّلام الآتي في الكلام المأة و التاسع عشر: و عندنا أهل البيت أبواب الحكم و ضياء الأمر، و يدلّ عليه قضاياه عليه السّلام في الوقايع الاتفاقيّة بما
______________________________
(1) اى غلبه، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 406
يحتار في أكثرها العقول و سيأتي شطر منها في شرح هذه الخطبة و غيرها إنشاء اللّه تعالى و رجوع الصّحابة إليه عليه السّلام فيها مأثور مسطور، و قول عمر في مواطن كثيرة:
لو لا عليّ لهلك عمر، معروف مشهور.
و أمّا علم الفصاحة و البلاغة فهو بارعه و حائز قصب السّبق في مضماره حتى قيل في وصفه: إنّ كلامه عليه السّلام فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق، و قد تقدم من الرّضي في ديباجة المتن وصفه بأنّه مشرع الفصاحة و موردها و منشأ البلاغة و مولدها و منه ظهر مكنونها و عنه اخذت قوانينها، و يشهد بذلك خطبته البارعة المدونة في هذا الكتاب و سنشير إلى بعض مزايا كلامه عليه السّلام في تضاعيف الشّرح إنشاء اللّه تعالى، و قد تقدم في ديباجة الشّرح الاشارة إلى بعضها على ما ساعد المجال قال ابن نباتة: حفظت من كلامه عليه السّلام ألف خطبة ففاضت ثمّ فاضت.
و أمّا علم النّجوم فيدل على براعته عليه السّلام فيه ما يأتي منه في الكلام الثامن و السّبعين و شرحه إنشاء اللّه تعالى من الأحكام النّجومية العجيبة لم يهتد إليها المنجمون.
و أمّا علم النّحو و الأدبيّة فقد اتّفق العلماء على أنّه عليه السّلام هو واضعه و مخترعه، قال أبو القاسم الزّجاجي في محكي كلامه عن أماليه: حدثنا أبو جعفر محمّد بن رستم الطبري، حدثنا أبو الحاتم السجستانيّ حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي حدثنا سعيد بن مسلم الباهلي حدّثنا أبي عن جدي عن أبي الأسود الدّئلي، قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فرأيته متفكرا فقلت له: فيم تفكريا أمير المؤمنين؟
قال عليه السّلام إنّي سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أصنع كتابا في اصول العربيّة، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا و بقيت فينا هذه اللّغة، ثمّ أتيته بعد ثلاث فألقى إلىّ صحيفة فيها: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الكلام اسم و فعل و حرف، فالاسم ما انبأ عن المسمّى، و الفعل ما انبأ عن حركة المسمّى و الحرف ما انبأ عن معنى ليس باسم و لا فعل، ثمّ قال عليه السّلام لي تتبعه و زد فيه ما وقع لك، و اعلم يا أبا الأسود أنّ الأشياء ثلاثة: ظاهر و مضمر و شي ء ليس بظاهر و لا مضمر و إنّما تتفاضل العلماء فيما ليس
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 407
بظاهر و لا مضمر قال أبو الأسود، فجمعت منه اشياء و عرضتها عليه عليه السّلام، فكان من ذلك حروف النّصب فذكرت منها إنّ و أنّ و ليت و لعل و كأنّ و لم أذكر لكنّ فقال عليه السّلام: لم تركتها: فقلت: لم أحسبها منها، فقال عليه السّلام: بلى هي منها فزدها فيها انتهى.
و أمّا علم الحساب فيدل على وفور علمه عليه السّلام فيه ما رواه في المناقب عن ابن أبي ليلى أنّ رجلين تغدّيا في سفر و مع أحدهما خمسة أرغفة و مع الآخر ثلاثة و واكلها ثالث فأعطاهما ثمانية دراهم عوضا فاختصما و ارتفعا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال هذا أمر فيه دنائة و الخصومة فيه غير جميلة و الصّلح فيه أحسن، فأبى صاحب الثّلاثة الّا مرّ القضاء فقال عليه السّلام: إذا كنت لا ترضى إلّا بمرّ القضاء فانّ لك واحدة من ثمانية و لصاحبك سبعة أليس كان لك ثلاثة ارغفة و لصاحبك خمسة؟ قال: بلى قال: فهذه أربعة و عشرون ثلثا اكلت منها و الضّيف ثمانية فلما أعطاكما الثّمانية الدراهم كان لصاحبك سبعة و لك واحدة، و يأتي رواية هذه القضيّة بطريق آخر في تضاعيف الشّرح في موقعه بأبسط وجه إنشاء اللّه تعالى.
و أمّا علم الكيميا فهو أكثرهم حظا منه، قال في المناقب و قد سئل عن الصّنعة فقال عليه السّلام: هي اخت النّبوة و عصمة المروة و النّاس يتكلمون فيها بالظاهر و انا أعلم ظاهرها و باطنها، ما هي و اللّه إلّا ماء جامد و هواء راكد و نار جائلة و أرض سائلة، قال: و سئل في أثناء خطبته هي الكيميا يكون فقال عليه السّلام: كان و هو كائن و سيكون، فقيل من أيّ شي ء هو؟ فقال عليه السّلام: من الزيبق الرّجراج و الاسرب و الزّاج و الحديد المزعفر و زيخار النحاس الاخضر الحور «الحبور خ» الا توقف على عابرهن، فقيل فهمنا لا يبلغ إلى ذلك فقال عليه السّلام اجعلوا البعض أرضا و اجعلوا البعض ماء و افلحوا الأرض بالماء و قدتم فقيل زدنا يا أمير المؤمنين، فقال عليه السّلام لا زيادة عليه فانّ الحكماء القدماء ما زادوا عليه كيميا «كيماظ» يتلاعب به النّاس.
و أمّا زهده و طلاقه للدّنيا و رغبته بالكليّة عنها
فهو من المتواترات القطعيّة أظهر و أبهر من الشّمس في رابعة النّهار، و يفصح عن ذلك و يبيّن عنه و تأتيك من سبإ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 408
بنبإ يقين الخطب و الكلمات المدونة عنه فى هذا الكتاب و غيره المتضمنة لزهده عليه سلام اللّه ربّ العالمين ملأ السماوات و الأرضين و قد أقسم فيما يأتي من كلماته القصار بالقسم البارّ و قال: و اللّه لدنياكم هذه أهون فى عينى من عراق «1» خنزير فى يد مجذوم، و قال فى الكلام المأتين و الثّانى و العشرين: و إنّ دنياكم عندى لأهون من ورقة فى فم جرادة تقضمها، ما لعليّ و لنعيم يفنى و لذة لا تبقى.
و فى المناقب المعروفون من الصّحابة بالورع عليّ و أبو بكر و عمرو بن مسعود و أبو ذر و سلمان و مقداد و عثمان بن مظعون و ابن عمر، و معلوم أنّ ابا بكر توفى و عليه بيت مال المسلمين نيف و أربعون ألف درهم، و عمر مات و عليه نيف و ثمانون ألف درهم، و عثمان مات و عليه ما لا يحصى كثرة، و عليّ مات و ما ترك إلا سبعمائة درهم فضلا عن عطائه أعدّها لخادم.
امالى الطوسي في حديث عمّار يا عليّ إنّ اللّه قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحبّ إلى اللّه منها، زيّنك بالزّهد في الدنيا و جعلك لا تزرء منها شيئا و لا تزرء منك شيئا، و وهبك حبّ المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إماما.
اللّؤلوئيات قال عمر بن عبد العزيز: ما علمنا أحدا كان في هذه الامة أزهد من عليّ بن ابي طالب عليه السّلام بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يروى أنه كان عليه وقت لا يكون عنده ثلاثة دراهم يشترى بها إزارا و ما يحتاج إليه ثمّ يقسم كلّ ما في بيت المال على النّاس ثمّ يصلّي فيه و يقول: الحمد للّه الذي أخرجني منه كما دخلته، و اتي إليه بمال فكوم كومة من ذهب و كومة من فضّة و قال يا صفراء اصفري يا بيضاء ابيضي و غرّي غيري،
هذا خباى «جناى خ» و خياره فيه و كلّ جان يده إلى فيه
الأشعث العبد قال: رأيت عليّا عليه السّلام اغتسل في الفرات يوم جمعة ثم ابتاع قميصا كرابيس بثلاثة دراهم فصلّى بالنّاس الجمعة و ما خيط جربانه بعد، و في فضائل أحمد راى على عليّ عليه السّلام إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم، و راي عليه إزار مرقوع فقيل له في ذلك فقال عليه السّلام يقتدي به
______________________________
(1) جمع عرق و هو العظم الذي نحت عنه اللحم ق
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 409
المؤمنون و يخشع له القلب و تذل به النّفس و يقصد به المتابع، مسند أحمد و كان كمّه لا يجاوز أصابعه و يقول ليس للكمين على اليدين فضل، و نظر إلى فقير انخرق كمّ ثوبه فخرق كمّ قميصه و ألقاه إليه، مسند الموصلي الشّعبي عن الحارثي عن عليّ عليه السّلام قال: ما كان لي ليلة اهدى لي فاطمة شي ء ينام عليه إلا جلد كبش، و اشترى ثوبا فأعجبه فتصدق به.
و أمّا العبادة و صالح الأعمال:
فقد علم إجمالا بما قدّمناه في كونه أكثر ثوابا و أقول مضافا إلى ما سبق: إنّه عليه السّلام قد كان بالغا فيها غايتها، و كفى به شهيدا أنّه كان يؤخذ النّشاب من جسده عند الصّلاة و هو غير شاعر له لاستغراقه في شهود جمال الحق و فنائه في اللّه و انقطاعه لكليّته عمّن سواه، و كان السّجاد عليّ بن الحسين عليهما السّلام يصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة ثم يأخذ صحف عبادات أمير المؤمنين عليه السّلام و ينظر ما فيها سيرا، ثم يتركها من يده كالمتضجر المتأسّف على تقصير نفسه في العبادة، و يقول: من يقدر على عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و فيه نزل قوله تعالى:
«تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ».
روى ابن شهر آشوب في المناقب عن النّيسابوري في روضة الواعظين أنّه قال عروة بن الزّبير: سمع بعض التّابعين أنس بن مالك يقول: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:
«أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» الآية.
قال الرّجل: فأتيت عليّا عليه السّلام وقت المغرب فوجدته يصلّي و يقرأ القرآن إلى أن طلع الفجر، ثمّ جدد وضوءه و خرج إلى المسجد و صلّى بالنّاس صلاة الفجر، ثم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 410
قعد في التّعقيب إلى أن طلعت الشّمس، ثم قصده النّاس فجعل يقضي بينهم إلى أن قام إلى صلاة الظهر فجدّد الوضوء ثم صلى بأصحابه الظهر، ثم قعد في التّعقيب إلى أن صلى بهم العصر، ثم كان يحكم بين النّاس و يفتيهم إلى أن غابت الشّمس، و فيه عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى:
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ»* قال: ذاك أمير المؤمنين عليه السّلام و شيعته «فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» و فيه عن محمّد بن عبد اللّه بن الحسن عن آبائه عليهم السّلام و سدى عن أبي مالك عن ابن عباس و محمّد بن علي الباقر عليه السّلام في قوله تعالى:
«وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» و اللّه لهو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
قال بعض السادات
مفرق الاحزاب ضرّاب الطلى مكسّر الاصنام كشاف الغمم
الزّاهد العابد في محرابه السّاجد الرّاكع في جنح الظلم
صام هجيرا و على سائله جاد بافطار الصّيام ثمّ نم
و قال العبدى
و كم غمرة للموت للّه خاضها و لجة بحر في الحكوم اقامها
و كم ليلة ليلا و للّه قامها و كم صبحة مسجورة الحرّ صامها
و فيه أيضا عن عروة الزّبير قال تذاكرنا صالح الاعمال فقال ابو الدرداء اعبد النّاس عليّ بن ابي طالب عليه السّلام سمعته قائلا بصوت حزين و نغمة شجيّة في موضع خال الهى كم من موبقة حملتها «حلمتها خ» عني فقابلتها بنعمتك و كم من جريرة تكرمت علىّ بكشفها بكرمك الهى إن طال في عصيانك عمرى و عظم في الصحف ذنبى فما انا مؤمّل غير غفرانك و لا انا براج غير رضوانك ثمّ ركع ركعات فاخذ في الدّعاء و البكاء فمن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 411
مناجاته: الهى افكر في عفوك فتهون علىّ خطيئتى ثمّ اذكر العظيم من اخذك فيعظم علىّ بليتي ثم قال آه ان انا قرئت في الصحف سيئة انا ناسيها و انت محصيها فتقول خذوه فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته و لا تنفعه قبيلته يرحمه البلاء اذا اذن فيه بالنداء آه من نار تنضج الاكباد و الكلى آه من نار لواعة للشواء آه من غمرة من لهبات لظى ثمّ أنعم «1» في البكاء فلم اسمع له حسا فقلت غلب عليه النوم اوقظه لصلاة الفجر فاتيته فان هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك فقلت انا للّه و انا اليه راجعون مات و اللّه عليّ بن ابي طالب عليه السّلام قال فأتيت منزله مبادرا انعاه اليهم فقالت فاطمة عليها السّلام ما كان من شأنه؟ فاخبرتها فقالت هي و اللّه الغشية التي تأخذه من خشية اللّه تعالى، ثم اتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق و نظر الىّ و انا ابكى فقال: مم بكائك يا ابا الدرداء؟ فكيف و لو رأيتني و دعي بي إلى الحساب و ايقن اهل الجرائم بالعذاب و احوشتنى «2» ملائكة غلاظ و زبانية فظاظ فوقفت بين يدي ملك الجبار قد أسلمتنى الاحبّاء و رحمنى اهل الدّنيا اشدّ رحمة لى بين يدي من لا يخفى عليه خافية.
و منها الشجاعة:
و لقد كان أشجع النّاس و أنسى شجاعة من كان قبله و محا اسم من كان يأتي بعده و تعجّبت الملائكة من حملانه، و فيه قال النّبى صلّى اللّه عليه و آله لما خرج لقتال عمرو بن عبدود: برز الايمان كله إلى الشّرك كله، فلما قتله قال صلّى اللّه عليه و آله له:
ابشر يا علي فلو وزن عملك اليوم بعمل امّتى لرجح عملك بعملهم، رواه فى المناقب لأحمد بن حنبل و النسائى عن ابن مسعود، و أنزل اللّه تعالى.
«وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» بعليّ الآية، كما عن مصحف ابن مسعود، قال ربيعة السّعدي: أتيت حذيفة اليمان فقلت يا أبا عبد اللّه: إنا لنتحدث عن عليّ و مناقبه فيقول أهل البصرة: إنكم لتفرّطون فى عليّ فهل تحدثنى بحديث؟ فقال حذيفة و الذي نفسى بيده لو وضع جميع أعمال امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فى كفّة الميزان منذ بعث اللّه
______________________________
(1) انعم فى البكاء اى بالغ و الحس بالكسر الصوت
(2) احوش الصيد جاءه من حواليه ليصرفه الى الحياز
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 412
محمّدا إلى يوم القيامة و وضع عمل عليّ عليه السّلام فى الكفّة الاخرى لرجح عمل عليّ على جميع أعمالهم، فقال ربيعة هذا الذي لا يقام له و لا يقوم، فقال حذيفة: يا لكع و كيف لا يحمل و إن كان أبو بكر و عمر و حذيفة و جميع أصحاب النّبي صلّى اللّه عليه و آله يوم عمرو بن عبدود و قد دعا إلى المبارزة فأحجم النّاس كلهم ما خلا عليّا، فانّه نزل إليه فقتله و الذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمّد إلى يوم القيامة.
قال الشّارح المعتزلي: و كانت العرب تفتخر بوقوفها فى الحرب فى مقابلته، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه عليه السّلام قتلهم أظهر و أكثر قالت اخت عمرو بن عبدود ترثيه
لو كان قاتل عمر و غير قاتله بكيته ابدا ما دمت فى البلد
لكنّ قاتله من لا نظير له و كان يدعى ابوه بيضة البلد
و فى غزاة احد انهزم المسلمون و خشى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ضربه المشركون بالسيوف و الرّماح و عليّ يدافع عنه فنظر إليه النّبي صلّى اللّه عليه و آله بعد إفاقته من غشيته و قال صلّى اللّه عليه و آله: ما فعل المسلمون؟ فقال: نقضوا العهد و ولّوا الدّبر، فقال: اكفني أمر هؤلاء فكشفهم عنه و صاح صايح بالمدينة قتل رسول اللّه، فانهلعت القلوب و نزل جبرئيل قائلا لا سيف الا ذو الفقار و لا فتى إلا عليّ، و قال للنّبي صلّى اللّه عليه و آله يا رسول اللّه لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه، قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله ما يمنعه عن ذلك و هو مني و أنا منه، إلى غير ذلك ممّا لا يحكيه قلم و لا يضبطه رقم، و ستطلع على فتوحاته و مجاهداته تفصيلا في مواقعها إنشاء اللّه، كما ستطلع على ساير مكارم أخلاقه و محاسن خصاله على حسب الاستطاعة و التمكن في مقاماته المناسبة، و لو أردنا شرح معشار فضايله و خصائصه لاحتجنا إلى افراد كتاب يماثل حجم هذا الكتاب بل يزيد.
قال الجاحظ في محكي كلامه و نعم ما قال حالكونه من أعظم النّاس عداوة لأمير المؤمنين عليه السّلام: صدق عليّ عليه السّلام في قوله: نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد كيف
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 413
يقاس بقوم. منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الأطيبان عليّ و فاطمة، و السبطان الحسن و الحسين، و الشهيدان أسد اللّه حمزة و ذو الجناحين جعفر، و سيّد الورى عبد المطلب و ساقي الحجيج العباس و حامي النّبي و معينه و محبه أشدّ حبّا و كفيله و مربيه و المقر بنبوته و المعترف برسالته و المنشد في مناقبه أبياتا كثيرة، و شيخ قريش أبو طالب و النّجدة و الخير فيهم، و الأنصار من نصرهم، و المهاجرون من هاجر لهم و معهم، و الصّديق من صدّقهم، و الفاروق من فارق بين الحقّ و الباطل فيهم، و الحواري حواريهم، و ذو الشّهادتين لأنّه شهد لهم، و لا خير إلا فيهم و لهم و منهم و معهم، و أبان رسول اللّه أهل بيته بقوله: إنّي تارك فيكم الخليفتين كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي نبأني اللّطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يرد اعلىّ الحوض، و لو كانوا كغيرهم لما قال عمر لما طلب مصاهرة علي عليه السّلام إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول كل سبب منقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي فأمّا عليّ فلو أفردنا لفضائله الشّريفة و مقاماته الكريمة و درجاته الرّفيعة و مناقبه السّنية لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال و الدّفاتر، العرق صحيح، و النّسب صريح، و المولد مكان معظم، و المنشأ مبارك مكرم، و الشّأن عظيم، و العمل جسيم و العلم كثير، و ليس له نظير، و البيان عجيب، و اللسان خطيب، و الصّدر رحيب، و أخلاقه وفق اعراقه، و حديثه يشهد على تقديمه انتهى.
و أنت اذا أحطت خبرا بما مهدناه في هذه المقدّمة عرفت فساد ما توهّمه النّواصب اللئام من عدم وجود النّص على إمامة أمير المؤمنين و سيد المتقين و يعسوب الدين و قائد الغرّ المحجلين عليه و على أولاده آلاف التّحية و السّلام، كما عرفت فساد القول بتفضيل غيره عليه، كما اتّفق لجماعة منهم، و كذا القول بتفضيله على غيره مع القول بصحة خلافة الثّلاثة و تقديمهم عليه كما هو مذهب الشّارح المعتزلي و من يحذو حذوه من معتزلة بغداد و غيرهم على ما حكي عنهم في أوائل الشّرح، و عمدة ما أوقعه كغيره في هذا الوهم الفاسد و الرّأى الكاسد ما ذكره في تضاعيف شرح هذه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 414
الخطبة و لا بأس أن نذكر كلامه بطوله ثم نتبعه بما يلوح عليه من ضروب الكلام و وجوه الملام.
فأقول: قال الشّارح خذله اللّه عند شرح قوله عليه السّلام: أما و اللّه لقد تقمصها إلى قوله: أرى تراثي نهبا، ما لفظه: إن قيل بيّنوا لنا ما عندكم في هذا الكلام أليس صريحه دالا على تظليم القوم و نسبتهم إلى اغتصاب الأمر فما قولكم في ذلك إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم، و إن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتكلم عليهم؟
قيل: أمّا الاماميّة من الشّيعة فتجرى هذه الألفاظ على ظواهرها و تذهب إلى أن النّبيّ نصّ على أمير المؤمنين و أنّه غصب حقّه، و أمّا أصحابنا رحمهم اللّه قلهم أن يقولوا إنّه لما كان أمير المؤمنين هو الأفضل و الأحقّ و عدل عنه الى من لا يساويه في فضل و لا يوازيه فى جهاد و علم و لا يماثله في سودد و شرف ساغ اطلاق هذه الألفاظ و إن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا و كانت بيعته بيعة صحيحة، ألا ترى أنّ البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة فيجعل السّلطان الأنقص علما منهما قاضيا فيتوجد الأعظم و يتألم و ينفث احيانا بالشكوى و لا يكون ذلك طعنا في القاضي و لا تفسيقا له و لا حكما منه بأنّه غير صالح، بل للعدول عن الأحق و الأولى، و هذا أمر مركوز في طباع البشر و مجبول في أصل الغريزة و الفطنة، فاصحابنا لما أحسنوا الظن بالصّحابة و حملوا ما وقع منهم على وجه الصواب و أنّهم نظروا إلى مصلحة الاسلام و خافوا فتنة لا يقتصر على ذهاب الخلافة فقط، بل و يفضي إلى ذهاب النّبوة و الملة، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر دونه فعقدوا له، احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصّادرة عمّن يعتقدونه في الجلالة و الرّفعة قريبا من منزلة النّبوة، فتأوّلوها بهذا التّأويل و حملوها على التألم للعدول عن الأولى، و ليس هذا بأبعد من تأويل الاماميّة قوله تعالى: «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى »
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 415
و قولهم: معنى عصى انّه عدل عن الأولى، لأنّ الأمر بترك أكل الشّجرة كان أمرا على سبيل الندب فلما تركه آدم كان تاركا للأفضل و الأولى فسمّي عاصيا باعتبار مخالفة الأولى، و حملوا غوى على خاب لا على الغواية بمعنى الضّلال، و معلوم أنّ تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و حمله على أنّه شكا من تركهم الأولى أحسن من حمل قوله تعالى: و عصى آدم، على أنّه ترك الأولى.
إن قيل: لا يخلو الصّحابة أن يكون عدلت عن الأفضل لعلة و مانع في الأفضل أولا لمانع فان كان لا لمانع كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى فيكون باطلا، و إن كان لمانع و هو ما يذكرونه من خوف الفتنة و كون النّاس كانوا يبغضون عليّا و يحسدونه فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين عليه السّلام في العدول عنه و يعلم أنّ العقد لغيره هو المصلحة للاسلام، فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك و يتوجد إليهم؟
و أيضا فما معنى قوله: فطفقت أرتاي بين أن أصول بيد جذّاء، على ما تأوّلتم به كلامه فانّ تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب.
قيل: يجوز أن يكون أمير المؤمنين لم يغلب على ظنّه ما غلب على ظنون الصّحابة من الشّغب و ثوران الفتنة، و الظنون يختلف باختلاف الامارات فربّ انسان يغلب على ظنّه أمر يغلب على ظنّ غيره خلافه، و أمّا قوله: أرتاي بين أن أصول، فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب، بل صيال الجدل و المناظرة، يبين ذلك أنّه لو كان جادلهم و أظهر ما في نفسه لهم فربما خصموه بأن يقولوا له: قد غلب على ظنوننا أنّ الفساد يعظم و يتفاقم إن وليت الأمر، و لا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلّم الأمر إليك، فهو عليه السّلام قال: طفقت أرتاي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم و احاجّهم بها فيجيبوني بهذا الضّرب من الجواب الذي يصير حجتي بهم جذّاء مقطوعة و لا قدرة لى على تشييدها و نصرتها، و بين أن أصبر على ما منيت به و وقعت إليه.
إن قيل: إذا كان لم يغلب على ظنّه وجود العلّة و المانع فيه و قد استراد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 416
الصّحابة و شكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده، فقد سلمتم أنّه ظلم الصّحابة و نسبهم إلى غصب حقّه فما الفرق بين ذلك و بين أن يظلمهم لمخالفة النّص و كيف هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النّصّ و وقعتم في نسبته لهم إلى الظلم الخلاف الأولى من غير علّة في الأولى؟ و معلوم أن مخالفة الأولى من غير علة في الأولى كتارك النّص، لأن العقد في كلا الموضعين يكون فاسدا؟
قيل: الفرق بين الأمرين ظاهر لأنّه لو نسبهم إلى مخالفة النّص لوجب وجود النص، و لو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفّارا لمخالفته، و أمّا إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي عليه السّلام واحد الأمرين لازم، و هو إمّا أن يكون ظنّهم صحيحا أو غير صحيح، فان كان ظنهم هو الصّحيح فلا كلام في المسألة، و إن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن و أخطأ، فانّه معذور و مخالفة النّص خارج عن هذا الباب لأنّ مخالفه غير معذور بحال فافترق المحملان، انتهى كلامه.
أقول: لا يخفى ما فيه من وجوه الجهل و ضروب التّجاهل اما أولا فلأنّ قوله:
و إن كان من وسم بالخلافة عدلا تقيا، أوّل الكلام و ستطلع على فسق أسلافه عند التّعرّض لمطاعنهم حيثما بلغ الكلام محله إنشاء اللّه.
و اما ثانيا فلأنّ قوله: و كانت بيعته بيعة صحيحة، ممنوع إذ خلافة ابي بكر لم تنعقد إلّا باعتبار متابعة عمر بن الخطاب له برضاء أربعة: أبي عبيدة و سالم مولى حذيفة و بشر بن سعد و اسيد بن حصين لا غير، و قد تخلف عنها وجوه الصّحابة حسبما تعرفه في محله، و قد صرّح الشّارح في شرح قوله عليه السّلام: فصيرها في حوزة خشناء بأنّ استقرار الخلافة له لم يحصل إلّا بوجود عمر حيث قال: و عمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر و رقم المخالفين فيها فكسر سيف الزّبير لما جرّده و دفع في صدر المقداد و وطأ في السّقيفة سعد بن عبادة و قال: اقتلوا سعدا قتل اللّه سعدا و حطم أنف الحباب ابن المنذر الذي قال يوم السّقيفة: أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب، و توعد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 417
من لجأ إلى دار فاطمة من الهاشميين و أخرجهم منها، و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر و لا قامت له قائمة انتهى.
و هذا الكلام كما ترى صريح في أنّ عقد البيعة لأبي بكر لم يكن من إجماع الكلّ و اجتماعهم عن طوع و رغبة، و إنّما حصل عن تشييد عمر و تأسيسه، و على تقدير تسليم أن يكون أهل البيعة جماعة كثيرة فنقول: لاخفاء في أنّهم تابعون لتصرف الشّرع فيهم لا تصرف لهم في أنفس غيرهم من آحاد الامة و في أقل مهمّ من مهماتهم، فكيف يولون الغير على أنفس الخلايق منهم و من غيرهم، فانّ من لا يعقل له التّصرف في أقلّ الامور لأدنى الأشخاص كيف يكون له القدرة على جعل الغير متصرّفا في نفوس أهل الشّرق و الغرب و في دمائهم و أموالهم و فروجهم.
و هذا الذي ذكرناه إنّما هو على سبيل المماشاة و إلّا فقد صرّح صاحب المواقف و شارحه السيّد الشّريف بانعقاد البيعة بالواحد و الاثنين حيث قال: و إذا ثبت حصول الامامة بالاختيار و البيعة فاعلم أنّ ذلك الحصول لا يفتقر إلى الاجماع من جميع أهل الحلّ و العقد إذ لم يقم عليه أى على هذا الافتقار دليل من العقل أو السّمع، بل الواحد و الاثنان من أهل الحلّ و العقد كاف في ثبوت الامامة و وجوب اتباع الامام على أهل الاسلام، و ذلك لعلمنا بأنّ الصّحابة مع صلابتهم في الدين و شدّة محافظتهم على امور الشّرع كما هو حقها اكتفوا في عقد الامامة بذلك المذكور من الواحد و الاثنين كعقد عمر لأبي بكر و عقد عبد الرّحمان بن عوف لعثمان، و لم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة من أهل الحلّ و العقد فضلا عن إجماع الامة من علماء أمصار الاسلام و مجتهدي جميع أقطارها على هذا كما مضى و لم ينكر عليهم أحد، و عليه أى و على الاكتفاء بالواحد و الاثنين في عقد الامامة انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا انتهى.
و مع ذلك كله كيف يمكن أن يقال، ان: بيعة أبي بكر كانت بيعة صحيحة شرعيّة، و كيف يحلّ لمن يؤمن باللّه و اليوم الاخر ايجاب اتباع من لم ينص اللّه و رسوله، و لا اجتمعت الامة عليه على جميع الخلق لأجل مبايعة رجل واحد، و هل يرضى العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب و أن يوجب على نفسه ذل الطاعة لمن لا يعرف
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 418
عدالته و لا يدرى حاله من الايمان و عدمه و لا يعرف حقّه من باطله لأجل أن شخصا لا يعرف عدالته و معرفته بايعه، إن هو إلّا محض الجهل و الحمق و الضّلال عن سبيل الرّشاد.
و اما ثالثا فانّ قوله: ألا ترى أنّ البلداه، ظاهر هذا المثال بملاحظة تطبيقه مع الممثل يعطي أنّ تقديم أبي بكر إنّما حصل بفعل اللّه سبحانه، و هو ظاهر ما ذكره في خطبة الشّرح من قوله: و قدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف، و حينئذ فيتوجه عليه أولا أنّه مناف لما صرّح به بعد ذلك: من أنّ الصّحابة نظروا إلى مصلحة الاسلام فعدلوا من الأفضل الأشرف، حيث إن المستفاد منه أنّ تقديمه إنّما كان بفعل الصّحابة لا بفعل اللّه و ثانيا أنّه يستلزم أن يقدم اللّطيف الخبير المفضول المحتاج إلى التكميل على الفاضل الكامل و هو مع أنّه قبيح عقلا و نقلا افتراء عليه سبحانه، و قد قال تعالى:
«أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» و قال: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً» و ثالثا أنّه لو كان هذا التّقديم من اللّه لم يصحّ لعليّ عليه السّلام الشكاية مطلقا لانّها حينئذ يكون ردّا على اللّه و الرّد على اللّه على حدّ الشرك باللّه.
و اما رابعا فانّ قوله: و أنّهم نظروا إلى مصلحة الاسلام اه، ممنوع بل نقول إنّ تقديمهم له إنّما نشأ من حبّ الجاه و الرّياسة و عداوة لامام الامة كما يكشف عنه قول طلحة حين كتب أبو بكر وصيّة لعمر بالولاية و الخلافة: و ليته أمس و لاك اليوم.
و قال الغزالي في كتابه المسمّى بسرّ العالمين على ما حكاه عنه غير واحد في مقالة الرّابعة التي وضعها لتحقيق أمر الخلافة بعد عدة من الأبحاث و ذكر الاختلاف ما هذه عبارته: لكن اسفرت الحجة وجهها و أجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته صلوات اللّه عليه في يوم غدير باتّفاق الجميع و هو يقول: من كنت مولاه، فعلي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 419
مولاه، فقال عمر: بخّ بخّ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاى و مولى كل مؤمن و مؤمنة فهذا تسليم و رضاء و تحكيم، ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحبّ الرّياسة و حمل عمود الخلافة و عقود البنودو خفقان الهواء في قعقعةالرّايات و اشتباك ازدحام الخيول و فتح الامصار سقاهم كأس الهوى فعادوا إلى الخلاف الأول فنبذوا الحقّ وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.
و اما خامسا فلأنّ تمثيله بالآية لا وجه له، إذ ارتكاب التّأويل في الآية الشّريفة بحمل العصيان فيها على ترك الأولى و حمل الغيّ على الخيبة إنّما هو من أجل قيام الأدلة القاطعة و البراهين السّاطعة من العقل و النّقل على عصمة الأنبياء عليهم السّلام حسبما عرفت تفصيلا في التذنيب الثّالث من تذنيبات الفصل الثّاني عشر من فصول الخطبة الاولى، و أمّا فيما نحن فيه فمجرّد حسن الظن بالصّحابة لا يوجب ارتكاب التّأويل و رفع اليد عمّا هو ظاهر في التّظلم و التشكّي بل صريح في الطعن و اغتصاب الخلافة.
و اما سادسا فانّ الجواب عن الاعتراض الذي ذكره بقوله: قيل: يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السّلام لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصّحابة، تكلف بارد إذ كيف يمكن أن يجهل عليّ الذي هو باب مدينة العلم و دار الحكمة بما عرفه عامة الخلق مع جهالتهم و انحطاط درجاتهم منه في العلم من الثرى إلى الثريا و لا سيّما انّ هذه الخطبة ممّا خطب عليه السّلام بها في أواخر عمره الشّريف كما يشهد به مضمونها، فهب أنّه لم يغلب على ظنه في أوّل الأمر ما غلب على ظنون الصّحابة إلّا أنّه كيف يمكن أن يخفى عليه في هذه السّنين المتطاولة ما ظهر على الصّحابة في بادي الرّأي.
فان قلت: هذه الخطبة منه حكاية حال ماضية و لا تنافي اطلاعه على ما اطلع «1» «2» «3» عليه الصحابة بعد هذه الحال.
______________________________
(1) البند بالباء الموحدة ثم النون العلم الكبير فارسى معرب، لغة
(2) حكاية صوت السلاح و نحوه لغة
(3) الشبك و الاشتباك التداخل و منه اشتباك الاصابع، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 2، ص: 420
قلت: المنافاة واضحة إذ اللّازم عليه بعد اطلاعه بما ظنوه أن يعذرهم و يعتذر عنهم و لا يتكلم بمثل هذا الكلام الحاكي عن سوء فعالهم و الكاشف عن قبح أعمالهم، و يأتي لهذا إن شاء اللّه مزيد تحقيق في شرح الكلام المأتين و الرّابع عشر.
و أما سابعا فانّ ما أجاب به بقوله: و أما قوله: أرتأي بين أن أصول، فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب بل صيال الجدل و المناظرة، فاسد جدّا.
أما أولا فلأنّ ظاهر الكلام هو الصيّال بالحرب مؤيدا بما هو صريح كلامه عليه السّلام في الخطبة السّادسة و العشرين و هو قوله: فنظرت فاذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت و اغضيت على القذى و شربت على الشّجى و صبرت على أخذ الكظم و على أمرّ من طعم العلقم، و قد قال الشّارح هناك: فأمّا قوله:
لم يكن لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، فقول ما زال عليه السّلام يقوله:
و لقد قاله: عقيب وفاة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، قال: لو وجدت أربعين ذوي عزم، ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفّين و ذكره كثير من أرباب السّيرة انتهى.
و أمّا ثانيا فلأنّه عليه السّلام قد ذكر فضائله و مناقبه و النّصوص الواردة فيه و احتج بها يوم السّقيفة كما ستعرفه في محلّه، فلم يصبر عن الاحتجاج بها حتّى يقول فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى، و كيف كان فقد تحصل ممّا ذكرنا كله أنّ تكلّفات الشّارح و تأويلاته فاسدة جدّا و تطلع على فسادها زيادة على ما ذكر في تضاعيف الكتاب إن ساعدنا التّوفيق و المجال إنشاء اللّه.
المقدمة الثالثة في كيفيّة غصب أهل الجلافة للخلافة و ما جرى منهم يوم السّقيفة و بعدها:
من إجبار أمير المؤمنين عليه السّلام على البيعة و إنكار من أنكر عليهم ذلك و ما جرى في تلك الوقايع من الظلم و الطغيان لعنة اللّه على أهل البغي و العدوان، و نحن ذاكر هنا ما وصل إلينا من طرق أصحابنا رضوان اللّه عليهم، و أمّا ما ذكره العامة في هذا الباب و رووه في سيرهم و تواريخهم فتصدّى لها كبعض روايات الخاصّة إنشاء اللّه في شرح الخطب الآتية ممّا أشار فيها الامام عليه السّلام إلى هذا المرام.
فنقول: روى الشّيخ أبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن أبي المفضّل محمّد بن عليّ الشيباني باسناده الصّحيح عن رجال ثقة عن ثقة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج في مرضه الذي توفّى فيه إلى الصّلاة متوكئا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 3
على الفضل بن عبّاس و غلام له يقال له: ثوبان و هي الصّلاة التي أراد التّخلف عنها لثقله ثمّ حمل على نفسه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خرج، فلما صلّى عاد إلى منزله فقال لغلامه:
اجلس على الباب و لا تحجب أحدا من الأنصار و تجلاه الغشى فجاء الأنصار فأحدقوا بالباب و قالوا: ائذن لنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: هو مغشيّ عليه و عنده نساؤه، فجعلوا يبكون، فسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم البكاء فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأنصار، فقال: من هاهنا من أهل بيتي؟ قالوا: عليّ و العباس فدعاهما، و خرج متوكئا عليهما فاستند إلى جذع «1» من أساطين مسجده و كان الجذع جريد نخل فاجتمع النّاس و خطب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال في كلامه: إنّه لم يمت نبيّ قط إلّا خلّف تركة و قد خلّفت فيكم الثّقلين:
كتاب اللّه و أهل بيتي، ألا فمن ضيّعهم ضيّعه اللّه، ألا و إنّ الأنصار كرشي «2» و عيبتي التي آوي إليها، و إنّي أوصيكم بتقوى اللّه و الاحسان إليهم، فاقبلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم.
ثمّ دعا اسامة بن زيد و قال: سر على بركة اللّه و النّصر و العافية حيث أمرتك بمن أمرّتك عليه، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قد أمّره على جماعة من المهاجرين و الأنصار فيهم أبو بكر و عمر و جماعة من المهاجرين الأولين، و أمره أن يعبروا «يغبروا خ ل» على موتة «3» و اد من فلسطين، فقال اسامة: بأبى أنت و أمّى يا رسول اللّه أ تأذن لى فى المقام أيّاما حتّى يشفيك اللّه، فانّى متى خرجت و أنت على هذه الحالة خرجت و فى قلبى منك قرحة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انفذيا اسامة لما أمرتك، فإنّ القعود عن الجهاد لا نحبّ في حال من الأحوال، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ النّاس طعنوا فى عمله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
بلغنى أنكم طعنتم في عمل اسامة و فى عمل أبيه من قبل، و أيم اللّه إنّه لخليق للامارة و إنّ أباه كان خليقا لها و إنّه لمن أحبّ النّاس إليّ، فأوصيكم به خيرا فلان قلتم في أمارته فقد قال قائلكم في أمارة أبيه.
______________________________
(1) بالكسر ساق النخلة، ق.
(2) كرش الرجل عياله و صغار ولده و العيبة من الرجل موضع سره، لغة.
(3) موضع قتل فيه جعفر بن ابي طالب، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 4
ثمّ دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيته و خرج اسامة من يومه حتّى عسكر على رأس فرسخ من المدينة و نادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أن لا يتخلّف عن اسامة أحد ممّن أمّرته عليه، فلحق النّاس به، و كان أول من سارع إليه ابو بكر و عمرو أبو عبيدة ابن الجرّاح، فنزلوا في زقاق «1» واحد مع جملة أهل العسكر.
قال: و نقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجعل النّاس ممّن لم يكن في بعث اسامة يدخلون عليه إرسالا «2» و سعد بن عبادة شاك «3» فكان لا يدخل أحد من الأنصار على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا انصرف إلى سعد يعوده.
قال: و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وقت الضّحى من يوم الاثنين بعد خروج اسامة إلى معسكره بيومين، فرجع أهل العسكر و المدينة قد رجفت بأهلها، فأقبل أبو بكر على ناقة له حتّى وقف على باب المسجد فقال: أيها النّاس ما لكم تموجون إن كان محمّد قد مات فربّ محمّد لم يمت.
«و ما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا» ثمّ اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة و جاذبه إلى سقيفة بنى ساعدة فلما سمع بذلك عمر أخبر به أبا بكر و مضيا مسرعين إلى السّقيفة و معهما أبو عبيدة بن الجرّاح و في السّقيفة خلق كثير من الأنصار و سعد بن عبادة بينهم مريض، فتنازعوا الأمر بينهم فآل الأمر إلى أن قال أبو بكر في آخر كلامه للأنصار: إنّما أدعوكم إلى أبى عبيدة بن الجرّاح أو عمرو كلاهما قد رضيت لهذا الأمر و كلاهما أراه له أهلا، فقال أبو عبيدة و عمر: ما ينبغي لنا أن نتقدّمك يا أبا بكر أنت أقدمنا اسلاما و أنت صاحب الغار و ثانى اثنين فأنت أحقّ بهذا الأمر و أولانا به، فقالت الأنصار
______________________________
(1) زقاق زمين هموار و نرم و خاك بى ريك، لغة.
مكرر- الزقاق كغراب السكة من الطريق المنسد، ق
(2) اى جماعات متتابعين، منه.
(3) الشوكة داء معروف و حمرة تعلوا الجسد، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 5
نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منّا و لا منكم فنجعل منّا أميرا و منكم أميرا و نرضى به على أنّه إن هلك اخترنا آخر من الأنصار، فقال أبو بكر بعد أن مدح المهاجرين: و أنتم يا معاشر الأنصار ممّن لا ينكر فضلهم و لا نعمتهم العظيمة في الاسلام، رضيكم اللّه أنصارا لدينه و لرسوله و جعل اليكم مهاجرته و فيكم محلّ أزواجه، فليس أحد من النّاس بعد المهاجرين الأوّلين بمنزلتكم فهم الامرآء و أنتم الوزراء.
فقال الحباب بن المنذر الأنصارى: يا معشر الأنصار املكوا «1» على أيديكم فإنّما النّاس في فيئكم و ظلالكم و لن يجترى مجتر على خلافكم و لن تصدر النّاس إلّا عن رأيكم، و أثنى على الأنصار، ثمّ قال: فان أبى هؤلاء تأميركم عليهم فلسنا نرضى بتأميرهم علينا و لا نقنع بدون أن يكون منّا أميرو منهم أمير.
فقام عمر بن الخطاب فقال: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد «2» واحد انّه لا ترضى العرب أن تأمركم و نبيّها من غيركم لكنّ العرب لا تمتنع أن تولّى أمرها من كانت النّبوة فيهم و أولوا الأمر منهم، و كنا بذلك على من خالفنا الحجّة الظاهرة و السّلطان البيّن فما ينازعنا سلطان محمّد و نحن أولياؤه و عشيرته إلّا مدلّ بباطل أو متجانف «3» باثم أو متورّط في الهلكة محبّ للفتنة.
فقام الحباب بن المنذر ثانية فقال: يا معشر الأنصار امسكوا على أيديكم لا تسمعوا مقال هذا الجاهل و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، و إن أبوا أن يكون أمير و أمير فاجلوهم عن بلادكم و تولوا هذا الأمر عليهم فأنتم و اللّه أحقّ به منهم فقد دان بأسيافكم قبل هذا الوقت من لم يكن يدين بغيرها و أنا جذيلها «4»
______________________________
(1) يقال املك عليك لسانك اى لا تجره الا بما يكون لك لا عليك، نهاية.
(2) الغمد بالكسر جفن السيف و هى غلافه، لغة.
(3) الجنف محركة كالجنوف بالضم الميل عن الحق و الجانف المايل، ق.
(4) الجذل واحدا لا جذال و هو اصول الحطب العظام و منه قول حباب بن المنذر انا جذيلها المحكك و المجاذل المنتصب مكانه لا يبرح شبه بالجذل الذى ينصب في المعاطن لتحتك به الابل الجربى اراد أنه يستغنى برايه و تدبيره، صحاح.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 6
المحكّك و عذيقها المرجب «1» و اللّه لئن ردّ أحد قولى لأحطمنّ أنفه بالسّيف.
قال عمر بن الخطاب: فلما كان حباب هو الذي يجيبني لم يكن لى معه جواب «في كلام خ ل» فانّه جرت بينى و بينه منازعة في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مهاترته «2» فحلفت أن لا أكلّمه أبدا.
ثمّ قال عمر لأبي عبيدة: تكلّم، فقام أبو عبيدة بن الجراح و تكلّم بكلام كثير و ذكر فيه فضايل الأنصار و كان بشير بن سعد سيّدا من سادات الأنصار لما رأى اجتماع الأنصار على سعد بن عبادة لتأميره حسده و سعى في افساد الأمر عليه و تكلّم في ذلك و رضى بتأمير قريش و حث النّاس كلّهم و لا سيّما الأنصار على الرّضا بما يفعله المهاجرون.
فقال أبو بكر: هذا عمرو أبو عبيدة شيخا قريش فبايعوا أيّهما شئتم.
فقال عمرو أبو عبيدة: ما نتولى هذا الأمر امدد يدك نبايعك.
فقال بشير بن سعد: و أنا ثالثكما، و كان سيد الأوس و سعد بن عبادة سيد الخزرج، فلما رأت الأوس صنيع بشير و ما دعت إليه الخزرج من تأمير سعد، أكبّوا على أبي بكر بالبيعة و تكاثروا على ذلك و تزاحموا فجعلوا يطئون سعدا من شدة الزّحمة و هو بينهم على فراشه مريض، فقال: قتلتموني قال عمر: اقتلوا سعدا قتله اللّه.
فوثب قيس بن سعد فأخذ بلحية عمرو قال: و اللّه يابن صهّاك الجبان في الحروب الفرّار اللّيث في الملاء و الأمن لو حركت منه شعرة ما رجعت في وجهك واضحة «3» فقال أبو بكر مهلا يا عمر فانّ الرّفق أبلغ و أفضل، فقال سعد: يابن صهاك و كانت
______________________________
(1) في حديث السقيفة انا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب الرجبة ان تعمد النخلة الكريمة بينا، من حجارة او خشب اذا خيف عليها لطولها و كثرة حملها ان تقع و رجبتها فهى مرجبة و العذيق تصغير العذق بالفتح و هى النخلة و هو تصغير تعظيم و قد يكون ترجيبها بان يجعل حولها شوك لئلا يرتقى اليها «النهاية» و ترجيبها ضم اعذاقها الى سعفاتها و شدها بالخوص لئلا تنفضها الريح او وضع الشوك حولها لئلا يصل اليها آكل و منه انا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب،
(2) تهاتر الرجلان اذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه باطلا.
(3) الواضحة الاسنان التي تبد و عند الضحك،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 7
جدّة عمر حبشية: أما و اللّه لو أنّ لي قوّة على النّهوض لسمعتما منّي في سككها زئيرا «1» أزعجك «2» و أصحابك منها و لا لحقنكما بقوم كنتما فيهم أذنابا أذلّاء تابعين غير متبوعين، لقد اجترئتما، ثمّ قال للخزرج احملونى من مكان الفتنة، فحملوه فأدخلوه منزله، فلما كان بعد ذلك بعث إليه ابو بكر أن قد بايع النّاس فبايع فقال: لا و اللّه حتّى أرميكم لكلّ سهم في كنانتي «3» و اخضب منكم سنان رمحي و أضربكم بسيفي ما أقلّت يدي فأقاتلكم بمن تبعني من أهل بيتي و عشيرتي ثمّ و أيم اللّه لو اجتمع الجنّ و الانس علىّ لما بايعتكما أيها الغاصبان حتى أعرض على ربي و أعلم ما حسابي، فلما جاءهم كلامه قال عمر: لا بدّ من بيعته، فقال بشير بن سعد إنّه قد أبى و لجّ و ليس بمبايع أو يقتل و ليس بمقتول حتّى يقتل معه الخزرج و الأوس فاتركوه، فليس تركه بضاير فقبلوا قوله و تركوا سعدا.
فكان سعد لا يصلّى بصلاتهم و لا يقضى بقضائهم و لو وجد أعوانا لصال بهم و لقاتلهم فلم يزل كذلك مدّة ولاية أبي بكر حتّى هلك أبو بكر، ثمّ ولى عمر و كان كذلك فخشى سعد غائلة «4» عمر فخرج إلى الشّام فمات بحوران «5» في ولاية عمرو لم يبايع أحدا و كان سبب موته أن رمى بسهم في الليل فقتل و زعم أنّ الجنّ رموه، و قيل أيضا إنّ محمّد بن سلمة الانصارى تولى ذلك بجعل جعلت له عليه و روى أنّه تولى ذلك المغيرة بن شعبة و قيل خالد بن الوليد.
قال: و بايع جماعة الأنصار و من حضر من غيرهم و عليّ بن أبي طالب مشغول بجهاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلما فرغ من ذلك و صلّى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و النّاس يصلّون عليه من بايع أبي بكر و من لم يبايع و جلس في المسجد فاجتمع اليه بنوا هاشم و معهم الزّبير بن العوام، و اجتمعت بنوا اميّة إلى عثمان بن عفان و بنوا
______________________________
(1) زئير صوت الاسد في صدره
(2) يزعجك زعجة قلعه من مكانه كازعجه،
(3) كنانة السهام بالكسر جعبة من جلد لا خشب فيها او بالعكس،
(4) الغائلة صفة لخصلة مهلكة نهاية.
(5) كورة بدمشق
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 8
زهرة إلى عبد الرّحمان بن عوف فكانوا في المسجد مجتمعين إذ أقبل أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجرّاح، فقالوا: ما لنا نريكم خلقا شتى؟ قوموا فبايعوا ابا بكر فقد بايعته الأنصار و النّاس، فقام عثمان و عبد الرّحمان بن عوف و من معهما فبايعوا و انصرف عليّ عليه السّلام و بنو هاشم إلى منزل عليّ و معهم الزّبير.
قال: فذهب إليهم عمر في جماعة ممّن بايع فيهم اسيد بن حصين و سلمة بن سلامة فألفوهم مجتمعين، فقالوا لهم بايعوا أبا بكر فقد بايعه النّاس فوثب الزّبير إلى سيفه فقال عمر عليكم بالكلب العقور فاكفونا شرّه فبادر سلمة بن سلامة فانتزع السّيف من يديه فأخذه عمر فضرب به الأرض فكسره و أحدقوا بمن كان هناك من بني هاشم و مضوا بجماعتهم إلى أبي بكر فلما حضروا، قالوا: بايعوا أبا بكر و قد بايعه النّاس و أيم اللّه لئن أبيتم من ذلك لنحا كمنّكم بالسّيف، فلما رأى ذلك بنو هاشم أقبل رجل رجل فجعل يبايع حتّى لم يبق ممّن حضر إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
فقالوا له: بايع ابا بكر فقال عليّ عليه السّلام: أنا أحقّ بهذا الأمر منه و أنتم أولى بالبيعة لي أخذتم هذا الأمر من الانصار و احتججتم عليهم بالقرابة من الرّسول و تأخذونه منّا أهل البيت غصبا ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأعطوكم المقادة و سلّموا لكم الامارة و أنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الانصار، أنا أولى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا و أنا وصيّه و وزيره و مستودع سرّه و علمه و أنا الصّديق الاكبر أوّل من آمن به و صدّقه و أحسنكم بلاء في جهاد المشركين و أعرفكم بالكتاب و السنّة و أذربكم «1» لسانا و أثبتكم جنانا، فعلام تنازعونا هذا الامر، أنصفونا إن كنتم تخافون اللّه من أنفسكم، و اعرفوا لنا من الامر مثل ما عرفته لكم الانصار و إلّا فبوءوا بالظلم و العدوان و أنتم تعلمون.
فقال عمر: أمالك بأهل بيتك أسوة؟ فقال عليّ عليه السّلام سلوهم عن ذلك، فابتدر
______________________________
(1) الذرب حديد اللسان،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 9
القوم الذين بايعوا من بني هاشم فقالوا: ما بيعتنا بحجّة على عليّ عليه السّلام و معاذ اللّه أن نقول: إنّا نوازيه في الهجرة و حسن الجهاد و المحلّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عمر: إنك لست متروكا حتّى تبايع طوعا أو كرها، فقال عليّ عليه السّلام: احلب حلبا لك شطره اشدد له اليوم ليردّ عليك غدا إذا و اللّه لا أقبل قولك و لا أحفل بمقامكم و لا ابايع، فقال أبو بكر: مهلا يا أبا الحسن ما نشد فيك و لا نكرهك.
فقام أبو عبيدة إلى عليّ عليه السّلام فقال: يا بن عمّ لسنا ندفع قرابتك و لا سابقتك و لا علمك و لا نصرتك، و لكنّك حدث السّن، و كان لعليّ عليه السّلام يومئذ ثلاث و ثلاثون سنة و ابو بكر شيخ من مشايخ قومك و هو أحمل لثقل هذا الامر و قد مضى الامر بما فيه فسلّم له، فان عمّرك اللّه يسلّموا هذا الامر إليك و لا يختلف فيك إثنان بعد هذا إلّا و أنت به خليق و له حقيق و لا تبعث الفتنة في أوان الفتنة فقد عرفت بما في قلوب العرب و غيرهم عليك.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا معاشر المهاجرين و الانصار، اللّه اللّه لا تنسوا عهد نبيّكم اليكم في أمرى و لا تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من داره و قعر بيته إلى دوركم و قعر بيوتكم، و لا تدفعوا أهله عن حقّه و مقامه في النّاس فو اللّه يا معاشر الناس «الجمع خ» إنّ اللّه قضى و حكم و نبيّه أعلم و أنتم تعلمون بأنا أهل البيت أحقّ لهذا الامر منكم ما كان «فكان خ» القاري منكم لكتاب اللّه الفقيه في دين اللّه المضطلع «1» بأمر الرّعية و اللّه إنّه لفينا لا فيكم فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعدا و تفسدوا قديمكم بشرّ من حديثكم.
فقال بشير بن سعد الانصاري الذي وطأ الامر لأبى بكر و قالت جماعة من الانصار:
يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعته منك الانصار قبل بيعتها «الانتظام خ» لأبى بكر ما اختلف فيك اثنان.
فقال عليّ عليه السّلام: يا هؤلاء كنت أدع الرّسول و هو مسجّى «2» لا أواريه
______________________________
(1) و مضطلع اى قوى عليه ق.
(2) سجيت الميت تسجية اذا مددت عليه ثوبا، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 10
و أخرج أنازع في سلطانه، و اللّه ما خفت «خلت ظ» أحدا يسمو «1» له و ينازعنا أهل البيت فيه و يستحلّ ما استحللتموه، و لا علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ترك يوم غدير خمّ لأحد حجّة و لا لقائل مقالا، فانشد اللّه رجلا سمع يوم غدير خمّ يقول صلّى اللّه عليه و آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله، أن يشهد الآن بما سمع.
قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلا بدريّا بذلك و كنت ممّن سمع القول من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكتمت الشّهادة فذهب بصري، قال: و كثر الكلام في هذا المعنى و ارتفع الصّوت و خشى عمر أن يصغى «النّاس خ» الى قول عليّ عليه السّلام ففسخ المجلس و قال: إنّ اللّه يقلّب القلوب و الأبصار و لا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة فانصرفوا يومهم ذلك.
و في الاحتجاج أيضا عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام: جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنكر على أبي بكر فعله و جلوسه مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ فقال عليه السّلام: نعم كان الذى أنكر على أبي بكر اثنى عشر رجلا، من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص و كان من بني امية، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و المقداد بن الأسود، و عمّار بن ياسر، و بريدة الأسلمي و من الانصار أبو الهيثم بن التيهان، و سهل، و عثمان ابنا حنيف، و خزيمة بن ثابت، و ذو الشّهادتين، و أبيّ بن كعب، و أبو أيوب الأنصارى، قال: فلمّا صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم فقال بعضهم لبعض: و اللّه لنأتينّه و لننزلنه عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال آخرون منهم و اللّه لئن فعلتم ذلك إذا لأعنتم «2» على أنفسكم، فقد قال اللّه تعالى:
______________________________
(1) يقال فلان يسمو الى المعالى اذا تطاول اليها، نهاية.
(2) الاعنات در كارى افكندن كه از آن بيرون نتوان آمد و من ثم ضبطه في بعض النسخ اعنتم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 11
«وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» فانطلقوا بنا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام لنستشيره و نستطلعه على الأمر و نستطلع رأيه، فانطلق القوم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام بأجمعهم فقالوا يا أمير المؤمنين: تركت حقّا أنت أحق به و أولى منه، لأنّا سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يميل مع الحقّ كيف مال، و لقد هممنا أن نصير اليه فنزله عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و سلّم، فجئناك لنستشيرك و نستطلع رأيك فيما تأمرنا.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و أيم اللّه لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلّا حربا و لكنكم كالملح في الزّاد و كالكحل في العين، و أيم اللّه لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين أسيافكم مستعدّين للحرب و القتال و إذا لآتوني فقالوا لى: بايع و إلّا قتلناك، فلا بدّ من أن أدفع القوم عن نفسى و ذلك إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو عز «1» إلىّ قبل وفاته، و قال لي يا أبا الحسن، إنّ الأمة ستغدر بك من بعدي و تنقض فيك عهدى و إنّك منّي بمنزلة هارون من موسى و إن الامة من بعدي بمنزلة هارون «كهرون خ» و من اتبعه و السّامري و من اتبعه، فقلت يا رسول اللّه فما تعهد إلىّ إذا كان كذلك؟ فقال إن «إذا خ» وجدت أعوانا فبادر إليهم و جاهدهم، و إن لم تجد أعوانا كفّ يدك و احقن دمك حتّى تلحق بي مظلوما، فلما توفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اشتغلت بغسله و تكفينه و الفراغ من شأنه، ثمّ آليت يمينا أن لا أرتدي إلّا للصّلاة حتّى أجمع القرآن، ففعلت ثمّ أخذت بيد فاطمة و ابنيّ الحسن و الحسين فدرت على أهل بدر و أهل السّابقة فناشدتهم «2» اللّه إلى حقّي و دعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلّا أربعة رهط: سلمان، و عمّار، و المقداد، و أبو ذر، و لقدر اودت في ذلك بقية أهل بيتى، فأبوا عليّ إلّا السكوت لما علموا من و غارة «3» صدور القوم و بغضهم للّه و لرسوله و لأهل بيت نبيّه، فانطلقوا بأجمعكم إلى هذا الرّجل فعرّفوه
______________________________
(1)- و عز اليه في كذا ان يفعل او يترك و او عرو و عر تقدم و امر ق.
(2) ناشده منا شدة و نشادا احلفه ق.
(3) الوغر و يحرك الحقد و الضغن و العداوة و التوقد من الغيظ، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 12
ما سمعتم من قول نبيكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليكون ذلك أو كد للحجّة و أبلغ للعذر و أبعد لهم من رسول اللّه إذا وردوا عليه، فسار القوم حتّى أحدقوا بمنبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان يوم الجمعة، فلمّا صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار: تقدّموا فتكلموا، فقال الأنصار للمهاجرين: بل تكلموا أنتم فانّ اللّه عزّ و جل أدناكم في الكتاب اذ قال اللّه عزّ و جلّ:
«لَقَدْ تابَ اللَّهُ بِالنَّبِيِّ عَلَى الْمُهاجِرينَ وَ الْأَنْصارِ» فقال أبان: فقلت: يابن رسول اللّه إنّ الأمة لا تقرء كما عندك، قال و كيف تقرء يا أبان؟
قال: قلت: إنّها تقرء لقد تاب اللّه على النّبيّ و المهاجرين و الانصار فقال عليه السّلام: و يلهم و أىّ ذنب كان لرسول اللّه حتّى تاب اللّه عليه منه إنّما تاب اللّه به على امّته، فأوّل من تكلّم به خالد بن سعيد بن العاص ثمّ باقي المهاجرين ثمّ من بعدهم الانصار، و روي أنّهم كانوا غيّبا عن وفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقدموا و قد تولى أبو بكر و هم يومئذ أعلام مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقام خالد بن سعيد بن العاص و قال: اتّق اللّه يا أبا بكر فقد علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال، و نحن محتوشوه «1» يوم بني قريظة حين فتح اللّه له و قد قتل عليّ يومئذ عدّة من صناديد «2» رجالهم و اولى الباس و النجدة «3» منهم: يا معاشر المهاجرين و الانصار إنّي اوصيكم بوصيّة فاحفظوها و مودعكم أمرا فاحفظوه، ألا إنّ عليّ ابن أبي طالب أميركم بعدي و خليفتي فيكم بذلك أوصاني ربّي، ألا و إنّكم إن لم تحفظوا فيه وصيّتي و توازروه و تنصروه اختلفتم في أحكامكم و اضطرب عليكم أمر دينكم و ولاكم شراركم، ألا إن أهل بيتي هم الوارثون لأمرى و العاملون «لمون خ» بأمر امّتي من بعدي، اللّهمّ من أطاعهم من امّتي و حفظ فيهم وصيّتي فاحشرهم في زمرتي و أجعل لهم نصيبا من مرافقتي يدركون به نور الآخرة، اللّهم و من أساء
______________________________
(1) احتوش القوم على كذا جعلوه وسطهم و احاطوا عليه و قد يعدى بنفسه يقال احتوشوه، منه.
(2) الصندد كزبرج السيد الشجاع او الجواد او الشريف، ق.
(3) النجدة القتال و الشجاعة و الشدة و الهول و الفزع، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 13
خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنّة التي عرضها كعرض السّمآء و الارض.
فقال له عمر بن الخطاب: اسكت يا خالد فلست من أهل المشورة و لا من يقتدى برأيه، فقال خالد اسكت أنت يابن الخطاب فانّك تنطق على لسان غيرك و أيم اللّه لقد علمت قريش أنك من الأمها حسبا و أدناها منصبا و أخسّها قدرا و أخملها ذكرا و أقلّهم غناء عن اللّه و رسوله و أنك لجبان في الحروب بخيل في المال لئيم العنصر مالك في قريش من فخر، و لا في الحروب من ذكر و أنّك في هذا الأمر بمنزلة الشّيطان:
«إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» فابلس «1» عمرو جلس خالد بن سعيد.
ثمّ قام سلمان الفارسي (رض) و قال: كرديد و نكرديد «2» أ فعلتم و لم تفعلوا و امتنع من البيعة قبل ذلك حتّى وجي عنقه فقال يا أبا بكر: إلى من تستند امرك إذا نزل بك ما لا تعرفه و إلى من تفزع إذا سئلت عمّا لا تعلمه فما عذرك في تقدم من هو أعلم منك و أقرب إلى رسول اللّه و أعلم بتأويل كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من قدّمه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حياته و أوصاكم به عند وفاته، فنبذتم قوله و تناسيتم وصيّته و أخلفتم الوعد و نقضتم العهد و حلتم العقد الذي كان عقده عليكم من النّفوذ تحت راية اسامة بن زيد حذرا من مثل ما اتيتموه و تنبيها للامة على عظيم ما اجترمتموه «حتموه خ» من مخالفة أمره فعن قليل يصفو لك الأمر و قد أنقلك الوزر و نقلت إلى قبرك و حملت معك ما كسبت يداك فلو راجعت الحقّ من قرب و تلافيت نفسك و تبت إلى اللّه من عظيم ما اجترمت كان ذلك أقرب إلى نجاتك يوم
______________________________
(1)- و ابلس حتى ما او ضحوا لضاحكة و ابلسوا اى سكتوا و المبلس الساكت من الخوف و الحزن، نهاية.
(2) يعنى كرديد تعيين خليفه باطل پيش خود و نكرديد اطاعت وصى رسول خدا و خليفه بر حق چنانكه بعد از اين ظاهر مى شود، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 14
تفرد في حفرتك و يسلّمك ذو و نصرتك، فقد سمعت كما سمعنا و رأيت كما رأينا، فلم يردعك «1» ذلك عمّا أنت متشبّث به من هذا الأمر الذي لا عذر لك في تقلّده و لا حظّ للدين و لا للمسلمين في قيامك به، فاللّه اللّه في نفسك فقد أعذر من أنذر، و لا تكن أنت كمن أدبر و استكبر.
ثمّ قام أبو ذر الغفاري فقال: يا معشر قريش أصبتم قباحة «قناعة خ» «2» «قباعة خ» «3» و تركتم قرابة و اللّه ليرتدن جماعة من العرب و ليشكنّ فيّ هذا الدّين و لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيّكم ما اختلف عليكم سيفان، و اللّه لقد صارت لمن غلب و لتطمحنّ إليها عين من ليس من أهلها، و ليسفكن فيها دماء كثيرة فكان كما قال أبو ذر، ثمّ قال:
لقد علمتم و علم خياركم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الأمر بعدي لعليّ ثمّ لابنيّ الحسن و الحسين ثمّ للطاهرين من ذرّيتي، فأطر حتم قول نبيّكم و تناسيتم ما عهد به إليكم فأطعتم الدّنيا الفانية و نسيتم «بعتم- شريتم خ» الآخرة الباقية التي لا يهرم شبابها و لا يزول نعيمها و لا يحزون أهلها و لا يموت سكّانها بالحقير التّافة «4» الفاني الزايل و كذلك الامم من قبلكم كفرت بعد أنبيائها و نكصت على أعقابها و غيّرت و بدلت و اختلفت فساويتموهم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة، و عمّا قليل يذوقون و بال أمركم و تجزون بما قدّمت أيديكم و ما اللّه بظلّام للعبيد.
ثمّ قال المقداد بن الأسود فقال: يا أبا بكر ارجع عن ظلمك و تب إلى ربّك و ألزم بيتك و ابك على خطيئتك و سلّم الأمر إلى صاحبه الذي هو أولى به منك، فقد علمت ما عقده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عنقك من بيعته و ألزمك من النّفوذ تحت راية اسامة بن زيد و هو مولاه، و نبّه على بطلان وجوب هذا الأمر ذلك و لمن عضدك. «5»
______________________________
(1) ردعه كمنعه كفه و رده فارتدع، ق.
(2) و قنعت به قناعة من باب تعب رضيت به، لغة.
(3) قبع القنفذ كمنع قبوعا ادخل راسه في جلده و الرجل في قميصه و دخل و تخلف عن اصحابه، قاموس
(4) شي ء تافه يفه حقير خسيس و قد تفه تفها من باب لبس مغرب.
(5) عضده يعضده قطعه و كنصره اعانه و نصره، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 15
عليه بضمه لكما إلى علم النّفاق و معدن الشنآن و الشّقاق عمرو بن العاص الذي أنزل اللّه فيه على نبيّه:
«إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» فلا اختلاف بين أهل العلم أنّها نزلت في عمرو و هو كان اميرا عليكما و على ساير المنافقين في الوقت الذي انفذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غزاة ذات السّلاسل و أنّ عمروا قلد كما حرس عسكره فأين الحرس إلى الخلافة اتّق اللّه و بادر إلى الاستقالة قبل فوتها فانّ ذلك أسلم لك في حياتك و بعد وفاتك و لا تركن إلى الدّنيا «دنياك خ» و لا تغرّنك قريش و غيرها فعن قليل تضمحلّ عنك دنياك ثمّ تصير إلى ربك فيجزيك بعملك و قد علمت و تيقنت أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام صاحب الأمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسلّمه إليه بما جعله اللّه له فانّه أتمّ لسترك و أخفّ لوزرك فقد و اللّه نصحت لك إن قبلت نصحي و إلى اللّه ترجع الأمور.
ثمّ قام بريدة الأسلمى فقال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون ما ذا لقى الحقّ من الباطل يا أبا بكر أنسيت أم تناسيت و خدعت أم خدعتك نفسك و سوّلت تلك الأباطيل أو لم تذكر ما أمرنا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تسمية علىّ بامرة «1» المؤمنين و النّبيّ بين أظهرنا و قوله له في عدة أوقات هذا عليّ أمير المؤمنين و قاتل القاسطين اتّق اللّه و تدارك نفسك قبل أن لا تدركها و أنقذها ممّا يهلكها و اردد الأمر إلى من هو أحقّ به منك و لا تتمارى «2» في اغتصابه و راجع و انت تستطيع أن تراجع فقد محضتك النّصح و دللتك على طريق النّجاة فلا تكوننّ ظهيرا للمجرمين.
ثمّ قام عمّار بن ياسر فقال: يا معاشر قريش و يا معاشر المسلمين إن كنتم علمتم و إلّا فاعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به و أحقّ بارثه و أقوم بامور الدّين و آمن على المؤمنين و أحفظ لملّته و أنصح لامته فمروا صاحبكم فليردّ الحقّ إلى
______________________________
(1) و الامرة على وزن فاعلة مصدر امر علينا مثلثة اذ اولى و الاسم الامر بالكسر و قول الجوهرى مصدر و اسم ق.
(2) اى لا تجادل، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 16
أهله قبل أن يضطرب حبلكم و يضعف أمركم و يظهر شنئانكم و تعظم الفتنة بكم و تختلفوا فيما بينكم و يطمع فيكم عدوّكم، فقد علمتم أنّ بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم و عليّ من بينهم وليّكم بعهد اللّه و رسوله، و فرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سدّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبوابكم الّتي كانت إلى المسجد كلّها غير بابه و ايثاره إيّاه بكريمته فاطمة الزّهراء دون ساير من خطبها إليه منكم، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنا مدينة الحكمة و عليّ بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها، و إنكم جميعا مضطرّون فيما اشكل عليكم من امور دينكم إليه، و هو مستغن عن كلّ أحد منكم إلى ما له من السّوابق التي لأفضلكم عند نفسه فما بالكم تحيدون «1» عنه و تبتزّون «2» عليّا حقّه «و تغيرون على حقه خ» «3» و تؤثرون الحياة الدّنيا على الآخرة؟ بئس للظالمين بدلا اعطوه ما جعله اللّه و لا تولّوا مدبرين و لا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين.
ثمّ قام ابيّ بن كعب فقال: يا أبا بكر لا تجحد حقّا جعله اللّه لغيرك و لا تكن أوّل من عصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وصيّة «و صفيه خ» و صدف عن أمره، اردد الحقّ إلى أهله تسلم و لا تتماد في غيّك فتندم و بادر إلى الانابة يخفف وزرك و لا تخصصنّ بهذا الأمر الذي لم يحلّه «يجعله خ» اللّه لك نفسك فتلقى و بال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت فيه و تصير إلى ربّك فيسألك عمّا جنيت، و ما ربّك بظلّام للعبيد.
ثمّ قام خزيمة بن ثابت فقال: أيّها النّاس أ لستم تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل شهادتي وحدي و لم يرد معي غيري؟ قالوا: بلى، قال: فاشهد أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أهل بيتي يفرقون بين الحقّ و الباطل، و هم الأئمة الذين يقتدى بهم و قد قلت ما علمت و ما على الرّسول إلّا البلاغ المبين.
______________________________
(1) اى تميلون، منه.
(2) ابتزت الشي ء استلبته، ص.
(3) فيه من دخل الى طعام لم يدع اليه دخل سارقا و خرج مغيرا اسم فاعل من اغار يغير اذا نهب شبه دخوله عليهم بدخول السارق و خروجه بمن اغار على قوم، نهاية.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 17
ثمّ قام أبو الهيثم بن التّيهان فقال: و أنا أشهد على نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه أقام عليّا عليه السّلام يعني في يوم غدير خمّ فقالت الأنصار: ما أقامه إلّا للخلافة، و قال بعضهم:
ما أقامه إلّا ليعلم النّاس أنّه مولى من كان رسول اللّه مولاه، و كثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالا منا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوه عن ذلك فقال لهم قولوا: علي وليّ المؤمنين بعدي و أنصح النّاس لامتي و قد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنّ يوم الفصل كان ميقاتا.
ثمّ قام سهل بن حنيف فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبيّ محمّد و آله ثمّ قال: يا معاشر قريش اشهدوا على أنّي أشهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد رأيته في هذا المكان يعني الروضة «1» و قد أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو يقول: أيّها النّاس هذا عليّ إمامكم من بعدي و وصيّتي في حياتي و بعد وفاتي و قاضي ديني و منجز وعدي و أوّل من يصافحني على حوضي فطوبى لمن اتّبعه و نصره و الويل لمن تخلّف عنه و خذله.
ثمّ قام من بعده أخوه عثمان بن حنيف فقال: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:
أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدّموهم و قدّموهم، فهم الولاة بعدي. فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه و أىّ أهل بيتك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ و الطاهرين من ولده، و قد بيّن عليه السّلام فلا تكن يا أبا بكر أوّل كافر به فلا تخونوا اللّه و الرّسول و تخونوا أمانتكم و أنتم تعلمون.
ثمّ قام أبو أيّوب الأنصاري فقال: اتّقوا اللّه عباد اللّه في أهل بيت نبيّكم و ارددوا إليهم حقهم الذي جعله اللّه لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مجلس بعد مجلس يقول: أهل بيتي أئمتكم بعدي و يؤمي إلى عليّ عليه السّلام يقول: هذا أمير البررة و قاتل الكفرة، مخذول من خذله منصور من نصره فتوبوا إلى اللّه من ظلمكم إنّ اللّه تواب رحيم، و لا تتولوا عنه مدبرين، و لا تتولّوا عنه معرضين.
______________________________
(1) من كلام الراوى منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 18
قال الصّادق عليه السّلام فافحم «1» أبو بكر على المنبر حتّى لم يحر «2» جوابا ثمّ، قال وليتكم و لست بخيركم أقيلوني أقيلوني.
فقال له عمر بن الخطاب: انزل عنها يا لكع «3» إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لهم أقمت نفسك هذا المقام؟ و اللّه لقد هممت أن أخلعك و أجعلها في سالم مولى أبي حذيفة، قال فنزل ثمّ أخذ بيده و انطلق إلى منزله و بقى ثلاثة أيّام لا يدخلون مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فلما كان في اليوم الرّابع جاءهم خالد بن الوليد و معه ألف رجل فقال لهم:
ما جلوسكم فقد طمع فيها و اللّه بنو هاشم، و جاءهم سالم مولى أبي حذيفة و معه ألف رجل، و جاءهم معاذ بن جبل و معه ألف رجل فما زال يجتمع رجل رجل حتّى اجتمع أربعة آلاف رجل فخرجوا شاهرين أسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتّى وقفوا بمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال عمرو الله يا أصحاب عليّ لئن ذهب الرّجل منكم يتكلّم بالذي تكلّم به بالأمس لنأخذنّ الذي فيه عيناه.
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص و قال يابن صهّاك الحبشية أ فبأسيافكم تهدّدونا أم بجمعكم تفزعونا؟ و الله إنّ أسيافنا أحدّ من أسيافكم و إنّا لأكثر منكم و إن كنا قليلين لأنّ حجّة الله فينا و الله لو لا أني أعلم أنّ طاعة الله و طاعة رسوله و طاعة إمامي أولى بي لشهرت سيفي و جاهدتكم في الله إلى أن أبلى «4» عذري، فقال «له خ» أمير المؤمنين عليه السّلام: اجلس يا خالد فقد عرف لك مقامك. و شكر لك سعيك، فجلس.
و قام إليه سلمان الفارسي فقال الله أكبر الله أكبر سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا صمّتا «5» يقول: بينا أخي و ابن عمّي جالس في مسجدي و معه نفر من
______________________________
(1) افحمها اسكتها، نهاية.
(2) ما احارجوا با ما رد، ق.
(3) اللكع كصرد اللئيم و العبد و الاحمق ق.
(4) و بلاه عذرا اواه اليه قبله، ق.
(5) اى صمت اذناى ان كذبت، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 19
أصحابه إذ تكبسه «1» جماعة من كلاب أهل النّار يريدون قتله و قتل من معه، و لست أشك إلّا و أنّكم هم، فهمّ به عمر بن الخطاب، فوثب إليه أمير المؤمنين عليه السّلام و أخذ بمجامع ثوبه ثمّ جلد «2» به الأرض ثمّ قال: يابن صهّاك الحبشيّة لو لا كتاب من الله سبق و عهد من الله تقدّم لأريتك أيّنا أضعف ناصرا و أقلّ عددا، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: انصرفوا رحمكم اللّه فو اللّه لا دخلت المسجد إلّا كما دخل أخواى موسى و هارون إذ قال له أصحابه:
«فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» و اللّه لادخلته إلّا لزيارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو لقضيّة أقضيها، فإنّه لا يجوز لحجة أقامه رسول اللّه أن يترك النّاس في حيرة.
و فى الاحتجاج أيضا عن عبد اللّه بن عبد الرّحمان قال: إنّ عمر احتزم «3» بازاره و جعل يطوف بالمدينة و ينادي ألّا إنّ أبا بكر قد بويع فهلمّوا إلى البيعة فينثال «4» النّاس يبايعون فعرف أنّ جماعة في بيوت مستترون فكان يقصدهم في جمع كثير فيكبسهم و يحضرهم المسجد فيبايعون حتّى إذا مضت أيّام أقبل في جمع كثير إلى منزل عليّ عليه السّلام فطالبه بالخروج فأبى، فدعا عمر بحطب و نار، و قال و الذي نفس عمر بيده ليخرجنّ أولا حرقنه على ما فيه، فقيل له: إنّ فاطمة بنت رسول اللّه و ولد رسول اللّه و آثار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه، و أنكر النّاس ذلك من قوله فلما عرف إنكارهم قال: ما بالكم أ تروني فعلت ذلك إنّما أردت التّهويل فراسلهم عليّ عليه السّلام أن ليس إلى خروجي حيلة، لأني في جمع كتاب اللّه الذي قد نبذتموه و ألهتكم «5» الدّنيا عنه،
______________________________
(1) كبس داره هجم عليه، ق
(2) جلد به أى رمى به الارض، نهاية.
(3) و منه الحديث نهى ان يصلى الرجل حتى يحتزم اى يتلبب و يشد وسطه، نهاية
(4) انثال عليه الناس من كل وجه اى انصبوا، ص
(5) الهتكم الدنيا اى شغلتكم قال تعالى الهيكم التكاثر، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 20
و قد خلفت أن لا أخرج من بيتي و لا ادع ردائي على عاتقى حتّى أجمع القرآن، قال: و خرجت فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم فوقفت على الباب، ثمّ قالت لا عهد لي بقوم أسوء محضرا منكم تركتم رسول اللّه جنازة «1» بين أيدينا و قطعتم أمركم فيما بينكم و لم تؤامرونا و لم تروا لنا حقّا، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، و اللّه لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرّجاء، و لكنكم قطعتم الأسباب و اللّه حسيب بيننا و بينكم في الدّنيا و الآخرة.
و في غاية المرام من كتاب سليم بن قيس الهلالى و هو كتاب مشهور معتمد نقل منه المصنّفون في كتبهم و هو من التّابعين رأي عليّا و سلمان و أبا ذر و في مطلع كتابه ما هذه صورته: فهذه نسخة كتاب سليم بن قيس الهلالي رفعه إلى أبان بن أبي عيّاش و قرأه عليّ عليه السّلام و ذكر أبان أنّه قرأ على عليّ بن الحسين عليه السّلام فقال صدق سليم هذا حديثنا نعرفه، قال سليم: سمعت سلمان الفارسي أنّه قال: فلما أن قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صنع النّاس ما صنعوا جالهم ابو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجرّاح و خاصموا الأنصار بحجّة عليّ عليه السّلام فخصموهم فقالوا يا معاشر الأنصار قريش أحقّ بالأمر منكم، لأنّ رسول اللّه من قريش، و المهاجرون خير منكم لأنّ اللّه سبحانه بدء بهم في كتابه و فضلهم، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الأئمة من قريش.
قال سلمان: فأتيت و هو يغسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كان أوصى عليّا أن لا يلي غسله إلّا هو، فقال: يا رسول اللّه و من يعينني عليك؟ فقال: جبرئيل عليه السّلام، و كان عليّ عليه السّلام لا يريد عضوا إلّا انقلب له، فلما غسّله و كفّنه أدخلني و أدخل أبا ذر و المقداد و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام، فتقدّم علي عليه السّلام وصفنا خلفه و صلّى عليه و عايشة في الحجرة لا تعلم، ثمّ ادخل عشرة من المهاجرين و عشره من الأنصار يدخلون فيدعون ثمّ يخرجون «فيصلّون و يخرجون خ» حتّى لم يبق أحد من المهاجرين و الأنصار إلّا صلّى عليه.
______________________________
(1) الجنازة بالكسر و الفتح الميت بسريره و قيل بالكسر السرير و بالفتح الميت، نهاية.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 21
قال سلمان: فأتيت عليّا و هو يغسل «قلت لعليّ عليه السّلام حين يغسل خ» رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبرته بما صنع النّاس فقلت: إنّ أبا بكر السّاعة قد رقى منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يرضوا أن يبايعوه بيد واحدة و أنّهم ليبايعونه بيديه جميعا بيمينه و شماله، فقال عليه السّلام: يا سلمان و هل تدري أوّل من بايعه على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟
فقلت: لا إلّا أنّى رأيت «رأيته خ» في ظلّة بني ساعدة حين خصمت الأنصار فكان «و كان خ» أوّل من بايعه المغيرة بن شعبة، ثمّ بشير بن سعد، ثمّ أبو عبيدة بن الجرّاح ثمّ عمر بن الخطاب، ثمّ سالم مولى أبي حذيفة، و معاذ بن جبل، قال: لست أسألك عن هؤلاء و لكن هل تدرى أوّل من بايعه حين صعد المنبر؟ قال «قلت خ»: لا و لكن رأيت شيخا كبيرا متوكيّا على عصا بين عينيه سجّادة شديد التشمير صعد المنبر «أول من صعد خ» و هو يبكى و «هو خ» يقول: الحمد للّه الذي لم يمتني حتّى رأيتك في هذا المكان ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، ثمّ نزل فخرج من المسجد.
فقال عليّ عليه السّلام: و هل تدري يا سلمان من هو؟ قلت: و قد سائتني مقالته كأنّه شامت بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال علي عليه السّلام: فانّ ذلك إبليس لعنة الله عليه «اخبرنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خ» انّ إبليس و أصحابه شهدوا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيّاى بغدير خمّ لمّا أمره اللّه تعالى و أخبرهم أنّي أوّلى بهم من أنفسهم و أمرهم أن يبلغ الشّاهد الغائب، فأقبل إلى إبليس أبا لسته و مردة أصحابه، فقالوا: هذه الامة مرحومة معصومة لا لك و لا لنا عليهم سبيل قد اعلموا مقرّهم و إمامهم «علموا امامهم و مصرعهم خ» بعد نبيّهم فانطلق ابليس آيسا حزينا.
قال فأخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ذلك «1» و قال تبايع النّاس ابا بكر في ظلة بني ساعدة حتّى ما يخاصمهم «2» بحقّنا و حجّتنا، ثمّ يأتون المسجد فيكون
______________________________
(1) الظاهر انه غلط و ليس فى نسخة الاحتجاج و لا في البحار، منه.
(2) الظاهر ان المراد به ما يخاصمهم احد لحقنا و في البحار هكذا في ظلة بنى ساعدة بعد تخاصمهم بحقنا و حجتنا و فى الاحتجاج بعد تخاصمهم بحقك و حجتك و هو الاصح و الانسب، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 22
أوّل من يبايعه على منبري إبليس في صورة شيخ كبير مستبشر يقول له: كذا و كذا ثمّ يخرج فيجمع أصحابه و شياطينه و أبا لسته فيخرّون سجدا فينخر و يكسع، ثم يقول: كلّا زعمتم أن ليس لي عليهم سلطان و لا سبيل فكيف رأيتموني صنعت بهم حتّى تركوا ما أمرهم اللّه به من طاعته و أمرهم به رسول اللّه و ذلك قول اللّه تعالى:
«وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» قال سلمان: فلمّا كان الليل حمل فاطمة على حمار و أخذ بيد الحسن و الحسين عليهما السّلام فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين و لا من الأنصار إلّا أتاه في منزله و ذكره حقّه و دعاه إلى نصرته فما استجاب له إلّا أربعة و أربعون رجلا فأمرهم أن يصبحوا محلقين رؤوسهم و معهم سلاحهم على أن يبايعوه على الموت و أصبحوا لم يوافقه منهم إلّا أربعة، فقلت لسلمان: من الاربعة؟ قال: أنا و أبو ذر و المقداد و الزّبير بن العوام، ثمّ عاودهم ليلا يناشدهم، فقالوا: نصحبك بكرة فما أتاه منهم أحد غيرنا فلمّا رأى عليّ عليهم السّلام غدرهم و قلّة وفائهم لزم بيته و أقبل على القرآن يؤلفه و يجمعه، فلم يخرج من بيته حتّى جمعه و كان المصحف في القرطاس و الاسيار «1» و الرّقاع.
فلما جمع كلّه و كتبه على تنزيله و النّاسخ و المنسوخ و بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع فبعث إليه عليّ عليه السّلام إنّي مشغول، و لقد آليت على نفسي يمينا أن لا ارتدي برداء إلّا للصّلاة حتّى اؤلف القرآن و أجمعه، فجمعه في ثوب واحد و ختمه ثمّ خرج إلى النّاس و هم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنادى بأعلى صوته: يا أيّها النّاس إنّي لم أزل منذ قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشغولا بغسله، ثمّ بالقرآن حتّى جمعته كلّه في هذا الثّوب الواحد فلم ينزل اللّه على رسوله آية إلّا و قد جمعتها، و ليست منه آية إلّا و قد أقرئني «أقرئنيها خ» إياها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علّمني تأويلها.
______________________________
(1) و السير بالفتح الذى يقد من الجلد و الجمع سيور، قاموس.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 23
«ثمّ قال عليّ عليه السّلام لئلا تقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين خ» ثمّ قال عليّ عليه السّلام لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعكم إلى نصرتي و لم أذكركم حقي، فأدعوكم إلى كتاب اللّه من فاتحته إلى خاتمته، فقال عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه، ثمّ دخل عليّ عليه السّلام بيته، فقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى عليّ فلسنا في شي ء حتّى يبايع و لو قد بايع آمنّا، فأرسل إليه أبو بكر أجب خليفة رسول اللّه، فأتاه الرّسول فقال له ذلك، فقال له علي عليه السّلام: ما أسرع ما كذبتم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّه ليعلم و يعلم الذين حوله أنّ اللّه و رسوله لم يستخلف غيري، فذهب الرّسول فأخبره بما قال له، فقال: اذهب فقل له أجب أمير المؤمنين أبا بكر، فأتاه فأخبره بذلك، فقال له عليّ عليه السّلام: سبحان اللّه و اللّه ما طال العهد فينسى، و اللّه إنّه ليعلم أنّ هذا الاسم لا يصلح إلّا لي و قد أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو سابع سبعة فسلّموا عليه «علي خ» بامرة المؤمنين فاستفهمه هو و صاحبه من بين السّبعة، و قالا: أحقّ من اللّه و رسوله؟ قال رسول اللّه: نعم حقّا حقّا من اللّه و من رسوله إنّه أمير المؤمنين و سيّد المسلمين و صاحب لواء «الغر خ» المحجّلين يقعده اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة على الصّراط فيدخل أوليائه الجنّة و أعدائه النّار، فانطلق الرّسول فأخبره بما قال فسكتوا عنه يومهم ذلك.
فلمّا كان الليل حمل عليّ فاطمة و أخذ بيد ابنيه الحسن و الحسين عليهم السّلام فلم يدع أحدا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا أتاه في منزله فناشدهم اللّه حقه و دعاهم إلى نصرته، فما استجاب له منهم أحد غير الأربعة فانّا حلقنا رؤوسنا و بذلنا نصرتنا و كان الزّبير أشدّ نصرة فلما رأى عليّ عليه السّلام خذلان النّاس له و تركهم نصرته و اجتماع كلمتهم مع أبي بكر و تعظيمهم له لزم بيته.
و قال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع فإنّه لم يبق أحد إلّا و قد بايع غيره و غير هؤلاء الأربعة، و كان أبو بكر أرقّ الرّجلين و أرفقهما و أدهاهما و أبعدهما غورا، و الآخر أفظّهما و أجفاهما، فقال له أبو بكر: من ترسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذا و كان رجلا فظّا غليظا جافا من الطلقاء
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 24
أحد بني عديّ بن كعب، فأرسله إليه و أرسله معه أعوانا فانطلق فاستأذن على عليّ عليه السّلام، فأبى أن يأذن لهم فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر و عمروهما في المسجد و النّاس حولهما، فقالوا: لم يؤذن لنا، فقال عمر: اذهبوا فان أذن لكم و إلّا فادخلوا عليه من غير إذن، فانطلقوا فاستاذنوا فقالت فاطمة عليها السّلام أحرّج «1» عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير اذني؟ فرجعوا فثبت القنفذ الملعون، فقالوا: إنّ فاطمة قالت لنا كذا و كذا فحرّجتنا أن ندخل بيتها من غير اذن، فغضب عمر فقال:
ما لنا و للنّسآء.
ثمّ أمر أناسا حوله يحملون حطبا فحملوا الحطب و حمار عمر معهم فجعلوه حول بيت عليّ عليه السّلام و فيه عليّ و فاطمة و ابناهما صلوات اللّه عليهم، ثمّ نادى عمر حتّى أسمع عليّا و فاطمة: و اللّه لتخرجنّ يا عليّ و لتبايعنّ خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا أضرمت عليك بيتك ارا، ثمّ رجع قنفذ إلى أبي بكر و هو متخوّف أن يخرج عليّ إليه بسيفه لما يعرف من بأسه و شدّته، فقال أبو بكر لقنفذ: ارجع فان خرج و إلّا فاهجم «فاقتحم خ» عليه بيته، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم نارا.
فانطلق القنفذ الملعون فاقتحم هو و أصحابه بغير اذن و سار «ثارخ» عليّ عليه السّلام إلى سيفه و سبقوه إليه و هم كثيرون فتناول بعضهم سيفه و كاثروه «2» فألقوا في عنقه حبلا و حالت بينهم و بينه فاطمة عليهما السلام عند باب البيت فضربها قنفذ لعنه اللّه بسوط كان معه فماتت صلوات اللّه عليها و أنّ في عضدها مثل الدماليج «الدملج خ» «3» من ضربته ثمّ انطلق به يعتل «4» عتلا حتّى انتهى إلى أبي بكر، و عمر قائم بالسّيف على رأسه و خالد بن الوليد و أبو عبيدة بن الجرّاح و سالم مولى أبى حذيفة و معاذ بن جبل
______________________________
(1) التحريج التضييق، ق.
(2) و كاثروهم فكثروهم غالبوهم فى الكثرة فغلبوهم ق.
(3) الدملج هو المعضد، ق.
(4) عتله يعتل فانعتل جره عنيفا، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 25
و المغيرة بن شعبة و اسيد بن حصين و بشير بن سعد و ساير النّاس حول أبى بكر عليهم السلاح.
قال: قلت لسلمان: أدخلوا على فاطمة بغير إذن؟ قال: اي و اللّه ما عليها خمار فنادت وا أبتاه و الرسول اللّه يا أبتاه لبئس ما خلفك أبو بكر و عمر و عيناك لم تنفقيا في قبرك تنادى بأعلى صوتها، فلقد رأيت أبا بكر و من حوله يبكون و ينتحبون و ما فيهم إلّا باك غير عمر و خالد بن الوليد و المغيرة بن شعبة و عمر يقول: إنّا لسنا من النّسآء و رأيهنّ في شي ء.
قال فانتهوا به إلى أبي بكر و هو يقول: أما و اللّه لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا أبدا و اللّه لم ألم نفسي في جهادكم لو كنت استمكنت من الأربعين لفرقت جماعتكم و لكن لعن اللّه أقواما بايعوني ثمّ خذلوني و قد كان قنفذ لعنه اللّه حين ضرب فاطمة بالسّوط حين حالت بينه و بين زوجها أرسل إليه عمر إن حالت بينك و بينه فاطمة فاضربها، فاجأها قنفذ لعنه اللّه إلى عضادة باب بيتها و دفعها فكسر لها ضلعا من جنبها و ألقت جنينا من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتّى ماتت صلوات اللّه عليها من ذلك شهيدة.
قال: فلما انتهى بعليّ إلى أبي بكر انتهره عمر و قال له: بايع، فقال له عليّ عليه السّلام إن أنا لم ابايع فما أنتم صانعون؟ قالوا نقتلك ذلا و صغارا، فقال: إذا تقتلون عبد اللّه و أخا رسول اللّه، فقال أبو بكر: أمّا عبد اللّه فنعم، و أمّا أخو رسول اللّه فما نعرفك «نقر لك خ» بهذا، قال عليه السّلام: أتجحد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آخا بيني و بينه؟ قال:
نعم، فأعاد ذلك عليه ثلاث مرات.
ثمّ أقبل عليهم عليّ عليه السّلام، فقال: يا معاشر المسلمين و المهاجرين و الأنصار انشدكم اللّه أسمعتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يوم غدير خمّ: كذا و كذا و في غزوة تبوك كذا و كذا فلم يدع شيئا قال «قاله فيه خ» له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علانية للعامة إلّا ذكرهم إيّاه «إياها خ» قالوا: اللّهمّ نعم: فلمّا أن تخوف أن ينصره النّاس و أن يمنعوه منه بادرهم، فقال له: كلما قلت حقّ قد سمعناه بآذاننا و عرفناه و وعته قلوبنا و لكن سمعت
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 26
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول بعد هذا: إنّا اهل بيت اصطفانا اللّه تعالى و اختار لنا الآخرة على الدّنيا فانّ اللّه لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النّبوة و الخلافة، فقال عليّ عليه السّلام:
هل أحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهد هذا معك؟ فقال عمر: صدق خليفة رسول اللّه قد سمعته منه كما قال.
قال: و قال أبو عبيدة و سالم مولى أبى حذيفة و معاذ بن جبل: قد سمعنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال علي عليه السّلام لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاهدتم «قد تعاقدتم خ» عليها في الكعبة إن قتل اللّه محمّدا أو مات لتزوون «1» هذا الأمر عنّا أهل البيت، فقال أبو بكر: فما علمك بذلك اطلعناك عليها، فقال عليّ عليه السّلام يا زبير و أنت يا سلمان و أنت يا أبا ذر و أنت يا مقداد أسألكم باللّه و بالاسلام أسمعتم رسول اللّه يقول ذلك و أنتم تسمعون إنّ فلانا و فلانا حتّى عدّ هؤلاء الاربعة «الخمسة» قد كتبوا بينهم كتابا و تعاهدوا فيه و تعاقدوا ايمانا على ما أنت قتلت أو متّ أن يتظاهروا عليك و أن يزووا عنك هذا الأمر يا عليّ؟ فقلت: بأبي أنت يا رسول اللّه فما تأمرني إذا كان ذلك، فقال إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم و نابذهم، و إن لم تجد أعوانا فبايع و احقن دمك.
فقال عليه السّلام: أما و الله لو أنّ اولئك الأربعين رجلا الذين بايعوني و فوالي لجاهدتكم في الله، فقال عمر: أما و اللّه لا ينالها أحد من أعقابكم إلى يوم القيامة ثمّ نادى علي عليه السّلام قبل أن يبايع و الحبل في عنقه:
«ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي» ثمّ تناول يد أبي بكر فبايع، و قيل للزّبير: بايع فأبى فوثب إليه عمر و خالد بن الوليد و المغيرة بن شعبة و اناس معهم فانتزعوا سيفه فضربوا به الأرض حتّى كسروه ثم لبّبوه «2» فقال الزّبير و عمر على صدره: يابن صهّاك أما و الله لو أنّ سيفي في يدي لحدت «3» عنّي ثمّ بايع.
______________________________
(1) زواه زيا و زويا نحاه، ق
(2) لببه تلبيبا جمع ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جره، ق.
(3) حاد عنه مال: ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 27
قال سلمان ثمّ أخذوني فوجئوا عنقي حتّى تركوه كالسّلعة ثمّ أخذ و ايدى فبايعت مكرها، ثمّ بايع أبو ذر و المقداد مكرهين و ما من أحد بايع مكرها غير عليّ و أربعتنا و لم يكن أحد منّا أشدّ قولا من الزّبير، فانّه لما بايع قال: يابن صهّاك أما و الله لو لا هؤلاء الطغاة الذين اعانوك لما كانت تقدم علىّ و معي سيفي لما اعرف من جنبك و لو مك، و لكن وجدت طغاة تقوى بهم و تصول بهم، فغضب عمر فقال: أتذكر صهّاك؟ فقال: و من صهّاك و من «ما خ» يمنعني من ذكرها و قد كانت صهّاك زانية و تنكر ذلك أو ليس كانت أمة لجدّي عبد المطلب فزنى بها جدّك نفيل فولدت أباك الخطاب فوهبها عبد المطلب لجدّك بعد ما ولدته و أنّه لعبد جدي ولد زنا، فأصلح ابو بكر بينهما و كفّ كلّ واحد منهما عن صاحبه.
قال سليم: فقلت لسلمان: فبايعت أبا بكر و لم تقل شيئا؟ قال: بلى قد قلت بعد ما بايعت: تبّالكم ساير الدّهر لو تدرون ما صنعتم بأنفسكم أصبتم و أخطأتم أصبتم سنّة الأولين «من كان قبلكم من الفرقة و الاختلاف خ» و أخطأتم سنّة نبيّكم حين أخرجتموها من معدنها و أهلها فقال عمر: أمّا إذا قد بايعت يا سلمان فقل ما شئت و افعل ما بدا لك و ليقل صاحبك ما بدا له، قال سلمان: قلت إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ عليك و على صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب امته إلى يوم القيامة و مثل عذابهم جميعا، فقال عمر قل ما شئت أليس قد بايعت و لم يقر اللّه عينك بأن يلبسها صاحبك، فقلت اشهد أنّي قرأت في بعض كتب اللّه إنّك باسمك و صفتك باب من أبواب جهنم، فقال: قل ما شئت أليس قد أزالها اللّه عن أهل البيت الذين اتّخذتموهم أربابا؟
فقلت: إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول و قد سألته عن هذه الآية:
«فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ» فأخبرني بأنّك أنت هو، فقال لي: عمرة اسكت أسكت اللّه نأمتك «1» أيّها العبد ابن
______________________________
(1) النأمة النغمة او الصوت و اسكن اللّه نأمته و يقال نأمته مشددة اماته، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 28
اللّخناء، فقال لي عليّ عليه السّلام: اسكت يا سلمان فو اللّه لو لم يأمرني عليّ بالسّكوت لخبرته بكلّ شي ء نزل فيه و كلّ شي ء سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه و في صاحبه، فلمّا رآني عمر قد سكّت قال لي: إنّك له لمطيع مسلّم فلمّا أن بايع أبو ذر و المقداد و لم يقولا شيئا قال عمر: ألا كففت كما كفّ صاحباك و اللّه ما أنت أشدّ حبّا بأهل هذا البيت منهما و لا أشدّ تعظيما لحقّهم منهما و قد كفّا كما ترى و قد بايعا.
فقال أبو ذر: أفتعيّرنا يا عمر بحبّ آل محمّد عليهم السّلام و تعظيمهم و قد فعل من أبغضهم و افترى عليهم و ظلمهم حقّهم و حمل النّاس على رقابهم و ردّ هذه الامة القهقرى على أدبارهم، فقال عمر: آمين لعن اللّه من ظلمهم حقّهم لا و اللّه ما لهم فيها من حقّ و ما هم فيها و عرض النّاس إلّا سواء، قال: لم خاصمت الأنصار بحقّها؟ فقال عليّ عليه السّلام لعمر: يابن صهاك فليس لنا فيها حقّ و هي لك و لابن آكلة الذّبان، فقال عمر كفّ يا أبا الحسن إذ قد بايعت: فانّ العامة رضوا بصاحبي و لم يرضوا بك فما ذنبي، فقال علي عليه السّلام: لكن اللّه و رسوله لم يرضيا إلّا بي فابشر أنت و صاحبك و من اتّبعكما و وازر كما بسخط اللّه و عذابه و خزيه و يلك يابن الخطاب لو ترى ما ذا جنيت على نفسك و على صاحبك؟ فقال أبو بكر يا عمر أما إذا بايع و امنّا شرّه و فتكه و غائلته فدعه يقول ما شاء.
فقال عليّ عليه السّلام: لست قائلا غير شي ء واحد اذكركم باللّه أيّها الأربعة قال لسلمان و الزّبير و أبي ذر و المقداد، أسمعتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إن تابوتا من نار فيه اثنى عشر ستّة من الأولين و ستّة من الآخرين في قعر جهنّم في جبّ في تابوت مقفّل على ذلك الجبّ صخرة فاذا أراد اللّه أن يسعر جهنّم كشفت تلك الصّخرة عن ذلك الجبّ فاسعرت جهنّم من وهج ذلك الجبّ و من حرّه، قال عليّ عليه السّلام فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنتم شهود، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا الأوّلون فابن آدم الذي قتل أخاه، و فرعون ذو الفراعنة، و الذي حاجّ ابراهيم في ربّه، و رجلان من بني اسرائيل بدّلا كتابهم و غيّر اسنّتهم، أما أحدهما فهوّد اليهود و الآخر نصّر
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 29
النصارى، و عاقر النّاقة، و قاتل يحيى بن زكرّيا، و الدّجال في الآخرين و هؤلاء الأربعة أصحاب الكتاب «1» و جبتهم و طاغوتهم الذي تعاهدوا عليه و تعاقدوا على عداوتك يا أخى و يتظاهرون عليك هذا و هذا حتّى عدّهم و سمّاهم.
قال: فقلنا: صدقت نشهد أنّه قد سمعنا ذلك من رسول اللّه، فقال عثمان: يا أبا الحسن أما عندك فيّ حديث؟ فقال عليّ عليه السّلام: بلى لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلعنك ثمّ لم يستغفر لك بعد «منذ خ» لعنك، فغضب عثمان ثمّ قال: مالي و مالك لا تدعني على حال كنت على عهد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و لا بعده، فقال له عليّ عليه السّلام: فارغم أنفك ثم قال له عثمان لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول إنّ الزّبير يقتل مرتدا.
قال سلمان: فقال لي علي عليه السّلام فيما بيني و بينه: صدق عثمان، و ذلك انه يبايعني بعد قتل عثمان ثم ينكث بيعتي فيقتل مرتدا. قال سلمان: فقال عليّ عليه السّلام إنّ الناس كلّهم ارتد و ابعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غير أربعة، إنّ النّاس صاروا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمنزلة هارون و من تبعه و منزلة العجل و من تبعه فعلي عليه السّلام في شبه هارون، و عتيق «2» في شبه العجل، و عمر في شبه السّامري. و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: ليجي ء قوم من أصحابي من أهل العلية و المكانة منّي ليمرّوا على الصّراط فاذا رأيتهم و رأوني و عرفتهم و عرفوني اختلجوا دوني فأقول يا ربّ أصحابي أصحابي فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم حيث فارقتهم، فأقول بعدا و سحقا.
و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لتركبنّ أمّتي سنّة بني إسرائيل حذو النعل بالنّعل و القذّة بالقذّة شبرا بشبر باعا بباع و ذراعا بذراع حتّى لو دخلوا جحرا لدخلوا فيه معهم و انّه كتب التّوراة و القرآن ملك واحد في رقّ واحد و جرت الأمثال و السّنن.
أقول: هذه الرّواية رواها الطبرسيّ أيضا في الاحتجاج و المحدّث المجلسي (ره) في المجلّد الثامن من بحار الانوار بنقصان في الأوّل و زيادة في الثّاني و تغيير يسير في غير الزّايد و النّاقص، و كانت نسخة غاية المرام التي عندنا غير خالية من الغلط
______________________________
(1) اى الصحيفة الملعونة منة.
(2) و هو ابو بكر، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 30
و التّحريف يسيرا في متن الرّواية فاصلحناها من نسختى الاحتجاج و البحار بما رأيناه أصلح و أنسب، فلو وجدت فيما رويناه شيئا غير مطابق لما في الاصل «1» فسرّه ما ذكرناه و لا تحملنّه على التقصير في الضّبط و النّقل و اللّه الهادي.
و في البحار من رجال الكشى عن عليّ بن الحكم عن ابن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: ارتدّ النّاس إلّا ثلاثة نفر: سلمان و أبو ذر و المقداد، قال: قلت: فعمار، قال قد كان حاص «2» حيصة ثم رجع، ثم قال: إن أردت الذي لم يشكّ و لم يدخله شكّ فالمقداد، فأمّا سلمان فانّه عرض في قلبه عارض إنّ عند أمير المؤمنين عليه السّلام اسم اللّه الأعظم لو تكلّم به لأخذتهم الأرض و هو هكذا فلبّب و وجيت حتّى تركت كالسّلعة، فمرّ به أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له، يا أبا عبد اللّه هذا من ذلك بايع فبايع، و أمّا أبو ذر فأمره أمير المؤمنين عليه السّلام بالسكوت و لم يكن يأخذه في اللّه لومة لائم فأبى إلّا أن يتكلّم فمرّ به عثمان فأمر به، ثم أناب النّاس بعد و كان أوّل من أناب أبو ساسان الأنصاري و أبو عمرة و شتيرة و كان نواظره سبعة فلم يكن يعرف حقّ أمير المؤمنين عليه السّلام إلّا هؤلاء السّبعة.
أقول: أبو ساسان اسمه الحصين بن المنذر بالحاء المهملة المضمومة و الصّاد المهملة، و أبو عمرة من الأنصار أيضا اسمه ثعلبة بن عمرو، و شتيرة يقال له سمير أيضا صاحب راية عليّ عليه السّلام بصفين و قتل هناك مع اخوته قاله في الخلاصة.
و من كتاب الاختصاص للمفيد باسناده عن عمرو بن ثابت قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قبض ارتدّ النّاس على أعقابهم كفّارا إلّا ثلاثة:
سلمان و المقداد و أبو ذر الغفاري انّه لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء أربعون رجلا إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقالوا: لا و اللّه لا نعطي أحدا طاعة بعدك أبدا، قال: و لم؟
قالوا: سمعنا من رسول اللّه فيك يوم غدير، قال: و تفعلون؟ قالوا: نعم، قال فأتوني
______________________________
(1) أي كما في غاية المرام، منه.
(2) في أكثر النسخ بالمهملتين يقال حاص عليه حيصة اى عدل و حاد و في بعض النسخ بالجيم و الصاد المهملة بهذا المعنى و في بعضها بالمعجمتين بهذا المعنى ايضا و قال الفيروز آبادى السلعة بالكسر كالغدة في الجسد و يفتح و يحرك كعنبة او جراح العنق او غدة فيما حوله فمر به عثمان فامر به اي فتكلم او هو يتكلم في شانه فامر به فاخرج من المدينة، بحار الانوار.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 31
غدا محلّقين، قال: فما أتاه إلّا هؤلاء الثلاثة، قال: و جاءه عمّار بن ياسر بعد الظهر فضرب يده على صدره ثم قال: ما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم أنتم لم تطيعوني في حلق الرّؤوس فكيف تطيعونى في قتال جبال الحديد، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم.
و في الاحتجاج عن الباقر عليه السّلام انّ عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: اكتب الى اسامة ابن زيد يقدم عليك فان في قدومه قطع الشّنعة، فكتب أبو بكر اليه: من أبي بكر خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اسامة بن زيد، أمّا بعد، فانظر إذا أتاك كتابي فأقبل إليّ أنت و من معك فانّ المسلمين قد اجتمعوا عليّ و ولوني أمرهم، فلا نتخلّفن فتعصني و يأتيك مني ما تكره و السّلام.
قال فكتب إليه اسامة جواب كتابه: من اسامة بن زيد عامل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على غزوة الشّام الى أبى بكر بن أبي قحافة، أمّا بعد فقد أتاني منك كتاب ينقض أوّله آخره، ذكرت في أوّله أنك خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذكرت في آخره أنّ المسلمين قد اجتمعوا عليك فولوك أمرهم و رضوا بك، فاعلم أنّي و من معي من جماعة المسلمين فلا و اللّه ما رضينا بك و لا وليناك أمرنا، و انظر أن تدفع الحقّ إلى أهله و تخلّيهم و إيّاه فانّهم أحقّ به منك فقد علمت ما كان من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عليّ عليه السّلام يوم الغدير، فما طال العهد فتنسى فانظر مركزك و لا تخالف فتعصي اللّه، و رسوله و تعصي من استخلفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليك و على صاحبك، و لم يعزلني حتّى قبض رسول اللّه و انّك و صاحبك رجعتما و عصيتما فأقمتما في المدينة بغير اذني.
قال: فأراد «فهمّ خ» أبو بكر أن يخلعها من عنقه قال: فقال له عمر: لا تفعل قميص قمّصك اللّه لا تخلعه فتندم و لكن ألحّ عليه بالكتب و مر فلانا و فلانا يكتبون الى اسامة أن لا يفرّق جماعة المسلمين و أن يدخل معهم فيما صنعوا، قال: فكتب اليه أبو بكر و كتب إليه ناس من المنافقين: أن ارض بما اجتمعنا عليه و إيّاك أن تشمل المسلمين فتنته فانّهم حديث عهد بالكفر، قال: فلمّا وردت الكتب على اسامة انصرف بمن معه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 32
حتّى دخل المدينة، فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقال له: ما هذا؟ قال له عليّ عليه السّلام: هذا ما ذا ترى، قال له اسامة: فهل بايعته؟
فقال: نعم يا اسامة، فقال: أ طائعا أو كارها؟ قال: لا بل كارها، قال: فانطلق اسامة فدخل على أبي بكر و قال له: السّلام عليك يا خليفة المسلمين، قال: فردّ عليه أبو بكر، و قال: السّلام عليك أيّها الأمير هذا.
و يأتي بعض أخبار هذا الباب من طرق الخاصّة كساير الأخبار العامة إنشاء اللّه عند شرح الخطب الآتية و اللّه المستعان و عليه التكلان.
المقدمة الرابعة في الاشارة الى بعض طرق الخطبة و رفع الاختلاف بينها
فأقول: اعلم أنّ المستفاد من مضمون هذه الخطبة الشريفة كما هو المستفاد من بعض طرقها الآتية أيضا أنّه عليه السّلام خطب بها في أواخر عمره الشريف و ذلك بعد ما انقضى أيّام خلافة المتخلّفين الثلاثة و بعد ما ابتلى به من قتال النّاكثين و القاسطين و المارقين و هذا ممّا لا خفاء فيه، و أمّا المقام الذي خطب عليه السّلام بها فيه فقد اختلفت فيه الرّوايات.
منها ما هي ساكتة عن تعيين المكان، مثل ما رواه العلامة الحلّي طاب ثراه في كتاب كشف الحقّ و نهج الصّدق عن الحسن بن عبد اللّه بن عبد بن مسعود العسكري من أهل السّنة في كتاب معاني الأخبار باسناده إلى ابن عباس قال:
ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: و اللّه لقد تقمّصها أخويتم و أنّه يعلم إلى آخر ما ذكره الرّضيّ بتغيير يسير.
و مثلها ما رواه المحدّث المجلسي في المجلد الثامن من البحار من معاني الأخبار و علل الشّرايع للصّدوق عن ما جيلويه عن عمّه عن البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ذكرت الخلافة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 33
عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقال: و اللّه لقد تقمّصها أخو تيم اه، و من الكتابين أيضا عن الطالقاني عن الجلودي عن أحمد بن عمّار بن خالد عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عيسي بن راشد عن عليّ بن حذيفة عن عكرمة عن ابن عبّاس مثله، و من أمالى الشّيخ عن الحفّار عن أبي القاسم الدّعبلي عن أبيه عن أخى دعبل عن محمّد بن سلامة الشّامي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام، و الباقر، عن ابن عبّاس قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، و ذكر نحوه بأدنى تغيير.
و منها ما هي دالة على أنّه عليه السّلام خطب بها في منبر مسجد الكوفة و هو ما رواه المحدّث المجلسي طاب ثراه في المجلد الرّابع عشر من البحار من بعض مؤلفات القدماء عن القاضي أبي الحسن الطبري عن سعيد بن يونس المقدسى عن المبارك عن خالص بن أبى سعيد عن وهب الجمال عن عبد المنعم بن سلمة عن وهب الرائدي عن يونس بن ميسرة عن الشّيخ المعتمر الرّقى رفعه إلى أبى جعفر ميثم التمار، قال. كنت بين يدي مولاى أمير المؤمنين عليه السّلام إذ دخل غلام و جلس في وسط المسلمين، فلما فرغ عليه السّلام من الأحكام نهض إليه الغلام، و قال يا أبا تراب: أنا إليك رسول جئتك برسالة تزعزع لها الجبال من رجل حفظ كتاب اللّه من أوله إلى آخره و علم علم القضايا و الأحكام و هو أبلغ منك في الكلام و أحقّ منك بهذا المقام، فاستعدّ للجواب و لا تزخرف «1» المقال، فلاح الغضب في وجه أمير المؤمنين عليه السّلام، و قال لعمار: اركب جملك و طف في قبائل الكوفة و قل لهم أجيبوا عليّا ليعرفوا الحقّ من الباطل و الحلال و الحرام و الصّحة و السّقم، فركب عمّار فما كان إلّا هنيئة حتّى رأيت العرب كما قال اللّه تعالى:
«إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً* ... فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» فضاق جامع الكوفة و تكاثف النّاس تكاثف الجراد على الزّرع الغضّ «2»
______________________________
(1) اى لا تكذب المقال، منه.
(2) اى الطرى الخضر، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 34
في أوانه، فنهض العالم الأردع «1» و البطل الأنزع و رقى في المنبر و راقى ثم تنحنح فسكت جميع من في الجامع، فقال عليه السّلام: رحم اللّه من سمع فوعى، أيّها النّاس يزعم أنّه أمير المؤمنين و اللّه لا يكون الامام إماما حتّى يحيي الموتى أو ينزل من السّمآء مطرا أو يأتي بما يشاكل ذلك ممّا يعجز عنه غيره و فيكم من يعلم أنّى الآية الباقية و الكلمة التامّة و الحجّة البالغة و لقد أرسل إلىّ معاوية جاهلا من جاهليّة العرب عجرف «2» فى مقاله و أنتم تعلمون لو شئت لطحنت عظامه طحنا، و نسفت «3» الأرض من تحته نسفا، و خسفتها عليه خسفا إلّا أنّ احتمال الجاهل صدقة.
ثمّ حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أشار بيده إلى الجوّ فدمدم «4»، و أقبلت غمامة و علت سحابة و سمعنا منها إذا يقول: السّلام عليك يا أمير المؤمنين و يا سيّد الوصيّين و يا إمام المتّقين و يا غياث المستغيثين و يا كنز المساكين و معدن الرّاغبين، و أشار إلى السّحابة فدنت، قال ميثم: فرأيت الناس كلّهم قد أخذتهم السّكرة، فرفع رجله و ركب السّحابة، و قال لعمّار: اركب معي و قل، بسم اللّه مجريها و مرسيها، فركب عمّار و غابا عن أعيننا، فلما كان بعد ساعة أقبلت السّحابة حتّى أظلّت جامع الكوفة، فاذا مولاى جالس على دكة القضاء و عمّار بين يديه و النّاس حافّون به، ثمّ قام و صعد المنبر و أخذ الخطبة المعروفة بالشّقشقية، فلما فرغ اضطرب النّاس، و قالوا فيه أقاويل مختلفة، فمنهم من زاده اللّه ايمانا و يقينا، و منهم من زاده كفرا و طغيانا.
قال عمار: و قد طارت بنا السّحابة في الجوّ فما كانت هنيئة حتّى أشرفنا إلى بلد كبير حواليه أشجار و أنهار، فنزلت بنا السّحابة و إذا نحن في مدينة كبيرة و النّاس يتكلمون بكلام غير العربيّة فاجتمعوا عليه و لاذوا به فوعظهم و أنذرهم بمثل كلامهم، ثم قال: يا عمّار اركب ففعلت ما امرنى فادركنا جامع الكوفة، ثمّ
______________________________
(1) الاردع من الرجال من يعجبك حسنه، منه.
(2) العجرفة الخرق و قلة المبالاة، بحار.
(3) اى قلعت، م.
(4) يقال دمدم عليه اى كلمه مغضبا، بحار.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 35
قال عليه السّلام لى يا عمّار، تعرف البلدة التي كنت فيها؟ قلت: اللّه اعلم و رسوله و وليّه قال عليه السّلام: كنّا في الجزيرة السّابعة من الصّين أخطب كما رأيتني إنّ اللّه تبارك و تعالى أرسل رسوله إلى كافّة النّاس و عليه أن يدعوهم و بهدي المؤمنين منهم إلى الصّراط المستقيم، و اشكر ما أوليتك من نعمه، و اكتم من غير أهله فانّ اللّه تعالى ألطافا خفيّة في خلقه لا يعلمها إلّا هو و من ارتضى من رسول.
ثمّ قالوا: أعطاك اللّه هذه القدرة و أنت تستنهض الناس لقتال معاوية، فقال عليه السّلام: إنّ اللّه تعبّدهم بمجاهدة الكفار و المنافقين و النّاكثين و القاسطين و المارقين، و اللّه لو شئت لمددت يدي هذه القصيرة في أرضكم هذه الطويلة و ضربت بها صدر معاوية بالشّام و أخذت بها من شاربه أو قال من لحيته، فمدّ يده و ردّها و فيها شعرات كثيرة، فتعجبوا من ذلك، ثمّ وصل الخبر بعد مدّة أنّ معاوية سقط من سريره في اليوم الذي كان عليه السّلام مدّيده و غشى عليه ثمّ أفاق و افتقد من شاربه و لحيته شعرات.
و قد ذكرت الرّواية بتمامها إذ فيها قرّة عين للشّيعة فهنيئا لهم ثمّ هنيئا بما خصّهم اللّه به من موالاة صاحب المناقب الفاخرة و المعجزات القاهرة.
و منها ما هي مفيدة لكونه عليه السّلام خاطبا بها في الرّحبة، مثل ما رواه الطبرسي في الاحتجاج قال: و روى جماعة من أهل النّقل من طرق مختلفة عن ابن عبّاس قال:
كنت عند أمير المؤمنين عليه السّلام بالرّحبة فذكرت الخلافة و تقدّم من تقدّم عليه، فتنفس الصّعدآء ثم قال: أما و اللّه لقد تقمّصها و ذكر قريبا ممّا رواه الرّضيّ، و مثله ما رواه في البحار من إرشاد المفيد قال روى جماعة إلى آخر ما ذكره في الاحتجاج إلّا أن فيه و تقديم من تقدّم، و أم و اللّه بدل أما، و في البحار أيضا عن الشّيخ قطب الدّين الرّاوندي قدّس سرّه في شرحه على نهج البلاغة بهذا السّند، أخبرني الشيخ أبو نصر الحسن بن محمّد بن إبراهيم عن الحاجب أبي الوفاء محمّد بن بديع و الحسين ابن أحمد بن عبد الرّحمن عن الحافظ أبي بكر بن مردويه الاصفهاني عن سليمان بن أحمد الطبراني عن أحمد بن عليّ الابار عن إسحاق بن سعيد أبي سلمة الدّمشقي عن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 36
خليد بن دعلج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: كنا مع عليّ عليه السّلام بالرّحبة فجرى ذكر الخلافة و من تقدّم عليه فيها، فقال: أما و اللّه لقد تقمّصها فلان إلى آخر الخطبة.
هذه جملة ما عثرت عليها من طرق الخطبة و إسنادها و يمكن الجمع بين مختلفها بأن يكون عليه السّلام قد خطب بها تارة بالرّحبة و اخرى بمنبر الكوفة و اللّه العالم.
و اذا تمهّد لك هذه المقدمات فلنشرع في شرح كلامه عليه السّلام بتوفيق من اللّه سبحانه فأقول: و شرحها في ضمن فصول.
*****
الفصل الاول:
أما و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر منّي السّيل، و لا يرقى إليّ الطّير، فسدلت دونها ثوبا، و طويت عنها كشحا، و طفقت أرتاي بين أن أصول بيد جذّآء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، و يشيب فيها الصّغير، و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى فيها ربّه، فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى، فصبرت و في العين قذى، و في الحلق شجى، أرى تراثي نهبا. (2625- 2548)
اللغة:
يقال قمّصه قميصا ألبسه فتقمّص هو و (قحافة) بضمّ القاف و تخفيف الحاء و (قطب الرّحى) مثلّثة و كعنق: الحديدة التي تدور عليها الرّحى و (سدل الثّوب) يسد له أرسله و أرخاه، و (الكشح) ما بين الخاصرة إلى أقصر الاضلاع، يقال فلان طوى كشحه أى أعرض مهاجرا، و (طفق) في كذا أى شرع و أخذ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 37
و (ارتأى) في الأمر اذا فكر طلبا للرّأى الأصلح و افتعل من روية القلب، و (الصّولة) الوثبة و الحملة، و كناية (اليد الجذّاء) بالجيم و الذّال المعجمة المقطوعة المكسورة، قال في النّهاية في حديث عليّ عليه السّلام أصول بيد جذاء كنّى به عن قصور أصحابه و تقاعدهم عن الغزو، فإنّ الجند للأمير كاليد و يروى بالحاء المهملة و فسّره في موضعه باليد القصيرة التي لا تمدّ إلى ما يراد، قال و كأنّها بالجيم أشبه و (الطخية) بالضمّ، على ما في أكثر النّسخ أو بالفتح الظلمة أو الغيم و في القاموس الطخية الظلمة و يثلّث و (العمياء) تأنيث الأعمى يقال مفازة عمياء أى لا يهتدى فيها الدّليل، و وصف الطخية بها إشارة إلى شدّة الظلمة، و (هرم) كفرح أى بلغ أقصى الكبر، و (الشيّب) بياض الشّعر، و (الكدح) السّعى و كدح في العمل كمنع سعى و عمل لنفسه خيرا و شرّا و (أحجى) أى أولى و أجدر و أحقّ من قولهم حجى بالمكان إذا أقام و ثبت ذكره في النّهاية، و قيل: أى اليق و أقرب بالحجى و هو العقل و (القذى) ما يقع في العين و في الشّراب أيضا من نتن أو تراب أو وسخ و (الشجى) ما اعترض في الحلق و نشب من عظم و نحوه و (التراث) ما يخلّفه الرّجل لورثته و التاء فيه بدل من الواو و (النهب) السّلب و الغارة و الغنيمة.
الاعراب:
أما حرف تنبيه تدلّ على تحقّق ما بعدها مثل ألا و لكونها مفيدة للتحقيق لا تقع الجملة بعدها الّا مصدّرة بالقسم قال الشّاعر:
أما و الذى أبكى و أضحك و الذى أمات و أحيى و الذى أمره الأمر
و الضّمير في تقمّصها راجع الى الخلافة المستفادة بقرينة المقام كما في قوله تعالى:
«حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» اى الشّمس او المصرّح بها كما في ساير طرق الخطبة على ما تقدم و مثله الضّماير الثلاثة بعدها، و جملة و انّه ليعلم اه حاليّة، و جملة ينحدر آه استينافيّة، و أو، في قوله أو أصبر بمعنى الواو، لاقتضآء كلمة بين ذلك، لأنّ العطف بعدها لا تقع إلّا بواو الجمع يفال: جلست بين زيد و عمرو و لا يقال أو عمرو، و في بعض النّسخ و أصبر بالواو، و كلمه ها في هاتا، للتنّبيه، و تا للاشارة إلى المؤنّث اشير بها إلى الطخية الموصوفة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 38
المعنى:
(أما و اللّه لقد تقمّصها) أى لبس الخلافة مثل القميص (ابن أبي قحافة) و الاشارة به إلى أبي بكر و اسمه عبد اللّه بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سلام ابن تيم بن مرّة، و امّه سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب، و في بعض الكتب أنّ اسمه في الجاهليّة عبد العزّى فغيره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى عبد اللّه، قال في القاموس: اسمه عتيق سمّته به امّه أو لقب له، و في التعبير عنه بهذا اللفظ دون الألقاب المادحة دلالة على الاستخفاف، كتعبيره عن الثاني فيما سيأتي بابن الخطاب.
و ما تكلّفه قاضي القضاة في دفع دلالته عليه بأنّه قد كانت العادة في ذلك الزّمان أن يسمّى أحدهم صاحبه و يكنيه و يضيفه إلى أبيه حتّى كانوا ربّما قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا محمّد، فليس في ذلك دلالة على الاستخفاف و لا على الوضع.
فقد أجاب عنه السيّد (ره) فى محكى الشّافى بأنّه ليس ذلك صنع من يريد التّعظيم و التبجيل، و قد كانت لأبى بكر عندهم من الألقاب الجميلة ما يقصد إليه من يريد تعظيمه، و قوله: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ينادى باسمه فمعاذ اللّه ما كان ينادى باسمه إلّا شاكّ أو جاهل من طغام العرب، و قوله: إنّ ذلك عادة العرب فلا شك أنّ ذلك عادتهم فيمن لا يكون له من الألقاب أفخمها و أعظمها كالصّديق و نحوه انتهى.
و قال المحدّث المجلسى (قده) في ترجمة أبى بكر: اعلم أنّه لم يكن له نسب شريف و لا حسب منيف، و كان في الاسلام خيّاطا و في الجاهليّة معلّم الصّبيان و نعم ما قيل:
كفى المرء نقصا أن يقال له معلّم صبيان و ان كان فاضلا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 39
و كان أبوه سيّئ الحال ضعيفا و كان كسبه أكثر من عمره من صيد القماري و الدباسى «1» لا يقدر على غيره، فلمّا عمى و عجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد اللّه بن جذعان من رؤساء مكة فنصبه ينادي على مائدته كلّ يوم لاحضار الاضياف و جعل «2» له على ذلك ما يعونه من الطعام، و ذكر ذلك جماعة منهم الكلبي في كتاب المثالب على ما أورده في الصّراط المستقيم، و لذا قال أبو سفيان لعليّ عليه السّلام بعد ما غضب الخلافة أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيميّ رذل.
و قال أبو قحافة ما رواه ابن حجر في صواعقه حيث قال: و أخرج الحاكم أنّ أبا قحافة لما سمع بولاية ابنه، قال: هل رضى بذلك بنو عبد مناف و بنو المغيرة؟
قالوا: نعم، قال: اللهمّ لا واضع لما رفعت و لا رافع لما وضعت، و قالت فاطمة عليها السلام في بعض كلماتها: إنّه من اعجاز قريش و أذنابها، و قال بعض الظرفاء: بل من ذوي أذنابها، و قال صاحب إلزام النّواصب: أجمع النّسابون أنّ أبا قحافة كان جرّا «3» لليهود، و العجب أنّهم مع ذلك يدّعون أنّ اللّه أغنى النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمال أبي بكر انتهى.
أقول: و ذكر الشّارح المعتزلي نظير ما رواه ابن حجر هذا.
و في الاحتجاج روى أن أبا قحافة كان بالطايف لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بويع لأبي بكر، فكتب إلى أبيه كتابا عنوانه من خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أبيه أبي قحافة أمّا بعد فانّ النّاس قد تراضوا بي فانّي اليوم خليفة اللّه فلو قدمت علينا كان أحسن بك، قال: فلما قرء أبو قحافة الكتاب قال للرّسول: ما منعكم من عليّ عليه السّلام؟ قال الرّسول: هو حدث السّن و قد أكثر القتل في قريش و غيرها و أبو بكر أسنّ منه، قال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسنّ فأنا أحق من أبي بكر، لقد ظلموا عليّا
______________________________
(1) الدبسى بالضم ضرب من الفواخت قيل نسبته الى طيرد بسى و هو الذى لونه بين السواد و الحمرة، مصباح.
(2) أقول و ببالى انى رأيت في بعض السير انه كان يأخذ كل يوم أربعة دراهم من عبد اللّه بن جذعان اجرة و ينادى على طعامه، منه.
(3) اى راعى ابل لهم قال في القاموس الجران تركب ناقة و تتركها ترعى، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 40
حقّه و قد بايع له النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمرنا ببيعته ثمّ كتب إليه: من ابي قحافة إلى أبي بكر أمّا بعد، فقد أتاني كتابك فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضا، مرّة تقول:
خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مرّة تقول: خليفة اللّه، و مرّة تقول: تراضى بي النّاس، و هو امر ملتبس فلا تدخلنّ في أمر يصعب عليك الخروج منه غدا و يكون عقباك منه إلى النّدامة و ملامة النّفس اللوامة لدى الحساب يوم القيامة، فانّ للامور مداخل و مخارج و أنت تعرف من هو أولى بها منك، فراقب اللّه كأنّك تراه و لا تدعنّ صاحبها، فانّ تركها اليوم أخفّ عليك و أسلم لك.
ثمّ اعلم أنّه لم يتعرّض عليه أحد بسوء النّسب لا من الخاصّة و لا من العامّة حسبما طعنوا في أنساب أمثاله، و لعلّ سرّه ما أشار إليه المحدّث الجزايري في أنوار النعمانيّة: من أنّ الأئمة عليهم السّلام من نسله و ذلك، لأنّ أمّ فروة و هي أمّ الصّادق عليه السّلام بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر.
ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا ذكر تلبّسه بالخلافة أراد التّنبيه على عدم استحقاقه بذلك اللّباس، و نبّه على بطلان خلافة المتقمّص بذكر مراتب كماله الدّالة على أفضليّته المشيرة إلى قبح تفضيل المفضول و العدول عن الأفضل، فقال: تشبيه محسوس بالمحسوس- تشبيه معقول بالمحسوس- تشبيه المعقول بالمعقول (و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها) أى من الخلافة (محلّ القطب من الرّحى) شبّه عليه السّلام نفسه بالقطب و الخلافة بالرّحى و محلّه من الخلافة بمحلّ القطب من الرّحى، و الأوّل من قبيل تشبيه المحسوس بالمحسوس، و الثاني من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، و الثّالث من قبيل تشبيه المعقول بالمعقول، و المقصود أنّ الأثر المطلوب من الرّحى كما لا يحصل إلّا بالقطب و لولاه لم يحصل لها ثمر قط كذلك الثمرة المطلوبة من الولاية و الخلافة أعنى هداية الأنام و تبليغ الأحكام و نظام امور المسلمين و انتظام أمر الدّنيا و الدّين، لا تحصل إلّا بوجوده عليه السّلام فيكون الخلافة دائرة مدار وجوده كما أنّ الرّحى دائرة مدار القطب، ففيه إشارة إلى عدم إمكان قيام غيره مقامه و إغنائه غناه كما لا يقوم غير القطب مقامه و لا يغني عنه.
و بهذا المضمون صرّح عليه السّلام في بعض كلماته الآتية، و هو قوله في الكلام المأة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 41
و الثامن عشر: و إنّما أنا قطب الرّحى تدور علىّ و أنا بمكاني فاذا فارقته استحار مدارها و اضطرب ثقالها، و منه يظهر أنّ ما ذكره الشّارح المعتزلي من أنّ مراده عليه السّلام بهذا الكلام هو أنّه من الخلافة في الصّميم و في وسطها و بحبوحتها كما أنّ القطب وسط دائرة الرّحى مع كونه خلاف الظاهر ليس على ما ينبغي هذا.
و في إتيان قوله: و إنّه ليعلم مؤكدا بانّ و اللام، دلالة على منتهى المبالغة في الطعن عليه لدلالته على أنّ تقمّصه بالخلافة لم يكن ناشيا عن الجهالة و الغفلة عن مرتبته عليه السّلام حتى يكون جاهلا قاصرا معذورا فيه و معفوا عنه، بل قد تقمّص بها مع علمه بأنّ مدارها عليه و انتظامها به فيكون تقمّصه بها مع وجود ذلك العلم ظلما فاحشا و غصبا بيّنا.
و يدل على علمه بذلك ما رواه في الاحتجاج عن عامر الشّعبي عن عروة بن الزّبير عن الزّبير بن العوام قال: لمّا قال المنافقون: إنّ أبا بكر تقدّم عليّا و هو يقول أنا أولى بالمكان منه، قام أبو بكر خطيبا فقال: صبرا على من ليس يؤل إلى دين و لا يحتجب برعاية و لا يرعوى لولاية، أظهر الايمان ذلة و أسر السّفاق غلّة «1» هؤلاء عصبة الشّيطان و جمع الطغيان، يزعمون أنّي أقول إنّي أفضل من عليّ و كيف أقول ذلك و مالي سابقته و لا قرابته و لا خصوصيته، و وحّد اللّه و أنا ملحده و عبد اللّه قبل أن أعبده، و والى الرّسول و أنا عدوّه، و سابقني بساعات لم الحق شأوه «2» و لم أقطع غباره، إنّ ابن أبي طالب فاز و اللّه من اللّه بمحبة، و من الرّسول بقربة، و من الايمان برتبة. لو جهد الأوّلون و الآخرون إلّا النّبيون لم يبلغوا درجته و لم يسلكوا منهجه.
بذل في اللّه مهجته و لابن عمّه مودّته، كاشف الكرب و دامغ «3» الرّيب و قاطع السّبب إلّا سبب الرّشاد و قامع الشّرك، و مطهر ما تحت سويداء حبّة النّفاق محنة لهذا العالم، لحقّ قبل أن يلاحق و برز قبل أن يسابق، جمع العلم و الحلم
______________________________
(1) اى حقدا و الغلل الحقد كالغل بالكسر، ق.
(2) الشاو الغاية و الامد، لغة.
(3) دمغ فلانا ضرب دماغه، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 42
و الفهم فكان جميع الخيرات لقلبه كنوزا لا يدّخر منها مثقال ذرّة إلّا أنفقه في بابه فمن ذا يؤمّل أن ينال درجته، و قد جعله اللّه و رسوله للمؤمنين وليّا و للنّبيّ وصيّا و للخلافة راعيا و بالامامة قائما، أفيغترّ الجاهل بمقام قمته إذا أقامني و أطعته إذا أمرني، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: الحقّ مع عليّ و عليّ مع الحقّ، من أطاع عليّا رشد و من عصى عليّا فسد، و من أحبّه سعد، و من أبغضه شقى، و اللّه لو لم يحبّ ابن أبي طالب إلّا لأجل أنّه لم يواقع للّه محرّما و لا عبد من دونه صنما و لحاجة النّاس إليه بعد نبيهم، لكان في ذلك ما «مماخ» يجب، فكيف لأسباب أقلها موجب و أهونها مرغب، للرّحم الماسة بالرّسول و العلم بالدقيق و الجليل و الرّضا بالصبر الجميل و المواساة في الكثير و القليل و خلال «1» لا يبلغ عدّها و لا يدرك مجدها ودّ المتمنّون أن لو كانوا تراب أقدام ابن أبي طالب، أليس هو صاحب الواء الحمد و السّاقي يوم الورود و جامع كلّ كريم و عالم كل علم و الوسيلة إلى اللّه و إلى رسوله.
ثم إنّه عليه السّلام أشار إلى علوّ مقامه و سموّ مكانه بقوله استعارة (ينحدر عنّي السيل) تشبيها لنفسه بذروة الجبل المرتفع فاستعار له ما هو من أوصاف الجبل و هو السيل المنحدر عنه إلى الغيظان، و لعلّ المراد بالسّيل المنحدر عنه عليه السّلام هو علومه و حكمه الواصلة إلى العباد و الفيوضات الجارية منه عليه السّلام على الموادّ القابلة، و تشبيه العلم بالماء و السّيل من ألطف التشيهات و وجه الشبه هو اشتراكهما في كون أحدهما سبب حياة الجسم و الآخر سبب حياة الرّوح، و قد ورد مثل ذلك التّشبيه في الكتاب العزيز قال تعالى:
«قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» «2» روى عليّ بن إبراهيم القمي (ره) في تفسيره باسناده عن فضالة بن أيوب قال: سئل الرّضا عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: قل أرأيتم الآية، فقال عليه السّلام: ماؤكم أبوابكم أى الأئمة،
______________________________
(1) جمع خلة مثل خصلة وزنا و معنى لغة.
(2) يعنى ان غاب إمامكم كما في عدة روايات، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 43
و الأئمة أبواب اللّه بينه و بين خلقه، فمن يأتيكم بماء معين، يعني يأتيكم بعلم الامام، و في تفسير القمي أيضا في قوله تعالى:
«وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ» قال: «1» هو مثل جرى لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله: بئر معطلة، هو الذي لا يستقى منها و هو الامام الذي قد غاب فلا يقتبس منه العلم إلى وقت الظهور، و القصر المشيد هو المرتفع، و هو مثل لأمير المؤمنين و الأئمة صلوات اللّه عليهم و فضائلهم المنتشرة في العالمين المشرفة على الدّنيا ثم يشرف على الدنيا، و هو قوله:
«لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»* و قال الشّاعر في ذلك:
بئر معطلة و قصر مشرف مثل لآل محمّد مستطرف
فالقصر مجدهم الذى لا يرتقى و البئر علمهم الذى لا ينزف
ثمّ إنّه عليه السّلام ترقى في الوصف بالعلو و أكّد علوّ شأنه و رفعة مقامه بقوله: (و لا يرقى إلىّ الطير) فانّ مرقى الطير أعلى من منحد رالسّيل فكيف ما لا يرقى إليه كأنه قال: انّي لعلوّ منزلتي كمن في السّمآء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها قال الشاعر:
مكارم لجّت «2» في علوّ كانّما تحاول ثارا عند بعض الكواكب
و لعلّه عليه السّلام أراد بعدم رقى الطير إليه عجز طاير الاوهام عن الوصول إلى مقاماته الجليلة، و قصور العقول عن الاحاطة بمناقبه الجميلة من حيث عدم انتهائها بعدّ، و عدم وقوفها إلى حدّ، قال تعالى:
«وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» قال في الاحتجاج: سأل يحيى بن أكثم أبا الحسن العالم عليه السّلام عن قوله تعالى: سبعة
______________________________
(1) هذا من عبارة التفسير و الفاعل راجع الى الامام (ع) منه.
(2) اى صوتت و اللجة، بالفتح الصوت منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 44
أبحر ما نفدت كلمات اللّه ما هي؟ فقال: هي عين الكبريت و عين اليمين و عين البرهوت و عين الطبرية و حمّة «1» ماسيدان و حمة إفريقية «2» و عين باحوران «بلعوران، ناحوران خ»، و نحن الكلمات التي لا ندرك فضائلنا و لا تستقصى.
ثمّ إنّه عليه السّلام لما أشار إلى اغتصاب الخلافة نبّه على اعراضه عنها و يأسه منها و قال: (فسدلت) أى أرخيت و أرسلت (دونها ثوبا) و ضربت بيني و بينها حجابا فعل الزّاهد فيها و الراغب عنها (و طويت عنها كشحا) «3» و أعرضت عنها و يئست منها مهاجرا، و قيل: إنّ المراد إنّي أجعت نفسي عنها و لم ألقمها لأنّ من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أنّ من أكل و أشبع فقد ملاء كشحه (و) لما رأيت الخلافة في يد من لم يكن أهلالها (طفقت) أى أخذت و شرعت (أرتأي) في الأمر و أفكّر في طلب الأصلح و أجيل الفكر في تدبير أمر الخلافة و أردّده (بين) أمرين احدهما استعارة (أن أصول) عليهم و أقاتل معهم (بيد جذّاء) أى مقطوعة مكسورة و المراد حملته عليهم بلا معاون و لا ناصر، و استعار وصف الجذاء لعدمهما لمشابهة أن قطع اليد كما أنّه مستلزم لعدم القدرة على التّصرف بها و الصّيال، فكذلك عدم المعين و الناصر مستلزم لذلك أيضا فحسنت الاستعارة و ثانيهما الصّبر على معاينة الخلق على شدّة و جهالة و ضلالة و هو المراد بقوله (أو أصبر على طخية عمياء) أى على ظلمة و التباس من الامور متّصف بالعمى بمعنى أنّه لا يهتدى فيه السّالك إلى سلوك طريق الحقّ بل يأخذ يمينا و شمالا، و إلى هذه الظلمة اشيرت في قوله تعالى:
«أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ»
______________________________
(1) حمة بفتح الحاء و تشديد الميم كل عين فيها ماء حار تنبع يستشفى بها المرضى، لغة.
(2) بتخفيف الياء و تشديدها من بلاد المغرب مغرب.
(3) عطف على سبيل التفسير مثل قوله ضربت بينى و بينها حجابا، منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 45
و قد فسرت الظلمات في الأخبار بخلافات الثلاثة، ثم أشار عليه السّلام إلى طول مدة هذه الطخية بأنّه مجاز (يهرم فيها الكبير) أى يبلغ أقصى الكبر (و يشيب فيها الصّغير) أى يبيضّ رأسه و يحتمل أن يراد بهما المجاز و التوسع بمعنى أنّ أيام اغتصاب الخلافة لشدّة صعوبتها و كثرة أهوالها يكاد أن يهرم الكبير فيها و يشيب الصّغير قال تعالى:
«يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» (و يكدح فيها مؤمن) أي يسعى المؤمن المجتهد في الذّبّ عن الحقّ و الأمر بالمعروف و يكدّ و يقاسي الأحزان و الشدائد (حتّى) يموت و (يلقى ربّه) ثمّ إنّه عليه السّلام لما ذكر تردّده بين الصّبر و القتال أشار إلى ترجيحه الأوّل على الثاني بقوله:
(فرأيت أن الصّبر على هاتا أحجى) أى أليق و أصلح و أجدر، أو أقرب بالحجا و العقل، و ذلك لأن ترك الخلق على الضلالة و الجهالة و إبقائهم على الغيّ و الغفلة إنّما يقبح مع الاستطاعة و القدرة و يلزم معهما ردعهم عن الباطل و نهيم عن المنكر و إرجاعهم إلى الصّراط المستقيم و النّهج القويم و لو بالقتال و الصّيال، و أمّا مع عدم التمكن و القدرة من حيث عدم المعاون و النّاصر فلا يلزم شي ء من ذلك، بل يجب التّحمل و الصّبر حذرا من إلقاء النّفس على الهلاكة و تعريضها على العطب و استيصال آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سيّما و أنّ مقصوده عليه السّلام من الخلافة لم يكن إلّا هداية الأنام و إعلاء كلمة الإسلام و إثارة الحرب و الجدال إذا كانت موجبة لاضطراب نظام المسلمين، بل مؤدّية إلى رجوع النّاس إلى أعقابهم القهقرى و اضمحلال كلمة الاسلام لغلبة الأعداء فلا يحكم العقل حينئذ إلّا بالكفّ عن الجهاد و الصّبر على البلاء و التحمل على الاذى كيلا يلزم ضدّ المقصود و لا نقض الغرض (فصبرت) و الحال إنّ (في العين قذى) يوجب أذيتها كما يصبر الرّجل الأرمد (و في الحلق شجى) اعترض فيه كما بصبر المكابد للخنق، و الجملتان كنايتان عن شدّة تأذيه بسبب اغتصاب ما يرى أنّه أولى به من غيره (أرى تراثي) و في بعض الرّوايات تراث محمّد و آله (نهبا) أى سلبا و غارة و المراد بتراثه المنهوب المسلوب إمّا فدك الذي خلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 3، ص: 46
لابنته من حيث إنّ مال الزّوجة في حكم مال الزّوج، و إمّا الخلافة الموروثة منه عليه السّلام لصدق لفظ الارث عليها كصدقه على منصب النّبوة في قوله تعالى حكاية عن زكريا:
«يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» و الأظهر حمله على العموم و اللّه العالم.
الترجمة:
آگاه باش بخدا قسم كه پوشيد خلافت را مثل پيراهن پسر أبى قحافه و حال آنكه بدرستى آن عالم بود باين كه محل من از خلافت مثل محل قطب است از سنك آسيا، منحدر مى شود و پائين مى آيد از من سيل علوم و ترقى نمى كند بسوى من پرنده بلند پرواز از اوهام و عقول، پس فرو گذاشتم نزد آن خلافت لباس صبر را، و در نور ديدم از آن تهيگاه را، و شروع كردم بفكر كردن در امر خود ميان آنكه حمله كنم بدست بريده و يا اين كه صبر نمايم بر ظلمتى كه متصف است بصفت كورى كه كنايه است از خلافت أهل جلافت، آن چنان ظلمتى كه بنهايت پيرى مى رسد در آن بزرگ سال، و بحال پيرى مى رسد در آن خورد سال، و سعى ميكند و بمشقت و رنج مى افتد در آن مؤمن تا اين كه مى ميرد و ملاقات ميكند پروردگار خود را؛ و چون حال بر اين منوال بود پس ديدم كه صبر كردن بر اين ظلمت و بر خلافت اهل شقاوت اليق و انسب است، پس صبر نمودم و ترك قتال و جدال كردم و حال آنكه در چشم من غبار و خاشاك بود كه از آن اذيت مى كشيدم و در گلوى من استخوان بود كه گلوگير شده بودم، و سبب اين اذيت و گلوگيرى آن بود كه مى ديدم ميراث خود را غارت شده و خلافت خود را تاراج گرديده.