منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 247
و إنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه، يقطعون به أيّام الحياة، و يهتفون بالزّواجر عن محارم اللّه في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط، و يأتمرون به، و ينهون عن المنكر، و يتناهون عنه، فكأنّما قطعوا الدّنيا إلى الاخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حقّقت القيامة عليهم عداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدّنيا، حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى النّاس، و يسمعون ما لا يسمعون. فلو مثّلتهم بعقلك في مقاومهم المحمودة، و مجالسهم المشهودة، و قد نشروا دواوين أعمالهم، و فرغوا لمحاسبة أنفسهم، على كلّ صغيرة و كبيرة أمروا بها فقصّروا عنها، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها، و حمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عن الإستقلال بها، فنشجوا نشيجا، و تجاوبوا نحيبا، يعجّون إلى ربّهم من مقاوم ندم و اعتراف. لرأيت أعلام هدى، و مصابيح دجى، قد حفّت بهم الملائكة، و تنزّلت عليهم السّكينة، و فتحت لهم أبواب السّماء، و أعدّت لهم مقاعد الكرامات في مقام اطّلع اللّه عليكم فيه، فرضي سعيهم، و حمد مقامهم، يتنسّمون بدعائه روح التّجاوز، رهائن فاقة إلى فضله، و أسارى ذلّة لعظمته، جرح طول الأسى قلوبهم، و طول البكاء عيونهم، لكلّ باب رغبة إلى اللّه منهم يد قارعة، يسئلون من لا تضيق لديه المنادح، و لا يخيب عليه الرّاغبون، فحاسب نفسك لنفسك، فإنّ غيرها من الأنفس عليها حسيب غيرك (52991- 52673).
اللغة:
و (هتف) به من باب ضرب هتافا بالضمّ صاح به. مجاز و (المقاوم) المجالس جمع المقامة و هي مفعلة من المقام و هما فى الأصل اسمان لوضع القيام إلّا أنّهم اتّسعوا فيهما فاستعملوهما استعمال المجلس و المكان قال تعالى «خير مقاما» أى مجلسا و (أقلّ) فلان بالشيء و استقلّ به إذا حمله قال تعالى «أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا» أى حملت الرّيح سحابا ثقالا بالماء و (النشيج) الصّوت مع بكاء و توجّع كما يرد الصبي بكاءه في صدره و (النّحيب) رفع الصّوت بالبكاء و (عجّ) عجّا من باب ضرب رفع صوته بالتّلبية و نحوها و (النسيم) نفس الرّيح الضعيف كالنسمة و تنسّم أى تنفّس و تنسّم النّسيم أى تشمّمه.
و (الرّوح) بالفتح الرّحمة و الرّاحة قال تعالى «لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» أى من رحمته، و يقال أيضا لنسيم الرّيح الطيّب من روّحت الدّهن ترويحا جعلت فيه ريحا طيبا طابت به ريحه فتروح أى فاحت رائحته و قال في مجمع البحرين في قوله تعالى «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ» إنّ الرّوح بفتح أوّله الرّاحة و الاستراحة أو الحياة الدّائمة، و بضمّه الرّحمة لأنّها كالرّوح للمرحوم، و بالوجهين قرء قوله: فروح.
و (المنادح) جمع المندح كقاتل و مقتل أو جمع المندوحة من ندح ندحا من باب منع اتّسع قال الفيروز آبادى: النّدح و بضمّ الكثرة و السّعة و ما اتّسع من الأرض كالنّدحة و النّدحة و المندوحة و المنتدح و (الحسيب) المحاسب و في بعض النسخ محاسب بدل حسيب.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 248
الاعراب:
و قوله: يقطعون به أيّام الحياة، الظرف مفعول به لا مفعول فيه مثل حيث في قوله تعالى «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» إذ المعني أنّه سبحانه يعلم نفس المكان المستحقّ للرّسالة لا شيئا في المكان، و ناصبها يعلم محذوفا مدلولا عليه بأعلم لا بأعلم نفسه لأنّ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، و قوله: لرأيت جواب فلو مثلتهم.
و قوله عليه السّلام: رهائن فاقة خبر لمبتدأ محذوف و قوله: لكلّ باب رغبة خبر قدّم على مسنده و هو يد قارعة، و منهم متعلّق برغبة و يحتمل أن يكون منهم يد قارعة خبر او مبتداء، فيكون لكلّ باب ظرف لغو متعلّق بقارعة و قدّم على متعلّقه للوسعة في الظروف.
و قوله: لا يخيب عليه الرّاغبون، تعديته بعلى لتضمين لا يخيب معنى التوكل أى متوكلين عليه، و على للاستعلاء المجازى كما في قوله تعالى « كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» فانّه تعالى شانه من استعلاء شيء عليه و لكنه إذا صار الشيء مشهورا في الاستعمال في شيء لم يراع معناه الأصلى نحو ما أعظم اللّه و منه: توكّلت على فلان كأنك تحمل ثقلك عليه، و منه توكّلت على اللّه صرّح بذلك نجم الأئمة الرضىّ، و يحتمل أن يكون عليه بمعنى فيه كما في قوله تعالى «وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ» فيكون متعلّقا بالرّاغبون أى لا يخيب الراغبون فيه و الأوّل أظهر.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 258
المعنى:
و اما الفصل الثالث:
فهو قوله عليه السّلام (و انّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا) أراد بهم إمّا خصوص نفسه و الطيبين من أولاده لأنّهم أهله حقيقة يسبّحون اللّيل و النّهار و لا يفترون و يذكرون اللّه قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكّرون في خلق السّموات و الأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلا.
و هم أيضا أهل الذّكر الّذي هو القرآن كما يشهد به ما في الكافي عن الفضيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ» قال عليه السّلام: الذكر القرآن و نحن قومه و نحن المسئولون.
و أهل الذكر الذى هو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما يدلّ عليه ما فيه عن عبد اللّه بن عجلان عن أبي جعفر عليه الصّلاة و السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الّذكر أنا و الأئمة عليهم السّلام أهل الذّكر.
و يؤيّد إرادته عليه السّلام خصوص نفسه و أولاده عليهم السّلام ما يفصّله عليه السّلام من صفات أهل الذّكر، فانّ تلك الصّفات الاتية هم المتّصفون بها حقّ الاتّصاف و حقيقته و يؤيّده أيضا أكثر ما رويناه من الأخبار في تفسير «بيوت أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه» الاية.
و إن أراد به مطلق أهل الذكر فهم عليهم السّلام أكثر كمل مصاديقه و أفراده.
و كيف كان فقد أخذ الذّكر أهله بدلا من الدّنيا و عوضا منها علما منهم بأنّ من أكثر ذكر اللّه أحبّه اللّه كما رواه الصّادق عليه السّلام من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و روى عنه أيضا من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر اللّه.
و لذلك (فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه) ذكر البيع بعد التّجارة من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ لمزيد الاهتمام كما في قوله تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِ» فانّ التجارة تشمل جميع أنواع المكاسب و البيع أظهرها، و قال البيضاوى في تفسير قوله تعالى «لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ» لا يشغلهم معاملة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 259
رابحة «و لا بيع عن ذكر اللّه» مبالغة بالتعميم بعد التّخصيص إن أريد به مطلق المعاوضة، أو بافراد ما هو أهمّ من قسمى التجارة فانّ الرّبح يتحقّق بالبيع و يتوقّع بالشّرا، و قيل: المراد بالتّجارة الشّرى فانّه أصلها و مبدؤها.
(يقطعون به أيّام الحياة) أى أيّام حياتهم، و يحتمل أن يكون المعنى أنّهم يقطعون بالاشتغال به عن العلايق الدّنيويّة في تمام عمرهم، فتكون أيّام الحياة مفعولا فيه لا مفعولا به و الأوّل أظهر.
(و يهتفون بالزّواجر عن محارم اللّه في أسماع الغافلين) عن ذكر اللّه أى يصيحون بالمواعظ البالغة و النّصايح الزّاجرة في أسماع أهل اللّهو و الغفلة زجرا لهم أى إزعاجا و إبعادا عن المحارم (يأمرون) غيرهم (بالقسط) و العدل (و يأتمرون) أى ينقادون (به) في أنفسهم (و ينهون عن) الفحشاء و (المنكر و يتناهون) أى يكفّون (عنه) في ذاتهم لما عرفت في شرح الخطبة المأة و الرابعة أنّ النّهى عن المنكر إنّما هو بعد التناهى عنه.
(فكأنّما قطعوا الدّنيا) و انتهوا (إلى الاخرة و هم فيها) أى و الحال أنّهم في الدّنيا فكأنّهم قطعوها و مضوا إلى الدّار الأخرى (فشاهدوا) بعين اليقين (ما وراء ذلك) العالم.
(فكأنّما) هم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون و على الأرائك متّكؤون و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون و من هولها مصطرخون و كأنما (اطلعوا عيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه) أى علموا فظايع البرزخ و شدايد أهله الغايبة عن نظر أهل الدّنيا في مدّة الاقامة المتمادية الطويلة لهم فيه (و) كأنما مجاز (حقّقت القيامة عليهم عداتها) في إسناد التحقيق إلى القيامة و كذا إضافة العدات إلى ضميرها تجوّز، و المراد كأنّ القيامة قد قامت عليهم و حقّق اللّه تعالى مواعيده التي تكون فيها من تكوير الشمس و طمس النجوم و تسيير الجبال و حشر الوحوش و كون الناس كالفراش المبثوث و الجبال كالعهن المنفوش و فرار المرء من أخيه و امّه و أبيه و صاحبته و بنيه لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 260
وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشره و وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة إلى غير هذه مما أخبر به الكتاب العزيز و نطق به الأخبار.
(فكشفوا) ببياناتهم الفصيحة و كلماتهم النصيحة (غطاء ذلك) أى ما رأوه بعين اليقين من محجوبات الغيوب و مستورات الغيب المحجوب (لأهل الدّنيا) تنفيرا لهم عنها و ترغيبا إلى دار الاخرى (حتّى كأنهم) من شدّة اليقين و قوّة أبصار البصاير و آذان العقول (يرون) من أحوال النشأة الأخروية (ما لا يرى) ساير (الناس و يسمعون ما لا يسمعون) و هذا المقام مقام قوله عليه السّلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
قال الشارح البحرانيّ: لما كان السبب فى قصور النفوس عن ادراك أحوال الاخرة و هو تعلّقها بهذه الأبدان و اشتغالها بتدبيرها و الانغماس في الهيئات الدّنيوية المكتسبة عنها، و كان هؤلاء الموصوفون قد غسلوا درن تلك الهيات من ألواح نفوسهم بمداومة ذكر اللّه و ملازمة الرّياضة التامّة، حتّى صارت نفوسهم كمرايا مجلوّة حوذى بها سطر الحقائق الالهية فجلت و انتقشت بها، لا جرم شاهدوا بعين اليقين سبيل النجاة و سبيل الهلاك و ما بينهما فسلكوا على بصيرة و هدوا الناس على يقين و اخبروا عن امور شاهدوها بأعين بصائرهم و سمعوا باذان عقولهم، فكأنهم في وضوح ذلك لهم و ظهوره و اخبارهم عنه قد شاهدوا ما شاهده الناس بحواسّهم ما لم يشاهده الناس و سمعوا ما لم يسمعوه.
(فلو مثلتهم بعقلك) أى تصوّرت مثالهم و صورهم (في مقاومهم المحمودة) أى مقامات عبوديتهم و تذلّلهم التي يحمدهم اللّه ربّ العالمين بالقيام فى تلك المقامات (و مجالسهم المشهودة) أى مجالس عبادتهم و تضرّعهم الّتي تشهدها الملائكة المقرّبون كما قال عزّ من قائل «وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» قال المفسرون معناه إنّ صلاة الفجر تشهدها ملائكة اللّيل و ملائكة النهار استعارة تمثيليّة و قوله عليه السّلام: (و قد نشروا دواوين أعمالهم و فرغوا لمحاسبة أنفسهم) من الاستعارة التمثيليّة حيث شبّههم عليه السّلام في تتبّعهم لنفوسهم و ملاحظتهم لألواح ضمايرهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 261
و تفكّرهم في ما ثبت في تلك الألواح من صور أعمالهم الّتي عملوها من خير أو شرّ و تدبيرهم في جبران الخاسرة منها و مطالبتهم أنفسهم بتدارك ما فاتت و فرّطت فيها بالتاجر الذى يفتح دفتر تجارته، و ينشر ديوان حسابه و ينظر ما كتب فيه من صورة مكاسبه و يلاحظ ربحه و خسرانه، و يدبّر تدارك خسارته.
و قد قال عليه السّلام في الخطبة التّاسعة و الثمانين: عباد اللّه زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا و حاسبوها من قبل أن تحاسبوا، و قد مرّ في شرحه ما ينفع في هذا المقام و حقيقة محاسبة النّفس على ما نبّه عليه الغزالي أن يكون للعبد ساعة في آخر النّهار يطالب النفس و يحاسبها على جميع حركاتها و سكناتها كما يفعل التجار في الدّنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم حرصا منهم على الدّنيا و خوفا من فوات منافعها.
فانّ التّاجر إذا جلس مجلس المحاسبة مع شريكه ينظر أوّلا في رأس المال، ثمّ في الرّبح و الخسران ليتبيّن له الزّيادة و النّقصان، فان كان من فضل حاصل استوفاه و شكره، و إن كان من خسران ضمّنه و كلّفه جبرانه في المستقبل و كذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض و ربحه النّوافل و الفضايل و خسرانه المعاصي و موسم تلك التجارة تمام النّهار، و النّفس بمنزلة الشريك فليحاسبها أوّلا على الفرائض فإنّ أدّاها على وجهها شكر اللّه تعالى على ذلك، و إن فوّتها من أصلها طالبها بالقضاء و إن أدّاها ناقصة كلّفها الجبران بالنّوافل، و إن ارتكب معصية اشتغل بمؤاخذتها و معاتبتها ليستوفي منها ما يتدارك به ما فرّط كما يصنع التّاجر بشريكه.
و كما أنّه يفتّش في حساب الدّنيا عن الحبّة و القيراط و يبالغ في المداقّة و يلاحظ مداخل الزّيادة و النقصان، فينبغي له أن يبالغ في المداقّة فى حساب نفسه عن خواطره و أفكاره و قيامه و قعوده و أكله و شربه و تكلّمه بل عن جميع حركاته و سكناته، و ينبغي أيضا أن يحاسب النّفس على جميع عمره يوما فيوما و ساعة فساعة في جميع الأعضاء الظاهرة و الباطنة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 262
و قد نقل عن بعض العرفاء و كان محاسبا لنفسه أنّه حسب يوما فاذا هو ابن ستّين سنة، فحسب أيّامها فاذا هى أحد و عشرون ألف يوم و خمسمائة يوم، فصرخ و قال: يا ويلتى أ ألقى الملك بأحد و عشرين ألف ذنب فكيف و في كلّ يوم عشرة آلاف ذنب، ثمّ خرّ مغشيّا عليه فاذا هو ميّت.
فهكذا ينبغي أن يحاسب نفسه على الانفاس و على معصيته بالقلب و الجوارح في كلّ ساعة، و لو رمى العبد بكلّ معصية حجرا في داره لكان فى مدّة قليلة تلا صغيرا و لكنّه يتساهل فى حفظ المعاصى و الملكان يحفظان عليه ذلك أحصاه اللّه و نسوه و أمّا أولياء اللّه الكاملون فى مقام العبوديّة و الطاعة فلهم المداقّة فى محاسبة أنفسهم و معاتبتها (على كلّ صغيرة و كبيرة امروا بها فقصّروا عنها أو نهوا عنها ففرّطوا فيها) لعدم إخراجهم أنفسهم من حدّ التقصير فانّه عزّ و جلّ لا يمكن أن ينال مدى عبادته، و كيف يمكن البلوغ إلى مدى عبادة من لا مدى له، و من ذلك أنّ المعصومين عليهم السّلام كانوا يعدّون أنفسهم في عداد المذنبين المقصّرين لكون حسنات الأبرار سيئات المقرّبين حسبما عرفت تفصيلا في شرح الخطبة الاولى عند تحقيق عصمة الأنبياء عليهم السّلام.
(و حمّلوا ثقل أوزارهم) و آثامهم (ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها) أى عن حمل الاوزار (فنشجوا نشيجا) أى بكوا بكاء متوجّع مجاز (و تجاوبوا نحيبا) أى جاوب بعضهم بعضا بالنّحيب و البكاء الشّديد، و لفظ التّجاوب مجاز فانّهم لمّا كانوا في مقام محاسبة النّفس رافعين أصواتهم بالبكاء صاروا بمنزلة المتجاوبين كأن كلّا منهم يجاوب الاخر ببكائه و نحيبه.
(يعجّون إلى ربّهم من مقاوم ندم و اعتراف) أى يرفعون أصواتهم إليه عزّ و جلّ بالتّضرّع و الابتهال فى مقامات التوبة و الابتهال و الاعتراف بالتّفريط و التّقصير.
و قوله (لرأيت) جواب لو مثّلتهم حسبما اشرنا إليه أى لو تصوّرت حالاتهم في مقاماتهم المحمودة و مجالسهم المشهودة و شاهدت من شئونهم كيت و كيت لرأيت (أعلام هدى) يهتدى باثارهم في ظلم الضّلالة (و مصابيح دجى) يقتبس من أنوارهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 263
في غياهب الجهالة (قد حفّت بهم الملائكة) أى أحاطت عليهم الملائكة تشريفا و إكراما و عناية من اللّه تعالى في حقّهم (و تنزّلت عليهم السّكينة) و هى هيئة جسمانيّة تنشاء من استقرار الأعضاء و طمأنينتها مع اعتدال حركاتها، و لعلّ المراد بها برد اليقين الّذي اشرنا إليه في شرح الكلام الّذى قبل هذا الكلام له عليه السّلام.
(و فتحت لهم أبواب السّماء) بالعنايات الالهيّة و الافاضات الملكوتيّة و الألطاف الغيبيّة (و اعدّت لهم مقاعد الكرامات) المشار إليها في قوله عزّ و جلّ «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ».
قال أمين الاسلام الطّبرسى: أى أنهار من الخمر و الماء و العسل، وضع نهر فى موضع أنهار لأنّه اسم جنس يقع على القليل و الكثير، و الاولى أن يكون انّما و حدّ لوفاق الفواصل فى «مقعد صدق» أى فى مجلس حقّ لا لغو فيه و لا تأثيم و قيل: وصفه بالصّدق لكونه رفيعا مرضيا، و قيل: لدوام النعيم به و قيل: لأنّ اللّه صدق وعد أوليائه فيه «عند مليك مقتدر» أى عند اللّه سبحانه فهو المالك القادر الذي لا يعجزه شيء، و ليس المراد قرب المكان تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا بل المراد أنهم فى كنفه و جواره و كفايته حيث تنالهم غواشى رحمته و فضله.
و الحاصل أنهم هيأت لهم تلك المقاعد (فى مقام اطلع اللّه عليكم فيه) و فى نسخة الشارح المعتزلي عليهم بدل عليكم و هو أنسب و على هذه النسخ فلعلّه من تغليب المخاطبين على الغايبين، و يمكن أن يكون النكتة فى العدول من الغيبة على الخطاب تهييج المخاطبين و الها بهم بالتنبيه على أنّ اللّه تعالى مطلع عليكم و عليهم جميعا و لكن مقاعد كراماته صارت مخصوصة بهم لتكميلهم للعبودية فينبغى أن تكونوا مثلهم حتى تكون معدّة لكم أيضا كما اعدّت لهم.
(فرضى سعيهم) أى جدّهم و جهدهم فى العبادة (و حمد مقامهم) أى مقام عبوديتهم و هو فوق مرتبة مقام العبادة لأنّ العبادة للعوام من المؤمنين و العبودية للخواصّ من السالكين و العبادة لمن له علم اليقين و العبودية لمن له عين اليقين فانّ حقيقة العبودية هى الاسر و التذلل فى قيد الرّقية و أن لا يبقى فيه أثر من آثار
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 264
هواه، و أن تكون أوقاته مستغرقة فى خدمة مولاه مصروفة إلى تحصيل رضاه و لذلك وصف اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا الوصف فى غاية غايات مقام القرب و الزّلفى حيث قال تعالى «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى . فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» فعبّر بلفظ العبد إشارة إلى أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى ذلك المقام كان فانيا فى اللّه لم يكن له همّ أصلا فيما سواه منقطعا عن جميع ما عداه.
(يتنسّمون بدعائه روح التجاوز) اى يشمّون بدعائه و مناجاته تعالى النسيم الطيب و الهواء الذى تستلذّه النفس و يزيل عنها الهمّ لما حصل من تجاوزه عزّ و جلّ من تقصيرهم و صفحه عنهم استعاره (رهائن فاقة إلى فضله) قال الشارح البحرانى استعار لهم لفظ الرّهائن لكونهم فى محلّ الحاجة إلى فضله لا معدل و لا ملجأ لهم عنه كالرهائن فى يد المسترهن.
و كذلك الاسارى فى قوله عليه السّلام (و اسارى ذلّة لعظمته) و وجه المشابهة كونهم فى مقام الذّلة تحت عظمته كالأسير بالنسبة إلى عظمة من اسره.
(جرح طول الاسى قلوبهم و طول البكاء عيونهم) أى صارت قلوبهم و عيونهم مجروحة من طول الحزن و البكاء لما فيهم من مزيد الخوف و الخشية الملازم لكمال المعرفة التي لهم بعظمة الربّ تعالى و عزّته (لكلّ باب رغبة إلى اللّه منهم يد قارعة) أراد بأبواب الرّغبة أنواع العبادات و القربات، و بقرعهم لتلك الأبواب جدّهم فى اقامتها و عدم غفلتهم عنها.
و قال البحرانى: أشار بقرعهم لكلّ باب من أبواب الرّغبة إلى اللّه إلى توجيه أسرارهم و عقولهم إلى القبلة الحقيقية استشرافا لأنوار اللّه و استتماما لجوده.
(يسألون من لا تضيق لديه المنادح) الاتيان بالموصول لزيادة التّقرير أى تقرير الغرض المسوق له الكلام، فانّ المقصود به الحثّ على سؤاله و التّرغيب إليه تعالى بالتّنبيه على سعة بحر كرمه وجوده و عدم ضيقه عن سؤال السّائلين و آمال الرّاغبين، فهو أدلّ على هذا الغرض من أن يقول يسألون اللّه أو يسألون الرّب تعالى و محصّله أنّه عزّ و جلّ لا يفره المنع و الجمود و لا يكديه الاعطاء و الجود
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 265
بل لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللّجين و العقيان و نثارة الدرّ و حصيد المرجان ما أثرّ ذلك في جوده و لا أنفد سعة ما عنده و لكان عنده من ذخاير الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السّائلين و لا يبخّله إلحاح الملحّين.
(و لا يخيب عليه الرّاغبون) و لا ييأس من فضله و كرمه إلّا الكافرون (فحاسب نفسك لنفسك) أى حاسب نفسك الّتي هي أعزّ الأنفس عليك و أحبّها إليك لأجل منفعة نفسك أى تولّ أنت بنفسك بمحاسبة نفسك قبل أن تحاسب بها (فانّ غيرها من الأنفس عليها حسيب) أى محاسب (غيرك) يعني ساير الأنفس الّتي لم يتولّ صاحبها محاسبتها فانّ لها حسيبا يحاسبها، و هو اللّه ربّ العالمين مالك يوم الدّين أسرع الحاسبين كما قال عزّ شأنه «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ».
الترجمة:
و بدرستى كه از براى ذكر خدا أهلى است كه فرا گرفته اند آن را عوض از متاع دنيا، پس مشغول نساخت ايشان را نه كسب و نه مبايعه از آن ذكر مى برند و مى گذارند با ذكر اوقات زندگانى دنيا را، و صدا مى كنند با مواعظ مانعه از محرّمات الهى در گوشهاى غافلان، و امر مى كنند بعدالت و گردن مى نهند خودشان بان، و نهى ميكنند از قبيح و باز دارند خودشان را از آن.
پس گويا كه قطع كرده اند دنيا را و رسيده اند باخرت و حال آنكه در دنيا باشند، پس مشاهده كرده اند پشت سر دنيا را، پس گويا كه مطلع گشته اند بر پنهانيهاى أهل برزخ درد رازى اقامت و توقف ايشان در آن، و محقق ساخته قيامت بر ايشان وعدهاى خودش را، پس برداشتند پردهاى حالات أهل برزخ و قيامت را از براى أهل دنيا باندازه كه گويا مى بينند ايشان چيزى را كه نمى بينند مردمان و مى شنوند چيزى را كه نمى شنوند مردمان.
پس مصوّر سازى ايشان را بعقل خودت در مقامهاى پسنديده ايشان، و مجلسهاى برگزيده ايشان كه شهادت گاه ملائكه مقرّبينند در حالتى كه ايشان گشوده باشند دفترهاى عملهاى خودشان را، و فارغ شده باشند از براى محاسبه نفسهاى خودشان بر هر عملى از عملهاى كوچك و بزرگ كه مأمور شده باشد بان، پس تقصير كرده باشند در آن يا نهى شده باشند از آن پس مساحله كرده باشند در آن و بار كرده باشند گرانى گناهان خودشان را بر پشتهاى خودشان، پس ناتوان باشند از بلند
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 14، ص: 267
كردن و برداشتن آن، پس گريه كنند به آواز بلند غمناك، و جواب يكديگر را مى دهند با گريه و زارى، ناله مى كنند بسوى پروردگار خود در مقامهاى توبه و پشيمانى، و اقرار بتقصير.
هر آينه مى بينى علامتهاى هدايت و چراغهاى تاريكى و ظلمت در حالتى كه احاطه كرده باشند بايشان ملائكه ها، و نزول كرده باشد بايشان تمكين و وقار، و گشوده باشد از براى ايشان درهاى رحمت آسمان، و مهيا شده باشد از براى ايشان مجلسهاى كرامت و شرافت در مقامى كه مطلع شده خداى تعالى بر شما در آن مقام، پس خوشنود شده خدا از سعى و كوشش ايشان، و پسنديده مقام بندگى ايشان را در حالتى كه استشمام مى كنند بسبب دعاى او نسيم عفو و تجاوز را.
ايشان گروهاى فقر و فاقه اند بسوى فضل و كرم او، و اسيرهاى ذلّتند مر بزرگوارى و عزّت او را، مجروح و زخمدار نموده درازى حزن و اندوه دلهاى ايشان را و درازى گريه چشمهاى ايشان را از براى هر در رغبت كردن بسوى خدا از ايشانست دست كوبنده، سؤال مى كنند از كسى كه تنگ نمى شود در نزد او وسعتهاى كرم وجود، و نوميد نمى گردد بر درگاه نوال او رغبت كنندگان، پس محاسب باش نفس خودت را از براى نفس خود، پس بتحقيق كه از براى غير نفس تو از نفسها محاسبى هست غير از تو كه أسرع الحاسبين است.