منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 60
و من عهد له عليه الصلاة و السلام الى محمد بن أبى بكر حين قلده مصر- و هو المختار السابع و العشرون من كتبه عليه السّلام و وصاياه و عهوده و رسائله:
فاخفض لهم جناحك، و ألن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك و آس بينهم في اللّحظة و النّظرة حتّى لا يطمع العظماء في حيفك، و لا ييأس الضّعفاء من عدلك عليهم. و إنّ اللّه تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصّغيرة من أعمالكم و الكبيرة، و الظّاهرة و المستورة فإن يعذّب فأنتم أظلم، فإن يعف فهو أكرم.
ذكر ماخذ العهد و مصادره:
قد روي هذا العهد في كتب الفريقين بأسانيد عديدة و طرق كثيرة على صور متقاربة أو متفاوتة:
منهم أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعد «1» بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي الكوفي صاحب مصنّفات كثيرة، المتوفّى سنة ثلاث و ثمانين و مائتين في كتاب الغارات.
______________________________
(1) في الفهرست للشيخ قدس سره: سعيد بن هلال على ما فى طبع النجف، و الظاهر أنه تصحيف و الصواب ما اخترناه و هو سمى سعد بن مسعود الثقفى أخى أبى عبيد بن مسعود عم المختار ولاه أمير المؤمنين على عليه السّلام على المدائن كما فى الفهرست و غيره من كتب الرجال. و فى الاستيعاب لابن عبد البر: سعد بن مسعود الثقفى عم المختار بن أبى عبيد له صحبة.
و في كتاب الرجال الكبير للاسترآبادى: سعيد في الموضعين و لكن دريت انه تصحيف. و ضبط تاريخ وفاة أبى اسحاق العلامة الحلى فى الخلاصة. منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 61
و منهم أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفّى سنة عشر و ثلاثمائة في كتابه في تاريخ الرسل و الملوك (ص 3246 ج 6 من طبع ليدن).
و منهم الشيخ الجليل أبو محمّد الحسن بن عليّ بن شعبة الحرّاني المتوفّى 332 ه ق في تحف العقول (ص 40 من الطبع على الحجر. و ص 171 من الطبع الجديد).
و منهم الشيخ الأجلّ أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي الملقّب بالمفيد المتوفّى سنة 413 ه ق، في أوّل المجلس الحادي و الثلاثين من أماليه (ص 151 من طبع النجف).
و منهم شيخ الطائفة الاماميّة أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي المتوفّى 460 ه ق في آخر الجزء الأوّل من أماليه (ص 16 من طبع طهران، و ص 24 ج 1 من طبع النجف).
و منهم أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم محمّد بن علي الطبري الاملي المعروف بعماد الدّين الطبري من علماء الامامية في القرن السادس في كتابه بشارة المصطفى لشيعة المرتضى (ص 52 ج 1 من طبع النجف) و في كتابه في الزهد و التقوى.
و أتى بما في الغارات الفاضل الشارح المعتزلي في أوائل الجزء السادس من شرحه على المختار 66 من خطب النهج (ص 295 ج 1 من الطبع على الحجر).
و العلّامة المجلسي في المجلّد الثامن من البحار (ص 643 من الطبع الكمباني).
و نقل بعض صور هذا العهد المنقول من الطبري و أبي إسحاق الثقفي الفاضل أحمد زكي صفوت في جمهرة رسائل العرب (ص 532 إلى 542 ج 1 من طبع مصر).
و نقل طائفة من كتاب الغارات في كيفية شهادت محمّد بن أبي بكر و نبذة من مطالب اخرى الفاضل المقدم الميرزه حبيب اللّه الخوئى في شرح المختار المذكور آنفا إلّا أنه جعله المختار 67 و لم يأت من صور هذا العهد إلّا واحدا منها فراجع إلى (ص 112 من ج 6 من الطبع الجديد).
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 62
و قال بعد نقله: أقول: و لأمير المؤمنين عليه السّلام كتاب آخر مبسوط إلى محمّد و أهل مصر و رواه إبراهيم- يعنى أبا إسحاق إبراهيم صاحب كتاب الغارات- نرويه إن شاء اللّه في باب الكتب إن ساعدنا التوفيق و المجال انتهى.
أقول: و لكنه رضوان اللّه عليه قد قضى نحبه و قد بلغ شرحه إلى أواخر خطب النهج، كما تقدّم كلامنا في ذلك في أوّل تكملة المنهاج، و نحن نرويه ههنا إن شاء اللّه تعالى بصوره جميعا نيابة عن الخوئى رحمه اللّه و نسئل اللّه تعالى أن يجعل سعيه مشكورا، و يوفّقنا بإتمام شرح الكتاب إنّه المفيض الوهّاب.
صورة العهد على رواية أبى اسحاق فى كتاب الغارات:
أمّا صورة العهد على رواية أبي إسحاق إبراهيم في كتاب الغارات قال: و كان عهد عليّ إلى محمّد بن أبي بكر رحمه اللّه الّذي قرئ بمصر: هذا ما عهد عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر حين ولّاه مصر: أمره بتقوى اللّه في السرّ و العلانية و خوف اللّه تعالى في المغيب و المشهد.
و أمره باللّين على المسلم، و الغلظ على الفاجر، و بالعدل على أهل الذمّة و بالانصاف للمظلوم، و بالشدّة على الظالم، و بالعفو عن النّاس، و بالاحسان ما استطاع، و اللّه يجزى المحسنين.
و أمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة و الجماعة، فانّ لهم في ذلك من العاقبة و عظم المثوبة ما لا يقدر قدره و لا يعرف كنهه.
و أمره أن يجبى خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل لا ينتقص و لا يبتدع ثمّ يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل، و إن تكن لهم حاجة يواسي بينهم في مجلسه و وجهه ليكون القريب و البعيد عنده على سواء.
و أمره أن يحكم بين النّاس بالحقّ، و أن يقوم بالقسطاس، و لا يتّبع الهوى و لا يخاف في اللّه لومة لائم فانّ اللّه مع من اتّقاه و آثر طاعته على من سواه.
و كتب عبد اللّه بن أبي رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لغرّة شهر رمضان سنة ستّ و ثلاثين.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 63
قال أبو إسحاق إبراهيم: ثمّ قام محمّد بن أبي بكر خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: أمّا بعد فالحمد للّه الّذي هدانا و إيّاكم لما اختلف فيه من الحقّ، و بصرنا و إيّاكم كثيرا ممّا عمي عنه الجاهلون. ألا و إنّ أمير المؤمنين و لانّي اموركم و عهد إليّ بما سمعتم و أوصاني بكثير منه مشافهة و لن آلوكم جهدا ما استطعت و ما توفيقي إلّا باللّه عليه توكلت و إليه انيب، فان يكن ما ترون من آثاري و أعمالي طاعة للّه و تقوى فاحمدوا اللّه على ما كان من ذلك فانه هو الهادي إليه، و إن رأيتم من ذلك عملا بغير الحقّ فارفعوه إليّ و عاتبوني عليه فاني بذلك أسعد و أنتم بذلك جديرون، وفّقنا اللّه و إيّاكم لصالح العمل.
صورة ما كتب أمير المؤمنين على عليه السّلام الى أهل مصر لما بعث محمد بن أبى بكر اليهم يخاطبهم به و محمدا أيضا فيه على رواية أبى اسحاق فى كتاب الغارات أيضا:
و قال أبو إسحاق إبراهيم في كتاب الغارات أيضا: و حدّثنى يحيى بن صالح عن مالك، عن خالد الأسدي، عن الحسن بن إبراهيم، عن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن عليه السّلام قال: كتب عليّ عليه السّلام إلى أهل مصر لمّا بعث محمّد بن أبي بكر إليهم كتابا يخاطبهم به و يخاطب محمّدا أيضا فيه: أمّا بعد فإنّى اوصيكم بتقوى اللّه في سرّ أمركم و علانيته، و على أىّ حال كنتم عليها. و ليعلم المرء منكم أنّ الدنيا دار بلاء و فناء، و الاخرة دار جزاء و بقاء، فمن استطاع أن يؤثر ما بقي على ما يفنى فليفعل فإنّ الاخرة تبقى و الدّنيا تفنى، رزقنا اللّه و إيّاكم بصرا لما بصّرنا و فهما لما فهّمنا حتّى لا نقصّر عمّا أمرنا، و لا نتعدّى إلى ما نهانا.
و اعلم يا محمّد أنّك و إن كنت محتاجا إلى نصيبك من الدّنيا إلّا أنّك إلى نصيبك من الاخرة أحوج، فإن عرض لك أمران أحدهما للاخرة و الاخر للدّنيا فابدأ بأمر الاخرة. و لتعظم رغبتك في الخير، و لتحسن فيه نيّتك فإنّ اللّه عزّ و جلّ يعطي العبد على قدر نيّته، و إذا أحبّ الخير و أهله و لم يعمله كان إن شاء اللّه كمن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 64
عمله، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال حين رجع من تبوك: إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير و لا هبطتم من واد إلّا كانوا معكم ما حبسهم إلّا المرض يقول: كانت لهم نيّة.
ثمّ اعلم يا محمّد إنّى وليّتك أعظم أجنادي أهل مصر، و ولّيتك ما ولّيتك من أمر الناس فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك و تحذر فيه على دينك و لو كان ساعة من نهار، فإن استطعت أن لا تسخط ربّك لرضى أحد من خلقه فافعل فإنّ في اللّه خلفا من غيره و ليس في شيء غيره خلف منه، فاشتدّ على الظّالم، و لن لأهل الخير و قرّبهم إليك و اجعلهم بطانتك و إخوانك و السّلام.
كتاب أمير المؤمنين على (ع) الى محمد بن أبى بكر و أهل مصر على صورة اخرى منقولة من كتاب الغارات أيضا:
قال أبو إسحاق إبراهيم: حدّثني يحيى بن صالح عن مالك بن خالد، عن الحسن بن إبراهيم، عن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن عليه السّلام قال: كتب عليّ عليه السّلام إلى محمّد و أهل مصر: أمّا بعد: فانّي أوصيكم بتقوى اللّه و العمل بما أنتم عنه مسؤلون فأنتم به رهن و إليه صائرون، فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»، و قال: و يحذّركم اللّه نفسه و إلى اللّه المصير، و قال: فو ربّك لنسئلنّهم أجمعين عمّا كانوا يعملون، فاعلموا عباد اللّه أنّ اللّه سائلكم عن الصغير من أعمالكم و الكبير فان يعذّب فنحن الظّالمون و إن يغفر و يرحم فهو أرحم الرّاحمين.
و اعلموا أنّ أقرب ما يكون العبد إلى الرحمة و المغفرة حين ما يعمل بطاعة اللّه و منا صحته في التوبة، فعليكم بتقوى اللّه عزّ و جلّ فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها، و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها: خير الدّنيا و خير الاخرة، يقول سبحانه: «وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ».
و اعلموا عباد اللّه أنّ المؤمنين المتّقين قد ذهبوا بعاجل الخير و آجله شركوا أهل الدّنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدّنيا في آخرتهم يقول اللّه عزّ و جلّ: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 65
سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدّنيا في دنياهم، يأكلون من أفضل ما يأكلون، و يشربون من أفضل ما يشربون، و يلبسون من أفضل ما يلبسون و يسكنون من أفضل ما يسكنون، أصابوا لذّة أهل الدّنيا مع أهل الدّنيا مع أنّهم غدا من جيران اللّه عزّ و جلّ يتمنّون عليه، لا يردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم لذة، أما في هذا ما يشتاق إليه من كان له عقل.
و اعلموا عباد اللّه أنّكم إن اتّقيتم ربّكم، و حفظتم نبيّكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد، و ذكرتموه بأفضل ما ذكر، و شكرتموه بأفضل ما شكر و أخذتم بأفضل الصبر، و جاهدتم بأفضل الجهاد، و إن كان غيركم أطول صلاة منكم، و أكثر صياما إذا كنتم أتقى للّه و أنصح لأولياء اللّه من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أخشع.
و احذروا عباد اللّه الموت و نزوله، و خذوا له فإنه يدخله بأمر عظيم: خير لا يكون معه شرّ أبدا، و شرّ لا يكون معه خير أبدا، ليس أحد من النّاس تفارق روحه جسده حتّى يعلم إلى أىّ المنزلتين يصير: إلى الجنّة أم إلى النّار؟ أعدوّ هو للّه أم ولىّ له فان كان وليا فتحت له أبواب الجنّة، و شرع له طريقها، و نظر إلى ما أعدّ اللّه عزّ و جلّ لأوليائه فيها، فرغ من كل شغل، و وضع عنه كلّ ثقل و إن كان عدوّا فتحت له أبواب النّار و سهّل له طريقها و نظر إلى ما أعدّ اللّه لأهلها، و استقبل كلّ مكروه، و فارق كلّ سرور، قال تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» فادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوي المتكبّرين.
و اعلموا عباد اللّه أنّ الموت ليس فيه فوت فاحذروه و أعدّوا له عدّته فانّكم طرداء للموت إن أقمتم أخذكم، و إن هربتم أدرككم، و هو ألزم لكم من ظلّكم، معقود بنواصيكم، و الدّنيا تطوى من خلفكم، فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات فانّه كفى بالموت واعظا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: أكثروا ذكر الموت فانه هادم اللّذات.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 66
و اعلموا عباد اللّه أنّ ما بعد الموت أشدّ من الموت لمن لم يغفر اللّه له و يرحمه، و احذروا القبر و ضمّته، و ضيقه و ظلمته فانّه الّذي يتكلّم كلّ يوم:
أنا بيت التراب، و أنا بيت الغربة، و أنا بيت الدّود، و القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار، إنّ المسلم إذا مات قالت الأرض: مرحبا و أهلا قد كنت ممّن احبّ أن تمشي على ظهري، فاذا وليتك فستعلم كيف صنعي بك فيتّسع له مدّ بصره، و إذا دفن الكافر قالت له الأرض: لا مرحبا و لا أهلا قد كنت ممّن ابغض أن تمشى على ظهري، فإذا وليتك فستعلم كيف صنعي بك، فتنضمّ عليه حتى تلتقى أضلاعه.
و اعلموا أنّ المعيشة الضّنك الّتي قال سبحانه: «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذکری»، هي عذاب القبر فانّه يسلّط على الكافر في قبره حيّات عظام تنهش لحمه حتّى يبعث لو أنّ تنّينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت الزرع أبدا.
و اعلموا عباد اللّه أنّ أجسادكم الرقيقة النّاعمة الّتي يكفيها اليسير من العقاب ضعيفة عن هذا، فإن استطعتم أن ترحموا أنفسكم و أجسادكم مما لا طاقة لكم به و لا صبر عليه فتعملوا بما أحبّ اللّه سبحانه، و تتركوا ما كره فافعلوا، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.
و اعلموا عباد اللّه أنّ ما بعد القبر أشدّ من القبر يوم يشيب فيه الصغير، و يسكر فيه الكبير و تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، و احذروا يوما عبوسا قمطريرا كان شرّه مستطيرا، أما إنّ شرّ ذلك اليوم و فزعه استطار حتّى فزعت منه الملائكة الّذين ليست لهم ذنوب و السبع الشداد و الجبال الأوتاد و الأرضون المهاد و انشقّت السماء فهى يومئذ واهية و تغيّرت فكانت وردة كالدّهان، و كانت الجبال سرابا بعد ما كانت صمّا صلابا، يقول اللّه سبحانه: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ»، فكيف بمن يعصيه بالسمع و البصر و اللّسان و اليد و الفرج و البطن إن لم يغفر اللَّه و يرحم؟
و اعلموا عباد اللّه أنّ ما بعد ذلك اليوم أشدّ و أدهى، نار قعرها بعيد،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 67
و حرّها شديد، و عذابها جديد، و مقامعها حديد، و شرابها صديد، لا يفتر عذابها، و لا يموت ساكنها، دار ليست للّه سبحانه فيها رحمة، و لا تسمع فيها دعوة و مع هذا رحمة اللّه الّتي وسعت كلّ شيء لا تعجز عن العباد، و جنّة عرضها كعرض السماوات و الأرض، خير لا يكون بعده شرّ أبدا، و شهوة لا تنفد أبدا، و لذّة لا تفنى أبدا، و مجمع لا يتفرّق أبدا، قوم قد جاوروا الرحمن، و قام بين أيديهم الغلمان، بصحاف من ذهب فيها الفاكهة و الريحان، و أنّ أهل الجنّة يزورون الجبّار سبحانه في كلّ جمعة فيكون أقربهم منه على منابر من نور، و الّذين يلونهم على منابر من ياقوت، و الّذين يلونهم على منابر من مسك فبيناهم كذلك ينظرون اللّه جلّ جلاله و ينظر اللّه في وجوههم إذ أقبلت سحابة تغشاهم فتمطر عليهم من النعمة و اللذّة و السرور و البهجة ما لا يعلمه إلّا اللّه سبحانه، و مع هذا ما هو أفضل منه رضوان اللّه الأكبر، أما إنّا لو لم نخوّف إلّا ببعض ما خوّفنا به لكنّا محقوقين أن يشتدّ خوفنا ممّا لا طاقة لنا به، و لا صبر لقوّتنا عليه، و أن يشتدّ شوقنا إلى ما لا غنى لنا عنه، و ما لا بدّ لنا منه، فإن استطعتم عباد اللّه أن يشتدّ خوفكم من ربّكم فافعلوا فإنّ العبد إنّما تكون طاعته على قدر خوفه، و إنّ أحسن النّاس للّه طاعة أشدّهم له خوفا.
و انظر يا محمّد صلاتك كيف تصلّيها فانّما أنت إمام ينبغي لك أن تتمّها، و أن تخفّفها و أن تصلّيها لوقتها فانّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته و صلاتهم نقص إلّا كان إثم ذلك عليه و لا ينقص من صلاتهم شيئا.
و اعلم أنّ كلّ شيء من عملك يتبع صلاتك فمن ضيّع الصّلاة فهو لغيرها أشدّ تضييعا، و وضوءك من تمام الصلاة فأت به على وجهه فالوضوء نصف الإيمان أسأل اللّه الّذي يرى و لا يرى و هو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا و إيّاك من المتّقين الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.
فإن استطعتم يا أهل مصر أن تصدّق أقوالكم أفعالكم و أن يتوافق سرّكم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 68
و علانيتكم، و لا تخالف ألسنتكم قلوبكم فافعلوا عصمنا اللّه و إيّاكم بالهدى، و سلك بنا و بكم المحجّة الوسطى.
و إيّاكم و دعوة الكذاب ابن هند، و تأمّلوا، و اعلموا أنّه لا سوى إمام الهدى و إمام الرّدى، و وصيّ النّبي و عدوّ النّبي، جعلنا اللّه و إيّاكم ممّن يحبّ و يرضى، و لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّي لا أخاف على امّتي مؤمنا و لا مشركا: أمّا المؤمن فيمنعه اللّه بايمانه، و أمّا المشرك فيحرمنّه اللّه بشركه و لكنّي أخاف عليهم كلّ منافق اللسان يقول ما يعرفون و يفعل ما ينكرون.
و اعلم يا محمّد أنّ أفضل الفقه الورع في دين اللّه و العمل بطاعته فعليك بتقوى اللّه في سرّ أمرك و علانيتك، و اوصيك بسبع هنّ جوامع الإسلام: اخش اللّه و لا تخش الناس في اللّه، و خير القول ما صدّقه العمل، و لا تقض في أمر واحد بقضائين مختلفين فيتناقض أمرك و تزيغ عن الحقّ، و أحبّ لعامّة رعيّتك ما تحبّه لنفسك و اكره لهم ما تكره لنفسك، و اصلح أحوال رعيّتك، و خض الغمرات إلى الحقّ و لا تخف لومة لائم، و انصح لمن استشارك، و اجعل نفسك اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم. جعل اللّه خلّتنا و ديننا خلّة المتّقين و ودّ المخلصين، و جمع بيننا و بينكم في دار الرّضوان إخوانا على سرر متقابلين إن شاء اللّه.
قال أبو إسحاق إبراهيم: فحدّثنى عبد اللّه بن محمّد بن عثمان عن عليّ بن محمّد ابن أبي سيف عن أصحابه أنّ عليا عليه السّلام لما كتب إلى محمّد بن أبي بكر هذا الكتاب كان ينظر فيه و يتأدّب به فلمّا ظهر عليه عمرو بن العاص و قتله أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب و يتعجّب منه، فقال الوليد ابن عقبة و هو عند معاوية و قد رأى إعجابه به: مر بهذه الأحاديث أن تحرق، فقال معاوية: مه! فإنّه لا رأى لك، فقال الوليد أ فمن الرأى أن يعلم النّاس أنّ أحاديث أبي تراب عندك تتعلّم منها؟ قال معاوية: ويحك أ تأمرني أن أحرق علما مثل هذا و اللّه ما سمعت بعلم هو أجمع منه و لا أحكم، فقال الوليد إن كنت تعجب من علمه و قضائه فعلام تقاتله؟ فقال: لو لا إنّ أبا تراب قتل عثمان ثمّ أفتانا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 69
لأخذنا عنه. ثمّ سكت هنيئة ثمّ نظر إلى جلسائه فقال: إنّا لا نقول إنّ هذه من كتب عليّ بن أبي طالب و لكن نقول: هذه من كتب أبي بكر الصّدّيق كانت عند ابنه محمّد فنحن ننظر فيها و نأخذ منها. قال: فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني اميّة حتّى ولى عمر بن عبد العزيز، فهو الذي أظهر أنّها من أحاديث عليّ بن أبي طالب.
و قال ابراهيم: فلمّا بلغ عليا عليه السّلام أنّ ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتدّ عليه حزنا.
و قال: حدّثنى بكر بن بكار عن قيس بن الرّبيع، عن ميسرة بن حبيب، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللّه بن مسلمة قال: صلّى بنا عليّ عليه السّلام فلمّا انصرف قال:
لقد عثرت عثرة لا أعتذر سوف أكيس بعدها و أستمر
و أجمع الأمر الشتيت المنتشر
فقلنا: ما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنى استعملت محمّد بن أبي بكر على مصر فكتب إلىّ أنّه لا علم لي بالسنّة فكتبت إليه كتابا فيه أدب و سنّة فقتل و اخذ الكتاب.
قلت: قد نقلت هذا العهد الشريف المحكم المتين الذي هو نسيج وحده في المعارف الحقّة لا سيّما في المعاد من كتاب الغارات المنقول في شرح الفاضل المعتزلي و لكن من نسخة مخطوطة مصحّحة مشكوكة عتيقة قد أنعمنا اللّه تعالى بها و هي من كتب مكتبتنا، و بين ما نقلناه منها و بين ما طبع من نسخ شرح الفاضل المذكور تفاوة في عدّة مواضع يتغير المعنى بها و لعلّنا نأتي بها أو ببعض ما يهتمّ و يعتنى به في شرح العهد إنشاء اللّه تعالى.
صورة العهد على ما فى تاريخ الطبرى:
و أما صورة العهد على ما ضبطه أبو جعفر الطبري في التاريخ فإنه قريب ممّا نقلناه من كتاب الغارات أوّلا و ليس في نقله كثير فائدة قال: قال هشام عن أبي مخنف قال: حدّثنى الحارث بن كعب الوالبيّ عن أبيه قال: كنت مع محمّد بن أبي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 70
بكر حين قدم مصر فلمّا قدم قرأ عليهم عهده: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر حين ولّاه مصر أمره بتقوى اللّه- إلخ.
و لم ينقل أبو جعفر الطبري وصيّته عليه السّلام المبسوطة لأهل مصر و محمّد و إنّما اكتفى بنقل العهد الذي كتبه إلى محمّد فقط.
صورة العهد على ما فى تحف ابن شعبة:
و أمّا أبو محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّانى- ره- فانه أتى بالعهد الّذي كتبه إلى محمّد، و ما كتبه إلى أهل مصر و محمّد جميعا، و لمّا كان الأوّل قريبا أيضا ممّا في كتاب الغارات و تاريخ الطبري أعرضنا عن نقله أيضا لقلّة الجدوى في ذلك، و أمّا ما كتبه عليه السّلام إلى أهل مصر و محمّد فهذه صورته:
ثمّ كتب إلى أهل مصر بعد مسيره ما اختصرناه: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر و أهل مصر: سلام عليكم.
أمّا بعد فقد وصل إلىّ كتابك و فهمت ما سألت عنه، و أعجبنى اهتمامك بما لا بدّ لك منه و ما لا يصلح المسلمين غيره، و ظننت أنّ الّذي أخرج ذلك منك نيّة صالحة و رأى غير مدخول.
أمّا بعد فعليك بتقوى اللّه في مقامك و مقعدك و سرّك و علانيتك، و إذا أنت قضيت بين النّاس فاخفض لهم جناحك، و ليّن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك و آس بينهم في اللحظ و النظر حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، و أن تسأل المدّعي البيّنة و على المدّعى عليه اليمين، و من صالح أخاه على صلح فأجز صلحه إلّا أن يكون صلحا يحرّم حلالا أو يحلّل حراما.
و آثر الفقهاء و أهل الصّدق و الوفاء و الحياء و الورع على أهل الفجور و الكذب و الغدر، و ليكن الصالحون الأبرار إخوانك، و الفاجرون الغادرون أعداءك فانّ أحبّ اخوانى إلىّ أكثرهم للّه ذكرا و أشدّهم منه خوفا و أنا أرجو أن تكون منهم إن شاء اللّه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 71
و إنّى اوصيكم بتقوى اللّه فيما أنتم عنه مسئولون و عمّا أنتم إليه صائرون فإنّ اللّه قال في كتابه: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ». و قال: «وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ». و قال: فو ربّك لنسألنّهم أجمعين عمّا كانوا يعملون، فعليكم بتقوى اللّه فانّها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدّنيا و خير الاخرة قال اللّه تعالى: «وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ».
اعلموا عباد اللّه أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدّنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدّنيا في آخرتهم، قال اللّه عزّ و جلّ: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ»، الاية. سكنوا الدّنيا بأحسن ما سكنت و أكلوها بأحسن ما أكلت.
و اعلموا عباد اللّه أنّكم إذا لقيتم اللّه و حفظتم نبيّكم في أهله فقد عبدتموه بأفضل عبادته، و ذكرتموه بأفضل ما ذكر، و شكرتموه بأفضل ما شكر، و قد أخذتم بأفضل الصبر و الشكر، و اجتهدتم بأفضل الاجتهاد و إن كان غيركم أطول منكم صلاة و أكثر منكم صياما و صدقة إذ كنتم أنتم أوفى للّه و أنصح لأولياء اللّه و من هو ولىّ الأمر من آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و احذروا عباد اللّه الموت و قربه و كربه و سكراته، و أعدّوا له عدّته فإنّه يأتي بأمر عظيم: بخير لا يكون معه شرّ و بشرّ لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها و أقرب إلى النّار من أهلها فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم فإنّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أكثروا ذكرها دم اللّذات، و اعلموا أنّ ما بعد الموت لمن لم يغفر اللّه له و يرحمه أشدّ من الموت.
و اعلم يا محمّد إنّنى وليّتك أعظم أجنادى في نفسى أهل مصر و أنت محقوق أن تخاف على نفسك و أن تحذر فيه على دينك و ان لم تكن إلّا ساعة من النهار، فان استطعت أن لا تسخط ربّك برضى أحد من خلقه فافعل فإنّ في اللّه خلفا من غيره
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 72
و لا في شيء خلف من اللّه، اشدد على الظالم و خذ على يديه، و لن لأهل الخير و قرّبهم منك و اجعلهم بطانتك و إخوانك.
ثمّ انظر صلاتك كيف هي فإنّك إمام و ليس من إمام يصلّى بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلّا كان عليه أو زارهم و لا ينتقص من صلاتهم شيء و لا يتمّمها إلّا كان له مثل اجورهم و لا ينتقص من اجورهم شيء. و انظر الوضوء فإنّه تمام الصّلاة و لا صلاة لمن لا وضوء له. و اعلم أنّ كلّ شيء من عملك تابع لصلاتك، و اعلم أنّه من ضيّع الصّلاة فإنّه لغير الصّلاة من شرائع الإسلام أضيع.
و إن استطعم يا أهل مصر أن يصدّق قولكم فعلكم و سرّكم علانيتكم، و لا تخالف ألسنتكم أفعالكم فافعلوا، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لا أخاف على امّتى مؤمنا و لا مشركا أمّا المؤمن فيمنعه اللّه بإيمانه، و أمّا المشرك فيخزيه اللّه و يقمعه بشركه، و لكنّي أخاف عليكم كلّ منافق حلو اللسان يقول ما تعرفون، و يفعل ما تنكرون ليس به خفاء، و قد قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: من سرّته حسناته و ساءته سيّئاته فذلك المؤمن حقّا، و كان يقول صلّى اللّه عليه و آله: خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت و فقه في سنّة.
و اعلم يا محمّد بن أبي بكر أنّ أفضل الفقه الورع في دين اللّه، و العمل بطاعة اللّه أعاننا اللّه و إيّاك على شكره و ذكره و أداء حقّه و العمل بطاعته إنّه سميع قريب.
و اعلم أنّ الدّنيا دار بلاء و فناء و الاخرة دار بقاء و جزاء فإن استطعت أن تؤثر «1» ما يبقى على ما يفنى فافعل رزقنا اللّه بصر ما بصّرنا و فهم ما فهّمنا حتّى لا نقصّر عمّا أمرنا و لا نتعدّى إلى ما نهينا عنه فانّه لا بدّ لك من نصيبك من الدّنيا، و أنت إلى نصيبك من الاخرة أحوج، فان عرض لك أمران: أحدهما للاخرة و الاخر للدّنيا، فابدأ بأمر الاخرة، و إن استطعت أن تعظم رغبتك في
______________________________
(1) كانت العبارة «أن تزين» مكان «أن تؤثر» و بدلنا الاول بالثانى قياسا بما نقلنا آنفا من كتاب الغارات و كانت العبارة فيه «تؤثر» و لا تفيد تزين من الزينة معنى صحيحا الا بتكلف لا ينبغي فى حول كلام صدر من مشرع الفصاحة و البلاغة. منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 73
الخير و تحسن فيه نيّتك فافعل فإنّ اللّه يعطى العبد على قدر نيّته إذا أحبّ الخير و أهله، و إن لم يفعله كان إن شاء اللّه كمن فعله.
ثمّ إنّي اوصيك بتقوى اللّه، ثمّ بسبع خصال هنّ جوامع الاسلام: تخشى اللّه و لا تخشى النّاس في اللّه فانّ خير القول ما صدّقه الفعل، و لا تقض في أمر واحد بقضائين فيختلف عليك أمرك و تزلّ عن الحقّ، و أحبّ لعامّة رعيّتك ما تحبّ لنفسك و أهل بيتك، و ألزم الحجّة عند اللّه و اصلح رعيّتك، و خض الغمرات إلى الحقّ و لا تخف في اللّه لومة لائم، و أقم وجهك و انصح للمرء المسلم إذا استشارك، و اجعل نفسك اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم، و أمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الامور و السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته.
صورة العهد على ما فى نسختى الشيخين المفيد و الطوسى قدس سرهما:
أمّا صورة العهد على ما في أمالي الشّيخ المفيد، و ما في أمالي الشّيخ الطوسى رفع اللّه درجتهما فانّ إحداهما قريبة من الاخرى بل الطوسي- ره- رواه من الشّيخ المفيد بسند ينتهى إلى أبي إسحاق الهمداني و بهذا السند رواه المفيد أيضا في أماليه من غير اختلاف، إلّا أنّا نجعل ما في أمالي الطوسي أصلا و ذلك لأنا ننقله من نسخة مخطوطة مصحّحة عتيقة محفوظة في مكتبتنا استنسخت من أصل كتب في سنة 618 و قوبلت عليه و قد نقل في آخرها عبارة خاتمة الأصل هكذا: تمّ كتاب الأمالي و هو ثمانية عشر جزءا آخر نهار الجمعة ثاني شوال سنة ثمان عشر و ستمائة و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمّد و آله الطّاهرين و سلّم تسليما، كتبه عليّ بن أبي محمّد بن أحمد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجليّ الحلّيّ حامدا للّه تعالى و مصلّيا على رسوله محمّد و آله الطّاهرين.
فدونك صورة العهد على رواية الطوسي من ذلك الأصل قال: حدّثنا الشيخ المفيد أبو علي الحسن بن محمّد بن الحسن الطوسي رحمه اللّه تعالى بمشهد مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، قال: حدّثنا الشّيخ السعيد الوالد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 74
أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي رحمه اللّه في شهر ربيع الأوّل من سنة خمس و خمسين و أربعمائة، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان رحمه اللّه «1» قال: أخبرني أبو الحسن علىّ بن محمّد بن حبيش الكاتب، قال: أخبرني الحسن بن عليّ الزّعفراني، قال: أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد الثقفي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمّد بن عثمان، قال: حدّثنا عليّ بن محمّد بن أبي سعيد عن فضيل بن الجعد عن أبي إسحاق الهمداني (و فى أمالي المفيد: المجلس الحادي و الثلاثون مجلس يوم الاثنين السادس عشر من شهر رمضان سنة تسع و أربعمائة ممّا سمعته أنا و أبو الفوارس حدّثنا الشّيخ الجليل المفيد أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان أيّد اللّه تمكينه قال:
أخبرني أبو الحسن علي بن محمّد بن محمّد بن حبيش الكاتب- و هكذا بالاسناد المقدّم حتّى ينتهى إلى أبى إسحاق الهمداني) قال: لمّا ولّى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب محمّد بن أبي بكر مصر و أعمالها، كتب له كتابا و أمره أن يقرأه على أهل مصر و ليعمل بما وصّاه به فكان الكتاب:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من عبد اللّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إلى أهل مصر و محمّد بن أبي بكر: سلام عليكم فاني أحمد إليكم اللّه الّذي لا إله إلّا هو، أمّا بعد فانّي اوصيكم بتقوى اللّه فيما أنتم عنه مسئولون و إليه تصيرون فانّ اللّه تعالى يقول: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»، و يقول: «وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ»، و يقول: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ».
و اعلموا عباد اللّه أنّ اللّه عزّ و جلّ سائلكم عن الصغير من أعمالكم و الكبير فان يعذّب فنحن أظلم، و إن يعف فهو أرحم الرّاحمين (و قد سقط في أمالي المفيد المطبوع في النجف شطر من الحديث).
يا عباد اللّه إنّ أقرب ما يكون العبد إلى المغفرة و الرحمة حين يعمل للّه بطاعته و بنصحه في التوبة. عليكم بتقوى اللّه فانها تجمع الخير و لا خير غيرها و يدرك بها
______________________________
(1) هو الشيخ الاجل المفيد- ره-، و أما الشيخ المفيد أبو على الحسن فهو ابن الشيخ الطوسى- ره- و المفيد المطلق المعروف هو الاول. منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 75
من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدنيا و الاخرة قال اللّه عزّ و جلّ: «وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ».
اعلموا يا عباد اللّه أنّ المؤمن يعمل لثلاث من الثواب [لثلاث ] أمّا الخير فانّ اللّه يثيبه بعمله في دنياه، قال اللّه سبحانه لإبراهيم: «وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ»، فمن عمل للّه تعالى أعطاه أجره في الدّنيا و الاخرة و كفاه المهمّ فيهما، و قد قال اللّه تعالى: «يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» ، فما أعطاهم اللَّه في الدّنيا لم يحاسبهم به في الاخرة، قال اللّه تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ»، و الحسنى هي الجنّة، و الزيادة هي الدّنيا، و إنّ اللّه تعالى يكفّر بكلّ حسنة سيئة»، قال اللّه عزّ و جلّ: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ»، حتّى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم حسناتهم ثمّ أعطاهم بكلّ واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللّه عزّ و جلّ: «جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً»، و قال: اولئك لهم جزاء الضّعف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون، فارغبوا [فارعنوا- كما في النسخة المصحّحة من الأمالي ] في هذا رحمكم اللّه و اعملوا له و تحاضّوا عليه.
و اعلموا يا عباد اللّه أنّ المتّقين حازوا عاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدّنيا في دنياهم و لهم يشاركهم أهل الدّنيا في آخرتهم أباحهم فى الدّنيا ما كفاهم به و أغناهم، قال اللّه عزّ اسمه: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدّنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون، و شربوا من طيّبات ما يشربون، و لبسوا من أفضل ما يلبسون، و سكنوا من أفضل ما يسكنون، و تزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون، و ركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذّة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 76
الدّنيا مع أهل الدّنيا و هم غدا جيران اللّه يتمنّون عليه فيعطيهم ما يتمنّون، لا يردّ لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من اللّذة، فإلى هذا يا عباد اللّه يشتاق إليه من كان له عقل و يعمل له تقوى اللّه [في المطبوعة بتقوى اللّه ] و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.
يا عباد اللّه إن اتّقيتم و حفظتم نبيّكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد و ذكرتموه بأفضل ما ذكر، و شكرتموه بأفضل ما شكر، و أخذتم بأفضل الصّبر و الشّكر، و اجتهدتم أفضل الاجتهاد، و إن كان غيركم أطول منكم صلاة و أكثر منكم صياما فأنتم أتقى للّه منه و أنصح لاولى الأمر.
احذروا يا عباد اللّه الموت و سكرته فأعدّوا له عدّته فإنّه يفجاكم بأمر عظيم: بخير لا يكون معه شرّ أبدا، أو بشرّ لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها، و من أقرب إلى النّار من عاملها؟ انه ليس أحد من النّاس تفارق روحه جسده حتّى يعلم إلى أيّ المنزلتين يصير إلى الجنّة أم النّار؟
أعدوّ هو للّه أو وليّ؟ فإن كان وليّا للّه فتحت له أبواب الجنّة، و شرعت له طرقها و رأى ما أعدّ اللّه له فيها ففرغ من كلّ شغل، و وضع عنه كلّ ثقل، و إن كان عدوّا للّه فتحت له أبواب النّار، و شرع له طرقها، و نظر إلى ما أعدّ اللّه له فيها فاستقبل كلّ مكروه، و ترك كلّ سرور، كلّ هذا يكون عند الموت و عنده يكون بيقين، قال اللّه تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»، و يقول: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ».
عباد اللّه إنّ الموت ليس منه فوت، فاحذروا قبل وقوعه، و أعدّوا له عدّة [عدّته- خ ل ] فإنكم طرداء الموت إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم، و هو ألزم لكم من ظلّكم، الموت معقود بنواصيكم، و الدّنيا تطوى خلفكم، فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشّهوات، و كفى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 77
بالموت واعظا، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كثيرا ما يوصى أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فانه هادم اللذّات حائل بينكم و بين الشهوات.
يا عباد اللّه ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه و ضنكه و ظلمته و غربته، إنّ القبر يقول كلّ يوم: أنا بيت الغربة، أنا بيت التراب أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدّود و الهوام. و القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النّار، إنّ العبد المؤمن إذا دفن قالت له الأرض: مرحبا و أهلا قد كنت من أحبّ أن تمشي على ظهري فاذا وليتك فستعلم كيف صنيعي بك فيتّسع له مدّ البصر، و إنّ الكافر إذا دفن قالت له الأرض: لا مرحبا بك و لا أهلا لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري فاذا وليتك فستعلم كيف صنيعي بك فتضمّه حتّى تلتقى أضلاعه، و أنّ المعيشة الضنك الّتي حذّر اللّه منها عدوّه عذاب القبر انه يسلّط على الكافر في قبره تسعة و تسعين تنينا فينهشن لحمه و يكسرن عظمه و يتردّدن عليه كذلك إلى يوم البعث، لو أنّ تنينا منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعا [زرعا أبدا- خ ل ].
يا عباد اللّه إنّ أنفسكم الضعيفة، و أجسادكم الناعمة الرقيقة الّتي يكفيها اليسير تضعف عن هذا، فإن استطعتم أن تجزعوا لأجسادكم و أنفسكم ممّا لا طاقة لكم و لا صبر لكم عليه فاعملوا بما أحبّ اللّه و اتركوا ما كره اللّه.
يا عباد اللّه إنّ بعد البعث ما هو أشدّ من القبر يوم يشيب فيه الصغير و يسكر فيه الكبير و يسقط فيه الجنين و تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، يوم عبوس قمطرير يوم كان شرّه مستطيرا، إنّ فزع ذلك اليوم ليرهّب الملائكة الذين لا ذنب لهم و ترعد منه السبع الشداد، و الجبال الأوتاد، و الأرض المهاد، و تنشقّ السماء فهى يومئذ واهية و تتغير فكأنّها وردة كالدّهان، و تكون الجبال سرابا مهيلا بعد ما كانت صمّا صلابا، و ينفخ في الصور فيفزع من في السموات و من في الأرض إلّا من شاء اللّه، فكيف من عصى بالسمع و البصر و اللسان و اليد و الرّجل و الفرج و البطن إن لم يغفر اللّه له و يرحمه من ذلك اليوم، لأنّه يصير إلى غيره: إلى نار
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 78
قعرها بعيد و حرّها شديد و شرابها صديد و عذابها جديد، و مقامعها حديد لا يفتر عذابها و لا يموت ساكنها، دار ليس فيها رحمة و لا يسمع لأهلها دعوة.
و اعلموا يا عباد اللّه أنّ مع هذا رحمة اللّه الّتي لا تعجز العباد: جنّة عرضها كعرض السماء و الأرض اعدّت للمتّقين لا يكون معها شرّ أبدا، لذّاتها لا تملّ و مجتمعها لا يتفرّق، سكّانها قد جاوروا الرّحمن، و قام بين أيديهم الغلمان بصحاف من الذّهب فيها الفاكهة و الريحان.
ثمّ اعلم يا محمّد بن أبي بكر أنّى قد ولّيتك أعظم أجنادي في نفسى أهل مصر فاذا ولّيتك ما ولّيتك من أمر الدّنيا فأنت حقيق أن تخاف فيه على نفسك، و أن تحذر فيه على دينك، فإن استطعت ألّا تسخط ربّك برضى أحد من خلقه فافعل فإنّ في اللّه عزّ و جلّ خلفا من غيره و ليس في شيء سواه خلف منه. اشتدّ على الظالم و خذ عليه، و لن لأهل الخير و قرّبهم و اجعلهم بطائنك و أقرانك.
و انظر إلى صلاتك كيف هي فانك إمام لقومك أن تتمّها و لا تخفّفها فليس من إمام يصلّى لقوم يكون في صلاتهم نقصان إلّا كان عليه لا ينقص من صلاتهم شيء و تمّمها و تحفّظ فيها يكن لك مثل اجورهم و لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا.
و انظر إلى الوضوء فإنّه من تمام الصّلاة: تمضمض ثلاث مرات، و استنشق ثلاثا، و اغسل وجهك ثمّ يدك اليمنى ثمّ اليسرى ثمّ امسح رأسك و رجليك فإنّى رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصنع ذلك، و اعلم أنّ الوضوء نصف الإيمان.
ثمّ ارتقب وقت الصّلاة فصلّها لوقتها و لا تعجل بها قبله لفراغ و لا تؤخّرها عنه لشغل فإنّ رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أوقات الصّلاة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
أتانى جبرئيل عليه السّلام فأرانى وقت الصّلاة حين زالت الشمس فكانت على حاجبه الأيمن، ثمّ أرانى وقت العصر فكان ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ صلّى المغرب حين غربت الشمس، ثمّ صلى العشاء الاخرة حين غاب الشفق، ثمّ صلّى الصبح فأغلس بها و النّجوم مشتبكة فصلّ لهذه الأوقات، و الزم السنّة المعروفة و الطريق الواضح.
ثمّ انظر ركوعك و سجودك فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان أتمّ الناس صلاة و أخفّهم عملا فيها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 79
و اعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك فمن ضيّع الصّلاة فانّه لغيرها أضيع.
أسأل اللّه الّذي يرى و لا يرى و هو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا (في امالى المفيد: على أن يعيننا) و إيّاك على شكره و ذكره و حسن عبادته و أداء حقّه و على كلّ شيء اختار لنا في دنيانا و ديننا و آخرتنا.
و أنتم يا أهل مصر فليصدّق قولكم فعلكم و سرّكم علانيتكم و لا يخالف ألسنتكم قلوبكم. و اعلموا أنه لا يستوى إمام الهدى و إمام الرّدى، و وصىّ النّبي عليه السّلام و عدوّه، إنّى لا أخاف عليكم مؤمنا و لا مشركا أمّا المؤمن فيمنعه اللّه بإيمانه، و أمّا المشرك فيحجزه اللّه عنكم بشركه و لكنّى أخاف عليكم المنافق يقول ما تعرفون و يعمل بما تنكرون.
يا محمّد بن أبي بكر اعلم أنّ أفضل الفقه الورع في دين اللّه، و العمل بطاعته، و أنّى اوصيك بتقوى اللّه في سرّ أمرك و علانيتك و على أىّ حال كنت عليه، الدّنيا دار بلاء و دار فناء، و الاخرة دار الجزاء و دار البقاء، فاعمل لما يبقى و اعدل عمّا يفنى، لا تنس نصيبك من الدّنيا.
اوصيك بسبع هنّ جوامع الإسلام: تخشى اللّه عزّ و جلّ و لا تخش النّاس في اللّه و خير القول ما صدّقه العمل، و لا تقض في أمر واحد بقضائين مختلفين فيختلف أمرك و تزيغ عن الحقّ، و أحبّ لعامّة رعيتك ما تحبّ لنفسك و أهل بيتك و اكره لهم ما تكره لنفسك و أهل بيتك فإنّ ذلك أوجب للحجّة و أصلح للرعيّة و خض الغمرات إلى الحقّ و لا تخف في اللّه لومة لائم، و انصح المرأ إذا استشارك، و اجعل نفسك (لنفسك خ ل) اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم. جعل اللّه مودّتنا في الدّين، و حلّنا و إيّاكم حلّة المتقين «1» و ابقى لكم طاعتكم حتّى يجعلنا و إيّاكم بها اخوانا على سرر متقابلين.
______________________________
(1) فى النسخة المطبوعة من أمالى الطوسى: و خلتنا و اياكم خلة المتقين، و فى أمالى المفيد: و جعلنا و اياكم حلية المتقين، لكن الصواب ما فى المتن المنقول من تلك النسخة المخطوطة، و ما فى النسخ المطبوعة مصحفة. منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 80
أحسنوا أهل مصر موازرة محمّد أميركم، و اثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله. أعاننا اللّه و إيّاكم على ما يرضيه. و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.
قلت: صورة العهد على رواية الشيخين تصدّق ما نقلناه آنفا عن كتاب الغارات أكثر تصديق من أنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنه لا علم لي بالسنّة فكتب عليه السّلام إليه كتابا فيه أدب و سنّة، و إلّا لم يكن في رواية أبي إسحاق إبراهيم في كتاب الغارات كلام في السنّة إلّا قوله عليه السّلام في جباية الخراج و الصّلاة و الوضوء مجملا.
و كذلك يصدّقه ما رواه ابن شعبة في التحف حيث قال الأمير عليه السّلام: أمّا بعد فقد وصل إلىّ كتابك و فهمت ما سألت عنه و أعجبنى بما لا بدّ لك منه- إلخ.
صورة العهد على رواية أبى جعفر محمد بن أبى القاسم الطبرى فى كتابه بشارة المصطفى لشيعة المرتضى:
و أمّا صورة العهد على رواية عماد الدّين الطبري في كتابه بشارة المصطفى لشيعة المرتضى فهى أيضا توافق صورته على رواية الشيخين قدّس أسرارهم قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو محمّد الحسن بن الحسين بن بابويه قرأته عليه بالرّى سنة عشرة و خمسمائة قال: حدّثنا السعيد أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي قال: حدّثنا الشّيخ المفيد أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد- إلى آخر السّند المذكور آنفا من أمالى الطوسى- و نقل العهد إلي قوله عليه السّلام: فأنتم أتقى للّه عزّ و جلّ منه و أنصح لاولى الأمر، ثمّ قال: قال محمّد بن أبي القاسم: الحديث طويل لكنّى أخذته إلى هاهنا لأنّ غرضى كان في هذه الألفاظ الأخيرة فإنّها بشارة حسنة لمن خاف و اتّقى و تولّى أهل المصطفى و الخبر بكماله أوردته في كتاب الزهد و التقوى. انتهى كلامه- ره-.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 81
اللغة:
(فاخفض) أى ألن لهم جانبك. و الجناح هاهنا هو الجنب أى كن ليّن الجانب لرعيّتك و لا تغلظ عليهم قال اللّه تعالى: «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». (رهن) بضمّ الراء و الهاء جمع رهن (و ابسط لهم وجهك) أى كن طلق الوجه لهم. (آس) أمر من المواساة يقال آساه بماله مواساة أى أناله منه و جعله فيهم اسوة. و لا يقال واساه بل هو لغة ردّية كما في القاموس. و يقال آسيت بين القوم إذا أصلحت و آسيت بينهم اى جعلت بعضهم اسوة بعض، و المراد من المواساة ههنا المساواة أى سوّ بينهم و تقديره اجعل بعضهم اسوة بعض.
الاعراب:
(عن الصّغيرة) متعلّق بقوله يسائلكم، (معشر عباده) منادى مضاف وقع في البين. (حين ما يعمل بطاعة اللّه) ما مصدرية و منا صحته معطوف على المصدر.
المعنى:
هذا العهد الشريف يحتوي في أمر المعاد ما لا يحتويها غيره من خطبه و وصاياه و عهوده كما يظهر ذلك لك بالتأمّل في سائر كلامه عليه السّلام، حتّى أنّ العهد الّذي كتبه إلى مالك رضوان اللّه عليه و هو أطول عهوده، و أنّ الكتاب الّذي كتبه إلى ابنه الحسن المجتبى عليه السّلام و هو أطول كتبه و وصاياه و من جلائلها لا يشتملان على معارف و حقائق في المعاد، توجد في هذا العهد القويم، و إن كان نبذة من كتابه إلى الحسن عليه السّلام في ذلك و لكنّها لا يقاس إلى ما في هذا العهد من دقائق و رقائق في المعاد، و أمّا العهد الّذي كتبه إلى المالك فهو و إن كان من محاسن كتبه عليه السّلام و لكنّه برنامج الوظائف الاجتماعيّة و المدنيّة.
و بالجملة كتابه عليه السّلام هذا إلى محمّد بن أبي بكر يفتح أبوابا إلى معرفة ذلك المطلب الأسنى و المقصود الأسنى أعنى المعاد و أحوال الناس فيه، و شرحه على التفصيل ينجرّ إلى إطناب، و لذا نعرض عنه و نكتفي بشرحه الإجمالي و نشير إلى طائفة من معاني أقواله عليه السّلام و الأخبار الاخرى في المقام على ما يقتضيه الحال و تفصيله يطلب من كتابنا المسمى بالقيامة فنقول مستعينا بمن له الاخرة و الاولى:
كنايه قوله عليه السّلام: (فاخفض لهم جناحك- إلخ) أمره أن لا يغلظ على الرعيّة و أن يكون ليّن الجانب لهم، و خفض الجناح كناية عن التواضع و اللّين و الانقياد و التسليم، كما ترى من دأب الطير إذا تواضع أحدها الاخر يخفض جناحه عنده.
و روى الكليني قدّس سرّه في الكافي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك اللّه به طريقا إلى الجنّة و أنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به- الخبر، و في سورة الاسرى من القرآن الكريم: «وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً»،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 84
و قال عزّ من قائل خطابا لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
و روى الشّيخ الجليل حسن بن زين الدّين الشّهيد الثاني في أوائل كتاب معالم الدّين في الاصول مسندا عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قال:
تعلّموا العلم فانّ تعلّمه حسنة- إلى أن قال عليه السّلام: و ترغب الملائكة في خلّتهم يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم لأنّ العلم حياة القلب و نور الأبصار من الهدى- الخبر.
و لا يخفى عليك أنّ الجناح في قوله عليه السّلام: فاخفض لهم جناحك، لا يحمل على معناه المطابقى الحقيقي، و كذا في الايتين المذكورتين و كأنّ المراد من أجنحة الملائكة أيضا كناية عن تواضعهم لبغاة العلم في الخبر الأوّل، و بمعنى لطيف أدقّ و أشمخ من هذا فى الخبر الثاني حيث قال عليه السّلام: يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم و معلوم أنّ مسح الجناح المؤلّف من العظم و اللّحم و الريش و غيرها بالمصلّى لا يزيد في كماله و تقرّ به إلى اللّه فالمسح بالأجنحة في الخبر محمول على ارتباط سرّ المصلّى العالم إلى عالم القدس، و لمّا كانت المعاني تنزلت من مقامها من غير خلوّها عن مرتبتها كاسية بلباس ألفاظ هذه النشأة، فلا بدّ للبصير أن تجعل الألفاظ روازن إلى رؤية معانيها الأوّليّة، قال ثقة المحدّثين الشّيخ الصّدوق رضوان اللّه عليه في رسالته في الاعتقادات: اعتقادنا في اللّوح و القلم أنّهما ملكان، و قال المعلّم الثاني أبو نصر الفارابي قدّس سرّه في الفصوص:
فليتدبّر فى قوله تعالى في أوّل سورة الفاطر: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
و أفاد المتألّه السبزواري قدّس سرّه في بيان الاية المباركة في شرحه على الفصل الرابع و الثمانين من الدّعاء المعروف بالجوشن الكبير بقوله: و لا نبالي بأن يكون لرقائقهم المثاليّة و أشباحهم الصوريّة أجنحة و لهم طيران و سير كما أنّ لكلّ حقيقة من حقائقهم المعنويّة حقيقة الجناح من جناح القوّة العلّامة و جناح
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 85
القوّة العمّالة و حقيقة الطيران و السير من الدرك و الفعل كما سمّى بعضهم القوى المدركة من النّفس النّاطقة بالطّيارة و المحرّكة بالسيّارة، و قال في هامش الكتاب في بيان قوله: بأن يكون لرقائقهم المثالية- إلخ- لأنّ لكلّ معنى صورة و لكلّ حقيقة رقيقة كما أنّ لسني الرخا صورة هي البقرات السمان و لسني القحط صورة هي البقرات العجاف و قس عليه و التعبير كالتأويل.
قوله عليه السّلام: (و آس بينهم- إلخ) ثمّ أمره بالمساواة معهم حتّى في اللّحظة و النظرة لئلّا يطمع العظماء في حيفه مع الرّعية و لا ييأس الضعفاء من عدله عليهم و قد مضى كلامنا في العدل و المساواة في شرح الكتاب الثالث أعني كتابه عليه السّلام لشريح القاضي لمّا اشترى دارا بثمانين دينارا.
ثمّ علل أمره بالمساواة و العدل حتّى في اللّحظة و النّظرة بقوله: (فإنّ اللّه يسائلكم- إلخ) كى لا يظنّ أنّ عدم التسوية في اللّحظة و النّظرة ممّا لا يعتنى به و لا يحاسب عليه (فإن يعذّبهم اللّه فهم أظلم و إن يعفو فهو أكرم) و الأفعل ههنا ليس أفعل التفضيل بل هو أفعل الوصف نظير قوله تعالى: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ...»* أى ليس بظالم، و ذلك لأنّ صدور الظلم كثيره و قليله منه تعالى قبيح عقلا، فمن ارتكب المعاصي فهو ظالم لنفسه و إن تاب عنها إليه تعالى و زكّى نفسه من درنها فقد أفلح و عفا اللّه عنه و هذا كرم ناله من اللّه تعالى، فإنّ اللّه أمر بالخير و نهى عن الشرّ.
الترجمة:
اين فرمانى است كه أمير عليه السّلام به محمّد بن أبي بكر در وقتى كه از قبل وى والى مصر بود نوشت: با مردم فروتن و نرم و گشاده روى باش، و در لحاظ و نظر با همه يكسان تا بزرگان در تو طمع ستم نكنند، و ناتوانان ازدادت نااميد نشوند چه خداى بزرگ از كار بزرگ و كوچك و پوشيده و آشكار شما مى پرسد پس اگر شكنجه دهد بستم ما است و اگر ببخشد بكرم او است.