منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 327
فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت، و حسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم، و تغيّرت لها ألوانهم، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا، فحيل بين أحدهم و بين منطقه، و إنّه لبين أهله، ينظر ببصره، و يسمع باذنه، على صحّة من عقله، و بقاء من لبّه، يفكّر فيم أفنى عمره، و فيم أذهب دهره، و يتذكّر أموالا جمعها، أغمض في مطالبها، و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، و أشرف على فراقها، تبقى لمن ورائه، ينعّمون فيها، و يتمتّعون بها، فيكون المهناء لغيره، و العب ء على ظهره، و المرء قد غلقت رهونه بها، فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، و يزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، و يتمنّى أنّ الّذي كان يغبطه بها، و يحسده عليها قد حازها دونه. فلم يزل الموت يبالغ في جسده، حتّى خالط لسانه سمعه، فصار بين أهله، لا ينطق بلسانه، و لا يسمع بسمعه، يردّد طرفه بالنّظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم، و لا يسمع رجع كلامهم، ثمّ ازداد الموت التياطا، فقبض بصره كما قبض سمعه، و خرجت الرّوح من جسده، فصار جيفة بين أهله، قد أوحشوا من جانبه، و تباعدوا من قربه، لا يسعد باكيا، و لا يجيب داعيا، ثمّ حملوه إلى مخطّ من الأرض، فأسلموه فيه إلى عمله، و انقطعوا عن زورته. (22020- 21658)
اللغة:
و (أطراف) البدن الرأس و اليدان و الرّجلان و (و لج) يلج ولوجا أى دخل و (المصرّح) خلاف المشتبه و هو الظاهر البيّن و (التبعات) جمع التبعة و هو الاثم، و (المهنأ) المصدر من هنأ الطعام يهنأ و هنوء يهنوء بالكسر و الضم إذا صار هنيئا و (العبء) الثقل و (أصحر) أى ظهر و انكشف و اصله من أصحر القوم اذا برزوا من المكمن الى الصحرا و (رجع) الكلام ما يتراجع منه و (الالتياط) الالتصاق و (الاسعاد) الاعانة و كنايه (المخطّ من الأرض) بالخاء المعجمة كناية عن القبر يخطّ أولا ثمّ يحفر، و في بعض النسخ بالحاء المهملة و هو المنزل من حطّ القوم إذا نزلوا.
الاعراب:
و قوله: فغير موصوف ما نزل بهم، غير بالرّفع خبر مقدّم على مبتدئه أعني ماء الموصولة لافادة الحصر و الدّلالة على أنّ غير ما نزل قابل لأن يوصف كما في قوله سبحانه: لا فيها
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 329
غول، أى ليس غول في خمور الجنة بخلاف خمور الدّنيا و ايراد المسند اليه بلفظ الموصول للتفخيم و التهويل كما في قوله: فغشيهم من اليمّ ما غشيهم.
و وصل جملة اجتمعت لسابقتها لما بينهما من كمال الاتّصال و كون الثانية أو فى بتمام المراد و اقتضاء المقام الاعتناء بشأنه لكونه فظيعا في نفسه و نظيرها قوله سبحانه:
«أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ» .
فانّ المراد التنبيه على نعم اللّه، و الثّانية أو في بتاديته لدلالتها عليها بالتفصيل، فالجملة الثانية في المقامين منزّلة منزلة بدل البعض، و كذلك وصل جملة يفكر لسابقتها لما بينهما من كمال الاتصال أيضا لكونها من سابقتها بمنزلة التّأكيد المعنوى مثل: لا ريب فيه، في قوله تعالى: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» ، و وزانهما وزان جائنى زيد نفسه، و هذا كله من محسّنات البيان و إنما نبّهنا عليه مع عدم مدخلية في الاعراب اشارة إلى بعض وجوه الحسن في كلامه عليه السّلام.
المعنى:
(ف) انه (غير موصوف ما نزل بهم) من الشّدائد و الآلام، و يحتمل أن يكون ضمير بهم راجعا إلى الذين لم يجيبوا الدّاعي المقدّم ذكرهم بقوله: فلا الدّاعي أجابوا و لا فيما رغبت إليه رغبوا (اجتمعت عليهم سكرة الموت و حسرة الفوت ففترت لها أطرافهم و تغيّرت لها ألوانهم) و ذلك لأنّ ألم النزع يسرى جميع اعضاء البدن و يستوعب الأطراف و يوجب ضعفها و فتورها. قال الغزالي: و اعلم أنّ شدّة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 334
إلا من ذاقها، و من لم يذقها فانما يعرفها بالقياس إلى الآلام التي أدركها، بيان ذلك القياس أنّ كلّ عضولا روح فيه فلا يحسّ بالألم، فاذا كان فيه فالمدرك للألم هو الرّوح فمهما أصاب العضو جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح فبقدر ما يسرى إلى الروح يتألّم، و المؤلم يتفرّق على اللّحم و الدم و ساير الأجزاء فلا يصيب الرّوح إلّا بعض الألم، فان كان في الآلام ما يباشر نفس الروح و لا يلاقي غيره، فما اعظم ذلك الألم و ما أشدّ، و النزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الرّوح، فاستغرق جميع أجزائه حتى لم يبق جزء من اجزاء المنتشر في أعماق البدن إلّا و قد حلّ به الألم، فلو أصابته شوكة فالألم الذى يجده إنّما يجرى في جزء من الرّوح يلاقي ذلك الموضوع الذي أصابته الشوكة، و إنما يعظم أثر الاحتراق لأنّ أجزاء النار تغوص في ساير أجزاء البدن، فلا يبقى جزء من العضو المحترق ظاهرا و باطنا إلّا و تصيبه النّار، فتحسر الأجزاء الرّوحانية المنتشرة في ساير أجزاء اللحم، و أمّا الجراحة فانّما تصيب الموضوع الذي مسّه الحديد فقط فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار فألم النزع يهجم على نفس الرّوح و يستغرق جميع أجزائه، فانّه المنزوع المجذوب من كلّ عرق من العروق و عصب من الأعصاب و جزء من الأجزاء و مفصل من المفاصل و من أصل كلّ شعرة و بشرة من الفرق إلى القدم حتّى قالوا إنّ الموت لأشد من ضرب بالسّيف و نشر بالمناشير و قرض بالمقاريض، لأنّ قطع البدن بالسيف إنما يولمه لتعلّقه بالرّوح فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح، و إنما يستغيث المضروب و يصيح لبقاء قوّته في قلبه و في لسانه، و إنّما انقطع صوت الميّت و صياحه مع شدّة ألمه لأنّ الكرب قد بالغ فيه و تصاعد على قلبه و بلغ كلّ موضع منه، فهدّ كلّ قوّة و ضعف كلّ جارحة، فلم يترك له قوّة الاستغاثة.
و إلى ذلك أشار بقوله استعاره- حقيقت (ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم و بين منطقه) و استعار لفظ الولوج لما يتصوّر من فراق الحياة بعضو عضو، فأشبه ذلك دخول جسم في جسم آخر، و المقصود بذلك شدّة تأثير الموت في أبدانهم و ايجابه لضعف اللّسان عن قوّة النطق و التكلّم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 335
نعم في رواية الكافي باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: الحياة و الموت خلقان من خلق اللّه فاذا جاء الموت فدخل في الانسان لم يدخل في شي ء إلّا و خرج منه الحياة.
فانّ ظاهر هذه الرواية مفيدة لكون الولوج في كلامه مستعملا في معناه الحقيقي اللهمّ إلّا أن يرتكب المجاز في ظاهر هذه أيضا فافهم.
(و انه لبين أهله ينظر) اليهم (ببصره و يسمع) كلامهم (باذنه) و لا يتمكّن من اظهار ما فيه من الشدّة و الحسرة عليهم لمكان ضعفه و عجزه مع أنه (على صحّة من عقله و بقاء من لبّه) فهو راغب عن الدّنيا مقبل إلى الآخرة، مشغول بحاله محاسب على نفسه، متحسّر على ما قدّمت يداه، نادم على ما فرّط في جنب مولاه.
(يفكّر فيم أفنى عمره و فيم أذهب دهره) و يتأثّر على غفلته في أيّام مهلته (و يتذكّر أموالا جمعها) و استغرق أوقاته فيها (أغمض في مطالبها) و تساهل في اكتسابه أيّامه و ذلك لعدم مبالاته بأنها من حلال أو حرام (و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها) أى من وجوه مباحة و ذوات شبهة.
كما اشير إليه في النبوى المعروف قال عليه السّلام إنما الامور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات و من أخذ بالشّبهات وقع في المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم.
(قد لزمته تبعات جمعها) و آثام جبايتها (و أشرف على فراقها تبقى لمن ورائه ينعّمون فيها و يتمتّعون بها) و هم إما أهل طاعة اللّه فسعدوا بما شقى، و إمّا أهل معصيته فكان عونا لهم على معصيتهم (فيكون المهنأ لغيره و العبؤ على ظهره) أى يكون هنائة تلك الأموال أى كونها هنيئة لغيره، و وزرها و ثقلها على ظهره.
و في الحديث النبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المرويّ عن ارشاد القلوب قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا حمل الميّت على نعشه رفرف روحه فوق النعش و هو ينادى: يا أهلي و ولدي لا تلعبنّ بكم الدّنيا كما لعبت بي، جمعته من حلّ و غير حلّ و خلّفته لكم فالمهنأ لكم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 336
و التعب علىّ فاحذروا مثل ما قد نزل بي، و نعم ما قيل:
يمرّ أقاربي جنبات قبرى كأنّ أقاربي لم يعرفوني
و ذو الميراث يقتسمون مالي و ما يألون أن جحدوا ديوني
و قد أخذوا سهامهم و عاشوا فياللّه أسرع ما نسوني
و قوله عليه السّلام تشبيه- تمثيل- استعاره تمثيلية- استعاره مرشحة (و المرء قد غلقت رهونه بها) قال الشارح المعتزلي: معناه أنه لما كان قد شارف الرّحيل و أشفى على الفراق صارت تلك الأموال التي جمعها مستحقّه لغيره و لم يبق له فيها تصرّف، و أشبهت الرّهن الذى غلق على صاحبه، فخرج عن كونه مستحقا له و صار مستحقا لغيره و هو المرتهن.
و اورد عليه بأنه و إن كان محتملا إلّا أنه يضيع فائدة قوله: بها، لأنّ الضمير يعود إلى الأموال المجموعة، و هو إشارة إلى المال الذى انغلق الرّهن به فلا نكون هى نفس الرّهن.
و قال الشارح البحراني: ضربه عليه السّلام مثلا لحصول المرء في تبعات ما جمع و ارتباطه بها عن الوصول إلى كماله و انبعاثه الى سعادته بعد الموت، و قد كان يمكنه فكاكها بالتوبة و الأعمال الصالحة، فأشبه ما جمع من الهيآت الرّديّة في نفسه عن اكتساب الأموال، فارتهنت بها بما على الراهن من المال.
أقول: و يتوجّه عليه أنّ الراهن على ذلك التوجيه هو نفس المراد و لو كان مراده عليه السّلام ذلك لقال و المرء قد صار رهينا بها كما قال تعالى: كلّ نفس بما كسبت رهينة.
و الذي يلوح على النّظر القاصر هو أن يقال: إنّه من باب الاستعارة التمثيلية و الغرض تشبيه حال هذا المرء المحجوب عن الترقّي إلى مدارج الكمال الغير المتمكّن من الوصول إليها بجمع تلك الأموال بحال من غلقت عليه أمواله المرهونة في مقابل دين المرتهن في عدم امكان وصوله اليها و محجوريته عنها، أو أنّ رهونه استعارة لبعض ما فعله من الأعمال الصالحة و ذكر الغلق ترشيح، و تشبيه تلك الأعمال
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 337
بالرّهن باعتبار عدم تمكّنه من الانتفاع بها و محجوبيّته عنها بما جمعه من الأموال فصارت تلك الأموال حاجبة مانعة عن انتفاعه بها بمنزلة دين المرتهن المانع عن تصرف الراهن في العين المرهونة الموجب لحجره عنها و عن استفادته بها، و إنّما صارت تلك الأموال سببا للحجب و المنع عن الانتفاع، لكون حقّ النّاس مقدّما على حقّ اللّه، و لذلك كان أوّل عقبات القيامة موضوعة للحكم بين النّاس و أخذ المظالم، هذا ما يخطر بالخاطر القاصر، و اللّه العالم بحقايق كلام وليّه عليه السّلام كنايه (فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره) و انكشف له حينئذ من تفريطه كما يعضّ يوم القيامة إذا عاين العقاب و شاهد طول العذاب قال سبحانه: «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي» .
قال في التفسير أى يعضّ على يديه ندما و أسفا، قال عطا: يأكل يديه حتى تذهب إلى المرفقين ثمّ تنبتان لا يزال هكذا كلّما نبتت يداه أكلهما ندامة على ما فعل، هذا فغضّ اليد في الآية مستعمل على التّفسير المذكور في معناه الحقيقي، و في كلامه عليه السّلام كناية عن النّدم و التّحسّر على ما فرّط في جنب اللّه و قصر في امتثال أمر مولاه (و يزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره) من الأموال التي جمعها و خلّفها لغيره (و يتمنّى انّ الذى كان يغبطه بها و يحسده عليها قد حازها دونه) لما ظهر له من تبعاتها و سوء عاقبتها.
(فلم يزال الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه فصار بين أهله لا) يقدر أن (ينطق بلسانه و لا) أن (يسمع بسمعه) لانقطاع مادّة الحياة عن السّمع
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 338
و اللّسان (يردّد طرفه بالنظر في وجوههم) أى مخاطباتهم و (يرى حركات ألسنتهم و لا يسمع رجع كلامهم) أى ما يتراجعونه من الكلام لبطلان قوّته السّامعة و بقاء قوّته الباصرة بعد.
(ثمّ ازداد الموت التياطا به) أى التصاقا (فقبض بصره كما قبض سمعه و خرجت الرّوح من جسده) و ظاهر هذا الكلام بملاحظة ما سبق من قوله: ثمّ ازداد الموت فيهم و لوجا فحيل بين أحدهم و بين منطقه آه، و ما سبق أيضا من قوله: فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه، يفيد لبطلان آلة النطق في الانسان قبل آلتى السمع و البصر، ثمّ بطلان آلة البصر و إنّما تبطل مع خروج الرّوح و مفارقتها عن البدن.
قال الشارح البحراني: و ليس ذلك مطلقا بل في بعض الناس و أغلب ما يكون ذلك فيمن تعرض الموت الطبيعي لآلاته و الّا فقد تعرض الآفة لقوّة البصر و آلته قبل آلة السّمع و آلة النطق، و الذي يلوح من اسباب ذلك أنه لما كان السبب العام القريب للموت هو انطفاء الحرارة الغريزية عن فناء الرّطوبة الأصلية التي منها خلقنا، و كان فناء تلك الرطوبة عن عمل الحرارة الغريزية فيها التجفيف و التحليل، و قد تعينها على ذلك الأسباب الخارجية من الأهوية و استعمال الأدوية المجففة و ساير المجففات، كان كلّ عضو أيبس من طبيعته و أبرد أسرع إلى البطلان و أسبق إلى الفساد.
إذا عرفت ذلك فنقول: أما أنّ آلة النطق أسرع فسادا من آلة السمع، فلأنّ آلة النطق مبنيّة على الأعصاب المحركة و مركبة منها، و آلة السمع من الاعصاب المفيدة للحسّ و اتّفق الأطباء على أنّ الأعصاب المحرّكة أيبس و أبرد، لكونها منبعثة من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفيدة للحسّ، فانّ جلّها منبعث من مقدّم الدّماغ فكان لذلك أقرب إلى البطلان، و لأنّ النطق أكثر شروطا من السّماع لتوقفه مع الآلة و سلامتها على الصّوت و سلامة مخارجه و مجارى النفس، و الأكثر شرطا أسرع إلى الفساد.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 339
و أما بطلان آلة السمع قبل البصر فلأنّ منبت الأعصاب التي هي محلّ القوّة السامعة أقرب إلى مؤخّر الدّماغ من منابت محلّ القوّة الباصرة، فكانت أيبس و أبرد و أقبل لانطفاء الحرارة الغريزية، و لأنّ العصب المفروش على الصّماخ الذي رتّبت فيه قوة السّمع احتاج أن يكون مكشوفا غير مسدود عنه سبيل الهواء بخلاف العصب الذى هو آلة البصر، فكانت لذلك أصلب و الأصلب أيبس و أسرع فسادا، هذا مع أنّه قد يكون ذلك لتحلّل الروح الحامل للسّمع قبل الرّوح الحامل للبصر أو لغير ذلك، و اللّه اعلم.
و قوله عليه السّلام (فصار جيفة بين أهله) لا يخفى ما في هذا التعبير من النكتة اللّطيفة، و هو التنفير عن التعلّق بهذا البدن العنصرى و النهى عن التعزّز بهذا الهيكل الجسماني، فإنّ من كان أوّله جيفة و آخره جيفة و هو في الدّنيا حامل الجيف كيف يجوز له الاغترار بوجوده، و التعزّز و التّكبر بذاته لا سيّما بعد ملاحظة كون آخره جيفة أقذر من ساير الجيف حتّى جيفة الكلب و الخنزير، حيث إنّ ساير الجيف لا توجب على من لامسها الغسل بخلاف ميتة الانسان فانّ ملامستها توجب غسل المسّ خصوصا لو لاحظ أنّ أقرب النّاس إليه و آنسهم به من الآباء و الاخوان و البنات و الولدان:
(قد أوحشوا من جانبه و تباعدوا من قربه) مع كمال انسهم به و محبّتهم له، و جهة استيحاشهم منه حكم أوهامهم السخيفة على قواهم المتخيلة بمحاكات حاله في نفس المتوهم و عزل العقل في ذلك الموضع، و لذلك أنّ المجاور لميّت في موضع ظلماني منفرد يتخيل أنّ الميّت يجذ به إليه و يصيره بحاله المنفورة عنها طبعا.
و بالجملة فالمرء إذا خرجت روحه من جسده تنافر الناس عنه و يبقى فريدا وحيدا (لا يسعد باكيا) على بكائه (و لا يجيب داعيا) على دعائه.
(ثمّ حملوه) أى حفدة الولدان و حشدة الاخوان كنايه (الى محطّ من الأرض) أى قبره الذى يحطّ و ينزل فيه و على ما في بعض النسخ من رواية مخط بالخاء المعجمة تكون كناية عن القبر لكونه يخط أولا ثمّ يحفر أو عن اللحد لكونه كالخطّ فى الدّقة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 340
(فأسلموه فيه إلى عمله و انقطعوا عن زورته) و وجد ما عمله محضرا فان كان العمل صالحا فنعم المونس و المعين، و إن كان سيئا فبئس المصاحب و القرين و العدوّ المبين أقول: لو كان كلام يؤخذ بالأعناق في التزهيد عن الدّنيا و الترغيب الى الآخرة لكان هذا الكلام الذى في هذا الفصل، و ما أبعد غوره و اجزل قدره، فانّ عمدة ما أوجب رغبة الراغبين إلى الدّنيا و الرّاكنين اليها و المغترّين بها إنما هى امور ثلاثة احدها حبّ المال و الثاني حبّ الوجود و الثالث حبّ الأولاد و البنين و الأزواج و الأقربين، فزهّد عليه السّلام عن كلّ ذلك بأحكم بيان و أوضح برهان.
أما عن المال فبأنه عن قريب يفارقه و ينتقل عنه و يكون لذّته و مهنائه لغيره و يبقى وزره و تبعته عليه.
و أمّا عن وجوده و نفسه فبأنّه سينمحى أعضاؤه و جوارحه و يبطل قواه و آلاته و يكون بالآخرة جيفة منبوذة بين أهله.
و أما عن الأولاد و الابناء و الاخوان و الأقرباء فبأنهم سيفارقونه و يتنفّرون عنه و يستوحشون منه، فمن كان مآل ما أحبّه ذلك فكيف يغترّ بذلك مع علمه بأنّ كلّ ذلك واقع لا محالة و اعتقاده بأنّ الموت لا يمكن الفرار منه البتة.
قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: عجب كلّ العجب لمن أنكر الموت و هو يرى من يموت كلّ يوم و ليلة، و العجب كلّ العجب لمن أنكر النشأة الآخرة و هو يرى النشأة الاولى و قال اللّه سبحانه: «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ».
روى الأعمش عن خثيمة قال: دخل ملك الموت على سليمان بن داود على نبيّنا و آله و عليهما السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر اليه، فلما خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر الىّ كأنه يريدني، قال عليه السّلام: فما ذا تريد؟ قال: اريد أن تخلصني منه فتأمر الريح حتّى تحملني إلى أقصى الهند، ففعلت الرّيح ذلك ثمّ قال سليمان عليه السّلام لملك الموت بعد أن أتاه ثانيا:
رأيتك تديم النظر إلى واحد من جلسائى، قال: نعم كنت أتعجّب منه، لأنى كنت
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 341
أمرت أن أقبضه بأقصى الهند في ساعة قريبة و كانت عندك فتعجّبت من ذلك.
و في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أخبرني جبرئيل أنّ ملكا من ملائكة اللّه كانت له عند اللّه منزلة عظيمة فتعتّب عليه فأهبطه من السماء إلى الأرض، فأتى ادريس عليه السّلام فقال: إنّ لك من اللّه منزلة فاشفع لى عند ربك، فصلّى ثلاث ليال لا يفتر و صام أيّامها لا يفطر، ثمّ طلب الى اللّه في السحر في الملك، فقال الملك: إنك قد اعطيت سؤلك و قد اطلق لى جناحى و أنا احبّ أن اكافيك فاطلب إلىّ حاجة قال: ترينى ملك الموت لعلّي آنس به فانه ليس يهنئني مع ذكره شيء، فبسط جناحه ثمّ قال: اركب، فصعد به يطلب ملك الموت في السماء الدّنيا، فقيل له: اصعد، فاستقبله بين السماء الرابعة و الخامسة فقال الملك: يا ملك الموت مالى أراك قاطبا؟ قال:
العجب انى تحت ظلّ العرش حيث امرت أن أقبض روح آدمى بين السماء الرابعة و الخامسة، فسمع إدريس عليه السّلام بها فامتعض فخرّ من جناح الملك فقبض روحه مكانه، و قال اللّه عزّ و جلّ: و رفعناه مكانا عليّا و نعم ما قيل:
انّ الحبيب من الاحباب مختلس لا يمنع الموت بوّاب و لا حرس
فكيف تفرح بالدّنيا و لذّتها يا من يعدّ عليه اللّفظ و النّفس
أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا و أنت دهرك في اللّذات منغمس
لا يرحم الموت ذا جهل لغرّته و لا الذى كان منه العلم يقتبس
كم أخرس الموت في قبر وقفت به عن الجواب لسانا ما به خرس
قد كان قصرك معمورا به شرف فقبرك اليوم في الأجداث مندرس
ايقاظ:
في ذكر بعض ما ورد في وصف الموت و حالات الميّت.
فأقول: قال الغزالي: روى عن مكحول عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: لو أنّ شعرة من شعر الميت وضعت على أهل السّماوات و الأرض لماتوا باذن اللّه، لأنّ في كلّ شعرة الموت و لا يقع الموت بشي ء إلّا لمات، قال: و يروى لو أنّ قطرة من
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 342
ألم الموت وضعت على جبال الدّنيا كلها لذابت، قال: و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العبد ليعالج كرب الموت و سكرات الموت و أنّ مفاصله يسلّم بعضها على بعض تقول: عليك السلام تفارقنى و افارقك الى يوم القيامة.
و في الكافي باسناده عن جابر قال قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام ما ندرى كيف نصنع بالناس، إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضحكوا، و إن سكتنا لم يسعنا، قال: فقال ضمرة بن معبد: حدّثنا فقال: هل تدرون ما يقول عدوّ اللّه إذا حمل على سريره؟ قال: فقلنا: لا، قال عليه السّلام: فانه يقول لحملته ألا تستمعون إني أشكو إليكم عدوّ اللّه خدعنى و أوردنى ثمّ لم يصدرني، و أشكو اليكم اخوانا و اخيتهم فخذلونى، و أشكو اليكم أولادا حاميت عليهم فخذلونى «فأسلموني خ» و أشكو اليكم دارا أنفقت فيها حريبتى فصار سكّانها غيرى، فارفقوا بى و لا تستعجلوني قال: فقال ضمرة يا أبا الحسن إن كان هذا يتكلّم بهذا الكلام يوشك أن يثب بجهد على أعناق الذين يحملونه؟ قال: فقال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: اللهمّ إن كان ضمرة هزاء من حديث رسولك فخذه أخذ أسف، قال: فمكث أربعين يوما ثمّ مات، فحضره مولى له قال: فلما دفن أتى عليّ بن الحسين عليهما السّلام فجلس إليه فقال له: من أين جئت يا فلان؟ قال: من جنازة ضمرة فوضعت وجهى عليه حين سوى عليه فسمعت صوته و اللّه أعرفه كما كنت أعرفه و هو حىّ يقول: و يلك يا ضمرة بن معبد اليوم خذلك كلّ خليل، و صار مصيرك إلى الجحيم، فيها مسكنك و مبيتك و المقيل قال: فقال عليّ ابن الحسين عليهما السّلام: أسأل اللّه العافية هذا جزاء من يهزء من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن قوله اللّه عز و جلّ: «وَ قِيلَ مَنْ راقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ» .
قال: فانّ ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب إنه الفراق أيقن بمفارقة الأحبّة قال، و التفّت السّاق بالسّاق التفّت الدّنيا بالآخرة، ثمّ إلى ربّك يومئذ المساق قال: المصير إلى ربّ العالمين.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 343
و عن عبد اللّه بن سليم العامري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن زكريّا عليه السّلام و كان سأل ربّه أن يحييه له، فدعا فأجابه و خرج إليه من القبر، فقال له ما تريد منّى؟ فقال له: اريد أن تونسنى كما كنت في الدّنيا، فقال له يا عيسى ما سكنت عنّى حرارة الموت و أنت تريد أن تعيدنى إلى الدّنيا و تعود علىّ حرارة الموت، فتركه فعاد إلى قبره.
و عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن أبي أيّوب عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ فتية من أولاد ملوك بني إسرائيل كانوا متعبّدين، و كانت العبادة في اولاد ملوك بني إسرائيل و أنهم خرجوا يسيرون في البلاد ليعتبروا، فمرّوا بقبر على ظهر الطّريق قد سفى عليه السّافي ليس منه إلّا اسمه، فقالوا: لودعونا اللّه السّاعة فينشر لنا صاحب هذا القبر فساءلناه كيف وجد طعم الموت، فدعوا اللّه و كان دعائهم الذى دعوا به: اللّه أنت إلهنا يا ربّنا ليس لنا إله غيرك و البدى ء الدّايم غير الغافل الحىّ الذي لا يموت لك في كلّ يوم شأن تعلم كلّ شيء بغير تعليم، انشر لنا هذا الميت بقدرتك، قال: فخرج من ذلك القبر رجل أبيض الرأس و اللّحية ينفض رأسه من التراب فزعا شاخصا بصره إلى السماء، فقال له: ما يوقفكم على قبرى؟
فقالوا: دعوناك لنسألك كيف وجدت طعم الموت فقال لهم: قد سكنت في قبرى تسعة و تسعون «تسعين خ ل» سنة ما ذهب عنّى ألم الموت و كربه، و لا خرج مرارة طعم الموت من حلقي فقال له: متّ يوم متّ و أنت على ما نرى أبيض الرّأس و اللّحية؟ قال: لا و لكن لما سمعت الصيحة اخرج اجتمعت تربة عظامى إلى روحى و بقيت فيه فخرجت فزعا شاخصا بصرى مهطعا إلى صوت الدّاعى فابيضّ لذلك رأسي و لحيتي.
و في عقايد الصّدوق (ره) قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: صف لنا الموت، فقال عليه السّلام:
على الخبير سقطتم هو أحد امور ثلاثة يرد عليه: إما بشارة بنعيم الأبد، و إما بشارة بعذاب الأبد و إما تخويف و تهويل و أمر مبهم لا يدرى من أىّ الفرق هو، أمّا وليّنا و المطيع لأمرنا فهو المبشّر بنعيم الأبد، و أما عدوّنا و المخالف لأمرنا فهو المبشّر بعذاب الأبد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 344
و أما المبهم أمره الذي لا يدرى ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدرى ما يؤل إليه حاله، يأتيه الخبر مبهما مخوفا ثمّ لن يشوبه اللّه عزّ و جلّ بأعدائنا و لكن يخرجه من النّار بشفاعتنا، فاعملوا و أطيعوا و لا تتّكلوا و لا تستصغروا عقوبة اللّه، فانّ من المسرفين من لا يلحقه شفاعتنا إلّا بعد عذاب اللّه بثلاثمأة ألف سنة قال: و سئل عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ما الموت الذي جهلوه؟
فقال: أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، و أعظم ثبور يرد على الكافرين إذا نقلوا من جنّتهم إلى نار لا تبيد و لا تنفد.
قال: و قيل لعليّ بن الحسين عليه السّلام: ما الموت؟ قال: للمؤمن كنزع ثياب و سخة قملة أو فكّ قيود و أغلال ثقيلة و الاستبدال بأفخر الثّياب و أطيبها روايح و أوطى المراكب و آنس المنازل، و للكافر كخلع ثياب فاخرة و النقل عن منازل أنيسة و الاستبدال بأوسخ الثياب و أخشنها و أوحش المنازل و أعظم العذاب.
قال: و قيل للصادق عليه السّلام: صف لنا الموت، فقال: هو للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فينفس لطيبه فيقطع التعب و الألم كلّه عنه، و للكافر كلسع الأفاعى و لذع العقارب و أشدّ، قيل له: فانّ قوما يقولون هو أشدّ من نشر بالمناشير و قرض بالمقاريض و رضخ بالحجارة و تدوير قطب ارحية في الأحداق، فقال: هو كذلك على بعض الكافرين و الفاجرين، ألا ترون من يعاين تلك الشدائد، فذلكم الذي هو أشد من هذا و هو أشدّ من عذاب الدّنيا، قيل: فما لنا نرى كافرا يسهل عليه النزع فينطفى و هو يتحدّث و يضحك و يتكلّم، و في المؤمنين من يكون أيضا كذلك، و في المؤمنين و الكافرين من يقاسى عند سكرات الموت هذه الشدائد؟ فقال عليه السّلام: ما كان راحة للمؤمن فهو من عاجل ثوابه، و ما كان من شدّة فهو تمحيصه من ذنوبه ليرد إلى الآخرة تقيا طاهرا نظيفا مستحقا لثواب اللّه ليس له مانع دونه، و ما كان هناك من سهولة على الكافرين فليستوفي أجر حسناته في الدّنيا ليرد إلى الآخرة و ليس له إلّا ما يوجب عليه العذاب، و ما كان من شدّة على الكافرين هناك فهو ابتداء عقاب اللّه تعالى عند نفاد حسناته، ذلك بأنّ اللّه عزّ و جلّ عدل لا يجور.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 345
و روى عن الصّادق عليه السّلام قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه ما بالى لا أحبّ الموت؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألك مال؟ قال: نعم، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قدمته أمامك قال: لا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فمن ثمّ لا تحبّ الموت.
قال: و جاء رجل إلى أبي ذر رحمه اللّه و قال ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمّرتم الدّنيا و خرّبتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب، و قيل له كيف ترى قدومنا على اللّه تعالى؟ فقال: أما المحسن فكالغائب يقدم على اهله، و أما المسى ء فكالآبق يقدم على مولاه و هو منه خائف، قيل: و كيف ترى حالنا عند اللّه؟ قال: اعرضوا أعمالكم على كتاب اللّه تعالى حيث يقول:
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال رجل «الرجل ظ» فأين رحمة اللّه؟ قال: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» .
تنبيه:
أحببت أن أورد هنا الرّواية المتضمّنة لتكلّم الميّت مع سلمان الفارسي رضى اللّه عنه و ما أخبره به من حالات سكرات الموت و ما بعدها من الشدائد و الدّواهى لأنّ فيها تنبيها للغافلين و تذكرة للجاهلين.
فأقول: روى غير واحد من أصحابنا أنار اللّه برهانهم عن أبي الفضل سديد الملّة و الدّين شاذان بن جبرئيل بن إسماعيل بن أبي طالب القمّي في الجزء الثاني من كتابه كتاب الفضايل عن أبي الحسن بن عليّ بن محمّد المهدي بالاسناد الصّحيح عن الأصبغ ابن نباته أنه قال: كنت مع سلمان الفارسى و هو أمير المداين في زمان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و ذلك أنه قد ولّاه المداين عمر بن الخطاب فقام إلى أن ولي الأمر عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
قال الأصبغ فأتيته يوما و قد مرض مرضه الذى مات فيه، قال: فلم أزل أعوده
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 346
في مرضه حتّى اشتدّ به الأمر و أيقن بالموت، قال: فالتفت إلىّ و قال لي: يا أصبغ عهدى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يا سلمان سيكلّمك ميّت إذا دنت وفاتك و قد اشتهيت أن أدرى وفاتي دنت أم لا، فقال الأصبغ: بماذا تأمرني يا سلمان يا أخي؟ قال له ان تخرج و تأتيني بسرير و تفرش لي عليه ما يفرش للموتى ثمّ تحملني بين أربعة فتأتون بي الى المقبرة.
فقال الاصبغ: حبا و كرامة، فخرجت مسرعا و غبت ساعة و أتيته بسرير و فرشت عليه ما يفرش للموتى، ثمّ أتيته بقوم حملوه إلى المقبرة، فلما وضعوه فيها قال لهم:
يا قوم استقبلوا بوجهى القبلة، فلما استقبل بوجهه القبلة نادى بأعلى صوته:
السّلام عليكم يا أهل عرصة البلاء، السّلام عليكم يا محتجبين عن الدّنيا قال: فلم يجبه أحد فنادى ثانية، السّلام عليكم يا من جعلت المنايا لهم غذاء، السلام عليكم يا من جعلت الأرض عليهم غطاء، السّلام عليكم يا من القوا أعمالهم في دار الدّنيا، السّلام عليكم يا منتظرين النفخة الاولى سألتكم باللّه العظيم و النبيّ الكريم إلّا أجابني منكم مجيب فأنا سلمان الفارسى مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانه قال لي: يا سلمان إذا دنت وفاتك سيكلّمك ميّت، قد اشتهيت أن أدرى دنت وفاتي أم لا.
فلما سكت سلمان من كلامه فاذا هو بميّت قد نطق من قبره و هو يقول:
السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته، يا أهل البناء و الفناء المشتعلون بعرصة الدّنيا و ما فيها، نحن لكلامك مستمعون، و لجوابك مسرعون فسل عمّا بدا لك يرحمك اللّه تعالى.
قال سلمان: أيّها الناطق بعد الموت و المتكلّم بعد حسرة الفوت أمن أهل الجنة بعفوه أم من أهل النار بعدله؟ فقال: يا سلمان أنا ممن أنعم اللّه تعالى عليه بعفوه و كرمه، و أدخله الجنة برحمته.
فقال له سلمان: الآن يا عبد اللّه صف لى الموت كيف وجدته و ما ذا لقيت منه و ما رأيت و ما عاينت؟ قال: مهلا يا سلمان فواللّه إنّ قرضا بالمقاريض و نشرا بالمناشير لأهون علىّ من غصّة من غصص الموت، و تسعين ضربة بالسّيف أهون من نزعة من نزعات الموت.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 347
فقال سلمان: ما كان حالك في دار الدّنيا؟
قال: اعلم أني كنت في دار الدّنيا ممن ألهمني اللّه تعالى الخير و العمل به و كنت اؤدّى فرائضه و أتلو كتابه، و كنت أحرص في برّ الوالدين و أجتنب الحرام و المحارم و أنزع من المظالم و اكدّ اللّيل و النّهار في طلب الحلال خوفا من وقعة السؤال، فبينا أنا في ألذّ العيش و غبطة و فرح و سرور إذ مرضت و بقيت في مرضى أيّاما حتى انقضت من الدّنيا مدّتي و قربت موتى، فأتانى عند ذلك شخص عظيم الخلقة فظيع المنظر فوقف «1» مقابل وجهى لا إلى السماء صاعدا و لا إلى الأرض نازلا، فأشار إلى بصرى فأعماه، و إلى سمعى فأصمه، و إلى لسانى فأخرسه فصرت لا ابصر و لا اسمع و لا انطق، فعند ذلك بكى أهلى و اخواني و ظهر بخبرى إلى اخواني و جيراني.
فقلت له عند ذلك: من أنت يا هذا الذي أشغلتني عن مالي و أهلي و ولدي فقد ارتعدت فرايصي من مخافتك.
فقال: أنا ملك الموت أتيتك لقبض روحك و لأنقلك من دار الدّنيا إلى دار الآخرة، فقد انقضت مدّتك من الدّنيا، و جاءت منيّتك.
و بينا هو كذلك يخاطبني إذا أتاني شخصان و لهما منظر أحسن ما يكون و ما رأيت من الخلق أحسن منهما، فجلس أحدهما عن يميني و الآخر عن شمالي فقالا:
السّلام عليك أيها العبد و رحمة اللّه و بركاته، قد جئناك بكتابك فخذه الآن و انظر ما فيه
______________________________
(1) لعلّ هذا الرجل قد كان عليه من الذنوب ما أراد اللّه تمحيصها عنه عند الموت و لذا رأى ملك الموت على تلك الصورة كما ترى انه ما ذكر حضور الوصى (ع) عند موته و قد قامت به الضرورة و فى الامالى من صام أربعة و عشرين يوما من رجب فاذا نزل به ملك الموت ترائى له في صورة شاب عليه حلة من ديباج اخضر على فرس من افراس الجنان و بيده حرير اخضر ممثلا بالمسك الاذفر و بيده قدح من ذهب مملو من شراب الجنان فسقاه اياه عند خروج نفسه يهون عليه سكرات الموت الخبر. نفس الرحمن.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 348
فقلت لهما: من أنتما يرحمكما اللّه و أىّ كتاب لى أنظره و أقرء؟
فقالا: نحن الملكان اللّذان كنامعك في دار الدّنيا على كتفيك نكتب مالك و ما عليك فهذا كتاب عملك، فلما نظرت في كتاب حسناتى بيد الرّقيب فسرّ لى ما فيه و ما رأيت من الخير و فرحت و ضحكت عند ذلك و فرحت فرحا شديدا، و نظرت إلى كتاب السّيئآت و هو بيد العتيد فسائنى ما رأيت و أبكاني، فقالا لي: ابشر فلك الخير.
ثمّ دنى منى الشخص الأوّل فجذب الرّوح فليس من جذبة يجذبها إلّا و هى تقوم مقام كلّ شدّة من السّماء إلى الأرض، فلم يزل كذلك حتّى صارت الروح في صدرى، ثمّ أشار الىّ بجذبة لو أنّها وضعت على الجبال لذابت، فقبض روحي من عرنين أنفي فعلا من اهلي عند ذلك الصّراخ و ليس من شي ء يقال أو يفعل إلّا و أنا به عالم.
فلما اشتدّ صراخ القوم و بكاؤهم جزعا علىّ التفت اليهم ملك الموت بغيض و حنق و قال: معاشر القوم ممّ بكائكم فو اللّه ما ظلمناه فتشكون و لا اعتدينا عليه فتصيحون و تبكون و لكن نحن و أنتم عبيد ربّ واحد و لو امرتم فينا كما امرنا فيكم لا متثلتم فينا كما امتثلنا فيكم، و اللّه ما أخذناه حتى فنى رزقه و انقطعت مدّته و صار إلى ربّ كريم يحكم فيه ما يشاء و هو على كلّ شي ء قدير فان صبرتم أوجرتم و إن جزعتم أثمتم كم لي من رجعة إليكم آخذ البنين و البنات و الآباء و الأمّهات.
ثمّ انصرف عند ذلك عنّى و الروح معه فعند ذلك أتاه ملك آخر فأخذها منه و طرحها في ثوب أخضر من الحرير و صعد بها و وضعها بين يدي اللّه في أقلّ من طبقة جفن.
فلمّا حصلت الرّوح بين يدي ربي سبحانه سألها عن الصغيرة و الكبيرة، و عن الصّلاة و الصّيام في شهر رمضان و حجّ بيت اللّه الحرام و قراءة القرآن و الزكاة و الصّدقات و ساير الأوقات و الأيام و طاعة الوالدين و عن قتل النفس بغير الحقّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 349
و أكل مال اليتيم و مال الرّبا و الزّنا و الفواحش و عن مظالم العباد، و عن التهجّد باللّيل و النّاس نيام و ما يشاكل ذلك، و ما بعد ذلك ردّت الرّوح إلى الأرض باذن اللّه تعالى.
فعند ذلك أتاني الغاسل فجرّدنى من أثوابي و أخذ في تغسيلى، فنادته الرّوح باللّه عليك يا عبد اللّه رفقا بالبدن الضعيف فو اللّه ما خرجت من عرق إلّا انقطع و لا من عضو إلّا انصدع فو اللّه لو سمع الغاسل ذلك القول لما غسل ميّتا أبدا.
ثمّ أنّه أجرى علىّ الماء و غسّلنى ثلاثة أغسال و كفّننى في ثلاثة أثواب و حنّطنى بحنوط و هو الزّاد الذي خرجت به الى الآخرة، ثمّ جذب الخاتم من يدي اليمنى فدفعه إلى أكبر أولادى و قال: آجرك اللّه في أبيك و أحسن لك الاجر و العزاء.
ثمّ أدرجنى في الكفن و لفّنى و نادى أهلى و جيرانى و قال هلمّوا إليه بالوداع فقاموا عند ذلك لو داعى.
فلمّا فرغوا من وداعى حملت على سرير خشب و حملوني على أكتاف أربعة، و الرّوح عند ذلك بين وجهى و كفى واقفة على نعشي و هى تقول: يا أهلى و أولادي لا تلعب بكم الدّنيا كما لعبت بي، فهذا ما جمعته من حلّ و من غير حلّ و خلّفته بالهناءة و الصّحة فاحذروني فيه.
و لم أزل كذلك حتى وضعت للصّلاة فصلّوا علىّ، فلما فرغوا من الصّلاة و حملت إلى قبرى ادليت فيه ثمّ رفعت روحى بين كتفى و وجهى ادنيت من قبرى و طرحت على شفير القبر، فعاينت هو لا عظيما.
يا سلمان يا عبد اللّه لما وضعت في قبرى خيّل لي أنّي سقطت من السّماء إلى الأرض في لحدى، و شرج علىّ اللّبن و حثى علىّ التراب و زارونى «و ارونى ظ» و انصرفوا، فرجعت الرّوح إلىّ فأخذت في النّدم فقلت: يا ليتنى كنت مع الراجعين.
فعند ذلك سلبت الرّوح من اللّسان و انقلبت السّمع و البصر فلما نادى المنادى بالانصراف أخذت في الندم و بكيت من القبر و ضيقه و ضغطته و كنت قلت: يا ليتنى كنت مع الراجعين لعملت عملا صالحا فجاوبنى مجيب من جانب القبر: «كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» .
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 350
فقلت من أنت يا هذا الذي تكلّمني و تحدّثنى؟ قال: أنا منبّه، قلت: و ما منبّه؟
قال: أنا ملك و كلنى اللّه بجميع خلقه لأنبّههم بعد مماتهم ليكتبوا أعمالهم على أنفسهم بين يدي اللّه.
ثمّ إنّه جذبني و أجلسني و قال لي: اكتب عملك و مالك و ما عليك في دار الدّنيا، قلت: انى لا احصيه و لا أعرفه، قال: أو ما سمعت قول ربّك: أحصيه اللّه و نسوه؟ ثمّ قال لي: اكتب الآن و أنا أملي عليك، فقلت: أين البياض؟ فجذب جانبا من كفنى فاذا هو رقّ فقال: هذه صحيفتك، فقلت: من أين القلم؟ قال: سبّابتك، فقلت: من أين المداد؟ فقال: ريقك.
ثمّ أملى علىّ جميع ما فعلته في دار الدّنيا من أوّل عمرى إلى آخره، فلم يبق من أعمالى صغيرة و لا كبيرة، ثمّ تلى علىّ: «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».
ثمّ إنّه أخذ الكتاب و ختمه بخاتم و طوّقه في عنقى فخيّل لي أنّ جبال الدّنيا جميعا قد طوّقها في عنقى، فقلت له: يا منبّه و لم تفعل بي هكذا؟ قال: ألم تسمع قول ربّك «وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً».
فهذا ما تخاطب به يوم القيامة و يؤتى بك و بكتابك بين عينيك منشورا لتشهد به على نفسك.
ثمّ انصرف عنّى فبقيت أبكى على نفسي على حسرة الدّنيا و أقول: يا ليتني عملت خيرا حتّى لا يكتب علىّ شرّ.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 351
فبينا أنا كذلك و إذا أنا بملك منكر أعظم منظرا و أهول شخصا ما رأيته في الدّنيا، و معه عمود من الحديد لو اجتمعت عليه الثقلان ما حرّكوه، فراعنى و أفزعني و هدّدنى و دنا منّى فجذبنى بلحيتي، ثمّ انه صاح بي صيحة لو سمعها أهل الأرض لماتوا جميعا ثمّ قال لي: يا عبد اللّه أخبرني من ربّك و من نبيّك و ما دينك و ما كنت عليه في دار الدّنيا؟ فاعتقل لساني من فزعه و تحيّرت في أمرى و ما أدرى ما أقول و ليس في جسمي عضو إلّا فارقنى من الفزع و انقطعت أعضائى و أوصالى من الخوف.
فأتتني رحمة من ربّي فأمسك بها في قلبي و شدّ بها ظهرى و اطلق بها لساني و رجع إلىّ ذهني فقلت له عند ذلك: يا عبد اللّه لم تفزعني و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّ اللّه ربّي و محمّد نبيّي و الاسلام ديني و القرآن كتابي و الكعبة قبلتي و عليّ امامي و بعده أولاده الطاهرون أئمتي، و المؤمنون اخواني و أنّ الموت حقّ و السّؤال حقّ و الصّراط حقّ و الجنة حقّ و النّار حقّ و أنّ السّاعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من فى القبور فهذا قولي و اعتقادي و عليه القى ربّي في معادي.
فعند ذلك قال لي: يا عبد اللّه ابشر بالسلامة فقد نجوت منّي فنم نومة العروس ثمّ مضى عنّى.
ثمّ أتاني شخص أهول منه يعرف بنكير، فصاح صيحة هائلة أعظم من صيحة الاولى، فاشتبكت أعضائي بعضها في بعض كاشتباك الأصابع، ثمّ قال لي: هات الآن عملك يا عبد اللّه و ما خرجت عليه من دار الدّنيا و من ربّك و من نبيّك و ما دينك؟ فبقيت حايرا متفكّرا في ردّ الجواب لا أعرف جوابا و لا انطق بخطاب لما رأيت و سمعت منه.
فعند ذلك صرف اللّه عنّي شدّة الرّوع و الفزع و ألهمني حجّتي و حسن التوفيق و اليقين فقلت: ارفق بي و لا تزعجني يا عبد اللّه و امهل علىّ حتّى أقول لك، فقال: قل
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 352
فقلت: اني خرجت من شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و الأئمة الطاهرين من ذرّيته أئمتي و أنّ الموت حقّ و القبر حقّ و الصّراط حقّ و الميزان حقّ و الحساب حقّ و مسائلة منكر و نكير حقّ، و أنّ الجنّة و ما وعد اللّه فيها من النّعيم حقّ و أنّ النّار و ما وعد اللّه من العذاب حقّ، و أنّ السّاعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من في القبور.
ثمّ قال لي: يا عبد اللّه ابشر بالنّعيم الدّائم و الخير المقيم ثمّ إنّه أضجعنى و قال: نم نومة العروس، ثمّ انه فتح لي بابا من عند رأسي إلى الجنّة و بابا من عند رجلي الى النار ثمّ قال لي: يا عبد اللّه انظر إلى ما صرت إليه في الجنّة و إلى ما نجوت منه من نار الجحيم، ثمّ سدّ الباب التي من عند رجلي و ابقى الباب الذي هو من عند رأسي فجعل يدخل علىّ من روح الجنّة و نعيمها و أوسع لحدى مدّ البصر «1» و اسرج لي سراجا أضوء من الشمس و القمر و خرج عنّي.
فهذه صفتي و حديثي و ما لقيته من شدّة الأهوال، و أنا أشهد باللّه أنّ مرارة الموت في حلقي إلى يوم القيامة، فراقب اللّه أيّها السائل من رفعة المسائل، و خف من هول المطّلع و ما قد ذكرته، هذا الذى لقيته و أنا من الصّالحين ثمّ انقطع عند ذلك كلامه عن سلمان.
فقال سلمان للأصبغ و من كان معه: هلمّوا إليّ و احملوني، فلمّا وصل إلى منزله قال: حطونى رحمكم اللّه، فلمّا حططناه إلى الأرض و شهدناه فقال:
اسندوني، ثمّ رمق بطرفه إلى السّماء و قال: يا من بيده ملكوت كلّ شي ء و إليه يرجعون و هو يجير و لا يجار عليه بك آمنت و عليك توكلت و بنبيّك أقررت و بكتابك صدقت، و قد أتاني ما وعدتني يا من لا يخلف الميعاد فلقني جودك، و أقبضنى إلى رحمتك، و أنزلني إلى دار كرامتك فاني اشهد اللّه لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له،
______________________________
(1) و مضى عنى و انا يا سلمان لم اجد عند اللّه شيئا يحبّه اللّه اعظم من ثلاثة: صلاة الليلة شديدة البرد، و صوم يوم شديدة الحرّ، و صدقة بيمينك لا يعلم بها شمالك «خ ل»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 353
و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ عليّا أمير المؤمنين و الأئمّة من ذرّيته أئمتّي و ساداتي فلمّا أكمل شهادته قضى نحبه و لقى ربّه رضى اللّه تعالى عنه.
فقال بينما نحن كذلك إذ أتا رجل على بعلة شهباء متلثّما فسلّم علينا فرددنا السّلام عليه فقال: يا أصبغ اجهدوا في أمر سلمان، فأخذنا في أمره فأخذ معه حنوطا و كفنا فقال: هلمّوا فانّ عندى ما ينوب عنه، فأتيناه بماء و مغسل، فلم يزل يغسله بيده حتّى فرغ و كفّنه و صلّى عليه فصلّينا خلفه، ثمّ إنّه دفنه بيده فلمّا فرغ من دفنه همّ بالانصراف تعلّقنا به و قلنا له: من أنت يرحمك اللّه؟
فكشف لنا عن وجهه فسطع النور من ثناياه كالبرق الخاطف فاذا هو أمير المؤمنين فقلت له يا أمير المؤمنين كيف كان مجيئك و من أعلمك بموت سلمان؟
قال: فالتفت إلىّ و قال: آخذ عليك يا أصبغ عهد اللّه و ميثاقه و أنّك لا تحدّث به أحدا ما دمت حيّا في دار الدّنيا، فقلت يا أمير المؤمنين أموت قبلك فقال: لا يا أصبغ بل يطول عمرك، قلت له: يا أمير المؤمنين خذ علىّ عهدا و ميثاقا فانّي لك سامع مطيع انى لا احدّث به حتّى يقضى اللّه من أمرك ما يقضى و هو على كلّ شي ء قدير.
فقال: يا أصبغ بهذا عهدني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاني قد صلّيت هذه السّاعة بالكوفة و قد خرجت اريد منزلي فلمّا وصلت إلى منزلي اضطجعت، فأتاني آت في منامى و قال: يا على إنّ سلمان قد قضى نحبه فركبت بغلتي و أخذت معى ما يصلح للموتى فجعلت أسير فقرّب اللّه لى البعيد كما ترانى، و بهذا أخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم انه دفنه و واراه فلم أر أصعد إلى السّماء أم في الأرض نزل، فأتى الكوفة و المنادى ينادى بصلاة المغرب فحضر عندهم. «1» و هذا ما كان من حديث وفاة سلمان الفارسي (ره) على التمام و الكمال و الحمد للّه حقّ حمده و قد رويت الخبر على طوله لاقتضاء المقام ذلك من حيث اشتماله على
______________________________
(1) هذه الرواية كما ترى صريحة فى أنّ وفات سلمان رضى اللّه عنه كان أيام خلافة أمير المؤمنين (ع) بالكوفة و المستفاد من الروايات الاخر أنّ وفاته كان عند كونه (ع) بالمدينة و لعلّنا نشير الى تلك في أواخر الشرح ان ساعدنا التوفيق انشاء اللّه، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 354
كثير من أحوال الميّت و أهوال البرزخ المسوق لها هذا الفصل من كلامه عليه السّلام، و أوردت ذيله مع خروجه عن مقتضى المقام لانّى إن ساعدني التوفيق إنشاء اللّه اورد في شرح باب الكتب و الوصايا مبدء أمر سلمان و كيفيّة اسلامه و بعض مناقبه فأحببت أن اورد هنا مآل أمره و منتهاه ليطلع النّاظر في الشرح على بداية حاله و نهايته مع ما فيه من اعجاز عجيب لأمير المؤمنين سلام اللّه عليه و على آله الطّيبين هذا.
و لا يخفى ما في هذه الرّواية من الكفاية للمهتدى الطالب للرّشاد، بما فيها من التّنبيه و الايقاظ من الغفلة و الرقاد، فانّ هذا الميّت مع كونه ممّن ألهمه اللّه الخير و الصلاح و كونه من أهل السعادة و الفلاح إذا كان حاله ذلك، و مصير أمره كذلك فكيف بنا و نحن المنهمكون في الشّهوات و المستغرقون في بحار السّيئآت.
تروّ عنا الجنائز مقبلات و نلهوحين تذهب مدبرات
كروعة ثلّة لمغار ذئب فلمّا غاب عادت راتعات
اشتغلنا ببدوات الخواطر، و نسينا اللّه و اليوم الآخر، و غفلنا عن أخذ الزاد ليوم المعاد، و لا سبب لهذه الغفلة إلّا قسوة القلوب بكثرة المعاصي و الذّنوب، فليس لنا خلاص و مناص، و لا معاذ و لا ملاذ، و لا مطمع و لا رجاء إلّا في بحر الكرم و الجود، و التّفضل من واجب الوجود
و لما قسى قلبي و ضاقت مذاهبي جعلت رجائى نحو عفوك سلّما
تعاظمنى ذنبي فلمّا قرنته بعفوك ربّي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذّنب لم تزل تجود و تعفو منّة و تكرّما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 355
الترجمة:
پس قابل وصف و تعريف نيست چيزى كه نازلشد به آنها، جمع شد برايشان سختي و شدت مرگ و حسرت و پشيماني وفات، پس سست گشت از جهة سكرات موت اعضاء ايشان، و تغيير يافت از جهة آن رنگهاى ايشان.
بعد از آن افزون شد مرگ در ايشان از حيثيت دخول، پس حايل شد ميان هر يك از ايشان و ميان سخن گفتن او، و بدرستى كه او در ميان اهل خود نگاه ميكند بديده خود و مى شنود بگوش خود بر صحت عقل خود و باقي بودن ادراك خود، تفكر مى كند كه در چه چيز فاني كرد عمر خود را، و در چه چيز گذرانيد روزگار خود را، و بياد مى آورد مالهائى را كه جمع نمود آنها را، و اغماض نمود در مواضع طلب آنها، و أخذ نمود آنها را از جاهائى كه واضح و روشن بود حليّت آن، و از جاهاى شبهه ناك آنها بتحقيق كه لازم شد او را گناههاى جمع آورى آنها، و مشرف شد بر مفارقت آنها باقي ماند آنها از براى پس ماندگان او در حالتى كه منعم ميشوند بر آنها، و متمتع مى باشند به آنها، پس باشد گوارائى آن اموال از براى غير او، و بار گران و وزر و بال آنها بر پشت او، و حال آنكه آن مرد بسته شده گروهاى او بسبب آن مالها، پس او گزد دندان خود را از روى ندامت و پشيمانى بر آنچه كه ظاهر شد باو در حين مرگ از امر خود، و ترك رغبت ميكند در آنچه كه راغب بود در آن در مدّت عمر خود، و آرزو ميكند اين كه كاشكى آن شخصى كه غبطه مى نمود باو بسبب آن اموال و حسد مى برد بر او در آنها آن شخص حيازت نمودى و جمع مى كردى آنها را نه او.
پس هميشه مرگ ثابت بود مبالغه مى كرد در بدن او تا آنكه آميخته شد بقوّه ناطقه او سامعه او، پس گرديد در ميان اهل خود بحيثيتى كه قادر نبود سخن بگويد با زبان خود، و نه بشنود با گوش خود در حالتى كه گرداند چشم خود را بنگاه كردن در رويهاى ايشان، بيند حركتهاى زبانهاى ايشان را، و نمى شنود ترديد سخنان و جواب باز دادن ايشان را.
پس از آن زياده مى شود مرگ در حيثيّت چسبيدن باو، پس أخذ كند چشم او را همچنان كه قبض نمود گوش او را، و خارج شود روح از تن او، پس گردد جيفه و مردارى در ميان اهل خود در حالتى كه وحشت كنند از جانب او و دورى جويند از نزديكى او، و موافقت نمى كند گوينده خود را، و جواب نمى تواند بدهد برخواننده خود.
پس از آن بردارند او را بسوى منزل او در زمين پس سپارند او را در آن منزل بعمل خودش و بريده شوند از زيارت كردن او.
شارح فقير كثير التقصير مى گويد كه مخفى نماند كفايت اين كلام بلاغت نظام در مقام وعظ و تذكير و انذار و تحذير و هدايت سرگشتگان باديه ضلالت و نجات دادن غرق شدگان درياى غفلت را، و لنعم ما قيل:
دلا يكدم از خواب بيدار شو ز سر مستى كبر هشيار شو
بعبرت نظر كن سوى رفتگان كه فردا شوى عبرت ديگران
بزرگى كه سودى بگردون سرش نگه كن كه چون خاك شد پيكرش
ز دور زمان نگذرد اندكى كه خواهى تو هم بود از ايشان يكى