منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 59
و اعلموا عباد اللّه أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدّنيا و آجل الاخرة فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدّنيا في آخرتهم. سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدّنيا بما حظى به المترفون، و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة (58816- 58713) المتكبّرون ثمّ انقلبوا عنها بالزّاد المبلّغ و المتجر المربح، أصابوا لذّة زهد الدّنيا في دنياهم، و تيقّنوا أنّهم جيران اللّه غدا في آخرتهم. لا تردّ لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من لذّة.
اللغة:
(المترفون) المنعمون الترفة بالضمّ: النعمة، و أترفته النعمة أطغته (الحيف): الجور. (فحظوا) الحظوة بالضمّ و الكسر و الحظة كعدة: المكانة و الحظّ من الرزق و الفعل من باب علم. قال محمّد بن بشير (الحماسة 436 من شرح المرزوقي):
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته و مد من القرع للأبواب أن يلجا
أى أن يظفر بطلبته.
(المشهد): المحضر، خلاف المغيب. (أن يجبى) اى أن يجمع من الجباية. القسطاس بالضمّ و الكسر الميزان، أو أقوم الموازين، أو هو ميزان العدل أيّ ميزان كان كالقسطاس أو رومي معرّب. (آثر) أى اختار. (يتمنّون عليه) التمنّى تشهّى حصول الأمر المرغوب فيه. (شرع له) أى فتح له.
الاعراب:
كلمة ما في قوله: (بأفضل ما سكنت) و في أخواته مصدرية أى استعملوها على الوجه الّذي ينبغي. و الباء في قوله (بالزاد المبلغ) بمعنى مع (من آل محمّد) بيان لأولياء اللّه. (ما كنّا نعمل من سوء) كلمة ما: نافية أو استفهاميّة. (رحمة اللّه الّتي وسعت كلّ شيء لا تعجز عن العباد) قيل: رحمة اللّه مبتداء و الّتي خبرها و لا تعجز
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 83
خبر بعد خبر، و لكن الظاهر من تنسيق الكلام أنّ الّتي صفة لها و لا تعجز خبر لها.
المعنى:
قوله عليه السّلام: (و اعلموا عباد اللّه- إلخ) وصف المتّقين ترغيبا لعباد اللّه إلى التّقوى، و إنما قال: (إنّهم سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما اكلت) لأنّ مكسبهم كان على وجه حلال و طريق صواب فملبسهم و مأكلهم و مشربهم كلّها قد تهيّأت على ذلك الوجه و لم يكن لهم فيها وزر و لا وبال و المترفون و الجبابرة المتكبّرون، لم يأخذوا من دنياهم إلّا على قدر ما يحتاج الانسان أن يعيش و تركوا ما زاد منها على حسرة هي أشدّ من نار جهنّم ألما:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 86
اين بدر مى رود از باغ بصد حسرت و داغ و آن چه دارد كه بحسرت بگذارد آنرا
على أنه قد لزمهم أوزارها من مظالم العباد و غيرها، قال تعالى: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ»- الاية (آل عمران 181) و في الخبر عن الباقر عليه السّلام: الّذي يمنع الزكاة يحوّل اللّه تعالى ماله يوم القيامة شجاعا من نار له ريمتان فتطوّقه ثمّ يقال له الزمه كما لزمك في الدّنيا و هو قوله اللّه تعالى: «سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ» الاية (مادة نور من سفينة البحار) ثمّ تأمّل أيها البصير في قوله عليه السّلام يحوّل اللّه تعالى ماله يوم القيامة شجاعا من نار، ثمّ في قوله عليه السّلام يقال له: الزمه كما لزمك في الدّنيا فإنّ هذا الخبر يفتح لك بابا من المعرفة في أحوال الناس يوم القيامة.
و بالجملة إنّ المتقين شاركوهم في دنياهم و انقلبوا عنها مع ما كسبوا و قدّموا لأنفسهم من الزاد المبلغ و المتجر المربح و لم يشاركهم أهل الدّنيا في تلك النعمة العظمى و العطيّة الكبرى.
قال عزّ من قائل: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ...» (البقرة 198). و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في الخطبة 180 أوّلها روى عن نوف البكالى إلخ: و ازمع الترحال عباد اللّه الأخيار و باعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من الاخرة لا يفنى.
ثمّ ينبغي لك النظر حقّه في قوله عليه السّلام (و تيقّنوا أنهم جيران اللّه غدا في آخرتهم لا تردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيب من لذّة) حيث أخبر عليه السّلام عن المتّقين بأنّ صفة اليقين الكريمة بلغتهم إلى تلك الدّرجة الرفيعة في آخرتهم و من بلغ إلى تلك الرتبة المنيعة لا تردّ له دعوة و ليست لذّة ينقص لهم نصيبها و ذلك لأنّ الموقنين داوموا الحضور عنده تعالى في هذه النشأة الدنياوية و ليس الشهود الحقيقي إلّا واحدا و البيت واحد و ربّ البيت واحد بل ليس في الدار غيره ديّار بل أينما تولّوا فثمّ وجه اللّه بل هو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن و الدّنيا مزرعة الاخرة و نعم ما قال كعبة العاشقين سيّد الشهداء أبو عبد اللّه الحسين روحى له الفداء في دعاء العرفة، نعم:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 87
بأبه اقتدى عدىّ في الكرم و من يشابه أبه فما ظلم
حيث قال عليه السّلام: و أنت الّذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتّى لم يحبّوا سواك و لم يلجئوا إلى غيرك أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم، و أنت الّذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم، ما ذا وجد من فقدك، و ما الّذي فقد من وجدك.
الترجمة:
اى بندگان خدا بدانيد كه پرهيزكاران هم دنيا دارند و هم آخرت را چه انباز أهل دنيا در دنيايشان بودند و اهل دنيا با آنان در آخرتشان انباز نيستند. در دنيا به بهترين وجه زيست كردند و بهترين غذا خوردند و بهره كه خوش گذرانان داشتند نيز داشتند، و آنچه كه گردنكشان خودبين از دنيا گرفتند نيز گرفتند، سپس از آن كوچ كردند با توشه رسا و بازرگانى سودمند. مزه ترك دنيا را چشيدند، و بمقام يقين همجوارى خدا در آخرت رسيدند. خواسته شان رد نمى شود و بهره لذّتشان كم نمى گردد.