منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 141
و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و الاحد و العشرون من المختار في باب الخطب. (قاله للخوارج و قد خرج الى معسكرهم و هم مقيمون على انكار الحكومة فقال (ع):) أ كلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا: منّا من شهد و منّا من لم يشهد، قال عليه السّلام: فامتازوا فرقتين فليكن من شهد صفّين فرقة و من لم يشهدها فرقة حتّى أكلّم كلّا منكم بكلامه و نادى النّاس فقال عليه السّلام: أمسكوا عن الكلام و أنصتوا لقولي و اقبلوا بأفئدتكم إليّ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها. (ثمّ كلّمهم عليه السّلام بكلام طويل منه:)
أ لم تقولوا عند رفع المصاحف حيلة و غيلة و مكرا و خديعة إخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحوا إلى كتاب اللَّه سبحانه فالرّأي القبول منهم، و التّنفيس عنهم؟ فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان، و باطنه عدوان، و أوّله رحمة، و آخره ندامة، فأقيموا على شأنكم، و ألزموا طريقتكم، و عضّوا على الجهاد بنواجذكم، و لا تلتفتوا إلى ناعق نعق، إن أجيب أضلّ، و إن ترك ذلّ، و قد كانت هذه الفعلة و قد رأيتكم أعطيتموها، و اللَّه لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها، و لا حمّلني اللَّه ذنبها، و و اللَّه إن جئتها إنّي للمحقّ الّذي يتّبع، و إنّ الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته.
اللغة:
(المعسكر) بفتح الكاف محلّ العسكر، و عن النهاية (نشدتك) اللَّه و الرّحم أى سألتك باللَّه و بالرّحم، و قال الفيومى: نشدت الضالة نشدا من باب قتل طلبتها و نشدتك اللَّه و باللَّه نشدتك ذكرتك به و استعطفتك أو سألتك به مقسما عليك و (الغيلة) بالكسر الخديعة و (نفّس) تنفيسا فرّج تفريجا و (نعق) الرّاعى بغنمه ينعق من باب ضرب نعيقا صاح بها و زجرها و (الفعلة) بالفتح المرّة من الفعل.
الاعراب:
الهمزة في قوله ألم تقولوا استفهاميّة للتقرير بما بعد النّفى كما قاله الزمخشري في قوله تعالى: ألم تعلم أنّ اللَّه على كلّ شيء قدير، و الأظهر أنّها للانكار الابطالى المفيده لاثبات ما بعدها إذا دخلت على النفى، قال تعالى: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ، أى كاف عبده.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 143
و حيلة و غيلة و مكرا و خديعة، منصوبات على نزع الخافض، و إخواننا بالرّفع خبر محذوف المبتدأ، و الجملة في محلّ النصب مقول تقولوا، و اللّام في قوله: لئن أبيتها، لام ابتداء جي ء بها تاكيدا للقسم، و جملة ما وجبت جواب القسم استغنى به عن جواب الشرط كما صرّح به علماء الأدبيّة.
قال ابن الحاجب: و إذا تقدّم القسم أوّل الكلام على الشرط لزمه المضىّ لفظا أو معنى، و كان الجواب للقسم لفظا مثل و اللَّه إن ايتنى و إن لم تأتنى لاكرمنك و قال نجم الأئمة إذا تقدّم القسم أوّل الكلام ظاهرا أو مقدّرا و بعده كلمة الشرط فالأكثر و الأولى اعتبار القسم دون الشرط، فيجعل الجواب للقسم و يستغنى عن جواب الشرط لقيام القسم مقامه كما في قوله تعالى: «لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ» الآية، و قد تقدّم حكاية ذلك الكلام عنه في شرح الكلام السابق باختلاف يسير.
و منه يظهر الكلام في قوله: و و اللَّه إن جئتها إنّى للمحقّ الذى آه، قال نجم الائمة: جواب القسم إذا كان جملة اسمية مثبتة يصدّر بان مشدّدة أو مخفّفة أو باللّام و هذه اللّام لام الابتداء المفيدة للتأكيد لا فرق بينها و بين إنّ إلّا من حيث العمل، و إنما اجيب القسم بهما لأنهما مفيدان لتأكيد الذي لأجله جاء القسم، و قال في موضع آخر من شرح الكافية في تحقيق أنّ إنّ المكسورة مع جزئيها في تقدير الجملة و لذلك دخلت اللّام في خبرها دون المفتوحة: اعلم أنّ هذه اللّام لام الابتداء المذكورة في جواب القسم و كان حقّها أن تدخل أول الكلام، و لكن لما كان معناها و معنى إنّ سواء أعنى التوكيد و التحقيق، و كلاهما حرف ابتداء كرهوا اجتماعهما فأخّروا اللّام و صدّروا إنّ لكونها عاملة و العامل حرّى بالتقديم على معموله و خاصّة إذا كان حرفا إذ هو ضعيف العمل آه.
المعنى:
اعلم أنه قد تقدّم في التذييل الثاني من شرح الخطبة السادسة و الثلاثين كيفية قتال الخوارج و جملة من احتجاجاته عليه السّلام معهم، و هذا الكلام أيضا قاله للخوارج احتجاجا عليهم (و قد خرج إلى معسكرهم) أى محلّ عسكرهم و محطه (و هم مقيمون على انكار الحكومة) عليه (فقال عليه السّلام) لهم (أكلّكم شهد معنا صفّين) و حضرها (فقالوا منّا من شهد و منّا من لم يشهد قال عليه السّلام فامتازوا) أى تفرّدوا (فرقتين فليكن من شهد صفّين فرقة و من لم يشهدها فرقة حتى اكلّم كلّا منكم بكلامه) الذى يليق به و فيه اسكاته و رفع شبهته (و نادى الناس فقال امسكوا عن الكلام و انصتوا لقولي و اقبلوا بأفئدتكم إلىّ) و تدبّروا فيما أقول (فمن نشدناه) أى سألنا منه (شهادة فليقل بعلمه فيها) و لا يكتمها.
(ثمّ كلّمهم عليه السّلام بكلام طويل، منه ألم تقولوا) أى قد قلتم (عند رفع المصاحف) بتدليس ابن العاص اللّعين (حيلة و غيلة و مكرا و خديعة) هؤلاء (اخواننا) في الدّين و الاسلام (و أهل دعوتنا) أى دعاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إلى الاسلام فأجابوه (استقالونا و استراحوا إلى كتاب اللَّه سبحانه) أى طلبوا منا الاقالة و رفع اليد عمّا كنّا عليه من المحاربة و القتال، و سألوا الراحة بالرّجوع إلى كتاب اللَّه و العمل بما يقتضيه (فالرأى القبول عنهم) لملتمسهم (و التنفيس عنهم) لكربتهم.
(فقلت لكم) تنبيها على حيلتهم و ارشادا إلى خديعتهم و ايقاظا لكم من نوم الغفلة و الجهالة (هذا) أى رفعهم المصاحف (أمر ظاهره ايمان) لتسليمهم ظاهرا الرجوع إلى الكتاب و ايهامهم العمل بما فيه من الأحكام (و باطنه عدوان) إذ كان مقصودهم به الحيلة و الظلم و الغلبة و الخديعة (و أوّله رحمة) منكم لهم (و آخره ندامة) عليكم منهم.
(فأقيموا على شأنكم) و ما أنتم فيه من القتال و براز الأبطال كنايه (و الزموا طريقتكم و عضّوا على الجهاد بنواجذكم) و هو كناية عن المبالغة في الثبات عليه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 145
(و لا تلتفتوا إلى ناعق نعق) أراد به معاوية أو عمرو بن العاص حيث كان رفع المصاحف بتدبيره (إن اجيب أضلّ) من أجاب (و إن ترك ذلّ) و خاب (و قد كانت هذه الفعلة) و هي الرضا بالحكومة (و قد رأيتكم اعطيتموها) و أقدمتم عليها.
ثمّ أراد رفع شبهتهم بقوله: (و اللَّه لئن أبيتها ما وجبت علىّ فريضتها و لا حملنى اللَّه ذنبها و و اللَّه ان جئتها إنّى للمحقّ الذي يتّبع و ان الكتاب لمعى ما فارقته مذ صحبته) يعني أنّ الحكومة على تقدير امتناعى عنها لم تكن واجبة حتى تجب علىّ فريضتها أى الأحكام الواجبة بسببها و المترتّبة عليها و ما كنت مذنبا بترك الواجب، و على تقدير إقدامى عليها لم تكن محرّمة حتى تكونوا باتّباعكم إيّاى في الاقدام عليها مرتكبين للحرام، فانّى أنا المحقّ الذي أحقّ أن يتّبع و يقتدى، و انّ كتاب اللَّه سبحانه لمعى لفظا و معنى لا افارقه و لا يفارقني، فلا اقدم على أمر مخالف للقرآن موجب للعصيان.
فان قلت: المعلوم من حاله عليه السّلام حسبما ظهر من الروايات المتقدّمة في شرح الخطبة الخامسة و الثلاثين أنه امتنع من الحكومة أولا و حثّ أصحابه على الجهاد و الثبات عليه، و يدلّ عليه أيضا الكلام الذي نحن بصدد شرحه، ثمّ لما رأى إصرارهم في الاحابة إلى أهل الشام و البناء على التحكيم رضى عليه السّلام به و بنا عليه، فقد كان الاباء أولا و البناء ثانيا من فعله عليه السّلام، و كان عالما بذلك، فما معنى الاتيان بالشرط المنبئ عن الشكّ؟
قلت إنما أتى بالشرط مع جزمه و علمه به تجاهلا لاقتضاء المقام التجاهل و الابهام، و ذلك لأنّ أصحابه عليه السّلام كانوا فرقتين فرقة ترى التحكيم واجبا، و هم جلّ أصحابه و هم الذين أشار إليهم في هذا الكلام بقوله: ألم تقولوا عند رفع المصاحف إخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحوا إلى كتاب اللَّه فالرأى القبول منهم و التنفيس عنهم، و فرقة تراه حراما و الاقدام عليه معصية، و هم الخوارج الذين قالوا لا حكم إلّا للَّه و لا حكم إلّا اللَّه، فأجمل الكلام و أبهم المرام لاقتضاء المقام، و ساق المعلوم مساق المجهول اسكاتا للفريقين، فانه لو صرّح بما يوافق رأى إحدى الفرقتين تبرّئت
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 8، ص: 146
عنه الفرقة الاخرى و انجرّ الأمر إلى الفساد كما مرّ نظيره في كلامه الذي قاله في قتل عثمان: لو أمرت به لكنت قاتلا أو نهيت عنه لكنت عاصيا، و هو الثلاثون من المختار في باب الخطب.
و محصّل جوابه عليه السّلام عن انكارهم للتحكيم يعود إلى أنّه امام مفترض الطاعة و أنّ الأمر إليه و هو وليّ الأمر لو رأى المصلحة في الاباء منه كان الاباء واجبا، و لو رآها في الاجابة إليه كانت الاجابة واجبة، و على التقديرين فاللّازم عليهم التسليم و الانقياد لا الانكار و الاعتراض، و الاقتداء و المتابعة لا الرّد و الامتناع فان قلت: فلم أكّد الكلام في جانب الاباء بتأكيدين أعني القسم و اللّام و في الجانب الآخر أتى بأربع تأكيدات و هو القسم و إنّ و اللام و اسميّة الجملة، حيث قال: و و اللَّه ان جئتها إنّى للمحقّ، بل و أكّد خامسا بالوصف و قال: الذي يتّبع.
قلت: النكتة في ذلك أنّ مخاطبته بهذا الكلام لما كانت مع الخوارج الزاعمين لكون الاقدام على الحكومة معصية و حراما دون الاباء، و كانوا مصرّين على انكارها استدعى المقام زيادة التأكيد ردّا لزعم المخاطبين، و ابطالا لانكارهم و لهذه النكتة أيضا أتى بالموصول تفخيما لشأنه، و جعله وصفا تأكيدا لحقيقته، و أكّد سادسا بقوله: و انّ الكتاب لمعى، اشارة إلى أنّه لا يرد و لا يصدر في شي ء من الأبواب إلّا بحكم الكتاب، و هذه التحقيقات في هذا المقام من لطايف البلاغة قصرت عنها أيدى الشارحين و للَّه الحمد.