منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 382
و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و التاسعة من المختار في باب الخطب و هى ملتقطة من خطبة طويلة معروفة بالديباج رواها حسن بن على ابن شعبة فى تحف العقول حسبما تطلع عليه بعد شرح ما فى المتن و هو قوله:
إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللّه سبحانه الإيمان به و برسوله، و الجهاد في سبيله، فإنّه ذروة الإسلام، و كلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، و إقام الصّلوة فانّها الملّة، و إيتاء الزّكوة فإنّها فريضة واجبة، و صوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب، و حجّ البيت و اعتماره فإنّهما ينفيان الفقر و يرحضان الذّنب، و صلة الرّحم فإنّها مثراة في المال و منسأة في الأجل، و صدقة السّرّ فإنّها تكفّر الخطيئة، و صدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء، و صنايع المعروف فإنّها تقى مصارع الهوان. أفيضوا في ذكر اللّه فإنّه أحسن الذكر، و ارغبوا فيما وعد المتّقين فإنّ وعده أصدق الوعد، و اقتدوا بهدى نبيّكم فإنّه أفضل الهدى، و استنّوا بسنّته فإنّها أهدى السّنن، و تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، و تفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، و استشفوا بنوره فإنّه شفاء الصّدور، و أحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص، فإنّ العالم العامل بغير علمه، كالجاهل الحائر الّذي لا يستفيق من جهله، بل الحجّة عليه أعظم، و الحسرة له ألزم، و هو عند اللّه ألوم. (22479- 22311)
اللغة:
(و سل) الى اللّه توسيلا عمل عملا تقرّب به اللّه كتوسّل و مجاز (الايمان) إفعال من الأمن الّذي هو خلاف الخوف ثمّ استعمل بمعنى التصديق، فالهمزة فيه إمّا للصّيرورة كان المصدق صار ذا أمن من أن يكون مكذّبا، أو للتعدية كانّه جعل المصدّق هنا من التكذيب و المخالفة، و يعدى بالباء لاعتبار معنى الاقرار و الاعتراف كما في عبارته، و نحوه قوله: يؤمنون بالغيب، و باللّام لاعتبار معنى الاذعان نحو قوله تعالى: و ما أنت بمؤمن لنا، و قد اجتمعا في قوله تعالى: يؤمن باللّه و يؤمن للمؤمنين.
(ذروة) الشيء أعلاه و (الجنّة) بالضمّ كلّ ما وقى و (و اعتمر) الرّجل زار البيت و المعتمر الزائر و منه سميّت العمرة عمرة لأنها زيارة البيت يقال اعتمر فهو معتمر أى زار و قصد، و فى الشرع زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة مذكورة في محالها و (رحض) الثوب و نحوه بالحاء المهملة و الضاد المعجمة من باب منع غسله كأرحضه فهو رحيض و مرحوض و (ثرى) المال ثرا كثر و نمى، و الثروة كثرة العدد من الناس و المال، و هذا مثراة للمال بهمز و غيره تكثرة و (المنسأة) بالهمز و غيره أيضا كمثراة وزان مفعلة بالفتح فالسكون محل النّساء يقال نسأت التي نسأ أخرته و منه الحديث: صلة الرّحم تنسىء الأجل أى تؤخّره و (صرعه) كمنعه طرحه على الأرض و المصرع وزان مقعد موضع الصّرع و (الافاضة) الاندفاع و منه افاض الناس من عرفات أى اندفعوا و قيل اسرعوا منها الى مكان آخر قوله تعالى إذ تفيضون فيه، أى تدفعون فيه بكثرة و (الهدى) بالضمّ الرّشاد مصدر يقال هداه اللّه هدى و هداية أرشده، و بالفتح وزان تمر الهيئة و السيرة و الطريقة و منه قولهم: هدى هدى فلان أى سلك مسلكه و (الحائر) المتحيّر.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 383
الاعراب:
قوله: إلى اللّه سبحانه لفظ سبحانه منصوب على المصدر محذوف عامله وجوبا باضافته إلى الضمير، و المعنى اسبّحك سبحانا لك، و لنجم الأئمة الرّضي في حذف عوامل المصادر تحقيق نفيس أحببت ايراده.
قال في شرح قول ابن الحاجب: و قد يحذف الفعل لقيام قرينة جوازا كقولك لمن قدم خير مقدم و وجوبا سماعا نحو سقيا و رعيا و خيبة و جدعا و حمدا و شكرا و عجبا: أقول: الذي أرى أنّ هذه المصادر و أمثالها إن لم يأت بعدها ما يبيّنها و يعيّن ما تعلّقت به من فاعل أو مفعول إما بحرف جرّ أو باضافة المصدر إليه فليست مما يجب حذف فعله بل يجوز نحو سقاك اللّه سقيا و رعاك اللّه رعيا فأمّا ما يبيّن فاعله بالاضافة نحو كتاب اللّه و سنة اللّه و وعد اللّه، أو يبيّن مفعوله بالاضافة نحو ضرب الرقاب و سبحان اللّه و لبيّك و سعديك و معاذ اللّه، أو يبيّن فاعله بحرف الجرّ نحو بؤسا لك و سحقا لك أى بعدا، أو يبيّن مفعوله بحرف جرّ نحو عقرا لك أى جرحا و شرّا لك و حمدا لك و عجبا منك، فيجب حذف الفعل في جميع هذا قياسا.
و المراد بالقياس أن يكون هناك ضابط كلّي يحذف الفعل حيث حصل ذلك الضّابط، و الضّابط ههنا ما ذكرنا من ذكر الفاعل أو المفعول بعد المصدر مضافا إليه أو بحرف الجرّ.
و إنّما وجب حذف الفعل مع هذا الضّابط لأنّ حقّ الفاعل و المفعول به أن يعمل فيهما الفعل فيتصلا به، و استحسن حذف الفعل في بعض المواضع إما إبانة لقصد الدوّام و اللزوم بحذف ما هو موضوع للحدوث و التجدّد أى الفعل في نحو حمدا لك و شكرا لك و عجبا منك و معاذ اللّه و سبحان اللّه، و إمّا لتقدّم ما يدلّ عليه كما في قوله تعالى: كتاب اللّه عليكم، و صبغة اللّه، و وعد اللّه، أو لكون الكلام ممّا يستحسن الفراغ منه بالسرعة نحو لبيك و سعديك، فبقى المصدر مبهما لا يدرى ما تعلق به من فاعل أو مفعول فذكر ما هو مقصود المتكلّم من أحدهما بعد المصدر ليختصّ به، فلمّا بيّنها بعد المصدر بالاضافة أو بحرف الجرّ قبح اظهار الفعل بل لم يجز فلا يقال كتاب كتاب اللّه و وعد وعد اللّه و اضربوا بضرب الرّقاب و اسبّح سبحان اللّه و أحمد حمدا لك و عقر اللّه عقرا لك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 384
و ذلك لما ذكرناه من أنّ حقّ الفاعل و المفعول أن يتّصلا بالفعل معمولين له، فلما حذف الفعل لأحد الدّواعي المذكورة و بين المصدر إمّا بالاضافة أو بحرف الجرّ فلو ظهر الفعل رجع الفاعل أو المفعول إلى مكانه و مركزه متصلا بالفعل و معمولا له.
فاحفظ ذلك فانه ينفعك في كثير من الموارد و اعراب ساير الفقرات واضح.
المعنى:
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للارشاد إلى بعض أسباب القرب و الوسايل التي يتوسل بها إلى اللّه سبحانه، و للأمر بالافاضة إلى ذكر اللّه، و ببعض ما يدرك به رضوان اللّه حسبما تطلع على تفصيله انشاء اللّه، و لما كان أسباب الزلفى و التقرّب كثيرة خصّ أفضلها بالبيان و هو على ما ذكره عشرة:
اولها الايمان:
كما أشار اليه بقوله: (إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون الى اللّه سبحانه الايمان به و برسوله) و تقديمه على غيره لكونه أصلا بالنسبة اليه، و المراد به هنا التصديق المجرّد عن الاقرار و العمل بقرينة ذكر كلمة الاخلاص التي هو الاقرار و ساير العبادات التي هو من باب الأعمال بعده، و تحقيق المقام يحتاج إلى بسط في المقال و بيان الفرق بين الاسلام و الايمان.
فأقول: إنّك قد عرفت المعنى اللّغوى للايمان و أنه التّصديق، و أما الاسلام فمعناه لغة هو التّسليم و الانقياد، و أمّا في لسان الشرع فقد يستعملان على التساوق و الترادف كما في قوله تعالى: «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 385
و لم يكن بالاتفاق إلّا بيت واحد و قال تعالى: «يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» و قال تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ» .
و ربما استعملا على التقابل كما في قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ».
فقد نفى عنهم الايمان مع اثبات وصف الاسلام و المستفاد من كلام أكثر الأصحاب و معظم أخبار الأئمة الأطهار الأطياب أنّ الاسلام أعمّ من الايمان.
قال الصّادق عليه السّلام في رواية الفضيل بن يسار عنه عليه السّلام: الايمان يشارك الاسلام و الاسلام لا يشارك الايمان.
و في رواية سماعة بن مهران قال: سألته عن الايمان و الاسلام قلت: أفرق بين الاسلام و الايمان؟ قال: فأضرب لك مثله قال: قلت أراد «أورد خ» ذلك قال: مثل الايمان و الاسلام مثل الكعبة الحرام من الحرم، قد تكون في الحرم و لا تكون في الكعبة و لا تكون في الكعبة حتى تكون في الحرم، و قد يكون مسلما و لا يكون مؤمنا و لا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما.
و في رواية أبي الصباح الكناني قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أيّهما أفضل الايمان أو الاسلام؟ فانّ من قبلنا يقولون إنّ الاسلام أفضل من الايمان، فقال: الايمان أرفع من الاسلام، قلت: فاوجدنى ذلك، قال: ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 386
متعمّدا؟ قال: قلت: يضرب ضربا شديدا، قال: أصبت فما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمّدا؟ قلت: يقتل، قال: أصبت ألا ترى أنّ الكعبة أفضل من المسجد و أنّ الكعبة تشرك المسجد و المسجد لا يشرك الكعبة، و كذلك الايمان يشرك الاسلام و الاسلام لا يشرك الايمان.
فانّ المستفاد من هذه الرّوايات و أمثالها أنّه كلّما وجد الايمان وجد الاسلام لا بالعكس و ذلك.
(اما من جهة) أنّ الاسلام عبار عن التصديق بالظاهر أعني الاعتراف باللّسان و الايمان عبارة عن التّصديق بالباطن، و الأوّل غير مستلزم للثّاني و لذلك كذب اللّه سبحانه الأعراب بقوله: قل لم تؤمنوا، في دعويهم وصف الايمان لأنفسهم، حيث قالوا آمنّا، و ذلك لأجل أنهم لم يكونوا مصدّقين بالباطن و لم يكونوا على ثقة و طمأنينة فيما أقرّوا به ظاهرا، و أثبت لهم وصف الاسلام بقوله: و لكن قولوا أسلمنا باعتبار شهادتهم بالتوحيد و الرّسالة و اعترافهم ظاهرا.
و يدلّ على ما ذكرنا ما رواه في الكافي باسناده عن سماعة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني عن الاسلام و الايمان أهما مختلفان؟ فقال عليه السّلام: إنّ الايمان يشارك الاسلام و الاسلام لا يشارك الايمان فقلت: فصفهما لى، فقال عليه السّلام:
الاسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به حقنت الدّماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة النّاس، و الايمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الاسلام و ما ظهر من العمل به، و الايمان أرفع من الاسلام بدرجة، إنّ الايمان يشارك الاسلام في الظّاهر، و الاسلام لا يشارك الايمان في الباطن، و ان اجتمعا في القول و الصفة.
و نحوه رواية فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ الايمان يشارك الاسلام و لا يشاركه الاسلام، إنّ الايمان ما و قر في القلوب، و الاسلام ما عليه المناكخ و المواريث و حقن الدّما، و الايمان يشارك الاسلام، و الاسلام لا يشارك الايمان.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 387
فان قلت: إذا جعلت الايمان عبارة عن التصديق بالباطن فلا بدّ أن تكون النسبة بينهما عموما من وجه إذ كما أنّ التّصديق ظاهرا لا يستلزم التصديق بالباطن كلّيا، فكذلك العكس، إذ ربّما يذعن المرء باللّه و برسوله من دون أن ينطق بكلمتي الشهادة، بأن يصدّق بالقلب و لا يساعده من العمر مهلة النطق، نعم لا يحكم بايمانه إلّا بعد النطق و الكلام، لكون اللّسان ترجمان القلب، لكنه لا يقدح فيما ذكرنا لأنّ الكلام في منع الملازمة بين نفس الايمان و الاسلام لا في الحكم بكون الرجل مسلما و مؤمنا، فافهم.
قلت: التصديق بالباطن ملازم عادة للتصديق بالظاهر و إن لم يكن ملازما له عقلا كما فيما ذكرته من المثال، فانّ العرف و العادة قاضية بأنّ من كان مصدّقا بالباطن يكون لا محالة مصدّقا بالظاهر، و المثال المذكور فرد نادر نعم لو قيل بأنّ الايمان عبارة عن التصديق بالجنان و الاقرار باللّسان و العمل بالأركان أعنى مجموع الثلاثة ارتفع الاشكال رأسا، و كذا على مذهب من يعتبر فيه الاقرار باللّسان فقط شطرا كما عزى إلى المحقق الطّوسى حيث قال: بأنه مركب من الاقرار و التّصديق، أو شرطا كما نسب الى المتكلّمين من الخاصّة و بعض العامة.
(و اما من جهة) أنّ الاسلام عبارة عن الشّهادة بالتوحيد و الرسالة مع التصديق الباطني و بدونه، سواء كان معه الاقرار بالولاية و الاذعان بها أم لا، و الايمان يعتبر فيه ذلك.
و يرشد إليه ما رواه ثقة الاسلام الكليني باسناده عن سفيان بن السمط قال:
سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الاسلام و الايمان ما الفرق بينهما فلم يجبه ثمّ سأله فلم يجبه، ثمّ التقيا في الطريق و قد أزف من الرجل الرحيل فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام:
كأنه قد أزف منك رحيل، فقال: نعم، فقال: فالقنى في البيت فلقاه فسأله عن الاسلام و الايمان ما الفرق بينهما؟ فقال عليه السّلام: الاسلام ما هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و إقام الصّلاة و ايتاء الزكاة و حجّ البيت و صيام شهر رمضان
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 388
فهذا الاسلام، و قال: الايمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فان أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما و كان ضالا.
و عن عجلان بن أبي صالح قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أوقفنى على حدود الايمان، فقال: شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاقرار بجميع ما جاء من عند اللّه و صلاة الخمس و أداء الزكاة و صوم شهر رمضان و حجّ البيت و ولاية وليّنا و عداوة عدوّنا و الدخول مع الصّادقين.
فانّ المراد بالدّخول مع الصادقين الدّخول في زمرة آل محمّد سلام اللّه عليهم و الكون معهم كما قال: يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه و كونوا مع الصّادقين، على ما تقدّم تفصيله في شرح الفصل الثالث من فصول الخطبة السّادسة و الثمانين.
(و اما من جهة) أنّ الايمان يعتبر فيه العمل دون الاسلام أعنى العمل بما يقتضيه ذلك التّصديق.
و يدلّ عليه ما في الكافي عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: الايمان إقرار و عمل و الاسلام إقرار بلا عمل.
فانّ الظّاهر أنّ قوله: و الاسلام إقرار بلا عمل هو أنّ العمل غير معتبر فيه لا أنّ عدمه فيه معتبر، و يدلّ عليه أخبار أخر.
و فيه أيضا باسناده عن عبد الرّحيم القصير قال: كتبت مع عبد الملك بن أعين إلى أبى عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن الايمان ما هو، فكتب الىّ مع عبد الملك بن أعين: سألت رحمك اللّه عن الايمان، و الايمان هو الاقرار باللّسان و عقد في القلب و عمل بالاركان، و الايمان بعضه من بعض، و هو دار و كذلك الاسلام دار و الكفر دار، فقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا و لا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالاسلام قبل الايمان و هو لا يشارك الايمان فاذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى اللّه عزّ و جلّ عنها كان خارجا من الايمان ساقطا عنه اسم الايمان و ثابتا عليه اسم الاسلام، فان تاب و استغفر عاد إلى دار الايمان و لا يخرجه إلى الكفر إلّا الجحود و الاستحلال، أن يقول للحلال هذا حرام، و للحرام هذا حلال، و دان بذلك فعندها يكون خارجا من الاسلام و الايمان، داخلا في الكفر، و كان بمنزلة من
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 389
دخل الحرم ثمّ دخل الكعبة و أحدث في الكعبة حدثا فاخرج عن الكعبة و عن الحرم فضربت عنقه و صار إلى النار فقد ظهر لك مما ذكرنا كلّه أنّ الاسلام يصدق على مجرّد الاقرار باللّسان من غير تصديق، و على الاقرار و التّصديق مجرّدا عن الولاية، و على جميع ذلك مجرّدا من العمل، و الايمان يعتبر فيه ذلك، فيكون الايمان أخصّ لكنّ الانصاف أنّ العمل ليس داخلا في مفهوم الايمان حقيقة و إن كان شرطا في كماله.
أما أنّه غير داخل في حقيقته فللتبادر و عدم صحّة السلب و لقوله تعالى: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» و قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى» و قوله «الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» .
دلّ اقتران الايمان بالمعاصي فيها على أنّ العمل غير داخل في حقيقته و قوله تعالى «الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ».
دلّ على التّغاير و أنّ العمل ليس بداخل فيه لأنّ الشيء لا يعطف على نفسه و لا الجزء على كلّه و مثله كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا المقام و أمّا أنه شرط في كماله فللخبرين السابقين.
لا يقال: إنّ ظاهرهما كون العمل داخلا في مفهومه لا شرطا في كماله.
لأنا نقول: بعد تسليم الظهور لا بدّ من حملهما على ما ذكرنا بمقتضى الجمع بينهما و بين الأدلّة الّتي قدّمناها آنفا فان قلت: ما الدّليل على هذا الجمع؟
قلت: الدليل على ذلك ما رواه في الكافى عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن بكر بن صالح عن القاسم بن بريد قال: حدّثنا أبو عمر الزبيرى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 390
قال: قلت له: أيها العالم أخبرني أىّ الأعمال أفضل عند اللّه؟ قال: ما لا يقبل اللّه شيئا إلّا به، قلت: و ما هو؟ قال: الايمان باللّه الذي لا إله إلّا هو أعلى الأعمال درجة و أشرفها منزلة و أسناها حظا قال: قلت: ألا تخبرني عن الايمان أقول هو و عمل أم قول بلا عمل؟ فقال: الايمان عمل كلّه و القول بعض ذلك العمل بفرض من اللّه بيّن في كتابه واضح نوره ثابتة حجّته يشهد له به الكتاب و يدعوه اليه قال: قلت له: صفة لى جعلت فداك حتّى أفهمه، قال: الايمان حالات و درجات و طبقات و منازل: فمنه التامّ المنتهى تمامه، و منه الناقص البيّن نقصانه، و منه الراجح الزّايد رجحانه قلت: إنّ الايمان ليتمّ و ينقص و يزيد؟ قال: نعم، قلت: كيف ذاك؟
قال: لأنّ اللّه تبارك و تعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم و قسّمه عليها و فرّقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلّا و قد وكّلت من الايمان بغير ما وكّلت به اختها، فمنها قلبه الذى به يعقل و يفقه و يفهم، و هو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح و لا تصدر إلّا عن رأيه و أمره، و منها عيناه اللّتان يبصر بهما، و اذناه اللّتان يسمع بهما و يداه اللّتان يبطش بهما و رجلاه اللّتان يمشى بهما، و فرجه الذى الباه من قبله «قلبه خ» و لسانه الذي ينطق به، و رأسه الذي فيه وجهه فليس من هذه جارحة إلّا و قد وكلت من الايمان بغير ما وكلّت به اختها بفرض من اللّه تبارك و تعالى اسمه، ينطق به الكتاب لها و يشهد به عليها، ففرض على القلب غير ما فرض على العينين و فرض على العينين غير ما فرض على اللّسان، و فرض على اللّسان غير ما فرض على اليدين و فرض على اليدين غير ما فرض على الرّجلين، و فرض على الرّجلين غير ما فرض على الفرج و فرض على الفرج غير ما فرض على الوجه.
(فاما ما فرض) على القلب من الايمان فالاقرار و المعرفة و العقد و الرّضا و التسليم بأن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له إلها واحدا لم يتّخذ صاحبة و لا ولدا و أنّ محمّدا عبده و رسوله صلوات اللّه عليه و آله، و الاقرار بما جاء من عند اللّه من نبىّ أو كتاب، فذلك ما فرض اللّه على القلب من الاقرار و المعرفة و هو قول اللّه عزّ و جلّ:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 391
«إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» و قال: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» و قال: «الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» و قال: «إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ».
فذلك ما فرض اللّه عزّ و جلّ على القلب من الاقرار و المعرفة و هو عمله و هو رأس ايمان.
و فرض الله على اللّسان القول و التعبير عن القلب بما عقد عليه و أقرّ به قال اللّه تبارك و تعالى اسمه: «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» و قال: «وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي...» .
فهذا ما فرض اللّه على اللّسان و هو عمله.
و فرض على السّمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرّم اللّه و أن يعرض عمّا لا يحلّ له مما نهى اللّه عزّ و جلّ عنه و الاصغاء إلى ما اسخط اللّه عزّ و جلّ فقال في ذلك: «وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» .
ثمّ استثنى اللَّه عزّ و جلّ موضع النسيان فقال: «وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» و قال: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 392
و قال عزّ و جلّ: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» و قال: «وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ» و قال: «وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً».
فهذا ما فرض اللّه على السّمع من الايمان أن لا يصغى إلى ما لا يحلّ له و هو عمله و هو من الايمان.
و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم اللّه عليه و أن يعرض عمّا نهى اللّه عنه مما لا يحلّ له و هو عمله و هو من الايمان فقال تبارك و تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ».
فنهيهم عن أن ينظروا إلى عوراتهم و أن ينظر المرء إلى فرج أخيه و يحفظ فرجه أن ينظر إليه و قال: «وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ» .
من أن ينظر احديهنّ إلى فرج اختها و تحفظ فرجها من أن تنظر اليها و قال عليه السّلام كلّ شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزّنا إلّا هذه الآية فانّها من النظر ثمّ نظم ما فرض اللّه عزّ و جلّ على القلب و اللّسان و السّمع و البصر في آية اخرى فقال: «وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ».
يعني بالجلود الفروج و الافخاذ و قال: «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 393
فهذا ما فرض اللّه على العينين من غضّ البصر عمّا حرّم اللّه و هو عملهما و هو من الايمان (و فرض) على اليدين أن لا يبطش بهما إلى ما حرّم اللّه و أن يبطش بهما إلى ما أمر اللّه عزّ و جلّ و فرض عليهما من الصّدقة و صلة الرّحم و الجهاد في سبيل اللّه و الطّهور للصّلوات فقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» و قال: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» فهذا ما فرض اللّه على اليدين لأنّ الضّرب من علاجهما.
(و فرض) على الرّجلين أن لا يمشى بهما إلى شيء من معاصي اللّه و فرض عليهما المشي إلى ما يرضى اللّه عزّ و جلّ فقال:
«وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» و قال: «وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».
و قال فيما شهدت الأيدى و الأرجل في أنفسهما و على أربابهما من تضييعهما لما أمر اللّه عزّ و جلّ به و فرضه عليهما:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 394
«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» فهذا أيضا ممّا فرض اللّه عزّ و جلّ على اليدين و على الرّجلين و هو عملهما و هو من الايمان.
و فرض على الوجه السّجود له باللّيل و النهار في مواقيت الصّلاة فقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
و هذه فريضة جامعة على الوجه و اليدين و الرّجلين و قال في موضع آخر: «أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً».
و قال فيما فرض على الجوارح من الطّهور و الصلاة بها و ذلك أنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا صرف نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الكعبة عن بيت المقدّس أنزل اللّه عزّ و جلّ:
«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» فسمّى الصّلاة إيمانا فمن لقى اللّه عزّ و جلّ حافظا لجوارحه موفيا كلّ جارحة من جوارحه ما فرض اللّه عزّ و جلّ عليها لقى اللّه عزّ و جلّ مستكملا لايمانه و هو من أهل الجنّة، و من خان في شيء منها أو تعدّى ما أمر اللّه عزّ و جلّ فيها لقى اللّه عزّ و جلّ ناقص الايمان قلت: قد فهمت نقصان الايمان و تمامه، فمن أين جاءت زيادته؟ فقال عليه السّلام: فول اللّه عزّ و جلّ «وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» و قال: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً» .
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 395
و لو كان كلّه واحدا لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر و لاستوت النعم فيه، و لاستوى الناس و بطل التفضيل و لكن بتمام الايمان دخل المؤمنون الجنّة، و بالزّيادة في الايمان تفاضل المؤمنون بالدّرجات عند اللّه، و بالنقصان دخل المفرطون النّار.
(فانّ صدر هذه الرّواية) الشريفة أعنى قوله عليه السّلام: الايمان عمل كلّه، و إن كان موهما في بادى الرأى كون العمل داخلا في مفهوم الايمان، إلّا أنّ ذيلها أعنى قوله: لقى اللّه عزّ و جلّ مستكملا لايمانه، إلى قوله: لقى اللّه عزّ و جلّ ناقص الايمان، إلى آخر الرّواية نصّ صريح في كونه شرطا في كماله لاجزء من مفهومه و قد استفيد منها أيضا كونه قابلا للزّيادة و النقصان كما هو مذهب المحقّقين من الفريقين.
و أمّا ما توهّمه كثير من المتكلّمين من أنه إن كان الايمان هو التّصديق فلا يقبلهما، لأنّ الواجب هو اليقين، و هو غير قابل للتفاوت لا بحسب ذاته و لا بحسب متعلّقه أمّا بحسب الذّات فلأنّ التفاوت باعتبار احتمال النقيض و لو بأبعد وجه و هو ينافي اليقين و لا يجامعه، و أمّا بحسب المتعلّق فلأنّ متعلّقه جميع ما علم مجيء الرّسول به و الجميع من حيث هو جميع لا يتصوّر فيه تعدّد، و إلّا لم يكن جميعا، و إن كان هو العمل وحده أو مع التّصديق فيقبلهما و هو ظاهر، و ما وردت في الكتاب و السّنّة ممّا يدلّ على قبوله إيّاهما فباعتبار الأعمال فيزيد بزيدها و ينقص بنقصانها ففيه منع ذلك أمّا باعتبار الذّات فلأنّ التّصديق من الكيفيات النّفسانيّة المتفاوتة قوّة و ضعفا فيجوز أن يكون التفاوت فيه بالقوّة و الضّعف، فانّ عين اليقين أعلى مرتبة و أقوى من علم اليقين، و للفرق الظاهر بين ايمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة و آحاد الرعيّة، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
و امّا باعتبار المتعلّق فلأنّ التّصديق التّفصيلي في أفراد ما علم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 396
مجيء الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به جزء من الايمان يثاب عليه، مضافا إلى ثوابه على تصديقه بالاجمال فكان قابلا للزّيادة، و اللّه الهادي إلى المنهج القويم، و الصراط المستقيم.
(و) الثاني من الوسايل إلى اللّه سبحانه (الجهاد في سبيله فانه ذروة الاسلام):
لما كان ذروة كلّ شيء عبارة عن أعلاه جعل الجهاد ذروة الاسلام باعتبار رفعته و علوّ رتبته فيه و تقدّمه على ساير العبادات البدنيّة باعتبار اقتضائه قوّة التصديق و اليقين بما جاء به خاتم النبيين ما لا يقتضيه ساير الطّاعات و القربات و إلّا لما ألقى المجاهد نفسه إلى المهالك مع غلبة ظنّه بأنه عاطب هالك و لو لا سيف المجاهدين لما اخضرّ للاسلام عود و لا قام له عمود و قد تقدّم في الخطبة السّابعة و العشرين انه باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه إلى آخر ما ذكره من فضائله و بيّنا في شرحها ما فيه كفاية لمن له علم و دراية.
(و) الثالث (كلمة الاخلاص):
أى الكلمة المتضمّنة لاخلاص اللّه تعالى و تنزيهه عن الشركاء و الأنداد و هى كلمة التّوحيد أعنى لا إله إلّا اللّه و قد تقدّم في شرح الفصل الثّاني من فصول الخطبة الثانية فضايل تلك الكلمة الطيّبة المباركة و فوايدها و علل عليه السّلام كونها من أفضل القرب بقوله مجاز (فانها الفطرة) أى الفطرة المعهودة الواردة في الكتاب العزيز المأمور باتّباعها بقوله:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» و أصلها الخلقة من الفطر بمعنى الخلق ثمّ جعلت للخلقة القابلة لدين الحقّ على الخصوص، و ربما تطلق على التّوحيد و المعرفة و به فسّرت الآية الشريفة و فسّر قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللّذان يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه، قال في مجمع البيان أى اتبع فطرة اللّه و هى التّوحيد التي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 397
فطر النّاس أى خلق النّاس عليها و لها و بها، أى لأجلها و التمسّك بها فيكون كقوله: و ما خلقت الجنّ و الانس إلّا ليعبدون، و هو كما يقول القائل لرسوله:
بعثتك على هذا و لهذا و بهذا، و المعنى واحد.
و عن الصّدوق في التوحيد في أخبار كثيرة عن الصّادق عليه السّلام قال: فطرهم على التوحيد و باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه: «حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» .
و عن الحنيفيّة فقال: هى الفطرة التي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللّه، قال: فطرهم اللّه على المعرفة قال زرارة و سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ» - الآية.
قال عليه السّلام أخرج من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذّرّ فعرفهم و أرادهم و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ مولود يولد على الفطرة بأنّ اللّه عزّ و جلّ خالقه فذلك قوله تعالى: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».
و قد تقدّم في شرح الفصل الرّابع عشر من فصول الخطبة الاولى أخبار أخر في هذا المعنى هذا.
و لما كانت كلمة الاخلاص متضمّنة للفطرة التي هى التوحيد و المعرفة دالّا عليها جعلها نفس الفطرة تسمية للدّال باسم مدلوله.
(و) الرابع مجاز (إقام الصّلاة فإنّها الملّة):
و قال الطّريحى الملّة في الأصل ما شرع اللّه لعباده على ألسنة الأنبياء ليتوصلوا به إلى جوار اللّه و يستعمل في جملة الشرائع دون آحادها و لا يكاد توجد مضافة إلى اللّه و لا إلى آحاد امّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل يقال ملّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال تعالى: ملّة أبيكم إبراهيم، أى دينه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 398
أقول: لما كان الصّلاة هو الركن الأعظم من الدّين اطلق اسمه عليها و أتى بالملّة معرفة بلام الجنس قصدا للحصر مبالغة من باب زيد الأمير و نحوه الحديث النّبوىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصّلاة عماد الدّين، فانه لما كان قوام الدّين و ثباته بها جعلها عمادا له كما صرّح بذلك في رواية اخرى قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مثل الصّلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الأطناب و الأوتاد و الغشاء، و إذا انكسر العمود لم ينفع طنب و لاوتد و لا غشاء، و في رواية اخرى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، الصّلاة عماد الدّين فمن ترك صلاته متعمّدا فقد هدم دينه و كيف كان فالآيات و الروايات في فضلها و عقوبة تاركها فوق حدّ الاحصاء قال تعالى:
«أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» و في سورة النّساء: «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» و في سورة مريم: «أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» و في سورة العَنكبوت: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» و في سورة أرأيت: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» .
أى غافلون غير مبالين بها قال عليّ بن إبراهيم القمّي: عنى به تاركون لأنّ كلّ انسان يسهو في الصّلاة، و في المجمع عن الصّادق عليه السّلام هو التّرك لها و التواني عنها، و عن الخصال عن أمير المؤمنين عليه السّلام: ليس عمل أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من الصّلاة فلا يشغلكم عن أوقاتها شيء من امور الدّنيا، فانّ اللّه عزّ و جلّ ذمّ أقواما فقال:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 399
«الذين هم عن صلاتهم ساهون»، يعنى أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها.
و في الكافي باسناده عن معاوية بن وهب قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم و أحبّ ذلك إلى اللّه عزّ و جلّ ما هو؟ فقال عليه السّلام: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلاة، ألا ترى أنّ العبد الصّالح عيسى بن مريم قال: و أوصاني بالصّلاة و الزّكاة ما دمت حيّا.
و عن زيد الشّحام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعت يقول: أحبّ الأعمال إلى اللّه عزّ و جلّ الصّلاة، و هي آخر وصايا الأنبياء عليهم السّلام فما أحسن الرّجل يغتسل أو يتوضّأ فيسبغ الوضوء ثمّ يتنحىّ حيث لايراه أنيس فيشرف عليه و هو راكع أو ساجد، إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود نادى إبليس: يا ويله أطاعوا و عصيت و سجدوا و أبيت، و نحوه في الفقيه إلّا أنّ فيه فيشرف اللّه عليه.
و عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا قام العبد المؤمن في صلاة نظر اللّه إليه أو قال أقبل اللّه عليه حتى ينصرف، و أظلّته الرّحمة من فوق رأسه إلى افق السماء و الملائكة تحفّه من حوله إلى افق السّماء، و وكل اللّه به ملكا قائما على رأسه يقول: أيّها المصلّى لو تعلم من ينظر إليك و من تناجي ما التفتّ و لا زلت من موضعك أبدا.
و عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: الصّلاة قربان كلّ تقىّ.
و عن حفص بن البخترى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قبل اللّه منه صلاة واحدة لم يعذّبه و من قبل منه حسنة لم يعذّبه.
و عن الحسين بن سيف عن أبيه قال: حدّثنى من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما انصرف و ليس بينه و بين اللّه ذنب.
و في الفقيه قال الصّدوق: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من صلاة يحضر وقتها إلّا نادى ملك بين يدي النّاس: أيّها النّاس قوموا إلى نيرانكم الّتي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 400
قال: و قال الصّادق عليه السّلام: أوّل ما يحاسب به العبد الصّلاة فاذا قبلت منه قبل ساير عمله، و إذا ردّت عليه ردّ عليه ساير عمله قال: و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّما مثل الصّلاة فيكم كمثل البرى و هو النهر على باب أحدكم يخرج إليه في اليوم و اللّيلة يغتسل منه خمس مرّات فلم يبق الدّرن على الغسل خمس مرّات، و لم يبق الذّنوب على الصّلاة خمس مرّات.
و في جامع الأخبار قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تضيّعوا صلاتكم، فانّ من ضيّع صلاته حشره اللّه تعالى مع قارون و فرعون و هامان لعنهم اللّه و أخزاهم و كان حقا على اللّه أن يدخله النار مع المنافقين، فالويل لمن لم يحافظ على صلاته.
قال: و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ترك الصّلاة حتّى تفوته من غير عذر فقد حبط عمله، ثمّ قال: بين العبد و بين الكفر ترك الصّلاة.
و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ترك الصّلاة لا يرجو ثوابها و لا يخاف عقابها فلا ابالي يموت يهوديّا أو نصرانيّا أو مجوسيّا.
و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أعان تارك الصّلاة بلقمة أو كسوة فكأنّما قتل سبعين نبيّا أوّلهم آدم و آخرهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا.
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا و فيما أوردناه كفاية للمهتدى المسترشد و إنما المهمّ الاشارة إلى علّة وجوب الصلوات الخمس و بعض أسرارها.
(اما علة وجوبها) فقد روى في الفقيه عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام أنّه قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما ساله أنه قال له: أخبرنى عن اللّه لأىّ شيء فرض اللّه عزّ و جلّ هذه الخمس الصّلوات في خمسة مواقيت على امّتك في ساعات اللّيل و النّهار؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الشمس عند الزّوال لها حلقة «1» تدخل فيها فاذا دخلت فيها زالت الشمس فيسبّح كلّ شيء دون العرش بحمد ربّي جلّ جلاله و هى السّاعة التي يصلّى
______________________________
(1) الظاهر أنّ المراد بها دائرة نصف النهار، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 401
فيها على ربّي فقرض اللّه علىّ و على امّتي فيها الصّلاة و قال: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» . «1» و هى السّاعة التي يؤتى فيها بجهنّم يوم القيامة فما من مؤمن يوافق تلك السّاعة أن يكون ساجدا أو راكعا أو قائما إلّا حرّم اللّه جسده على النّار.
و أمّا صلاة العصر فهى السّاعة التي اكل آدم فيها من الشجرة فأخرجه اللّه من الجنّة فأمر اللّه ذرّيته بهذه الصّلاة إلى يوم القيامة و اختارها لامّتي فهى من أحبّ الصّلوات إلى اللّه عزّ و جلّ و أوصاني أن أحفظها من بين الصّلوات.
و أمّا صلاة المغرب فهى السّاعة التي تاب اللّه على آدم عليه السّلام و كان بين ما اكل من الشجرة و بين ما تاب اللّه عليه ثلاثمأة سنة من أيّام الدّنيا و في أيّام الآخرة يوم كألف سنة «2» ما بين العصر إلى العشاء فصلّى آدم ثلاث ركعات و ركعة لخطيئته و ركعة لخطيئة حوّا، و ركعة لتوبته فافترض اللّه هذه الثلاث ركعات على امّتي و هى السّاعة التي يستجاب فيها الدّعا فوعدنى اللّه أن يستجيب لمن دعاه فيها و هى الصّلاة التي أمرني ربّي بها في قوله: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ» .
و أمّا صلاة العشاء الآخرة فانّ للقبر ظلمة، و ليوم القيامة ظلمة أمرني اللّه بهذه الصّلاة و امّتي لتنوّر الصّور و ليعطني و امّتي النّور على الصّراط، و ما من قدم مشت الى صلاة العتمة «3» إلّا حرّم اللّه جسدها على النّار و هى الصّلاة التي اختارها اللّه للمرسلين قبلي.
______________________________
(1) غسق الليل منتصفة لا ظلمة اوله كما قال بعض اللّغويين، مفتاح الفلاح
(2) أى يوم واحد من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا و قوله ما بين العصر الى العشاء اى كان ثلاث مأئة سنة من أيام الدنيا ما بين العصر الى العشاء من أيام الاخرة، حاشية فقيه
(3) العتمة محركة ثلث الليل الاول بعد غيبوبة الشفق او وقت صلاة الاخرة، حاشية فقيه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 402
و أمّا صلاة الفجر فانّ الشّمس إذا طلعت تطلع على قرن شيطان، فأمرني اللّه أن اصلّي قبل طلوع الشّمس صلاة الغداة و قبل أن يسجد لها الكافر لتسجد امتي للّه عزّ و جلّ و سرعتها أحبّ الى اللّه و هى الصّلاة التي يشهدها ملائكة اللّيل و ملائكة النّهار (و علة اخرى) لذلك و هو ما رواه في الفقيه أيضا عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: لما هبط آدم عليه السّلام من الجنّة ظهرت به شأمة سوداء في وجهه من قرنه إلى قدمه، فطال حزنه و بكاؤه على ما ظهر به، فأتاه جبرئيل فقال له: ما يبكيك يا آدم؟ فقال: لهذه الشامة التي ظهرت بي، قال: قم يا آدم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الاولى، فقام فصلّى فانحطت الشامة إلى عنقه، فجاءه في الصّلاة الثانية فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الثالثة، فقام فصلّى فانحطت الشّامة إلى سرّته، فجاءه في الصّلاة الثالثة فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الثالثة فقام فصلّ فانحطت الشامة إلى ركبتيه، فجاء في الصّلاة الرّابعة فقال: يا آدم قم فصلّى فهذا وقت الصّلاة الرابعة، فقام فصلّى فانحطت الشامة إلى قدميه، فجاءه في الصّلاة الخامسة فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصّلاة الخامسة، فقام فصلّى فخرج منها، فحمد اللّه و أثنا عليه فقال جبرئيل: يا آدم مثل ولدك في هذه الصّلاة كمثلك في هذه الشّامة، من صلّى من ولدك في كلّ يوم و ليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشّامة، و يأتي لها علّة ثالثة انشاء اللّه في شرح الخطبة المأة و الحادية و التسعين.
(و أما أسرار الصلاة) فهى كثيرة لا يمكن استقصاؤها و إنّما نشير إلى نبذ منها مما اشير إليها في الروايات و وصل إلينا من أولى الألباب و الدّرايات و أرباب المعرفة و الاشارات فنقول و باللّه التوفيق:
إنّ الصّلاة الكاملة قد خصّت من بين ساير العبادات بأنّها بمنزلة انسان كامل مشتمل على روح و جسد، منقسم إلى ظهر و بطن و سرّ و علن، و لروحه و سرّه أخلاق و صفات، و لجسده و علن أعضاء و أشكال، فروح الصّلاة أهل معرفة الحقّ و العبوديّة له بالاخلاص و التوحيد.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 403
أمّا أخلاقها و صفاتها الباطنة فيجمعها امور و هي: حضور القلب، و التفهّم و التعظيم، و الهيبة، و الرجاء، و الحياء، و هذه ستّ خصال شريفة و حالات كريمة و ملكات عظيمة لا يوجد جميعها إلّا في مؤمن امتحن اللّه قلبه بنور الايمان و العرفان (اما حضور القلب) فهو تفريغ القلب عن غير ما هو ملابس له و متكلّم به و صرفه إلى ما يتلبّس به من الأفعال و يتكلّم به من الأقوال، و لا يحصل ذلك إلّا بعد معرفة المصلّى بانّ الغرض المطلوب منه هو الايمان و التصديق بأنّ الآخرة خير و أبقى، و أنّ الصّلاة وسيلة اليها، فاذا اضيف إلى تلك المعرفة العلم بحقارة الدّنيا و خسّتها و زوالها انصرف القلب عن مهمّات الدّنيا لا محالة و توجّه إلى صلاته الموصلة و إلى سعادات الآخرة و هو معنى حضور القلب.
روى إبراهيم الكرخي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: إنّي لاحبّ الرّجل المؤمن منكم إذا قام في صلاة فريضة أن يقبل بقلبه إلى اللّه تعالى و لا يشغل قلبه بأمر الدّنيا، فليس من عبد يقبل بقلبه في صلاته إلى اللّه تعالى إلّا أقبل اللّه إليه بوجهه، و أقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبة بعد حبّ اللّه إليه ايّاه.
و عن الخصال باسناده عن علىّ عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال: لا يقومنّ أحدكم في الصّلاة متكاسلا، و لانا عسا، و لا يفكّرن في نفسه، فانه بين يدي ربّه عزّ و جلّ، و إنما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه.
أقول: و مرّ ذلك أنّ الصّلاة في الحقيقة معراج المؤمن و مناجاة الرّب المعبود، فلا بدّ فيه من الاقبال، لأنّ من لا يقبل عليك لا يستحقّ اقبالك عليه، كما لو حاربك من تعلم غفلته من محاربتك و إعراضه عن محاورتك، فانّه يستحق إعراضك عن خطابه و اشتغالك بجوابه.
قال الصّادق عليه السّلام من أراد أن ينظر منزلته عند اللّه فلينظر منزلة اللّه عنده، فانّ اللّه ينزل العبد مثل ما ينزل العبد إليه من نفسه.
(و أما التفهم) فهو التّدبر في معنى اللّفظ، و هو أمر وراء حضور القلب، فربما يكون القلب حاضرا مع اللفظ و لا يكون حاضرا مع معنى اللّفظ، فاشتمال القلب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 404
القلب على العلم بمعنى اللّفظ هو المراد بالتفهم، و قد ذمّ اللّه أقواما على ترك التدبّر حيث قال: «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها».
و روى سيف بن عمير عمّن سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما انصرف و ليس بينه و بين اللّه ذنب إلّا غفر له.
ثمّ الناس في هذا المقام أى مقام التفهّم متفاوتون، إذ ليس يشترك الجميع في تفهّم معاني القرآن و التّسليمات، و كم من معاني لطيفة يفهمها المصلّى في أثناء الصّلاة و لم يكن خطر بقلبه قبل ذلك، و من هذا الوجه كانت الصّلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر، فانّما يفهم امورا هى مانعة من الفحشاء لا محالة.
روى يونس بن ظبيان عن أبى عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: اعلم أنّ الصّلاة حجزة اللّه في الأرض فمن أحبّ أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته فلينظر، فان كانت صلاته حجزته عن الفواحش و المنكر فانّما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز، و من أحبّ أن يعلم ماله عند اللّه فليعلم ما للّه عنده (و اما التعظيم) فهو أمر وراء حضور القلب و الفهم، فربما يخاطب الرّجل عبده بكلام و هو حاضر القلب فيه و متفهّم لمعناه، و لا يكون معظما له، فالتعظيم أمر زايد عليهما، و هو حالة للقلب منشاها معرفة جلال الرّب سبحانه و كبريائه و عظمته مع معرفة حقارة النّفس و خسّتها و كونها عبدا مسخّرا مربوبا، فيتولّد من هاتين المعرفتين الاستكانة و الانكسار و الخشوع للّه سبحانه، فيعبّر عنه بالتعظيم.
روى الحلبيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كنت في صلاتك فعليك بالخشوع و الاقبال على صلاتك، فانّ اللّه تعالى يقول: الّذينهم في صلاتهم خاشعون، ثمّ الخشوع كما يكون في القلب كذلك يكون في الجوارح، و يدلّ عليه ما رواه الطّبرسي في مجمع البيان أنّ النبيّ رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 405
(و اما الهيبة) فأمر زايد على التعظيم، و هى عبارة عن خوف منشاه التعظيم، لأنّ من لا يخاف لا يسمّى هايبا، و المخافة من العقرب و الحيّة و ساير الموذيات و من العقوبة و سوء خلق العبد و ما يجرى مجرى ذلك من الأسباب الخسيسة لا تسمّى مهابة، فالهيبة خوف مصدره الاجلال، و هى متولّدة من المعرفة بقدرة اللّه و سطوته و نفوذ أمره و مشيّته فيه مع قلّة مبالاته به، و أنّه بحيث لو أهلك الأوّلين و الآخرين لم ينقص من ملكه مثقال ذرّة، لا سيّما إذا انضمّ إلى ذلك ملاحظة ما جرى على الأنبياء و الأولياء من أنواع المحن و المصائب و البلاء، و كلّما زاد العلم باللّه و كبريائه زادت الهيبة و الخشية، و لأجل ذلك قال تعالى: إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء.
روى فضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان عليّ بن الحسين عليه السّلام اذا قام إلى الصّلاة تغيّر لونه، فاذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقا و عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنى رأيت عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا قام إلى الصلاة غشى لونه لون آخر، فقال لي: و اللّه إنّ عليّ بن الحسين عليهما السلام كان يعرف الذى يقوم بين يديه.
و عن جهم بن حميد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أبي: كان عليّ بن الحسين إذا قام إلى الصّلاة كأنّه ساق شجرة لا يتحرّك منه شيء إلّا ما حرّكت الرّيح منه و قد اخرجت هذه الرّوايات و سابقتها من الوسايل رواها فيه باسنادها من الكافي و غيره.
(و اما الرجاء) فلا شك أنّه زايد على ما سبق، فكم من معظم ملكا من الملوك يهابه أو يخاف سطوته و لا يرجو انعامه و مبرّته، و العبد ينبغي أن يكون راجيا بصلاته ثواب اللّه كما أنه خائف بتقصيره عقاب اللّه، و منشا الرّجا معرفة لطف الحقّ و كرمه و عميم جوده و احسانه و شمول رحمته و انعامه و معرفة صدقه في وعده على الصلاة بالثواب و بشراه بالجنّة و حسن المآب، فبمجموع المعرفة بلطفه سبحانه و المعرفة بصدقه يحصل الرجاء.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 406
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصّلاة مرضاة اللّه، و حبّ الملائكة، و سنّة الأنبياء و نور المعرفة، و أصل الايمان، و اجابة الدّعاء، و قبول الاعمال، و بركة في الرّزق و راحة في البدن، و سلاح على الأعداء، و كراهة الشّيطان، و شفيع بين صاحبها و ملك الموت، و السراج في القبر، و فراش تحت جنبه، و جواب منكر و نكير، و مونس في السّراء و الضّراء، و صائر معه في قبره إلى يوم القيامة.
(و أما الحياء) فزيادته على ما سبق واضحة، لأنّ مستنده استشعار تقصير و توهّم ذنب، و يتصوّر التعظيم و الخوف و الرّجاء من غير حياء، حيث لا يتوهّم تقصير و خطاء و منشا استشعار التقصير و توهّم الذّنب علم المكلف بالعجز عن القيام بوظائف العبوديّة و التعظيم على ما يليق بحضرة الرّبوبيّة سبحانه، و يزيد ذلك بالاطلاع على كثرة عيوب النّفس و آفاتها، و فرط رغبتها في أفعالها و حركاتها و سكناتها إلى الدّنيا و شهواتها، و قلّة اخلاصها في طاعاتها مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال اللّه و عظمته و كبريائه، و مع المعرفة بأنه خبير بصير مطلع على السرائر، عالم بالضمائر، و هذه المعارف إذا حصلت يقينا انبعث منها الحياء.
(و أما اعضاء الصلاة) و أشكالها فهى: القيام، و القعود، و القرائة، و التشهد و الركوع، و السجود، و ظاهرها يرتبط بظاهر الانسان، و به يكلف العوام الذين درجتهم درجة الأنعام، ليمتازوا بذلك التعبّد الظاهرى عن ساير أنواع الحيوان في العاجل، و يستحقوا به نوعا من الثواب في الاجل، و باطنها يلتزم بباطن الانسان ممن له قلب أو ألقى السّمع و هو شهيد.
أمّا صلاة الظاهر المأمور بها شرعا و المفروضة على كافة المكلّفين سمعا فاعدادها معلومة، و أوقاتها مرسومة، و أركانها مضبوطة، و أحكامها في الكتب مسطورة، لا حاجة بنا إلى تفصيلها الشهرتها، و كفاية الكتب الفقهيّة في تعيين شرايطها و أحكامها و أمّا صلاة الباطن و صلاة أهل الخصص فنشير إلى بعض أسرارها و يسير ممّا ينبغي لها لتكون على ذكر منها عند القيام بها، و تأتى بها على وجه البصيرة و المعرفة إن كنت من أهل القرب و الطّاعة فنقول و باللّه التوفيق:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 407
(اما الطهارة) فاذا أتيت بها في مكانك و هو طرفك الأبعد، ثمّ في ثيابك و هو غلافك الأقرب، ثمّ في بشرتك و هو قشرك الأدنى فلا تغفل عن تطهير ذاتك و إزالة رجس الشيطان عن لبّك بالتوبة و النّدم على التفريط في جنب اللّه كما قال سبحانه: «و ثيابك فطهّر و الرّجز فاهجر»، فطهّر قلبك فانّه منظر معبودك.
(و اما ستر العورة) فمعناه تعطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق أعنى سكّان عالم الأرض، فاذا وجب عليك ستر ظاهر البدن عن الخلق و هم مخلوق مثلك فما ظنك في عورات باطنك و فضايح سترك الذي هو موضع نظر معبودك و خالقك، فانها أولى بالسّتر و أحرى، فاحضر تلك الفضايح ببالك، و طالب نفسك بسترها بالنّدم و الخوف و الحياء، و نزل نفسك منزلة العبد المجرم المسى ء الآبق الذى ندم فرجع إلى مولاه ناكسا رأسه من الحياء و الخوف.
(و اما الاستقبال) فهو صرف ظاهر وجهك من ساير الجهات إلى جهة البيت الحرام، أفترى أنك مأمور بذلك و لست مأمورا بتوجيه قلبك إلى معبودك، فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك، و كما لا يمكن التوجّه بالبيت إلّا بالالتفات عن ساير الجهات، فكذلك لا يمكن التّوجّه إلى الحقّ، إلّا بالاعراض عن كلّ ما عداه، و الانقطاع بكلّيته إلى اللّه.
(و أما القيام) فليكن على ذكرك في الحال خطر القيام بين يدي الربّ المتعال في القيامة و هو المطّلع في مقام العرض و السّؤال حين ما أيقن أهل الجرائم بالعقاب و عاينوا أليم العذاب، فقم بين يديه سبحانه قيام عبد ذليل بين يدي ملك جليل، و عليك بخفوت أطرافك و هد و أطراقك و سكون جوارحك و خشوع أجزائك و حاسب نفسك قبل أن تحاسب، وزن نفسك قبل أن توزن.
(و أما النية) فاعلم أنّ الأعمال بالنيات و أنّ النّية رأس العبادات، فاجتهد في تحصيل الاخلاص، رجاء للثّواب و خوفا من العقاب و طلبا للقرب إلى ربّ الأرباب قال الصادق عليه السّلام إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته و ليخسأ الشّيطان.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 408
(و أما التكبير) فاذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذّبه قلبك، فان كان هواك أغلب عليك من أمر اللّه و أنت أطوع له منك للّه فقد اتّخذته إلها لك و معبودا من دون اللّه كما قال عزّ من قائل: أرأيت من اتّخذ إلهه هويه، فقولك: اللّه أكبر يكون حينئذ كلاما بمجرّد اللّسان من دون أن يساعده القلب و الجنان، فيشهد اللّه سبحانه عليك بأنك لكاذب في تكبيرة و تعظيمه كما شهد على المنافقين بأنهم لكاذبون في قولهم: نشهد أنّك لرسول اللّه، و ما أعظم الخطر في ذلك لو لا التّدارك بالتوبة و الاستغفار.
(و اما القرائة) فالناس فيها على ثلاثة أقسام: السّابقون و هم المقرّبون، و أصحاب اليمين و هم أهل الجنّة، و أصحاب الشّمال و هم أهل النّار، فرجل يتحرّك لسانه و قلبه غافل عما هو فيه و يتكلّم به، بل مشغول الفكر بأغراض نفسه و معاملاته و تجاراته و خصوماته و غيرها، و رجل يتحرّك لسانه و قلبه يتبع اللّسان فيفهم و يسمع منه كانه يسمعه من غيره و هو مقام أصحاب اليمين، و رجل يسبق قلبه إلى المعاني أوّلا ثمّ يخدم اللّسان القلب فيترجمه كما ربّما يخطر ببالك شي ء فينبعث منك داعية الشّوق إلى التكلّم به و فرق بين أن يكون اللّسان ترجمان القلب و بين أن يكون القلب ترجمانا تابعا للسان، و المقرّبون لسانهم ترجمان قلوبهم.
(و توضيح ترجمة المعاني) أنك اذا قلت: أعوذ باللّه من الشيطان الرّجيم، فادفع وساوس قلبك و عجب نفسك، و طهّر ساحة قلبك من خطرات ابليس و أحاديث النفس ليتيسّر لك الدّخول في باب الرّحمة فينفتح لك باب الملكوت بالمغفرة و باب الجبروت بالفضل و الكرامة، و إذا قلت: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، فانو به التبرّك باسمه، و اعلم أنّ الامور كلّها باللّه و هى من فيض رحمته في الدّنيا و الآخرة فاذا كانت النعم الدّنيويّة و الاخرويّة مبدؤها وجوده و كانت كلّها من بحر كرمه وجوده كما قال عزّ من قائل: و ما بكم من نعمة فمن اللّه، فاعلم أنه لا يليق الحمد و الثناء إلّا للّه سبحانه، فقل: الحمد للّه، فلو كنت ترى نعمة من عند غيره و تتوقّع منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 409
الوصول اليها و تقرع بيد السّؤال بابه بزعم استقلاله فيها لا باعتقاد أنه واسطة في ايصالها إليك و آلة لوصولها إلى يديك فتشكره بذلك، ففي تسميتك و تحميدك نقصان و أنت بقدر التفاتك إلى غيره كاذب فيهما.
ثمّ اعلم أنّك تأسّيت في تحميدك للّه بالملائكة المقرّبين حيث قالوا قبل أن يخلق اللّه سبحانه هذه النشأة: نحن نسبّح بحمدك و نقدّس لك، و بعباد اللّه الصّالحين، حيث إنّهم بعد ما يحكم بينهم و بين المجرمين يوم الحاقة بالحقّ فيحمدون ربهم كما اخبر عنهم بقوله: و قضي بينهم بالحقّ و قيل الحمد للّه ربّ العالمين، و بعد ما يعتبرون الصراط و يجدون رايحة الجنان يقولون: الحمد للّه الذي هدانا لهذا، و بعد ما يتمكنون في قصور الجنّات و يجلسون وسط الرّوضات يقولون: الحمد للّه الذي صدقنا وعده، و بعد ما ينالون غاية الآمال و يجزون الحسنى بالأعمال يكون آخر كلامهم حمد الرّب المتعال، و آخر دعويهم أن الحمد للّه رب العالمين، فاذا كان بدية العالم و نهايته مبنيّة على الحمد فاجتهد أن يكون بداية عملك و نهايته كذلك، و كما أنّ حمد هؤلاء المقرّبين ناش عن وجه الاخلاص و اليقين، فليكن ثناؤك كذلك و إذا قلت: ربّ العالمين، فاعلم أنّه سبحانه مربّيك و مربّي ساير الخلائق أجمعين، حيث إنه خلقهم و ساق اليهم أرزاقهم و دبّر امورهم و قام بمصالحهم و بدء بالآمال قبل السؤال، و أنه رباهم بعظيم ما لديه من دون جلب ربح و منفعة منهم إليه كما هو شأن ساير المربّين و المحسنين فانهم انما يربون و يحسنون ليربحوا على ذلك و ينتفعوا بذلك إما ثوابا أو ثناء، فاذا كان تربيته كذلك فلينبعث منك مزيد شوق و رجاء إلى فضله و نواله.
و ليشتدّ ذلك الرّجاء إذا قلت: الرّحمن الرّحيم، فانّ رحمته سبحانه لانهاية لها، فبرحمته الرّحمانية خلق الدّنيا و ما فيها، و برحمته الرّحيميّة يجزى لمؤمنين الجزاء الأوفى، و هو الذي ينادى عبده و يشرفه بألطف الخطاب حين ما وارده في التراب، و ودّعه الأحباب و يقول: عبدي بقيت فريدا وحيدا فأنا أرحمك اليوم رحمة يتعجّب الخلائق منها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 410
ثمّ لا تغترّ بذلك و لا تأمن من غضبه و استشعر من قلبك الخوف، و إذا قلت:
مالك يوم الدّين، فاحضر في نظرك أنواع غضبه و قهره على أهل الجرائم و الجوائز و اعلم أنّه لا مانع ذلك اليوم من سخطه و لا رادّ من عقابه، لانحصار الملك يومئذ فيه، فليس لأحد لجأ يؤويه.
ثمّ إذا حصلت بين الخوف و الرّجاء فجرد الاخلاص و التوحيد و قل: إيّاك نعبد، أى لا يستحقّ العبادة إلّا أنت و لا معبود سواك و لا نعبد إلّا إيّاك، و تفطّن لسرّ التكلّم بصيعة الجمع نكتة تشريك الغير معك في الاذعان بالعبوديّة، و هو أنّ من باع أمتعة كثيرة صفقة بعضها صحيح و بعضها معيب فاللّازم على المشتري إمّا قبول الجميع أو ردّ الجميع، و لا يجوز له ردّ المعيب و أخذ الصحيح، فههنا قد مزجت عبادتك بعبادة غيرك من الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقرّبين و عباد اللّه الصّالحين، و عرضت الجميع صفقة واحدة على حضرة ربّ العالمين، فهو سبحانه أجلّ من أن يردّ المعيب و يقبل الصحيح، فانّه قد نهى عباده عن ذلك فلا يليق بكرمه ذلك، كما لا يليق به ردّ الجميع لكون بعضها مقبولا البتة فلم يبق إلّا قبول الجميع و هو المطلوب.
ثمّ القيام منك بوظايف العبودية و الاتيان بلوازم الطّاعة لما لم يكن ممكنا إلّا باعانة منه سبحانه و إفاضة منه الحول و القوّة اليك فتضرّع إليه تعالى و اطلب منه التوفيق و الاعانة و قل: و إيّاك نستعين، و تحقّق أنه ما تيسّرت طاعتك إلّا باعانته و أنّه لولا توفيقه لكنت من المطرودين مع الشّيطان اللعين و إذا أظهرت حاجتك إليه سبحانه في إفاضته الاعانة و التّوفيق فعيّن مسئولك و اطلب منه تعالى أهمّ حاجاتك و ليس ذلك إلّا طلب القرب من جواره، و لا يكون ذلك إلّا بالحركة و السكون نحوه و سلوك السّبيل المؤدّى اليه و لا يمكن ذلك إلّا بهدايته سبحانه فقل: اهدنا الصّراط المستقيم، قال الصادق عليه السّلام يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّى إلى محبّتك و المبلغ إلى جنّتك و المانع من أن نتبع أهوائنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 411
و زد ذلك شرحا و تفصيلا و تأكيدا بقولك: صراط الذين أنعمت عليهم، و هم الذين أنعم عليهم بالتوفيق و الطّاعة لا بالمال و الصّحة و هم الذين قال اللّه تعالى: «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً».
و أمّا الذين انعم عليهم بالمال و الصحّة فربما يكونون كفّارا أو فسّاقا من الذين لعنهم اللّه و غضب عليهم، أو من الضّالين المكذّبين، و لذلك حسن التأكيد بأن تقول: غير المغضوب عليهم، و هم اليهود قال اللّه فيهم: من لعنه اللّه و غضب عليه، و لا الضّالّين، و هم النّصارى قال اللّه فيهم قد ضلّوا من قبل و أضلّوا كثيرا فاذا فرغت من قراءة فاتحة الكتاب فأقرء ما شئت من السّور، و عليك بالترتيل و تعمد الاعراب في ألفاظ ما تقرؤها و التّفكّر في معناها، و سؤال الرحمة و التّعوّذ من النقمة عند قراءة آيتيهما، ثمّ إذا فرغت من القرائة فجدّد ذكر كبرياء اللّه سبحانه و عظمته و ارفع يديك حيال وجهك و قال: اللّه أكبر استجارة بعفوه عن عقابه و اتباعا لسنّة رسوله، ثمّ تستأنف له ذلّا و تواضعا بركوعك و تجتهد في ترقيق قلبك و في استشعار الخشوع له، و عليك بالطمأنينة و الوقار و تسوية ظهرك و مدّ عنقك.
فقد قال أبو جعفر عليه السّلام: من أتمّ ركوعه لم يدخله وحشة في القبر.
و في مرفوعة أبي القاسم بن سلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا ركع لوصبّ على ظهره ماء لاستقرّ، و أمّا مدّ العنق فمعناه إنّى آمنت بك و لو ضربت عنقى.
ثمّ تشهد على ربّك بالعظمة و أنّه أعظم من كلّ عظيم فتقول: سبحان ربّى العظيم و بحمده، و تكرّر ذلك على القلب و تؤكده بالتكرير، ثمّ تنتصب قائما و تقول: سمع اللّه لمن حمده و الحمد للّه ربّ العالمين، ثمّ تهوى إلى السّجود و هو أعلى درجات التذلّل و الاستكانة حيث الصقت أعزّ جوارحك و أشرفها و هو الجبهة بأذلّ الأشياء و أخسّها و هو التراب، و قد نهيت عن السجود على الذهب و الفضّة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 412
و المطاعم و الملابس، لأنها متاع الحياة الدّنيا و السّجدة زاد الآخرة.
روى الصّدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه و عما لا يجوز، قال: السجود لا يجوز إلّا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلّا ما أكل أو لبس، فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك، قال: لأنّ السّجود خضوع للّه عزّ و جلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل و يلبس، لأنّ أبناء الدّنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّ و جلّ فلا ينبغي أن يضع جهته في سجوده على معبود أبناء الدّنيا الذين اغترّوا بغرورها.
و أمّا تعدّد السجود فسّره ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السّلام حيث سأله رجل ما معنى السجدة الاولى؟ فقال عليه السّلام: تأويلها اللّهم منها خلقتنا يعني من الأرض، و تأويل رفع رأسك: و منها أخرجتنا و السجدة الثانية: و إليها تعيدنا، و رفع رأسك منها: و منها تخرجنا تارة اخرى.
أقول: و هو مأخوذ من قوله سبحانه في سورة طه: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» .
ثمّ تجلس لتشهد على يسارك و ترفع يمينك و تأويل ذلك: اللّهمّ أمت الباطل و اقحم الحقّ، فتجدّد العهد للّه سبحانه بالشهادة بالتوحيد و للنبيّ بالشهادة بالرّسالة، و تصلّى عليه و آله الذين هم وسايط الفيوضات النازلة، و بهم قبول الصّلاة و ساير العبادات، و بالتقرّب اليهم يرجى نزول الرّحمة من الحقّ، لكونهم واسطة بينك و بين الرسول كما أنّه واسطة بين اللّه و بين الخلق.
ثمّ احضر شخصه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قلبك و قل: السّلام عليك أيّها النّبيّ و رحمة اللّه و بركاته، لتدخل في زمرة المؤمنين المجيبين لنداء يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما، ثمّ سلّم على نفسك و على عباد اللّه الصّالحين، و تأمّل أنّ اللّه يردّ عليك سلاما بعدد عباده الصالحين، و أما قولك: السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته، فتقصد بخطابك فيه الأنبياء و الملائكة و الأئمة عليهم السّلام و المؤمنين من الجنّ و الانس
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 413
و تحضرهم ببالك و تخاطبهم به، و إلّا كان التسليم بصيغة الخطاب لغوا و إن كان مخرجا عن العهدة، و حقيقة هذا التسليم هو الرّجوع عن الحقّ إلى الخلق، فانّ الصّلاة معراج للمؤمن و مناجاة للعبد مع معبوده و حضور له مع اللّه و غيبته له عما سواه، فاذا انصرف منه لزم عليه تجديد العهد بالخلق و التسّليم عليهم كما يسلم الغائب إذا قدم من سفره.
هذا قليل من كثير و نبذ يسير من أسرار الصّلاة، و المقام لا يسع الزيادة، و اللّه وليّ التوفيق و الهداية.
(و) الخامس من الوسايل (إيتاء الزّكاة فانها فريضة واجبة):
و الاتيان بالوجوب بعد الفرض لمحض التأكيد و الاشارة إلى تأكّد وجوبها نظير قوله سبحانه: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
فانّه سبحانه بعد الأمر بها بالجملة الخبرية التي هى في معنى الانشاء، عقّبه بقوله: فريضة، تأكيدا للوجوب، قال الزّجاج: فريضة منصوب على التوكيد، لأنّ قوله: إنّما الصّدقات لهؤلاء جار مجرى قوله: فرض اللّه الصّدقات لهؤلاء فريضة و ذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر.
قال رفاعة بن موسى: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ما فرض اللّه على هذه الأمة أشدّ عليهم من الزّكاة و فيها تهلك عامّتهم.
أو الفريضة من الفرض بمعنى القطع و التقدير و منه قوله سبحانه: «لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَ ...» أى منقطعا محدودا و يطلقون الفقهاء في باب المواريث
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 414
على ذوى السهام المقدّرة ذوى الفرائض باعتبار أنّ سهامهم مقدّرة معيّنة في كتاب اللّه سبحانه و على هذا فيكون معنى قوله عليه السّلام: انّها فريضة واجبة أنها شي ء مقدّر منقطع متّصف بالوجوب، و كيف كان فهى من أعظم دعائم الدّين و أقوى أركان الاسلام، و الكلام فيها في مقامين:
المقام الاول في علّة وجوبها و فضلها و عقوبة مانعها:
أمّا فضلها و وجوبها فكفى بذلك أنّ أكثر الآيات المتضمّنة للأمر باقامة الصّلاة متضمّنة للأمر بايتاء الزّكاة، فجعل الزّكاة تالى الصّلاة، و الأخبار في هذا المعنى فوق حدّ الاحصاء.
ففي الكافي باسناده عن محمّد بن مسلم و أبي بصير و بريد عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالا: فرض اللّه الزّكاة مع الصّلاة.
و عن مبارك العقرقوفي قال: قال أبو الحسن عليه السّلام إنّ اللّه عزّ و جلّ وضع الزّكاة قوتا للفقراء و توقيرا لأموالكم.
و عن أحمد بن محمّد بن عبد اللّه و غيره عن رجل من أهل ساباط قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لعمّار السّاباطي: يا عمّار أنت ربّ مال كثير؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: فتؤدّى ما افترض اللّه عليك من الزّكاة؟ فقال: نعم، قال: فتخرج الحقّ المعلوم من مالك؟ قال: نعم، قال: فتصل قرابتك؟ قال: نعم، قال: فتصل اخوانك؟
قال: نعم، فقال عليه السّلام: يا عمّار إنّ المال يفنى و البدن يبلى و العمل يبقى و الدّيان حىّ لا يموت، يا عمّار إنّه ما قدّمت فلن يسبقك، و ما أخّرت فلن يلحقك. و رواه الصّدوق في الفقيه عنه عليه السّلام مثله.
و فيه أيضا عن معتب مولى الصّادق عليه السّلام قال: قال الصّادق عليه السّلام: إنما وضعت الزّكاة اختبارا للأغنياء و معونة للفقراء، و لو أنّ النّاس ردّوا زكاة أموالهم ما بقى مسلم فقيرا محتاجا، و لا ستغنى بما فرض اللّه له، إنّ النّاس ما افتقروا و لا احتاجوا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 415
و لا جاعوا و لا غروا إلّا بذنوب الأغنياء، و حقيق على اللّه أن يمنع رحمته ممن منع حقّ اللّه في ماله، و اقسم بالذي خلق الخلق و بسط الرّزق إنه ما ضاع مال في برّ و لا بحر إلّا بترك الزّكاة، و ما صيد في برّ و لا بحر إلّا بتركه التسبيح في ذلك اليوم و إنّ أحبّ النّاس إلى اللّه أسخاهم كفا، و أسخى النّاس من أدّى زكاة ماله و لم يبخل على المؤمنين بما افترض اللّه لهم في ماله.
و فيه أيضا أنّه كتب الرّضا عليّ بن موسى عليهما السلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب إليه من جواب مسائله: أنّ علّة الزكاة من أجل قوت الفقراء و تحصين أموال الأغنياء، لأنّ اللّه كلّف أهل الصّحة القيام بشأن أهل الزّمانة و البلوى كما قال تعالى: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ» .
في أموالكم اخراج الزكاة، و في أنفسكم توطين النفس على الصبّر مع ما في ذلك من أداء شكر نعم اللّه و الطمع في الزّيادة مع ما فيه من الرفادة و الرأفة و الرّحمة لأهل الضعف، و العطف على أهل المسكنة و الحثّ لهم على المواساة، و تقوية الفقراء و المعونة لهم على أمر الدّين، و موعظة لأهل الغنى، و عبرة لهم ليستدلّوا على فقراء الآخرة بهم و ما لهم عن الحثّ في ذلك على الشكر للّه لما خوّلهم و أعطاهم و الدّعا و التضرّع و الخوف من أن يصير و امثلهم في امور كثيرة في أداء الزكاة و الصّدقات و صلة الأرحام و اصطناع المعروف.
قال الصّدوق: و قال أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام: من أخرج زكاة ماله تامّا فوضعها في موضعها لم يسأل من أين اكتسب ماله.
قال: و قال الصّادق عليه السّلام: إنما جعل اللّه الزكاة في كلّ ألف خمسة و عشرين درهما، لأنّ اللّه تعالى خلق الخلق فعلم غنيّهم و فقيرهم و قويّهم و ضعيفهم، فجعل من كلّ ألف خمسة و عشرين مسكينا لو لا ذلك لزادهم اللّه لأنه خالقهم و هو أعلم بهم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 416
(اما عقوبة) تارك الزكاة و مانعها فقد قال تعالى في سورة آل عمران: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» و في سورة البراءة: «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» .
و لا يخفى ما في الآيتين من وجوه الحثّ على الانفاق و الوعيد على الامساك.
(أما الاية الاولى) فجهات الانذار فيها غير خفيّة الأولى أنّه سبحانه نهى عن حسبان الممسكين إمساكهم خيرا لهم و نفعا في حقّهم و أكّد ذلك بالنون المفيدة للتوكيد الثانية أنّه وصف الممسكين بصفة البخل و هو صفة ذمّ الثالثة أنّ ما بخلوا به هو ممّا آتاهم اللّه فاللّازم عليهم أن يتصرّفوا فيه بما أمر اللّه و يصرفوه إلى ما أراده اللّه الرابعة أنّ ذلك شرّ لهم و ضرّ في حقّهم الخامسة أنّهم يطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة.
روى الصّدوق عن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: ما من ذى ذهب أو فضة تمنع زكاة ماله إلّا حبسه اللّه يوم القيامة بقاع قرقر «1» و سلّط عليه شجاعا أقرع «2» يريده و هو يحيد عنه فاذا رأى أنه لا يتخلّص منه انكسه فقضمها كما يقضم الفجل ثمّ يصير طوقا في عنقه و ذلك قوله: «سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ».
______________________________
(1) قاع قرقر اى مستو مصباح.
(2) الاقرع من الحيات المتمعط شعر رأسه اى الابيض لكثرة سمه، ق.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 417
و ما من ذي ابل أو بقر أو غنم يمنع زكاة ماله إلّا حبسه اللّه يوم القيامة بقاع قرقر تطاه كلّ ذات ظلف بظلفها، و ينهشه كلّ ذات ناب بنابها، و ما من ذي نخل أو كرم أو زرع يمنع زكاته إلّا طوّقه اللّه ريعة أرضه إلى سبع أرضين إلى يوم القيامة.
و في الكافي باسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة، فقال: يا محمّد ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئا إلّا جعل اللّه ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوّقا في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب، ثمّ قال هو قول اللّه عزّ و جلّ: سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة، يعنى ما بخلوا به من الزكاة السادسة أنّ ميراث السماوات و الأرض كلّه للّه سبحانه بمعنى أنّه وحده يبقى و غيره يفنى و يبطل ملك كلّ مالك إلّا ملكه، فاذا كان المال في معرض الفناء و الزّوال فأجدر بالعاقل أن لا يبخل بالانفاق، و لا يحرص على الامساك، فيكون وزره عليه و نفعه لغيره السابعة أنّه سبحانه خبير بما يعمله المكلّفون بصير بمخالفتهم لأمره لا يعزب عن علمه بخلهم بالانفاق و منعهم عن أهل الاستحقاق، فسيذيقهم و بال أمرهم عند المساق، اذا التفّت السّاق بالساق.
(و اما الآية الثانية) فقد روى الطبرسيّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه لما نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تبّا للذّهب و الفضّة، يكرّرها ثلاثا، فشقّ ذلك على أصحابه فسأله عمر: أىّ المال نتّخذ؟ فقال: لسانا ذاكرا، و قلبا شاكرا، و زوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه.
و عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّ و عن التّهذيب عن الصادق عليه السّلام ما أعطى اللّه عبدا ثلاثين ألفا و هو يريد به خيرا و قال ما جمع رجل قطّ عشرة ألف درهم من حلّ و قد يجمعها لأقوام إذا أعطى القوت و رزق العمل فقد جمع اللّه له الدّنيا و الآخرة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 418
و محصّل المعنى أنّ الذين يجمعون المال و لا يؤدّون زكاتهم فأخبرهم بعذاب موجع، و للتعبير عن ذلك بلفظ البشارة مبنيّ على التهّكّم، لأنّ من يكنز الذّهب و الفضّة فانما يكنزهما لتحصيل الوجاهة بهما يوم الحاجة، و التوسل الى الفرج يوم الشدّة فقيل له: هذا هو الوجاهة و الفرج كما يقال تحيّتهم ليس إلّا الضرب و إكرامهم ليس إلّا الشتم «يوم يحمى عليها» أى يوقد على الكنوز «فى نار جهنّم» حتى تصير نارا «فتكوى بها» أى بتلك الأموال و الكنوز التي منعوا حقوقها الواجبة «جباههم و جنوبهم و ظهورهم» و تخصيص هذه الأعضاء بالكىّ بوجوه.
أحدها أنّ منظورهم بكسب الأموال و ترك الانفاق ليس إلّا الأغراض الدّنيويّة و هو حصول الوجاهة لهم عند النّاس و حصول الشّبع لهم بأكل الطّيبات فينفتح منه الجنبان و لبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فوقع الكىّ على هذه الأعضاء جزاء لأغراضهم الفاسدة.
الثاني أنّ الجباه كناية عن مقاديم البدن و الجنون عن طرفيه و الظهور عن المآخير، و المراد به أنّ الكيّ يستوعب تمام البدن.
الثالث أنّ الجبهة محلّ السّجود فلم يقم فيه بحقّه و الجنب مقابل القلب الّذي لم يخلص في معتقده، و الظّهر محلّ الأوزار قال: يحملون أوزارهم على ظهورهم.
الرّابع أنّ هذه الأعضاء مجوفة و ليست بمصمتة و في داخلها آلات ضعيفة يعظم التألم بسبب وصول أدنى أثر اليها، بخلاف ساير الأعضاء.
الخامس و هو أحسن الوجوه و ألطفها أنّ صاحب المال إذا رأى الفقير أوّلا قبض جبهته و عبس وجهه و إذا دار الفقير يوليه جنبه و إذا دار يولّيه ظهره و قوله «هذا ما كنزتم لأنفسكم» أى يقال لهم في حالة الكىّ هذا هو الذى ادّخرتموه لأنفسكم، و هو تبكيت لهم بأنّ المال الذى بخلتم بانفاقه و ادّخرتموه لتنتفعوا به صار عذابكم به، فكأنّكم أكنزتموه ليجعل عقابا لكم «فذوقوا» عقاب «ما كنتم تكنزون» به لا بغيره.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 419
قال الطّبرسيّ صاحب التفسير قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من عبد له مال لا يؤدّى زكاته إلّا جمع يوم القيامة صفايح يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته و جنباه و ظهره حتّى يقضى اللّه بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثمّ يرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النّار قال و روى ثوبان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ترك كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ينتبعه و يقول: ويلك ما أنت، فيقول أنا كنزك الذي تركت بعدك فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثمّ يتبعه ساير جسده.
المقام الثاني في أسرار الزّكاة و دقايق بذل المال و هى امور:
الاول أنّ المؤمن الموحّد إذا أقرّ بالتّوحيد باللّسان لزم إذعانه به بالجنان:
و معنى التوحيد إفراد المعبود بالمحبوبيّة و اخلاص القلب عمّا سواه و الفراغ عن كلّ ما عداه، فانّ المحبّة أمر لا يقبل الشركة و الأموال محبوبة عند الخلايق، لأنّها آلة تمتّعهم بالدّنيا، و بسببها يأنسون بهذا العالم و ينفرون عن الموت مع أنّ فيه لقاء المحبوب، فجعل اللّه بذل المال امتحانا لهم و تصديقا لدعوتهم المحبّة له سبحانه و الناس في ذلك ثلاثة أصناف:
صنف صدقوا التوحيد و حذفوا عن ساحة قلوبهم ما سوى المعبود و بذلوا أموالهم من غير تعرّض بوجوب الزّكاة و لم يدّخروا لأنفسهم دينارا و لا درهما، و لم يتركوا بعدهم صفراء و لا بيضاء، و هم الذين قال اللّه سبحانه في حقهم: «وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً».
روى في الكافي باسناده عن محمّد بن سنان عن المفضّل قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فسأله رجل في كم تجب الزّكاة من المال؟ فقال عليه السّلام له: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقال: أريدهما جميعا، فقال عليه السّلام: أمّا الظّاهرة ففي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 420
كلّ ألف خمسة و عشرون، و أمّا الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك.
و صنف درجتهم دون درجة الصنف السابق و هم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات و مواسم الخيرات، فيكون قصدهم في الادّخار الانفاق على نفسه و عياله الواجب النفقة بقدر الحاجة، و صرف الفاضل إلى وجوه البرّ مهما ظهر، و هؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزّكاة و هم الذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل و المحروم.
روى في الكافي باسناده عن أبي بصير قال: كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام و معنا بعض أصحاب الأموال، فذكروا الزكاة فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الزكاة ليس يحمد بها صاحبها، و انما هو شيء ظاهر إنما حقن بهادمه و سمّى بها مسلما، و لو لم يؤدّها لم يقبل له صلاة، و إنّ عليكم في أموالكم غير الزكاة، فقلت أصلحك اللّه و مالنا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال عليه السّلام: سبحان اللّه أما تسمع اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ» .
قال: ما ذا الحقّ المعلوم الذي علينا؟ قال عليه السّلام: هو الشيء يعلمه الرجل في ماله يعطه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلّ أو كثر غير أنه يدوم عليه.
و عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ» .
أهو سوى الزكاة؟ فقال عليه السّلام: هو الرّجل يؤتيه اللّه الثروة من المال فيخرج منه الألف و الألفين و الثلاثة آلاف و الأقلّ و الأكثر فيصل به رحمه و يحمل به الكلّ عن قومه.
و عن القاسم عبد الرّحمن الأنصارى قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 421
رجلا جاء إلى أبي عليّ بن الحسين عليهما السّلام فقال له: أخبرني عن قوله اللّه عزّ و جلّ: «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ» ، ما هذا الحقّ المعلوم؟ فقال له عليّ بن الحسين عليهما السّلام: الحقّ المعلوم الشي ء يخرجه الرّجل من ماله ليس من الزّكاة و لا من الصّدقة المفروضين، قال: فاذا لم يكن من الزكاة و لا من الصدقة فما هو؟
فقال عليه السّلام: هو الشيء يخرجه الرّجل من ماله إن شاء أكثر و إن شاء أقلّ على قدر ما يملك، فقال له الرّجل: فما يصنع به؟ قال: يصل به رحما و يقوى به ضعيفا و يحمل به كلّا أو يصل به أخا له في اللّه أو لنائبة تنوبه فقال الرّجل: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته هذا.
و المحروم الرّجل الذي ليس بعقله بأس و لم يبسط له في الرزق، و رواه الكلينيّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.
و الصنف الثالث الذين يقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليه و لا ينقصون منه و هى أدون الرتب، و قد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال و فرط ميلهم إليه و ضعف حبّهم للاخرة.
السر الثاني من أسرار الزّكاة:
أنها مطهّرة من صفة البخل و هى صفة مذمومة من جنود النفس قال سبحانه: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها» و قال: «وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ».
الثالث أنّ شكر النّعمة واجب عقلا و شرعا:
و هو على ما قاله العلماء عبارة عن صرفها إلى طلب مرضات المنعم، فالعبادات البدنيّة شكر لنعمة البدن، و العبادات المالية شكر لنعمة المال، فيحكم العقل بوجوبها لكونها شكرا للمنعم، و ما أخسّ من ينظر إلى الفقير و قد ضيق عليه الرزق و انتقع لونه من مسّ الجوع ثمّ لا يسمح نفسه أن يؤدّى شكر اللّه تعالى على إغنائه عن السّؤال و إحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله.
قال الصّادق عليه السّلام في رواية سماعة بن مهران المرويّة في الكافي: و من أدى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 422
ما فرض اللّه عليه فقد قضى ما عليه و أدّى شكر ما انعم اللّه عليه في ماله إذا هو حمده على ما أنعم اللّه عليه فيه بما فضّله به من السّعة على غيره، و لما وفّقه لأداء ما فرض اللّه عزّ و جلّ عليه و أعانه عليه.
الرابع أنّ النفس الناطقة لها قوّتان:
نظريّة و عمليّة، فالقوّة النظريّة كما لها في التعظيم لأمر اللّه، و القوّة العمليّة كمالها في الشفقّة على خلق اللّه فأوجب اللّه الزّكاة ليحصل لجوهر الرّوح هذا الكمال، و هو اتّصافه بكونه محسنا إلى الخلق، ساعيا في ايصال الخيرات إليهم، دافعا للآفات عنهم.
الخامس أنّ المال سمّى مالا لميل كلّ أحد إليه:
و هو في معرض التلف و الزّوال مهادم في يده فهو غاد و رائح، و إذا أنفق في مصارف الخير و وجوه اللّه بقى بقاء لا يزول، لأنّه يوجب الثناء الجميل في الدّنيا و الثواب الجزيل في الآخرة، و قد مرّ في الخطبة الثانية و العشرين أنّ لسان الصدق يجعله اللّه للمرء في النّاس خير له من المال يورثه غيره، فانّ المراد بلسان الصدق هو الذكر الجميل، قال حاتم لامرأته مارية:
أمارىّ إنّ المال غاد و رائح و يبقى من المال الأحاديث و الذكر
لقد علم الأقوام لو أنّ حاتما أراد ثراء المال كان له و قر
السادس أنّ كثرة المال موجبة لحصول الطغيان و الانحراف عن سبيل الرحمن كما قال عزّ من قائل: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» .
فأوجب اللّه الزكاة لتقليل سبب الطغيان و جبرا لمفسدته، إلى غير ذلك من الأسرار التي يستنبطها العقل بأدنى توجّه، و اللّه الهادى إلى الخيرات.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 423
(و) السادس (صوم شهر رمضان فانّه جنّة من العقاب) و وقاية من النّار يوم الحساب:
و انما خصّه بهذه العلة مع كون ساير العبادات كذلك لكونه أشدّ وقاية من غيره، بيان ذلك أنّ استحقاق الانسان للعقوبة إنّما هو بقربه من الشيطان و اطاعته له و للنفس الامّارة، و بشدّة القرب و ضعفه يتفاوت العقاب شدّة و ضعفا، و بكثرة الطاعة و قلّتها يختلف العذاب زيادة و نقصانا، و سبيل الشّيطان على الانسان و وسيلته إليه إنّما هي الشّهوات، و قوّة الشهوة بالأكل و الشرب، فبالجوع و الصوم يضعف الشهوة و ينكسر صولة النفس و ينسد سبيل الشيطان و ينجى من العقوبه و الخذلان، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع.
و قال صلوات اللّه عليه و آله لعايشة: و ادمى قرع باب الجنّة، قالت: بماذا؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بالجوع.
قال الغزالي في احياء العلوم في تعداد فوائد الجوع و يأتي إنشاء اللّه جميعها في التّذييل الثاني من شرح الفصل الثاني من الخطبة المائة و التاسعة و الخمسين:
«الفائدة الخامسة» و هى من أكبر الفوائد كسر شهوات المعاصي كلّها و الاستيلاء على النّفس الامارة بالسّوء، فانّ منشأ المعاصي كلّها الشهوات و القوى و مادّة الشهوات و القوى لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كلّ شهوة و قوّة، و إنّما السعادة كلّها في أن يملك الرّجل نفسه، و الشقاوة في أن تملكه نفسه، و كما أنّك لا تملك الدّابة الجموح إلّا بضعف الجوع، فاذا شبعت قويت و شردت و جمحت فكذلك النفس، و هذه ليست فائدة واحدة، بل هى خزائن الفوائد، و لذلك قيل الجوع خزانة من خزائن اللّه.
فقد اتّضح بذلك كون الصّوم جنّة من النّار، و وقاية من غضب الجبّار، و أنّ فيه من إذلال النّفس و قهر إبليس و كسر الشهوات ما ليس في ساير العبادات و هو واجب بالضرورة من الدّين و اجماع المسلمين و نصّ الكتاب المبين قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 424
قال الصادق عليه السّلام في هذه الآية: لذّة ما في النداء أزال تعب العبادة و العناء و في قوله: لعلّكم تتّقون، إشارة إلى ما ذكرنا سابقا من أنّ الصوم جنّة و وقاية به يتّقى من العقاب و ينجى من العذاب.
و المستفاد من الآية الشريفة أنّ الصّوم كان مكتوبا مفروضا على الامم السالفة كما أنه مكتوب على الامة المرحومة، و لا خلاف في ذلك، و إنّما الخلاف في أنّ الصوم المفروض علينا بهذه الكيفية المخصوصة في وقته و عدده هل كان في ساير الامم كذلك ذهب بعض العامّة إلى ذلك على ما حكاه في مجمع البيان، حيث روى فيه عن الشعبي و الحسن أنهما قالا إنه فرض علينا صوم شهر رمضان كما كان فرض صوم شهر رمضان على النّصارى، و كان يتّفق ذلك في الحرّ الشديد و البرد الشديد فحوّلوه إلى الرّبيع و زادوا في عدده.
و ذهب آخرون إلى أن التّشبيه في الآية بين فرض صومنا و فرض صوم من تقدّمنا من الامم، أى كتب عليكم صيام أيّام كما كتب عليهم صيام أيّام، و ليس في ذلك تشبيه عدم الصوم المفروض علينا و لا وقته بعدد الصوم المفروض عليهم و لا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 425
وقته، قال الطبرسي: و هو اختيار أبي مسلم و الجبائي.
أقول: و هذا هو الأقوى و يدلّ عليه صريحا ما رواه في الفقيه عن سليمان ابن داود المنقرى عن حفص بن غياث النخعي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:
إنّ شهر رمضان لم يفرض اللّه صيامه على أحد من الامم قبلنا، فقلت له: فقول اللّه عزّ و جلّ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .
قال عليه السّلام: إنما فرض اللّه صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الامم، ففضّل اللّه به هذه الامّة و جعل صيامه فرضا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على امّته هذا.
و الكلام بعد في علّة وجوب الصوم و فضله و فضل صوم شهر رمضان خصوصا و الآداب التي يكون عليها الصايم.
(أما علة وجوب الصوم) ففي الفقيه سأل هشام بن الحكم أبا عبد اللّه عليه السّلام عن علّة الصّيام فقال عليه السّلام: إنما فرض اللّه الصيام ليستوى به الغنى و الفقير، و ذلك إنّ الغنى لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأنّ الغنىّ كلّما أراد شيئا قدر عليه، فأراد اللّه أن يسوّى بين خلقه و أن يذيق الغنى مسّ الجوع و الألم ليرقّ على الضعيف و يرحم الجائع.
و كتب أبو الحسن علىّ بن موسى الرّضا عليه السّلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: علّة الصّوم عرفان مسّ الجوع و العطش ليكون ذليلا مستكينا مأجورا محتسبا صابرا و يكون ذلك دليلا له على شدايد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشّهوات واعظا له في العاجل دليلا على الآجل ليعلم شدّة مبلغ ذلك من أهل الفقر و المسكنة في الدّنيا و الآخرة.
و روى عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام أنّه قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسأله أعلمهم من مسائل فكان فيما سأله أنّه قال: لأىّ شيء
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 426
فرض اللّه الصّوم على امّتك بالنّهار ثلاثين يوما و فرض على الامم أكثر من ذلك؟
فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ آدم عليه السّلام لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوما ففرض اللّه على ذرّيته «1» ثلاثين يوما الجوع و العطش، و الذي يأكلونه باللّيل تفضّل من اللّه عليهم و كذلك كان على آدم ففرض اللّه عزّ و جلّ ذلك على امتي ثمّ تلى هذه الآية: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ».
قال اليهودى صدقت يا محمّد فما جزاء من صامها؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابا إلّا أوجب اللّه له سبع خصال: أولها يذوب الحرام من جسده و الثانية يقرب من رحمة اللّه و الثالثة يكون قد كفّر خطيئة أبيه آدم عليه السّلام و الرابعة يهوّن اللّه عليه سكرات الموت و الخامسة أمان من الجوع و العطش يوم القيامة و السادسة يعطيه اللّه برائة من النّار و السابعة يطعمه اللّه من طيّبات الجنّة، قال: صدقت يا محمّد.
(و أما فضل الصوم) مطلقا ففي الكافي و الفقيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بنى الاسلام على خمسة أشياء: على الصّلاة، و الزكاة، و الصّوم، و الحجّ، و الولاية، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصّوم جنّة من النار.
و فيهما عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لأصحابه: ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: الصوم يسوّد وجهه، و الصّدقة تكسر ظهره، و الحبّ في اللّه و الموازرة على العمل الصّالح يقطع دابره، و الاستغفار يقطع و تينه، و لكلّ شيء زكاة و زكاة لأبدان الصّيام.
______________________________
(1) اى ذريته من امة محمد و من الانبياء السالفين دون الامم السالفة كما ظهر من رواية حفص بن غياث و يظهر من قوله فى هذه الرواية ففرض اللّه ذلك على امتى منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 427
و فيهما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أوحى اللّه إلى موسى ما يمنعك من مناجاتي؟
فقال: يا ربّ اجلّك عن المناجاة لخلوف فم الصّايم، فأوحى اللّه إليه يا موسى لخلوف فم الصّايم أطيب عندى من ريح المسك.
و عنه عليه السّلام للصّائم فرحتان: فرحة حين افطاره، و فرحة حين لقاء ربّه.
و قال عليه السّلام من صام اللّه يوما في شدّة الحرّ فأصابه ظماء وكّل اللّه به ألف ملك يمسحون وجهه و يبشّرونه حتّى إذا أفطر قال اللّه عزّ و جلّ: ما أطيب ريحك و روحك يا ملائكتي اشهدوا أنى قد غفرت له.
و في الكافي عن أبي الصباح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: الصوم لي و أنا اجزى عليه، و رواه في الفقيه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثله إلّا أنّ فيه به بدل عليه.
و تخصيصه من بين ساير العبادات مع كون جميعها للّه سبحانه من جهة مزيد اختصاصه به تعالى، إمّا لأجل أنّ الصّوم عبادة لم يعبد بها غير الحقّ سبحانه بخلاف ساير العبادات و الرّكوع و القيام و القربان و نحوها، فانها ربما تؤتى بها للمعبودات الباطلة كما يعبد بها للمعبود بالحقّ، و أما الصّوم فلم يتعبّد به إلّا للّه سبحانه و تعالى، أو لأنّ الصوم عبادة خفيّة بعيدة عن الرّيا و ليست مثل ساير العبادات التي تعلّقها بالجوارح و الأعضاء الظاهرة غالبا، و لذلك لم تسلم من الشرك الخفى و الرياء كثيرا.
(و أما فضل شهر رمضان) و فضل صومه ففي الوسايل عن جابر بن عبد اللّه قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اعطيت أمّتي في شهر رمضان خمسا لم يعطها اللّه امة نبيّ قبلي إذا كان أوّل يوم منه نظر اللّه إليهم فاذا نظر اللّه عزّ و جلّ إلى شي ء لم يعذّبه بعدها، و خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند اللّه من ريح المسك، و يستغفر لهم الملائكة كلّ يوم و ليلة منه، و يأمر اللّه عزّ و جلّ جنّته فيقول تزّيني لعبادى المؤمنين يوشك أن يستريحوا من نصب الدّنيا و اذاها إلى جنّتي و كرامتي، فاذا كان آخر ليلة منه غفر اللّه عزّ و جلّ لهم جميعا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 428
و عن عليّ بن موسى الرّضا عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
رجب شهر اللّه الأصبّ و شهر شعبان تتشعّب فيه الخيرات و في أوّل يوم من شهر رمضان تغلّ المردة من الشياطين و يغفر في كلّ ليلة لسبعين ألفا فاذا كان ليلة القدر غفر اللّه لمثل ما غفر في رجب و شعبان و شهر رمضان إلى ذلك اليوم إلّا رجل بينه و بين أخيه شحناء، فيقول اللّه عزّ و جلّ انظروا هؤلاء حتّى يصطلحوا.
و عن عليّ بن الحسين عليه السّلام كان يقول: إنّ للّه عزّ و جلّ في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الافطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كلّ قد استوجب النار، فاذا كان آخر ليلة من شهر رمضان اعتق مثل ما اعتق في جميعه.
و عن الصّادق عليه السّلام قال: حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث قال: من صام شهر رمضان و حفظ فرجه و لسانه و كفّ أذاه عن النّاس غفر اللّه له ذنوبه ما تقدّم منها و ما تأخّر، و أعتقه من النّار، و أدخله دار القرار، و قبل شفاعته بعدد رمل عالج من مذنبي أهل التّوحيد.
و في العيون باسناده عن حسن بن فضال عن أبيه عن الرّضا عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطب ذات يوم فقال:
أيّها النّاس إنه قد أقبل إليكم شهر اللّه بالبركة و الرّحمة و المغفرة، شهر هو عند اللّه أفضل الشّهور، و أيّامه أفضل الأيام، و لياليه أفضل اللّيالي، و ساعاته أفضل السّاعات، و هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللّه، و جعلتم فيه من أهل كرامة اللّه، أنفاسكم فيه تسبيح، و نومكم فيه عبادة، و عملكم فيه مقبول، و دعاؤكم فيه مستجاب فاسألوا اللّه ربّكم بنيّات صادقة و قلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه و تلاوة كتابه فانّ الشقيّ من حرم غفران اللّه في هذا الشهر العظيم، و اذكروا بجوعكم و عطشكم فيه جوع يوم القيامة و عطشه، و تصدّقوا على فقرائكم و مساكينكم، و وقّروا كباركم، و ارحموا صغاركم، و صلوا أرحامكم، و احفظوا ألسنتكم، و غضّوا عما لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، و عما لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم و تحنّنوا على أيتام الناس يتحنّن على أيتامكم، و توبوا إلى اللّه من ذنوبكم، و ارفعوا اليه أيديكم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 429
بالدّعاء في أوقات صلاتكم، فانّها أفضل السّاعات ينظر اللّه عزّ و جلّ فيها إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه، و يلبّيهم إذا نادوه، و يعطيهم إذا سألوه، و يستجيب لهم اذا دعوه.
أيّها الناس إنّ انفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، و ظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم، و اعلموا أنّ اللّه أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين و السّاجدين، و أن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين أيّها النّاس من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند اللّه عتق نسمة، و مغفرة لما مضى من ذنوبه، فقيل يا رسول اللّه فليس كلّنا نقدر على ذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتّقوا النّار و لو بشقّ تمرة، اتّقوا النّار و لو بشربة من ماء، أيها الناس من حسن في هذا الشهر منكم خلقه كان له جوازا على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام، و من خفّف في هذا الشّهر عمّا ملكت يمينه خفّف اللّه عليه حسابه، و من كفّ فيه شرّه كفّ اللّه عنه غضبه يوم يلقاه، و من أكرم فيه يتيما أكرمه اللّه يوم يلقاه، و من وصل فيه رحمه وصله اللّه برحمته يوم يلقاه، و من تطوّع فيه بصلاة كتب اللّه له برائة من النّار، و من أدّى فيه فرضا كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، و من أكثر فيه من الصلوات علىّ ثقّل اللّه له ميزانه يوم تخفّ الموازين، و من تلى فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.
أيّها الناس إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فاسألوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم، و أبواب النيران مغلقة فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، و الشياطين مغلولة فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام فقمت و قلت يا رسول اللّه ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم اللّه عزّ و جلّ، ثمّ بكى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت: ما يبكيك يا رسول اللّه؟ فقال: أبكى لما يستحلّ منك في هذا الشهر، كأنّي بك و أنت تصلّى لربّك و قد انبعث أشقى الأوّلين
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 430
و الآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك، فقلت: يا رسول اللّه و ذلك في سلامة من ديني؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: في سلامة من دينك ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ من قتلك فقد قتلني، و من أبغضك فقد أبغضني، لأنك منّي كنفسي و طينتك من طينتى و أنت وصيّي و خليفتي على امتي.
(و أما آداب الصوم) و الحالات التي يجب أن يكون الصّائم عليها فنقول: إنّ الصّوم على ثلاث مراتب و درجات بعضها فوق بعض الاولى صوم العموم الثانية صوم الخصوص الثالثة صوم الأخصّ.
أما صوم العموم فهو المفروض على عامة المكلّفين، و هو الكفّ عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى الغروب الشرعى مع النيّة، و المشهور في المفطرات أنها عشرة: الأكل، و الشرب، و الجماع، و البقاء على الجنابة عمدا، و في حكمه النوم بعد انتباهتين، و الغبار الغليظ، و في حكمه الدخان كذلك، و الكذب على اللّه سبحانه و رسوله و الأئمة عليهم السّلام، و الارتماس، و الاستمناء مع خروج المني، و الحقنة، و القيء و التفصيل مذكور في الكتب الفقهيّة.
و أمّا صوم الخصوص فهو أن يكون جامعا لشرائط الكمال مضافة إلى شرايط الصحّة كما أشار إليه الامام سيّد السّاجدين و زين العابدين عليه السّلام في دعائه عند دخول شهر رمضان حيث قال: «اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد و ألهمنا معرفة فضله و اجلال حرمته و التحفّظ ممّا حظرت فيه، و أعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك و استعمالها بما يرضيك حتّى لا نصغى بأسماعنا إلى لغو و لا نسرع بأبصارنا إلى لهو، و حتّى لا نبسط أيدينا إلى محظور و لا نخطو بأقدامنا إلى محجور، و حتّى لا تعى بطوننا إلّا ما أحللت، و لا تنطق ألسنتنا إلّا بما مثلث، و لا نتكلّف إلّا ما يدنى من ثوابك و لا نتعاطى إلّا ما يقي من عقابك، ثمّ خلص ذلك كلّه من رياء المرائين و سمعة المسمعين لا نشرك فيه أحدا دونك، و لا نبغى به معبودا سواك».
و محصّل شروط الكمال أن لا يكون يوم صومه كيوم فطره، و مداره على امور:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 431
منها غضّ السّمع و البصر عن محارم اللّه، و عن كلّ ما يلهى النّفس عن ذكر اللّه، و كذلك حفظ ساير الأعضاء عن المعاصي و الآثام.
قال أبو عبيد اللّه عليه السّلام في رواية الكافي: إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و شعرك و جلدك و عدّد أشياء غير هذا و قال: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك، و تقدّم ما يدلّ على ذلك، و سيأتي أيضا.
و منها حفظ اللّسان عن الهذيان و الكذب و الغيبة و النّميمة و الفحش و الخصومة بل عن مطلق التّكلّم الّا بذكر اللّه.
روى في الكافي عن جراح المدايني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الصيام ليس من الطّعام و الشراب وحده ثمّ قال عليه السّلام: قالت مريم: إنّي نذرت للرحمن صوما أى صمتا، فاحفظوا ألسنتكم و غضّوا أبصاركم و لا تنازعوا و لا تحاسدوا.
قال: و سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امرأة تسبّ جارية لها و هي صائمة، فدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بطعام فقال لها: كلى، فقالت: إنّي صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة و قد سببت جاريتك، إنّ الصّوم ليس من الطعام و الشّراب.
قال: و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إذا صمت فليصم سمعك و بصرك من الحرام و القبيح و دع المراء و أذى الخادم، و ليكن عليك و قار الصّيام، و لا تجعل يوم صومك كيوم فطرك.
و يأتي إنشاء اللّه في شرح الكلام المأة و الأربعين في ضمن الأخبار الواردة في حرمة الغيبة حديث الفتاتين الصّائمتين الذي رواه المحدّث الجزائري في الأنوار النعمانية و فيه تنبيه على عظم خطر الغيبة في حال الصيّام فانتظر لما يتلى عليك و تبصّر.
و عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من عبد صالح يشتم فيقول: إنّي صائم سلام عليك لا أشتمك كما تشتمني إلّا قال الرّب تبارك و تعالى: استجار عبدى بالصّوم من شرّ عبدي و قد أجرته من النّار.
و عن حمّاد بن عثمان و غيره عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: لا ينشد الشعر بليل
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 432
و لا ينشد في شهر رمضان بليل و لا نهار، فقال له إسماعيل: يا أبتاه و إن كان فينا، فقال عليه السّلام: و إن كان فينا.
و بالجملة فاللازم على الصّائم التحفظ من سقطات اللّسان و فضول البيان و المواظبة على الاستغفار و الدّعاء و تلاوة القرآن و ساير الأذكار.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام: عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار و الدّعاء، فأما الدّعاء فيدفع به عنكم البلاء، و أمّا الاستغفار فتمحى به ذنوبكم.
و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام و كان عليّ بن الحسين عليه السّلام إذا كان شهر رمضان لم يتكلّم إلّا بالدّعاء و التسبيح و الاستغفار و التكبير فاذا أفطر قال: اللّهم إن شئت أن تفعل فعلت.
و منها ترك شمّ الرّياحين و لا سيّما النرجس.
و منها الكفّ عن الافطار على الشّبهات، روى في الوسائل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: جاء قنبر مولى عليّ عليه السّلام بفطره اليه فجاء بجراب فيه سويق و عليه خاتم قال عليه السّلام: فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لهو البخل تختم على طعامك قال: فضحك عليه السّلام ثمّ قال: أو غير ذلك لا أحبّ أن يدخل بطني شي ء لا أعرف سبيله.
و منها أن لا يكثر من الحلال وقت الافطار بحيث يمتلي و يثقل فما من وعاء أبغض الى اللّه من بطن مملوّ.
روى في البحار عن مجالس ابن الشّيخ (ره) باسناده عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام في حديث طويل لابليس مع يحيى عليه السّلام قال: قال يحيى عليه السّلام: فهل ظفرت بي ساعة قطّ؟ قال: لا، و لكن فيك خصلة تعجبني، قال يحيى عليه السّلام: فما هى؟
قال: أنت رجل أكول فاذا أفطرت أكلت و بشمت، فيمنعك ذلك من بعض صلاتك و قيامك باللّيل، قال يحيى: فانى اعطى اللّه عهدا أني لا أشبع من الطعام حتى ألقاه، قال له إبليس: و أنا أعطى اللّه عهدا أنى لا أنصح مسلما حتّى ألقاه ثمّ خرج فما عاد اليه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 433
و منها أن يكون قلبه بعد الافطار مضطربا بين الخوف و الرّجاء إذ لا يدرى أنّ صومه مقبول فهو من المقرّبين أو مردود فهو من المحرومين.
مرّ بعض أصحاب العقول بقوم يوم عيدهم و هم ضاحكون مستبشرون فقال: إنّ اللّه سبحانه جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته فسبق أقوام ففازوا و تخلّف أقوام فخابوا فالعجب كلّ العجب للضاحك اللّاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون و خاب فيه المبطلون. «1» و أمّا صوم أخص الخواصّ فصوم القلوب عن الهمم الدّنيوية و الأغراض الدّنية و كفّه عن التوجّه إلى ما سوى اللّه بالكلّية لدوام استغراقه بالحقّ عن الالتفات بغيره، فالفطر في هذا الصّوم الذي هو فيه هو الفكر فيما سوى اللّه و اليوم الآخر و صرف الهمة في غير طاعة اللّه و طاعة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أغراض النفس و مقاصد الطبع.
(و) السابع (حجّ البيت و اعتماره فانّهما ينفيان الفقر و يرحضان الذّنب):
أى يغسلانه و يطهّرانه و قد مضى الكلام في فضل الحجّ و المشاعر العظام و فضل البيت الحرام بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثامن عشر من فصول الخطبة الاولى، و نورد هنا ما لم يسبق ذكره هناك.
فأقول: تعليل الحجّ و الاعتمار بنفى الفقر و رحض الذنب إشارة إلى أنّ فيهما جمعا بين منفعة الدنيا و منفعة الآخرة و إلى ذلك أشار سبحانه في سورة الحجّ بقوله: «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» .
قال ابن عباس: يعنى بالمنافع التجارات، و قال سعيد بن المسيّب و عطيّة: هى منافع
______________________________
(1) هذا الذى ذكره المصنف «قد» عن بعض أصحاب العقول نسبه الفاضل النراقى أعلا اللّه مقامه في «جامع السعادات» الى الامام (ع) حيث قال: روى أنّ الامام أبا محمد الحسن المجتبى (ع) مرّ بقوم يوم العيد و هم يضحكون فقال (ع) انّ اللّه تعالى «إلخ» إلّا أنّ فيه «لطاعته» بدل «بطاعته» و قال في آخره: أما و اللّه لو كشف الغطا لاشتغل المحسن باحسانه و المسىء عن اسائته «المصحح»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 434
الآخرة و هي العفو و المغفرة، و قال مجاهد: هي التّجارة في الدّنيا و الأجر و الثّواب في الآخرة.
و يشعر به المرويّ عن الصّادق عليه السّلام حيث قال في رواية: إنّي سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول: ليشهدوا منافع لهم فقيل: منافع الدّنيا أو منافع الآخرة؟ فقال عليه السّلام: الكلّ.
و في الفقيه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما من حاجّ يضحّى ملبّيا حتّى تزول الشمس إلّا غابت ذنوبه معها، و الحجّ و العمرة ينفيان الفقر كما ينفى الكير خبث الحديد و في الكافي باسناده عن خالد القلانسي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال عليّ ابن الحسين عليهما السّلام: حجّوا و اعتمروا تصحّ أبدانكم و تتّسع أرزاقكم و تكفون مؤنات عيالاتكم، و قال عليه السّلام الحاجّ مغفور له و موجوب له الجنّة و مستأنف له العمل و محفوظ في أهله و ماله.
و عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحجّة ثوابها الجنّة، و العمرة كفّارة لكلّ ذنب.
و عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي قد وطنت نفسى على لزوم الحجّ كلّ عام بنفسى أو برجل من أهل بيتي بما لي، فقال عليه السّلام و قد عزمت على ذلك؟ قال: قلت: نعم، قال: إن فعلت فأيقن بكثرة المال.
و عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يخالف «1» الفقر و الحمى مدمن الحجّ و العمرة.
و عن أبي محمّد الفرا قال: سمعت جعفر بن محمّد عليه السّلام يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تابعوا بين الحجّ و العمرة فانهما ينفيان الفقر و الذّنوب كما ينفى الكير خبث الحديد و عن ابن الطيّار قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: حجج تترى و عمر تسعى يدفعن عيلة الفقر و ميتة السّوء.
أقول: المستفاد من هذه الروايات أنّ للحجّ و العمرة بذاتهما مدخليّة في زيادة المال و نفى الفقر لا من حيث التجارة الحاصلة في موسم الحجّ و قيام الأسواق حينئذ كما زعمه الشارح البحراني.
______________________________
(1) اى لا يأتي «منه» و قال في الوافى: المحالفة بالحاء المهملة: الملازمة و المعاقدة «المصحح»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 435
(و) الثامن (صلة الرّحم فانها مثراة في المال و منساة في الأجل):
يعنى أنها موجبة للزيادة في المال و التأخير في الأجل، و محلّ لهما، و قد مرّ الكلام فيها مستوفى في شرح الفصل الثاني من الخطبة الثالثة و العشرين.
قال الشارح البحراني: كونها مثراة في المال من وجهين:
أحدهما أنّ العناية الالهية قسمت لكلّ حيّ قسطا من الرّزق يناله مدّة الحياة الدّنيا و تقوم به صورة بدنه، فاذا اعدّت شخصا من النّاس للقيام بأمر جماعة و كفلة بامدادهم و معونتهم وجب في العناية إفاضة أرزاقهم على يده و ما يقوم بامدادهم بحسب استعداده لذلك، سواء كانوا ذوى أرحام أو مرحومين في نظره حتّى لو نوى قطع أحدهم فربما نقص ماله بحسب رزق ذلك المقطوع، و ذلك معنى كونه مثراتا للمال.
الثّاني أنّ صلة الرّحم من الأخلاق الحميدة التي يستمال بها طباع الخلق فواصل رحمه مرحوم في نظر الكلّ، فيكون ذلك سببا لامداده و معونته من ذوى الأمداد و المعانات كالملوك و نحوهم فكان صلة الرّحم مظنّة لزيادة المال.
و كونها منساة في الأجل من وجهين:
أحدهما أنّ صلة الرّحم توجب تعاطف ذوى الأرحام و توازرهم و معاضدتهم لواصلهم، فيكون عن أذى الأعداء أبعد و فى ذلك مظنّة تأخيره و طول عمره.
الثّاني أنّ مواصلة ذوى الأرحام توجب تعلّق هممهم ببقاء و اصلهم و اعداده بالدّعاء، و يكون دعاؤهم و تعلّق هممهم ببقائه من شرايط بقائه و نساء أجله فكانت مواصلتهم منساة في أجله.
(و) التاسع الصدقة و هى على قسمين: أحدهما (صدقة السرّ فانّها تكفّر الخطيئة):
و تطفي غضب الرّبّ سبحانه، و إنما خصّها بذلك مع كون ساير العبادات كذلك لكونها أبعد من الرّياء و تضمّنها من الخلوص و التقرّب ما ليس في غيرها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 436
روى في الكافي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: صدقة السرّ تطفى غضب الرّب تبارك و تعالى.
و عن عمار السّاباطي قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا عمار الصّدقة و اللّه في السّر أفضل من الصّدقة في العلانية، و كذلك و اللّه العبادة في السّر أفضل منها في العلانية.
و عن معلّى بن خنيس قال: خرج أبو عبد اللّه عليه السّلام في ليلة قد رشت و هو يريد ظلّة بني ساعدة فاتّبعته فاذا قد سقط منه شي ء فقال: بسم اللّه اللّهمّ ردّ علينا، قال: فأتيته فسلّمت عليه فقال عليه السّلام: معلّى قلت: نعم، جعلت فداك، فقال لي: التمس بيدك فما وجدت من شيء فادفعه الىّ، فاذا أنا بخبز منتشر كثير فجعلت أدفع عليه ما وجدت فاذا أنا بجراب أعجز عن حمله من خبز، فقلت: جعلت فداك أحمله على رأسى «عاتقى خ» فقال: لا، أنا أولى به منك و لكن امض معى، قال: فأتينا ظلّة بني ساعدة فاذا نحن بقوم نيام، فجعل يدسّ الرغيف و الرّغيفين حتى أتا على آخرهم ثمّ انصرفنا، فقلت: جعلت فداك يعرف هؤلاء الحق؟ فقال: لو عرفوه لو اسيناهم بالدّقة و الدّقة هي الملح إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يخلق شيئا إلّا و له خازن يخزنه إلّا الصدقة فانّ الرّب يليها بنفسه و كان أبي عليه السّلام إذا تصدّق بشي ء وضعه في يد السائل ثمّ ارتدّه منه فقبّل و شمّه ثمّ ردّه في يد السّائل، إنّ صدقة اللّيل تطفى غضب الرّب و تمحو الذّنب العظيم و تهوّن الحساب، و صدقة النهار تثمر المال و تزيد في العمر، إنّ عيسى بن مريم عليهما السلام لما أن مر على شاطي ء البحر رمى بقرص من قوته في الماء، فقال له بعض الحواريّين يا روح اللّه و كلمته لم فعلت هذا و انما هو من قوتك؟ قال عليه السّلام: فعلت هذا لدابة تأكله من دوابّ الماء و ثوابه عند اللّه عظيم.
(و) الثّاني (صدقة العلانية فانّها تدفع ميتة السّوء) كالغرق و الحرق و الهدم و نحوها.
و يدلّ عليه روايات اخر مثل ما رواه ثقة الاسلام الكلينيّ عطّر اللّه مضجعه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 437
باسناده عن عبد اللّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ الصّدقة باليد تقى ميتة السّوء و تدفع سبعين نوعا من أنواع البلاء و تفكّ عن لحى سبعين شيطانا كلّهم يأمره أن لا يفعل.
و عن أبي ولّاد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: بكروا بالصّدقة و ارغبوا فيها، فما من مؤمن يتصدّق بصدقة يريد بها ما عند اللّه ليدفع اللّه بها عنه شرّ ما ينزل من السّماء إلى الأرض في ذلك اليوم إلّا وقاه اللّه شرّ ما ينزل في ذلك اليوم.
و عن السّكوني عن جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه لا إله إلّا هو ليدفع بالصّدقة الدّاء و الدّبيلة «1» و الحرق و الغرق و الهدم و الجنون و عدّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سبعين بابا من السّوء.
و عن سالم بن مكرم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: مرّ يهودىّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: السّام عليك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليك، فقال أصحابه انما سلّم عليك بالموت، فقال الموت عليك قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و كذلك رددت، ثمّ قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إنّ هذا اليهودى يعضّه أسود في قفاه فيقتله، قال: فذهب اليهودى فاحتطب حطبا كثيرا فاحتمله ثمّ لم يلثب أن انصرف فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ضعه، فوضع الحطب، فاذا أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال: يا يهودى أىّ شيء عملت اليوم؟
قال: ما عملت عملا إلّا حطبي هذا احتملته و جئت به فكان معى كعكتان فأكلت واحدة و تصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بها دفع اللّه عنك، فقال: إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان.
و عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ الصّدقة لتدفع سبعين بلية من بلايا الدّنيا مع ميتة السوء، إنّ صاحبها لا يموت ميتة السوء أبدا مع ما يدخر لصاحبها من الأجر في الآخرة.
(و) العاشر (صنايع المعروف فانها تقى مصارع الهوان) المعروف اسم لكلّ فعل يعرف
______________________________
(1) بضم الدال الطاعون و داء في الجوف، منه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 438
حسنه بالعقل و الشرع كالاحسان و البرّ و الصّلة و الصّدقة على الناس و الرفق معهم و ساير أعمال الخير، و اصطناع المعروف لما كان مستلزما لتأليف قلوب الخلق و جامعا لهم على محبة المصطنع لاجرم كان وقاية له، و النّاس يتّقون قتله و يجتنبون عن فعل ما يوجب الهوان به و ذلّته و هو ظاهر.
و نظير هذا الكلام ما رواه عبد اللّه بن ميمون القداح عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: صنايع المعروف تقى مصارع السوء.
و روى عبد اللّه بن سليمان قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ صنايع المعروف تدفع مصارع السّوء.
و هذا من جملة خواصّه في الدّنيا و منها أيضا زيادة البركة.
روى السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ البركة أسرع إلى البيت الذي يمتار «1» منه «فيه خ» المعروف من الشفرة إلى سنام البعير أو من السّيل الى منتهاه.
و أمّا ثمراته الاخروية فكثيرة اشيرت اليها في أخبار متفرّقة ففى الفقيه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أوّل من يدخل الجنة المعروف و أهله و أوّل من يرد علىّ الحوض، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
أهل المعروف في الدّنيا أهل المعروف في الآخرة، و تفسيره انه اذا كان يوم القيامة قيل لهم: هبوا حسناتكم لمن شئتم و ادخلو الجنة، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ معروف صدقة و الدّالّ على الخير كفاعله و اللّه يحبّ اغاثة اللهفان.
و قال الصّادق عليه السّلام: أيّما مؤمن أوصل الى أخيه المؤمن معروفا فقد أوصل ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال عليه السّلام: المعروف شيء سوى الزّكاة فتقرّبوا إلى اللّه عزّ و جلّ بالبرّ و صلة الرّحم، و قال عليه السّلام: رأيت المعروف كاسمه و ليس شيء أفضل من المعروف إلّا ثوابه، و ذلك يراد منه، و ليس كلّ من يحبّ أن يصنع المعروف الى الناس يصنعه و ليس كلّ من يرغب فيه يقدر عليه و لا كلّ من يقدر عليه يوزن له فيه فاذا اجتمعت الرغبة و القدرة و الاذن فهنا لك تمّت السّعادة للطالب و المطلوب اليه.
______________________________
(1) يمتار فيه اى يأخذ فيه الميرة، لغة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 7، ص: 439
و قال الصّادق عليه السّلام أيضا: رأيت المعروف لا يصلح الّا بثلاث خصال: تصغيره، و ستره، و تعجيله فانّك إذا صغّرته عظّمته عند من تصنعه اليه، و إذا سترته تمّمته، و إذا عجّلته هنّاته، و ان كان غير ذلك محققه و نكدته، و رواه في الكافي باسناده عنه عليه السّلام نحوه، و هو إشارة إلى بعض آداب صنع المعروف.
و من جملتها أيضا ما اشير اليه في رواية مفضّل بن عمر قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا مفضّل إذا أردت أن تعلم الى خير يصير الرّجل أم إلى شرّ انظر الى أين يضع معروفه، فان كان يضع معروفه عند أهله فاعلم أنّه يصير إلى خير، و إن كان يضع معروفه عند غير أهله فاعلم أنّه ليس له في الآخرة من خلاق.
الترجمة:
از جمله خطبهاى شريفه آن حجت زمان و قدوة عالميانست در وصف شعائر اسلام و حثّ و ترغيب بر آن مى فرمايد:
بتحقيق بهترين چيزى كه تقرّب ميكنند بآن تقرّب جويندگان بسوى پروردگار عالميان كه منزّه و مقدّس است از هر گونه عيب و نقصان، ايمان و تصديق است بذات او و به پيغمبر برگزيده او، و جهاد است در راه او پس بتحقيق كه جهاد بلندي اسلام است، ديگر از اسباب تقرّب كلمه اخلاص يعنى كلمه طيبه لا إله الّا اللَّه است پس بدرستى كه آن كلمه مباركه توحيد است و معرفت، ديگر بر پا داشتن نماز پنج گانه پس بتحقيق كه او است ملّت، و دادن زكاة است كه او است فرض و واجب و روزه ماه مبارك رمضان است كه سپر است از عقوبت، و حجّ خانه خدا و عمره بجا آوردن است در آن كه آن حجّ و عمره بر مى دارند فقر و پريشانى را و مى شويند گناه را، وصله أرحام است كه مايه أفزونى مال است و درازى عمر، و صدقه دادن است پنهان كه كفّاره گناهانست، و صدقه دادنست آشكارا كه دفع كننده مردن زشت است چون سوختن و غرق شدن و مثل آن، و كارهاى نيكو كردنست كه نگه مى دارد كردن آنها از كشته شدن در مواضع ذلّت.