منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 220
و كونوا عن الدّنيا نزّاها، و إلى الاخرة ولّاها، و لا تضعوا من رفعته التّقوى، و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا، و لا تشيموا بارقها، و لا تسمعوا ناطقها، و لا تجيبوا ناعقها، و لا تستضيئوا بإشراقها، و لا تفتنوا بأعلاقها، فإنّ برقها خالب، و نطقها كاذب، و أموالها محروبة، و أعلاقها مسلوبة، ألا و هي المتصدّية العنون، و الجامحة الحرون، و المائنة الخئون، و الجحود الكنود، و العنود الصّدود، و الحيود الميود حالها انتقال، و وطأتها زلزال، و عزّها ذلّ، و جدّها هزل، و علوها سفل، دار حرب و سلب و نهب و عطب، أهلها على ساق و سياق، و لحاق و فراق، قد تحيّرت مذاهبها، و أعجزت مهاربها، و خابت مطالبها، فأسلمتهم المعاقل، و لفظتهم المنازل، و أعيتهم المحاول، فمن ناج معقور، و لحم مجزور، و شلو مذبوح، و دم مسفوح، و عاضّ على يديه، و صافق بكفّيه «لكفّيه خ»، و مرتفق بخدّيه، و زار على رأيه، و راجع عن عزمه، و قد أدبرت الحيلة، و أقبلت الغيلة، و لات حين مناص، و هيهات هيهات قد فات ما فات، و ذهب ما ذهب، و مضت الدّنيا لحال بالها- فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين. (43235- 42805)
اللغة:
و (شام) البرق يشمه إذا نظر إليه انتظارا للمطر و (تصدّى) له تعرّض و (عنّ) الشيء يعنّ من باب ضرب عنا و عننا و عنونا إذا ظهر أمامك و اعترض و (جمح) الفرس براكبه يجمح من باب منع جماحا و جموحا استعصى حتّى غلبه فهو جموح و زان رسول و جامح، و جمحت المرأة خرجت من بيتها غضبى بغير إذن بعلها.
و (حرن) الدابة حرونا من باب قعد فهى حرون و هي التّي إذا استدرّ جريها وقفت و (مان) يمين مينا كذب فهو مائن و (حادت) الناقة عن كذا أى مالت عنه فهى حيود و (مادت) أى مالت فهى ميود فان كانت عادتها ذلك سمّيت الحيود الميود و (الجدّ) في الكلام بالكسر ضدّ الهزل و (الحرب) بسكون الراء معروف و جمعه حروب و بفتحها مصدر يقال حربه حربا مثل طلبه طلبا أى سلب ماله (و سلبه) سلبا و سلبا اختلسه و (و النّهب) بسكون الهاء الغنيمة.
و (الساق) ما بين الكعب و الركبة قال سبحانه «وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» و السّاق أيضا الشدّة، و منه قامت الحرب على ساق إذا اشتدّ أمرها و صعب الخلاص منها، و ربما فسّرت الاية بهذا المعنى أى التفّت آخر شدّة الدّنيا بأوّل شدّة الاخرة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 222
(و السّياق) مصدر من ساق الماشية سوقا و سياقة و ساق المريض سوقا و سياقا شرع في نزع الروح و (جزرت) الجزور نحرتها و (الشلو) بالكسر العضو و الجسد من كلّ شيء و كلّ مسلوخ أكل منه شيء و بقيت منه بقيّة و الجمع أشلاء كحبر و أحبار و (ارتفق) اتكاء على مرفق يده أو على المخدّة و (الغيلة) الشّر أو بمعنى الاغتيال و هو الخديعة و (المناص) المهرب من ناص عن قرنه ينوص نوصا إذا هرب و المناص أيضا الملجأ. و قوله (لحال بالها) قال الشارح المعتزلي كلمة يقال فيما انقضى و فرط أمره و قيل: البال القلب و رخاء النفس أى مضت الدّنيا لما يهواه قلبها.
الاعراب:
جملة و قد أدبرت الحيلة في محلّ النصب حال من فاعل راجع و قوله: و لات حين مناص، لا مشبّهة بليس و التاء زايدة و حين بالنصب خبر لا و اسمها محذوف، قال نجم الأئمة: و قد يلحق لا التاء نحو لات فيختصّ بلفظ الحين مضافا إلى نكرة، نحو لات حين مناص، و قد يدخل على لفظة أوان و لفظة هنا أيضا و قال الفراء يكون مع الأوقات كلّها و أنشد: و لات ساعة مندم.
و التاء في لات للتأنيث كما في ربّة و ثمّة قالوا: إما لتأنيث الكلمة أى لا، أو لمبالغة النفى كما في علّامة فاذا وليها حين فنصبه أكثر من رفعه و يكون اسمها محذوفا و حين خبرها أى لات الحين حين مناص و تعمل يعنى لات عمل ليس لمشابهتها له بكسع «1» التاء إذ يصير على عدد حروفه ساكنة الوسط و لا يجوز أن يقال باضمار اسمها كما في نحو عبد اللّه ليس منطلقا، لأنّ الحرف لا يضمر فيه و إن شابه الفعل، و اذا رفعت حين على قلّته فهو اسم لا و الخبر محذوف أى لات حين مناص حاصلا، و لا يستعمل إلّا محذوفة أحد الجزئين.
هذا قول سيبويه و عند الأخفش أنّ لات غير عاملة و المنصوب بعدها بتقدير
______________________________
(1) الكسع ان تضرب دبر الانسان بيدك او بصدر قدمك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 223
فعل، فمعنى لات حين مناص لا أرى حين مناص، و المرفوع بعدها مبتدأ محذوف الخبر، و فيه ضعف لأنّ وجوب حذف الفعل الناصب و خبر المبتدأ له مواضع متعينة قال نجم الأئمّة: و لا يمتنع دعوى كون لات هي لاء التبرية، و يقوّيه لزوم تنكير ما اضيف حين إليه، فاذا انتصب حين بعدها فالخبر محذوف كما في لا حول و إذا ارتفع فالاسم محذوف أى لات حين حين مناص كما في لا عليك، و نقل عن أبى عبيد أنّ التاء من تمام حين كما جاء:
العاطفون تحين ما من عاطف و المطعمون زمان ما من مطعم
و قد ضعف لعدم شهرة تحين في اللّغات و اشتهار لات حين، و أيضا فانّهم يقولون لات أوان و لات هنا و لا يقال تاوان و تهنا.
و كيف كان فجملة و لات حين مناص في موضع النصب حال من فاعل اقبلت، و قوله: هيهات هيهات اسم فعل فيه معنى البعد، و فيه ضمير مرتفع عايد إلى مناص و المعنى بعد المناص جدّا حتى امتنع.
قال نجم الأئمة و كلّ ما هو من اسماء الأفعال بمعنى الخبر «1» ففيه معنى التعجّب فمعنى هيهات أى ما أبعده، و شتّان أى ما أشدّ الافتراق، و سرعان و وشكان أى ما أسرعه، و بطان أى ما أبطاه.
و قال الزمخشرى في الكشاف في قوله تعالى «أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ» قرأ هيهات بالفتح و الكسر و الضمّ كلّها بتنوين و بلا تنوين و بالسّكون على لفظ الوقف.
و قال أبو عليّ و انّما كرّر هيهات في الاية و في قول جرير:
فهيهات هيهات العقيق و من به و هيهات وصل بالعقيق فواصله
للتأكيد أمّا اللتان في الاية ففي كلّ واحد ضمير مرتفع يعود إلى الاخراج إذ لا يجوز خلوّه من الفاعل و التقدير: هيهات إخراجكم، لأنّ قوله: انّكم مخرجون
______________________________
(1) احتراز عما هو بمعنى الانشاء مثل هلم بمعنى اقبل و رويد بمعنى امهل و بله بمعنى اترك و نحوها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 224
بمعنى الاخراج أى بعد اخراجكم للوعد إذ كان الوعد إخراجكم بعد موتكم استبعد أعداء اللّه إخراجهم لما كانت العدة به بعد الموت، ففاعل هيهات هو الضّمير العايد إلى انكم مخرجون الّذي هو بمعنى الاخراج.
و امّا في البيت ففى هيهات الأوّل ضمير العقيق و فسّر ذلك ظهوره مع الثّاني، هذا.
و ذكر في القاموس في هيهات إحدى و خمسين لغة لا مهمّ بنا إلى ذكرها.
المعنى:
ثمّ أمر بالزّهد في الدّنيا و الوله إلى الاخرة لاستلزامهما للتقوى و هو قوله: (و كونوا عن الدّنيا نزاها) متباعدين (و إلى الاخرة ولّاها) أى و الهين مشتاقين، فانّ الوله إلى الاخرة يوجب تحصيل ما يوصل إليها و هو التباعد عن الدّنيا و الملازمة للتقوى (و لا تضعوا من رفعته التقوى) و هو نهي عن إهانة المتقين لكونه خلاف التقوى (و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا) و هو نهي عن تعظيم الأغنياء الذين ارتفاع شأنهم عند الناس و وجاهتهم من جهة ثروتهم، فانّ تعظيمهم من هذه الجهة مناف للتقوى.
استعاره بالكنايه (و لا تشيموا بارقها) أى لا تنظروا إلى سحابها صاحب البرق انتظارا للمطر قال الشارح البحراني: استعار لفظ البارق لما يلوح للناس في الدّنيا من مطامعها و مطالبها، و وصف الشيم لتوقع تلك المطالب و انتظارها و التطلع إليها على سبيل الكناية عن كونها كالسحابة الّتي يلوح بارقها فيتوقّع منها المطر.
استعاره (و لا تسمعوا ناطقها و لا تجيبوا ناعقها) و هو نهي عن مخالطة أهل الدّنيا و معاشرتهم أى لا تسمعوا إلى مادحها و من يزيّنها و يصفها بلسانه و بيانه و لا تصدّقوا قوله، و لا تجيبوا صائحها أى لا تتّبعوا و لا توافقوا المنادى إليها لأنّ سماع الناطق و إجابة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 254
الناعق يوجب الميل اليها، و يحتمل أن يكون الناطق و الناعق استعارة لمتاع الدّنيا و مالها، فانّه لما كان يرغب فيها بلسان حاله و يدعو إليها شبه بالنّاطق و الناعق.
استعاره (و لا تستضيئوا باشراقها و لا تفتنوا باعلاقها) استعار لفظ الاشراق لزينة الدّنيا و زخارفها و زبرجها و أموالها و لفظ الاستضاءة للالتذاذ و الابتهاج بتلك الزخارف أى لا تبتهجوا بزخارف الدّنيا و لا تفتنوا بنفايسها.
و لما نهي عن شيم البارق و سماع الناطق و اجابة الناعق و عن الاستضاءة بالاشراق و الافتتان بالاعلاق، أردفه بالاشارة إلى علل تلك المناهي فعلل النهي عن شيم البارق بقوله:
استعاره (فانّ برقها خالب) أى خال من المطر فيكون الشيم و النظر خاليا من الثمر قال الشارح البحراني: استعار لفظ الخالب لما لاح من مطامعها، و وجه المشابهة كون مطامعها و آمالها غير مدركة و إن ادرك بعضها ففي معرض الزوال كان لم يحصل فاشبهت البرق الذي لا ماء فيه و ان حصل معه ضعيف غير منتفع به فلذلك لا ينبغي أن يشام بارقها.
و علل النهى عن سماع الناطق و اجابة الناعق بقوله (و نطقها كاذب) أى ناطقها كاذب لأنّ قوله مخالف لنفس الأمر و ما يزيّنه و يرغب فيه و يدعو إليه كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا.
و علّل النّهى عن الاستضاءة بالاشراق بقوله (و أموالها محروبة) أى مأخوذة بتمامها، و ما شأنها ذلك فلا يجوز الابتهاج و الشعف بها.
و علّل النهى عن الفتون بالاعلاق بقوله (و اعلاقها مسلوبة) أى منهوبة مختلسة و ما حالها ذلك فكيف يفتن بها و يمال إليها، ثمّ وصف الدّنيا بأوصاف اخرى منفرة عنها فقال:
تشبيه البليغ- تشبيه المعقول بالمحسوس (ألا و هي المتصدّية العنون) أى مثل المرأة الفاجرة المتصدّية المتعرّضة للرجال المولعة في التعرّض لهم، و هو من التشبيه البليغ و من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، و وجه الشبه أنّ المرأة الموصوفة كما تزين نفسها و تعرضها على الرجال لتخدعهم عن أنفسهم فكذلك الدّنيا تتعرّض بقيناتها لأهلها فتخدعهم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 255
(و الجامحة الحرون) أى مثل الدّابة السيّئة الخلق التي لا تنقاد لراكبها البالغة في عدم الانقياد غايته، و التشبيه هنا مثل التشبيه في الفقرة السابقة، و وجه الشبه أنّ الدابة الموصوفة كما لا تنقاد لصاحبها و لا يتمكّن من حملها و ركوبها مهما اريد، فكذلك الدّنيا لا يتمكّن أهلها من تصريفها و تقليبها و الانتفاع بها في مقام الضرورة و الحاجة.
(و المائنة الخئون) أى الكاذبة كثيرة الخيانة حيث إنها تخدع الناس بزينتها و تغرّهم بحليّها و توقع في وهمهم و خيالهم لقيائها لهم، فعما قليل ينكشف كذبها و تتبيّن خيانتها إذا زالت عنهم.
(و الجحود الكنود) أى كثيرة الانكار و الكفران كالمرأة التي تكفر نعمة زوجها و تنكر معروفه و احسانه، و يكون من شأنها الغدر و المكر، و كذلك الدّنيا تنفر عمن رغب فيها و سمى إليها و اجتهد في عمارتها و تكون سبب هلاكه ثمّ تنتقل عنه إلى غيره.
تشبيه (و العنود الصدود) لما كان من شأن الدّنيا الانحراف و الميل عن القصد و العدول عن سنن قصود الطالبين الراغبين منها، شبّهها بالعنود الصدود، و هى الناقة العادلة عن مرعى الابل و الراعية في جانب منه و وصفها بالصدود لكثرة اعراضها.
(و الحيود الميود) أى كثيرة الميل و التغيّر و الاضطراب (حالها انتقال) أى شأنها و شيمتها انتقال من حال إلى حال و انقلاب من شخص إلى شخص (و وطأتها زلزال) أى موضع قدمها متحرّك غير ثابت (و عزّها ذلّ) أى العزّ الحاصل لأهل الدّنيا بسبب الثروة و الغنى فهو ذلّ في الحقيقة، لأنّ ما تعزّز به من المال إن كان من حلال ففيه حساب و إن كان من حرام ففيه عقاب، فعزّتها موجب لانحطاط الدرجة عند اللّه سبحانه، و لذلك قال سيّد الساجدين عليه السّلام في بعض أدعية الصحيفة: فانّ الشريف من شرّفته طاعتك، و العزيز من أعزّته عبادتك.
استعاره (و جدّها هزل) قال الشارح البحراني: استعار لفظ الجدّ و هو القيام في الأمر
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 256
بعناية و اجتهاد لاقبالها على بعض أهلها بخيراتها كالصديق المعتنى بحال صديقه و لادبارها عن بعضهم و اصابتها له بمكروهها كالعدوّ القاصد لهلاك عدوّه، و استعار لجدّها لفظ الهزل الذي هو ضدّه، و وجه الاستعارة كونها عند اقبالها على الانسان كالمعتنية بحاله، و عند إعراضها عنه و رميه بالمصائب كالقاصدة لذلك، ثمّ تسرع انتقالها عن تلك الحال إلى ضدّها فهي في ذلك كالهازل اللّاعب.
(و علوها سفل) و هو فى معنى قوله: و عزّها ذلّ، أى العلوّ الحاصل بسببها موجب لانحطاط الرتبة في الاخرة.
(دار حرب و سلب و نهب و عطب) أى دار محاربة أو دار سلب و اختلاس و غارة و هلاكة لأنّ أهلها و مالها غرض للافات و هدف للقتل و الغارات، أو أنّ مالها يسلب عن أهلها و يحرب و ينهب بموت صاحب المال و هلاكه (أهلها على ساق و سياق) إن فسر الساق بساق القدم فالمراد بالجملة الاشارة إلى زوالها و انقضائها، يعني أنّ أهلها قائمون على سوقهم و أقدامهم مستعدون للسياق و المسير إلى الاخرة، و إن فسّر بالشّدة فالمراد أنّ أهلها في شدّة و محنة و عرضة للموت، و معلوم أنها إذا كانت دار حرب و نهب و سلب و عطب يكون أهلها في شدّة لا محالة.
(و لحاق و فراق) أى أهلها يلحق بعضهم بعضا أى يلحق احياءهم بالأموات و يفارقون من الأموال و الأولاد.
مجاز العقلى (قد تحيّرت مذاهبها) من المجاز العقلي أى تحيّر أهلها في مذاهبها و مسالكها لا يهتدون إلى طريق جلب خيرها و دفع شرّها، و ذلك لاشتباه امورها و عدم وضوح سبلها الموصلة إلى المقصود.
(و أعجزت مهاربها و خابت مطالبها) إسناد الاعجاز إلى المهارب و الخيبة إلى المطالب أيضا من باب المجاز، و المراد أنّ من أراد الهرب و الفرار من شرورها فهو عاجز في مواضع الهرب، و من أراد النيل إلى عيشها و ماربها فهو خائب في محال
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 257
الطلب، و أشار إلى بعض ملازمات الخيبة بقوله: (فأسلمتهم المعاقل) أى لم تحفظهم من الرزايا و لم تحصنهم «تحرزهم خ ل» من المنايا (و لفظتهم المنازل) أى ألقتهم و رمت بهم نحو سهام المنيّة (و أعيتهم المحاول) أى تصاريف الدّنيا و تغيّرات الزمان أو الحيل لاصلاح امورها.
ثمّ قسّم أهلها باعتبار ما يصيبهم من حوادثها و مزورها إلى أصناف بعضها أحياء و بعضها أموات و هو قوله: (فمن ناج معقور) أى مجروح كالهارب من الحرب بعد مقاساة الأحزان و الشدائد، و قد جرح بدنه، و هذا صفة الباقين في الدّنيا قد نجوا من الموت و لكن صاروا غرضا للافات.
(و لحم مجزور) أى قتيل صار لحما مقطوعا (و شلو مذبوح) قال الشّارح البحراني: أراد ذى شلو أى عضو مذبوح أي قد صار بعد الذبح أشلاء «1» متفرّقة، و يحتمل أن يكون مذبوح صفة للشلو، و أراد بالذبح مطلق الشق كما هو في أصل اللغة (و دم مسفوح) أى ذى دم مسفوك (و عاض على يديه) بعد الموت ندما على التفريط في أمر اللّه و هو وصف للظالمين قال تعالى «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» (و صافق بكفيه) أى ضارب إحداهما على الاخرى تأسّفا و تحسّرا (و مرتفق بخدّيه) أى جاعل راحة كفّيه تحت خدّيه متكا على مرفقيه همّا و حزنا (و زار على رأيه) أى عائب على اعتقاده فانه لما كان عقيدته طول المكث و البقاء في الدّنيا و امتداد زمان الحياة و كان ذلك موجبا للالتفات بكليته إليها و انقطاعه عن الاخرة و انهما كه في الشهوات، ثمّ انكشف بالموت فساد تلك العقيدة و بطلان ذلك الاعتقاد لا جرم أزرى على رأيه و عابه (و راجع عن عزمه) أى عن قصده، و ذلك لأنّ قصده لما كان السّعى في تحصيل الدّنيا و عمارتها و الاكثار من قيناتها و كان منشأ ذلك أيضا زعم تمادى مدّة الحياة و اللّبث فيها فانكشف خلافه، كان ذلك موجبا لرجوعه عن عزمه و ندمه عليه، هذا.
______________________________
(1) اى أعضاء، م
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 258
و لما كانت الجملات «1» المتعاطفات الأخيرة كلّها مشتركة المعنى في إفادة ندم الأموات «2» على ما فرّطوا في جنب اللّه عقّبها بالجملة الحالية أعنى قوله:
(و قد أدبرت الحيلة و أقبلت الغيلة) تنبيها بها على أنه لا ثمر للندم و لا منفعة في العضّ على اليدين و الصفق بالكفين و الارتفاق بالخدّين و لا فائدة في الازراء على الرأى و الرّجوع عن العزم، و الحال أنّه قد ولي الاحتيال و أقبل الهلاك و الاغتيال لأنّ الحيلة للخلاص من العقاب و التدبر و للفوز بالثواب إنّما هو قبل أن يغتال مخالب المنية كما قال سبحانه «انَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» .
و أما بعد ما أنشبت أظفارها فلا كما قال سبحانه «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» و لو قال بعد الموت حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِ يقال له لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ فانقطع العلاج و امتنع الخلاص.
(و لات حين مناص هيهات هيهات) أى بعد المناص و الخلاص جدّا و الحال أنه (قد فات ما فات و ذهب ما ذهب) الاتيان بالموصول فى المقامين تفخيما بشأن الفايت الذاهب أى فات زمان تدارك السيئات، و ذهبت أيام جبران الخطيئات، و انقضى وقت تحصيل النجاة من العقوبات، و الخلاص من ورطات الهلكات.
(و مضت الدّنيا لحال بالها) أى بما فيها خيرا كان و شرّا، و قيل: أى مضت الدّنيا لما يهواه قلبها و للسّبيل الّذي أرادت و لم تكترث لحال القوم و لم تهتم لأمرهم بل نسيتهم، و هذا مثل قولهم: مضى فلان لسبيله، و مضى لشأنه.
اقتباس (فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين) اقتباس من الاية الشريفة في سورة الدّخان.
______________________________
(1) من قوله وعاض على يديه الى قوله و راجع عن عزمه (منه).
(2) فيه ما لا يخفى، لان الظاهر أن الجملات كلها مشتركة المعنى في افادة ندم الاحياء على ما فرطوا لا الاموات، إذ لا يعقل لهم العضّ على اليدين و الصفق بالكفين و الارتفاق بالخدّين كما هو واضح، و عضّ الظالم على يديه انما هو في القيامة فليتأمل. «المصحح».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 259
و اختلف في معناها على وجوه:
أحدها أنّه لم تبك عليهم أهل السّماء و أهل الأرض، لأنهم لا يستحقون أن يتأسّف عليهم أحد و يحزن لفقدهم، و كأنهم توقعوا ذلك لعزّتهم و رفعة درجتهم في نظرهم.
الثّاني أنّه ما بكى عليهم المؤمنون من أهل الأرض و لم يبك عليهم أهل السّماء كما يبكون على فقد الصالحين، لأنّ هؤلاء مسخوط عليهم، و هو قريب من الوجه الأوّل.
الثّالث أنّه سبحانه أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر، فانّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت: بكاه السّماء و الأرض، و أظلم لفقده الشمس و القمر، قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز:
فالشّمس طالعة ليست بكاسفة تبكى عليك نجوم اللّيل و القمر
أى ليست مع طلوعها كاسفة نجوم اللّيل و القمر لأنّ عظم المصيبة قد سلبها ضوءها، و قال النابغة:
تبدو كواكبه و الشّمس طالعة لا النور نور و لا الاظلام اظلام
الرابع أن يكون ذلك كناية عن أنّه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السّماء، و قد روى عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الاية فقيل:
و هل يبكيان على أحد؟ قال: نعم مصلّاه في الأرض، و مصعد عمله في السّماء، و روى عن أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما من مؤمن إلّا و له باب يصعد منه عمله و باب ينزل منه رزقه، فاذا مات بكيا عليه.
قال الطبرسي: على هذا يكون معنى البكاء الاخبار عن الاختلال بعده، قال مزاحم العقيلي:
بكت دارهم من أجلهم فتهلّلت دموعى فأىّ الجازعين ألوم
أ مستعبرا يبكى من الهون و البلى أم آخر يبكى شجوه و يهيم
و قوله: و ما كانوا منظرين، أى عوجلوا بالعقوبة و لم يمهلوا، نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا التوبة قبل حلول الفوت، و للانابة قبل نزول الموت، و أن لا يجعلنا في زمرة من غضب عليه اللّه، و من نادى واحسرتا على ما فرّطت في جنب اللّه، بمحمّد و آله الكرام عليهم الصّلاة و السّلام.
الترجمة:
و باشيد از دنيا دور شوندگان و بسوى آخرت شيفته گان، و پست مسازيد كسى را كه بلند نموده است او را تقوى، و بلند مسازيد كسى را كه بلند نموده است او را دنيا، و چشم ندوزيد بزخارف برق زننده دنيا، و گوش ندهيد بمدح كننده آن، و قبول نكنيد خواننده بدنيا را، و روشنى مخواهيد با روشنى آن، و مفتون نشويد بنفايس آن از جهت اين كه برق آن خالى است از باران، و گفتار آن دروغ است، و مالهاى او گرفته شده است بتمامى، و نفايس آن ربوده شده بناكامى.
آگاه باشيد كه دنيا مثل زن فاجره است كه متعرّض شونده مردها است، كثير التعرض است بايشان مثل حيوان سركشى است نافرمان، و كاذبست بغايت خاين، و منكرات زياده ناسپاس، و منحرفست بسيار عدول كننده و برگردانده است زياده متغيّر و مضطرب، شأن آن زوال و فنا است و موضع قدم آن اضطرابست و حركت، و عزّت آن خواريست و همت آن سخريّه است و استهزا، و بلندى آن پستى است، خانه ستاندن و ربودن و غارت و هلاكت است، أهل آن بر شدّت اند و رحلت و بر لا حق شدن روندگان اند و مفارقت از باقى ماندگان.
بتحقيق متحيّر بوده است راههاى آن، و عاجز نموده محلهاى گريز از آن، و خايب و نا اميد شده مكانهاى طلب او، پس فرو گذاشت و ترك نمود ايشان را پناگاهها، و انداخت ايشان را منزلها، و عاجز ساخت آنها را انقلابات روزگار.
پس بعضى از ايشان نجات يابنده است صاحب جراحت، و بعضى گوشتى است پاره پاره، و عضوى است بريده شده، و خونيست ريخته شده، و گزنده است با دندان دستهاى خود را از روى ندامت، و زننده است كف دستهايش را بهم از روى حسرت، و نهنده است مرفقين خود را زير خدّين خود از جهت پريشانى و اندوه، و عيب كننده است بر عقيده فاسد خود، و رجوع كننده است از عزم و قصد خود.
و حال آنكه بتحقيق كه ادبار نموده حيله و تدبير، و اقبال كرده مرگ ناگهان، و نيست اين وقت وقت چاره چه دور است بغايت دور چاره و علاج، و حال آنكه فوت شد آنچه كه فوت شد، و رفت آنچه كه رفت، و گذشت دنيا بحال دل خود نه بخواهش اهل روزگار، پس نه گريست بأهل روزگار آسمان و زمين، و مهلت داده نشدند و زود گرفتار عذاب گشتند.