منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 376
و من كتاب له عليه السّلام الى معاوية- و هو المختار الثلاثون من باب المختار من كتبه و رسائله:
فاتّق اللّه فيما لديك، و انظر في حقّه عليك، و ارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته فإنّ للطّاعة أعلاما واضحة، و سبلا نيّرة، و مهجّة نهجة [نهجة- معا]، و غاية مطلّبة يردها الأكياس و يخالفها الأنكاس، من نكّب عنها جار عن الحقّ، و خبط في التّيه، و غيّر اللّه نعمته، و أحلّ به نقمته، فنفسك نفسك فقد بيّن اللّه لك سبيلك، و حيث تناهت بك أمورك فقد أجريت إلى غاية خسر، و محلّة كفر، و إنّ نفسك قد أوحلتك شرّا، و أقحمتك غيّا، و أوردتك المهالك، و أوعرت عليك المسالك. (60008- 59921)
المصدر:
هذا الفصل اختاره الشريف الرضي رضوان اللّه عليه على دأبه من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية و هذه صورته الكاملة:
أمّا بعد فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي، و تستقبح مواربتي، و تزعمني متجبّرا، و عن حقّ اللّه مقصّرا، فسبحان اللّه، كيف تستجيز الغيبة؟ و تستحسن العضيهة؟ و إنّي لم اشاغب إلّا في أمر بمعروف، أو نهى عن منكر و لم أتجبّر [و لم أضجر- نسخة] إلّا على باغ مارق، أو ملحد منافق، و لم آخذ في ذلك إلّا بقول اللّه سبحانه: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ».
و أما التقصير في حقّ اللّه تعالى فمعاذ اللّه! و المقصّر في حقّ اللّه جلّ ثناؤه من عطّل الحقوق المؤكّدة، و ركن إلى الأهواء المبتدعة، و أخلد إلى الضلالة المحيّرة.
و من العجب أن تصف يا معاوية الإحسان، و تخالف البرهان، و تنكث الوثائق الّتي هي للّه عزّ جل طلبة، و على عباده حجّة، مع نبذ الإسلام، و تضييع الأحكام و طمس الأعلام، و الجرى في الهوى، و التّهوس في الرّدى.
فاتّق اللّه فيما لديك، و انظر في حقّه عليك- إلى آخر الفصل المختار من النهج، و إنّ للنّاس جماعة يد اللّه عليها، و غضب اللّه على من خالفها، فنفسك نفسك قبل حلول رمسك، فإنّك إلى اللّه راجع، و إلى حشره مهطع، و سيبهظك كربه و يحلّ بك غمّه، يوم لا يغنى النّادم ندمه، و لا يقبل من المعتذر عذره، يوم لا يغنى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 377
مولى عن مولى شيئا و لا هم ينصرون.
قلت: إنّ كلامه عليه السّلام أما بعد فقد بلغنى كتابك تذكر مشاغبتى، صريح في أنّ هذا الكتاب جواب عن كتاب كتبه معاوية إليه و لكن لم نظفر عليه مع كثرة الفحص و التتبّع، و كتاب أمير المؤمنين علي عليه السّلام هذا نقله الشارح المعتزلي و الشارح البحراني في المقام و علم الهدى ابن المولى المحسن الفيض في معادن الحكمة «ص 159 ج 1» و أحمد زكى صفوت في جمهرة رسائل العرب «ص 433 ج 1» و لم ينقلوا كتاب معاوية بل الأخيرين نقلا كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام هذا من الأوّلين و أتى به المجلسي في ثامن البحار «ص 540» ناقلا عن البحراني أيضا.
اللغة:
(مشاغبتى) الشّغب تهييج الشرّ كالتشغيب و شاغبه شارّه، (مواربتى) المواربة: المداهاة و المخاتلة كما في القاموس، و في غير واحد من النسخ موازرتى، (متجبرا) بالجيم و الباء الموحدة كما في عدّة نسخ و في نسخ اخرى متحيرا بالحاء المهملة و الياء المثناة من تحت و الأوّل أنسب بما يأتي من قوله عليه السّلام: و لم أتجبّر إلّا على باغ مارق، و منه يعلم رجحان أتجبّر على أضجر أيضا.
(العضيهة): بالفتح البهيّة و هي الإفك و البهتان كما قاله الجوهرى في الصحاح قال المتوكّل الليثي:
احذر وصال اللئيم إنّ له عضها إذا حبل وصله انقطعا
و البيت من الحماسة (الحماسة 442) قال المرزوقي في شرحه عليها: العضه ذكر القبيح كذبا و زورا، و يقال عضهته إذا رميته بالزّور، و أعضه الرجل أتى بالعضيهة و هي الإفك، و من كلامهم يا للعضيهة و يا للأفيكة.
(ركن) إليه من بابى علم و نصر أى مال إليه و سكن و وثق به.
(أخلد إلى الضلالة) قال الجوهرى: أخلدت إلى فلان أى ركنت إليه، و منه قوله تعالى: «وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ» ، (الطمس) ازالة الأثر بالمحو، قال تعالى:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 378
«فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» أى أزل صورتها «وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ» أى أزلنا ضوأها و صورتها كما يطمس الأثر قاله الراغب في المفردات.
(التهوّس في الردى) تهوّس: مشى ثقيلا في أرض ليّنة كما عن اللّسان، و قال الجوهري في الصّحاح: الهوس السوق اللين، يقال: هست الإبل فهاست أى ترعى و تسير.
(المحجّة) الطريق الواضحة، و (النهجة) الطريق الواضحة أيضا و أنهج الطريق أي استبان و صار نهجا واضحا بيّنا، أى جادّة مستبينة.
(مطلبة) بتشديد اللّام المفتوحة، كما في نسخة الرضي أى مطلوبة، و في غير واحدة من النسخ مطلوبة، و قال المجلسي في البحار: النسخ المصحّحة متّفقة على تشديد الطّاء، فالكلمة على هذا من اطّلب كافتعل، يقال: اطّلبه أى طلبه قال الجوهري في الصّحاح: طلبت الشيء طلبا و كذلك اطّلبته على افتعلته، و قال الشارح البحراني: مطّلبة بتشديد الطاء و فتح اللّام، أى مطلوبة جدّا منهم بناء على أنّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني، قال الرضي في شرح الشافية:
اعلم أنّ المزيد فيه لغير الإلحاق لا بدّ لزيادته من معنى لأنّها إذا لم يكن لغرض لفظي، كما كانت في الإلحاق، و لا لمعنى كانت عبثا. انتهى.
و قرأها الشارح المعتزلي على سكون الطاء و كسر اللّام، حيث قال: قوله غاية مطلبة أى مساعفة لطالبها بما يطلبه، تقول: طلب فلان منّى كذا فأطلبته أى اسعفته به، ثمّ خطّأ الراوندي بقوله: قال الراوندي: مطلبة بمعنى متطلّبة يقال: طلبت كذا و تطلبته و هذا ليس بشيء يخرج الكلام أن يكون له معنى. انتهى.
قلت: التطلّب طلب الشيء مرّة بعد اخرى مع تكلّف، و يأبى سياق الكلام عن حمله على هذا المعنى، و لذا قال الشارح المذكور ردّا على الراوندي:
و هذا ليس بشيء يخرج الكلام عن أن يكون له معنى.
ثمّ إنّ ما اختاره الشارح المعتزلي ليس بسديد أيضا لأنّ قول أمير المؤمنين عليه السّلام: يردها الأكياس و ما بعده يبيّن لنا أنّ الكلمة بمعنى المطلوبة سواء
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 379
كانت بتشديد اللّام، كما في نسخة الرضي، أو بتشديد الطّاء و فتح اللّام كما في البحار.
و عاضد ما اختاره الشارح المذكور الفاضل أحمد زكي صفوت في جمهرة رسائل العرب بقوله: و يجوز أن تكون مطلبة بسكون الطاء و كسر اللّام من أطلبه إذا أعطاه ما طلبه أى تؤتى أصحابها ما يطلبون من ثواب اللّه و رحمته و هذا أحسن. انتهى. و لقد علمت ما فيه.
(الأكياس) جمع كيّس كجيّد أى العاقل و يجمع على الكيسى أيضا إجراء له مجرى ضده أحمق و حمقى، قال إبراهيم النّخعي لمنصور بن المعتمر:
سل مسألة الحمقى، و احفظ حفظ الكيسى كما في البيان و التبيين (ج 1 ص 299).
تشبيه (الأنكاس) جمع النّكس بكسر النّون فالسّكون قال رجل من بنى أسد:
و ما أنا بالنّكس الدّنىّ و لا الّذي إذا صدّعنّي ذو المودّة أحرب
و البيت من أبيات الحماسة (الحماسة 91) و قال المرزوقي في شرحه: النّكس أصله في السهام و نقل إلى الضعيف من الرّجال، يقال: نكسته نكسا ثمّ يسمّى المنكوس نكسا، كما يقال: نقضته نقضا ثمّ يسمّى المنقوض نقضا بكسر النون كأنّ السهم انكسر فوقه فنكس فسمّى نكسا، فيقول: ما أنا بالمستضعف اللئيم و لا الّذي إذا انحرف عنه من يوادّه دعا بالويل و الحرب فقال و احرباه.
و في الحماسة 397، قالت امرأة من بني الحارث:
فارس ما غادروه ملحما غير زمّيل و لا نكس و كل
و قال المرزوقى في شرحه: النّكس المقصّر عن غاية النجدة و الكرامة و أصله في السّهام و هو الّذي انكسر فجعل أسفله أعلاه فلا يزال ضعيفا.
و في الحماسة 714، قال عمرو بن الإطنابة:
ليسوا بأنكاس و لا ميل إذا ما الحرب شبّت أشعلوا بالشّاعل
و قال المرزوقي في شرحه: الأنكاس جمع النّكس، و النّكس أصله في السّهام تنكسر فيجعل أسفلها أعلاها فتضعف، انتهى. قلت: و يقال للأحمق أنكس
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 380
شبيها بذلك السهم النّكس، و في المفردات للراغب: النّكس السهم الّذي انكسر فوقه فجعل أعلاه أسفله فيكون رديئا و لرداءته يشبّه به الرجل الدّنىّ، (نكب عنها) من باب نصر و فرح أى عدل عنها، يقال: نكبت الريح إذا مالت عن مهابّ الرّياح، فالرّيح نكباء.
و الفعل في نسخة الرضى كان بتشديد الكاف و قد اخترناه، يقال: نكّب عن الطريق بالتشديد إذا عدل و تنحّى، و نكّب الشيء نحّاه، لازم متعدّ، و يقال: نكّبه الطريق، و نكّب به الطريق، و نكّب به عن الطريق أى عدّله و نحّاه، و في المقام بمعناه الأوّل.
(جار عن الحقّ) من الجور كما مضى في المختار المقدّم قوله عليه السّلام: و سفه الاراء الجائرة، قال الجوهرى: الجور الميل عن القصد يقال: جار عن الطريق، انتهى كلامه.
(خبط) مشى على غير هدى و استقامة، و (التيه): الضلال، (نقمته) بفتح النون و كسر القاف كما في نسخة الرضى، و فيها وجهان آخران بفتح النون و سكون القاف، و بكسر النون و سكون القاف أيضا و هي اسم من الانتقام و هي المكافأة بالعقوبة يقال: حلّت به النقمة، تجمع على نقم و نقم و نقمات.
(تناهت) أى بلغت، قال الجوهري: الإنهاء الإبلاغ و أنهيت الخبر فانتهى و تناهى أى بلغ.
(أجريت) يقال: أجرى فلان إلى غاية كذا أى قصدها بفعله و أصله من إجراء الخيل للمسابقة، و المحلة: المنزلة.
(أوحلتك) بالواو فالحاء المهملة كما في نسخة الرضي رضوان اللّه عليه و في نسخ قد أولجتك، و في بعضها: قد أوجلتك، و المختار هو الأوّل، أى أورطتك في الوحل، قال الجوهري: الوحل بالتحريك الطين، و وحل الرجل بالكسر وقع في الوحل، و أوحله غيره.
(أقحمتك) أى أدخلتك، و الاقتحام الدخول في الأمر بشدّة و عنف،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 381
و يقال: أقحم فرسه النهر، أى أوقعه و أدخله فيه بعنف.
(الغيّ): الضلال و الانهماك في الباطل، و قال الراغب في المفردات: الغيّ جهل من اعتقاد فاسد و ذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا و لا فاسدا، و قد يكون من اعتقاد شيء فاسد و هذا النحو الثاني يقال له غيّ، قال تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى ... وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ»، و قوله: «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» أى عذابا فسمّاه الغيّ لما كان الغيّ هو سببه و ذلك كتسمية الشيء بما هو سببه كقولهم للنبات: ندى.
(اوعرت) من الوعر اى الصعب وزنا و معنى: يقال: مكان وعر و طريق وعر و مطلب وعر، و أوعرت عليك المسالك أى اخشنت و صعبت (رمسك) الرمس القبر، قال الفيومىّ في المصباح: رمست الميت رمسا من باب قتل و في لغة من باب ضرب دفنته، و الرمس: التراب تسمية بالمصدر ثمّ سمّي القبر به و الجمع رموس مثل فلس و فلوس، قال مسور بن زيادة الحارثى:
أبعد الّذي بالنّعف نعف كويكب رهينة رمس ذى تراب و جندل
و البيت من الحماسة (64) قال المرزوقي في الشرح: الرمس القبر، و الأصل في الرمس التغطية يقال: رمسته بالتراب و منه الرياح الروامس، و قال المتلمّس:
أ لم تر أنّ المرأ رهن منيّة صريع لعافي الطير أو سوف يرمس
و البيت من الحماسة أيضا (الحماسة 220) و قال المرزوقي: و معنى يرمس يدفن و الرمس الدفن و الرياح الروامس منه و توسّعوا في الدّفن فقيل: ارمس هذا الحديث، كما يقال: ادفن.
(مهطع) قال ابن الأثير في النهاية: في حديث عليّ عليه السّلام سراعا إلى أمره مهطعين إلى معادة: الإهطاع الاسراع في العدو، و قال الراغب: هطع الرجل ببصره إذا صوّبه، و بعير مهطع إذا صوّب عنقه، قال تعالى: «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ...- مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ» انتهى، و الإهطاع لا يكون إلّا مع خوف و ذلّ و خشوع يقال: أهطع في السير إذا أسرع و أقبل مسرعا خائفا كهطع كما يستفاد من قوله
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 382
تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» (إبراهيم: 44)، و قوله تعالى: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (القمر: 9)، و قوله تعالى: «فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ».
قال أحمد بن يحيى: المهطع الّذي ينظر في ذلّ و خشوع لا يقلع بصره كما في مجمع البيان، و قال: قال الزجاج: المهطع المقبل ببصره على الشيء لا يزايله و ذلك من نظر العدو.
و في القاموس هطع كمنع هطعا و هطوعا أسرع مقبلا خائفا أو أقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه.
(سيبهظك) قال الجوهرى في الصحاح: بهظه الحمل يبهظه بهظا أى أثقله و عجز عنه فهو مبهوظ و هذا أمر باهظ أى شاقّ، قال زياد بن حمل كما في الحماسة أو زياد بن منقذ كما في مادة قزم من صحاح اللّغة في أبيات منها:
و كان عهدى بها و المشي يبهضها من القريب و منها النّوم و السّأم
قال المرزوقي: و معنى يبهضها يثقل عليها و يشقّ.
الاعراب:
(معاذ اللّه) منصوب مفعول مطلق لفعله المحذوف العامل فيه كسبحان اللّه قال الجوهرى في الصحاح: قولهم: معاذ اللّه أى أعوذ باللّه معاذا، تجعله بدلا من اللفظ بالفعل لأنّه مصدر و إن كان غير مستعمل مثل سبحان اللّه و يقال أيضا معاذة اللّه و معاذة وجه اللّه و معاذ وجه اللّه و هو مثل المعنى و المعناة و المأتى و المأتاة، و يقال عوذ باللّه منك أى أعوذ باللّه منك.
(فان للطاعة) الفاء في مقام التعليل لقوله: لا تعذر بجهالته، و ضمير يردها و يخالفها و عنها راجع إلى السبل و المهجّة، و أمكن أن يرجع إلى الطّاعة و الغاية أيضا على توسّع.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 383
(فنفسك نفسك) منصوب من باب الإغراء و هو أن تحمل المخاطب على فعل شيء محبوب نحو قول الشاعر:
أخاك أخاك إنّ من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
و الفعل يقدّر في كلّ موضع بحسبه ففى الشعر يقتضى الزم مثلا و في الغزال الغزال يناسب ارم، و ههنا احفظ و ارحم و انقذ و نحوهما.
قوله: (و حيث تناهت بك امورك) أفاد الفاضل الشارح المعتزلي بقوله: الأولى أن لا يكون هذا معطوفا و لا متّصلا بقوله: فقد بيّن اللّه لك سبيلك، بل يكون كقولهم لمن يأمرونه بالوقوف: حيث أنت، أى قف حيث أنت فلا يذكرون الفعل، و مثله قولهم: مكانك، أى قف مكانك.
المعنى:
قوله عليه السّلام: (فاتّق اللّه فيما لديك) ما كان لديه هو تولّى امور المسلمين غصبا و طغيانا، فإنّ ما كان في يده هو حقّ اللّه و حقّ رسوله و حقّ اولي الأمر و حقّه سبحانه مفوّض إلى نبيّه أو وصيّ نبيّه و لا يتولّى ذلك المنصب إلّا نبيّ أو وصيّ أو شقىّ، و الشقي من غصب حقّ الإمام الحقّ أى حقّ اللّه و رسوله، و لذا أمره الأمير عليه السّلام باتقائه اللّه في ذلك، و صرّح باسم اللّه سبحانه لأنّه عليه السّلام كأنّما يقول له: اتّق اللّه في تصرّفك حقّه سبحانه عدوانا، كما نقول نحن لمن خان زيدا مثلا: استح من زيد في خيانتك في عرضه و ماله.
قوله عليه السّلام: (و انظر في حقّه عليك) حقّه تعالى عليه أن لا يعصيه فيما أمره، و ممّا أمره به هو قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» (النساء: 60) اللهمّ إلّا أن يقال انّ الاية مصدّرة بقوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» و مذيّلة بقوله سبحانه: «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» فمعاوية و أترابه خارجة عن الخطاب رأسا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 384
و في رسالة إمامنا سيّد السّاجدين و زين العابدين عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما المعروفة برسالة الحقوق، قد نقلها كاملة المحدّث الخبير ابن شعبة الحرّاني قدّس سرّه في تحف العقول: اعلم رحمك اللّه أنّ للّه عليك حقوقا محيطة بك في كلّ حركة تحرّكتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرّفت بها، بعضها أكبر من بعض، و أكبر حقوق اللّه عليك ما أوجبه لنفسه تبارك و تعالى من حقّه الّذي هو أصل الحقوق و منه تفرّع.
فالويل ثمّ الويل لمن لم يطع اللّه سبحانه في حقّه عليه، فضلا عن أن يغاصب حقّه.
قوله عليه السّلام: (و ارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته) أمره أن يرجع إلى معرفة ما لا يقبل عذره بجهالته من وجوب طاعة اللّه سبحانه و رسوله و طاعة الإمام الحقّ، و لمّا أخرجته هوى النفس عن الطاعة إلى العصيان و الطغيان و عن نور المعرفة إلى ظلمة الجهالة و حيرة الضلالة، أمره بالرجوع إلى معرفة ما أى الحقّ الّذي لا يسمع تجاهله فيه.
قوله عليه السّلام (فإنّ للطاعة أعلاما واضحة- إلخ) الأعلام جمع العلم بفتحتين و هو شيء منصوب في الطريق يهتدى به و غاية الطاعة القرب منه تعالى و الغاية ما إليه الحركة، و وصف عليه السّلام الأعلام بالواضحة و تالييها بالنيّرة و النهجة لحسم العذر أصلا و سدّ طرق العذر من جميع الجوانب، فانّ السبل إذا كانت نيّرة و المهجة نهجة و أعلامها واضحة و كانت غايتها مطلّبة، فمن أين يعتذر المتمرّد عن الطاعة، و ما مستمسكه في العذر، و بأيّ باب يدخل لذلك؟ و قد دريت من بحثنا عن الإمامة في المختار 237 من باب الخطب (ص 35- إلى ص 175 من ج 16) أنّ القرآن و رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و آله هم الأئمة الحقّ و الأعلام الواضحة و السّبل النيّرة و المهجة النهجة لا غير، فراجع إلى ذلك المبحث الشريف حتّى يتبيّن لك بالعيان أنّ الال هم الّذين اختارهم اللّه و اجتباهم و اصطفاهم أعلاما واضحة للطريقة الّتي هي أقوم، إنّ هذا القرآن يهدى للّتي هي أقوم.
قوله عليه السّلام: (يردها الأكياس و يخالفها الأنكاس) قد دريت في اللّغة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 385
أنّ الأكياس بمعنى العقلاء، و إنما يردها الأكياس لأنّ العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان، و أنّ الأنكاس جمع النكس و هو الرجل الدّني المنكوس على ما بيّن في اللّغة مشبعا، و إنّما يخالفها الأنكاس لأنّهم لدناءة طبعهم، و قصور همّتهم ألفوا بقاذورات الدّنيا الدّنيّة و أوساخ الامال النفسانيّة الشيطانيّة فهم ناكسوا رؤوسهم إلى اللّذائذ الحيوانيّة الداثرة الفانية أقرب شيء شبها بهم الأنعام السائمة، و في كتاب العقل و الجهل من الكافي: بإسناده عن محمّد بن عبد الجبّار عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان، قال: قلت: فالّذي كان في معاوية؟ فقال:
تلك النكراء تلك الشيطنة و هي شبيهة بالعقل و ليست بالعقل، و قد مضى بحثنا عن هذا الحديث و شرحه في المختار السابع باب الكتب و الرسائل فراجع إلى (ص 225 ج 17).
و قد تقدّم في رسالتنا في لقاء اللّه تعالى أنّ حشر الخلائق حسب أعمالهم، و أنّ كلّ أحد إلى غاية سعيه و عمله و إلى ما يحبّه و يهواه، فحيث إنّ الأنكاس أدبروا ههنا عن أمر اللّه تعالى و طاعته و لقائه و أقبلوا إلى الشهوات النفسانية و لم يرفعوا رؤوسهم عن معلفهم و مرعيهم فهم في النشأة الاخرة أيضا ناكسون لأنّ الدّنيا مزرعة الاخرة قال عزّ من قائل: «نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ. وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ» (الواقعة 61- 63)، و في الكافي كما في الصافي عن السّجاد عليه السّلام: العجب كلّ العجب لمن أنكر النشأة الاخرى و هو يرى النشأة الاولى.
و قال عزّ من قائل: «وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» (الم السجدة: 13).
و روى ثقة الإسلام الكليني في باب ظلمة قلب المنافق و إن أعطى اللسان و نور قلب المؤمن و إن قصر بلسانه من كتاب الإيمان و الكفر (ص 309 ج 2 من المعرب) بإسناده عن المفضل عن سعد عن أبي جعفر عليه السّلام: قال إنّ القلوب أربعة: قلب فيه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 386
نفاق و ايمان، و قلب منكوس، و قلب مطبوع، و قلب أزهر أجرد فقلت: ما الأزهر؟
قال: فيه كهيئة السراج، فأمّا المطبوع فقلب المنافق، و أما الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر و إن ابتلاه صبر، و أما المنكوس فقلب المشرك ثمّ قرأ هذه الاية: «أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (الملك: 22) فأما القلب الّذي فيه إيمان و نفاق فهم قوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك و إن أدركه على إيمانه نجى.
و قال العلم الحجّة المولى صالح المازندراني قدّس سرّه في بيانه: (ص 130 ج 10) القلب المنكوس كالكوز المقلوب- إلى أن قال: و قيل: القلب المنكوس القلب الناظر إلى الدّنيا و المتوجّه إليها لأنّ الدّنيا تحت الاخرة و الاخرة فوقها فالناظر إليها منكوس رأسه، و الاية من باب التمثيل بالأشياء المحسوسة تقريبا للفهم و الاستشهاد باعتبار أنّ المشرك يمشي مكبّا على وجهه لكون قلبه مكبوبا، مقلوبا و المؤمن يمشى سويّا لكون قلبه على وجه الفطرة مستقيما عارفا بالحق كما يرشد إليه قوله تعالى: «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
قوله عليه السّلام: (من نكّب عنها- إلخ) أى من عدل و تتحّى عنها مال عن الوسط و العدل و القصد، و مشى على غير هداية و استقامة في الضلال.
قوله عليه السّلام: (و غير اللّه نعمته و أحلّ به نقمته فنفسك نفسك) إنّما أمره بحفظ نفسه و كرّره تأكيدا و تشديدا لما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد: 12)، و قال تعالى: «فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (التوبة: 71).
في باب محاسبة العمل من كتاب الايمان و الكفر من الكافي (ص 329 ج 2 من المعرب): قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لرجل: إنّك قد جعلت طبيب نفسك، و بيّن لك الداء، و عرّفت آية الصحة، و دللت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك.
و في ذلك الباب عنه عليه السّلام أيضا: اقصر نفسك عمّا يضرّها من قبل أن تفارقك واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك فإنّ نفسك رهينة بعملك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 387
و فيه عنه عليه السّلام أيضا قال: كتب رجل إلى أبي ذرّ رضي اللّه عنه يا أبا ذر أطرفنى بشيء من العلم، فكتب إليه: أنّ العلم كثير و لكن إن قدرت أن لا تسيئ إلى من تحبّه فافعل، قال: فقال له الرجل: و هل رأيت أحدا يسيئ إلى من يحبّه؟
فقال له: نعم نفسك أحبّ الأنفس إليك فإذا أنت عصيت اللّه فقد أسأت إليها.
قوله عليه السّلام: (و حيث تناهت بك امورك- إلخ) قال بعضهم: حيث عطف على سبيلك، أى فقد بيّن اللّه لك مالك و منقلبك، قال تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ...»، فهو عليه السّلام يحذّره عن عاقبته الوخيمة، و يخوّفه عن جزاء أعماله الفاضحة، ثمّ كأنّما قيل: و إلى ما تناهت به اموره و أىّ شيء يترتّب على أفعاله؟ فأجاب عليه السّلام: فإنّه قد أجري إلى غاية خسر إلخ، فما تناهت به اموره جزاء أعماله السيئة.
هذا غاية ما يمكن أن يقرّر معنى العبارة على قول هذا البعض، و لكنّ الإنصاف أنّ الصواب هو ما أفاده الفاضل الشارح المعتزلي كما تقدّم في بيان الإعراب، أى قف حيث أنت لأنك قد أجريت إلى غاية خسر فالفاء في فقد في معرض التعليل للفعل المحذوف أعنى قف، و الكلام على هذا الوجه خال عن التكلّف دون الأوّل.
و لا يخفى لطافة قوله عليه السّلام: و إنّ نفسك قد أوحلتك شرا، و قد علمت أنّ معنى أوحلتك أو رطتك في الوحل، فالويل ثمّ الويل لمن أطاع نفسه و نسى حظّه، فإنّ النفس لأمّارة بالسوء ينسي مطيعه ذكر اللّه تعالى كما قال تعالى: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ»، و قال تعالى: «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى» (طه: 125).
هذا آخر المجلّد الخامس من تكملة منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة و به انتهى المنهاج إلى المجلّد التاسع عشر، و للّه الحمد على ما أولانا، و له الشكر بما تفضّل علينا من إفاضة مننه، و إسبال نعمه علينا، و كيف أشكره تعالى حقّ شكره و ليس من شكر أشكره به إلّا و هو نعمة جزيلة أنعم بها عليّ، اللّهم ارزقنا قلبا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 19، ص: 388
ذاكرا و لسانا شاكرا، اللّهم ثبّت قلوبنا على دينك، اللّهم ارزقنا نعمة الحضور عندك، اللّهم يا عاصم قلوب المؤمنين خلّصنا من شرور أنفسنا و وفّقنا بالتنعّم من مأدبتك القرآن الفرقان العظيم، و باتّباع سنّة نبيك الكريم، و اطاعتك و اطاعة رسولك و اولى الأمر الّذين هم وسائط فيضك و أبواب رحمتك يا أرحم الراحمين.
و قد حصل الفراغ من تأليف هذا السفر الكريم بيد العبد الراجى لقاء ربّه الرّحيم: نجم الدّين الحسن بن عبد اللّه الطبري الاملي في الامل، ليلة الأربعاء الثامنة عشر من ربيع المولود من شهور سنة تسع و ثمانين و ثلاثمائة بعد الألف من هجرة خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و على آله الطيبين الطاهرين، و الحمد للّه، و آخر دعويهم أن الحمد للّه ربّ العالمين.
الترجمة:
اين نامه ايست كه أمير عليه السّلام بمعاوية نوشت:
در آنچه كه در دست دارى از خدا بترس، و حقّ خدا را بر خود بنگر و بشناختن آنچه كه عذرت در ندانستن آن پذيرفته نمى شود باز گرد، زيرا براى بندگى و طاعت نشانها و پرچمهاى روشن، و راههاى هويدا، و جادّه آشكار و نتيجه و غايت مطلوبست خردمندان بدان در آيند، و سفلگان از آن روى گردانند، هر كه از آنها بازگشت از حقّ برگشت، و در وادى گمراهى بسر برد، و خداى نعمتش را بر وى دگرگون كرد، و او را در عذابش افكند پس خويشتن را درياب و خود را باش كه خدا راه را برايت روشن كرد، و چون كارها بدست تو افتاد نهايت زيان را از دست خويش جارى كردى و در وادى كفر در آمدى، نفست تو را به شرّ كشانيد و از دست وى بگل درماندى و تو را بگمراهى در آورد و به نابوديها رسانيد و راهها را بر تو دشوار كرد.