منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 6
فتبارك اللّه الّذي يسجد له من في السّموات و الأرض طوعا و كرها و يعفّر له خدّا و وجها، و يلقي إليه بالطّاعة سلما و ضعفا، و يعطي له القياد رهبة و خوفا، فالطّير مسخّرة لأمره، أحصى عدد الرّيش منها و النّفس، و أرسى قوائمها على النّدى و اليبس، و قدّر أقواتها، و أحصى أجناسها، فهذا غراب، و هذا عقاب، و هذا حمام، و هذا نعام، دعا كلّ طائر باسمه، و كفل له برزقه، و أنشأ السّحاب الثّقال فأهطل ديمها، و عدّد قسمها، فبلّ الأرض بعد جفوفها، و أخرج نبتها بعد جدوبها (40937- 40286).
اللغة:
و (العفر) بالتحريك و قد يسكن وجه الأرض و يطلق على التراب و عفّره تعفيرا مرغه فيه.
و (السّلم) بالكسر كما في بعض النسخ الصّلح و المسالم، و بالتحريك كما في بعضها الاستسلام و الانقياد و (القياد) بالكسر ما يقاد به و اعطاء القياد الانقياد و (اليبس) بالتحريك ضدّ الرطوبة و طريق يبس لانداوة فيه و لا بلل و (الحمام) بالفتح كلّ ذى طوق من الفواخت و القمارى و غيرهما و الحمامة تقع على الذكر و الأنثى كالحيّة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 8
و (النعام) بالفتح اسم جنس النعامة و (الهطل) بالفتح تتابع المطر أو الدّمع و سيلانه و قيل تتابع المطر المتفرّق العظيم القطر و (الديمة) بالكسر مطر يدوم في سكون بلا رعد و برق و الجمع ديم كعنب و (البلّة) بالكسر ضد الجفاف بالفتح و (الجدوب) بالضمّ انقطاع المطر و يبس الأرض.
الاعراب:
و الفاء في قوله: فتبارك، فصيحة، و طوعا و كرها منصوبان على الحال، و خدا و وجها منصوبان على المفعول به، و سلما و ضعفا منصوبان على الحال أو التميز، و رهبة و خوفا منصوبان على المفعول لأجله.
المعنى:
(فتبارك) أى تعالى حقيقت- مجاز- كنايه (اللّه الّذي يسجد له مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً)* أراد بالسجدة معناها الحقيقي، لأنّه يسجد له الملائكة و المؤمنون من الثقلين طوعا حالتي الشدّة و الرخا، و الكفرة له كرها حال الشدّة و الضرورة فقط أو معناها المجازي أعنى مطلق الخضوع أعمّ من التكليفي و التكويني أي الدّخول تحت ذلّ الافتقار و الحاجة، و الأوّل مبنيّ على كون لفظة من مخصّصة بذوى العقول و الثاني على عدم الاختصاص.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 31
و يؤيّد الأوّل قوله (و يعفّر له خدّا و وجها) لظهوره في التمريغ أى تقليب الوجه و الخدّ بالأرض اللّهمّ إلّا أن يكون كناية عن غاية الخضوع (و يلقى اليه بالطاعة) أى يطيع له (سلما و ضعفا) أي من حيث التسليم و الضعف أو حالكونه مستسلما ضعيفا (و يعطى له القياد رهبة و خوفا) أي ينقاد له لأجل الخوف و الرهبة.
(فالطير مسخّرة لأمره) كما قال تعالى «أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
قال الطبرسي: أى ألم تتفكّروا و تنظروا إلى الطير كيف خلقها اللّه خلقة يمكنها معها التصرّف في جوّ السّماء صاعدة و منحدرة و ذاهبة و جائية مذللات للطّيران في الهواء بأجنحتها تطير من غير أن تعتمد على شيء- ما يمسكهنّ إلّا اللّه- أى ما يمسكهنّ عن السقوط على الأرض من الهواء إلّا اللّه فيمسك الهواء تحت الطير حتّى لا ينزل فيه كامساك الهواء تحت السابح في الماء حتّى لا ينزل فيه، فجعل إمساك الهواء تحتها إمساكا لها على التوسّع، فانّ سكونها في الجوّ إنما هو فعلها، فالمعنى ألم ينظروا في ذلك فتعلموا أنّ لها مسخّرا و مدبّرا لا يعجزه شيء و لا يتعذّر عليه شيء و أنه إنّما خلق ذلك ليعتبروا.
و لما نبّه على كونها مسخّرة مقهورة تحت قدرته، أردفه باحاطة علمه تعالى عليها بجميع أجزائها فقال كنايه (أحصى عدد الريش منها و النفس) و احصائه كناية عن علمه به (و أرسى قوايمها على الندى و اليبس) أى أثبت قوايمها بعضها على الندى كطير البحر و بعضها على اليبس كطير البرّ (قدّر أقواتها) أى جعل لكلّ منها قوتا مقدّرا معيّنا على قدر الكفاية كنايه (و أحصى أجناسها) و هو كناية عن احاطته بأنواعها.
و فصّلها بقوله استعاره مرشحة (فهذا غراب و هذا عقاب و هذا حمام و هذا نعام دعا كلّ طاير باسمه).
قال الشارح البحراني: الدّعاء استعارة في أمر كلّ نوع بالدّخول في الوجود و ذلك الأمر يعود إلى حكم القدرة الالهية العظيمة عليه بالدّخول في الوجود، و وجه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 32
الاستعارة ما يشترك فيه معنى الدّعاء و الأمر من طلب دخول مهيّة المطلوب بالدّعاء و الأمر في الوجود و هو كقوله تعالى «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَ...» الاية، و لما استعار لفظ الدّعاء رشّح بذكر الاسم لأنّ الشيء إنّما يدعى باسمه، و يحتمل أن يريد الاسم اللغوي و هو العلامة فانّ لكلّ نوع من الطير خاصّة و سمة ليست للاخر و يكون المعنى أنه تعالى أجرى عليها حكم القدرة بمالها من السّمات و الخواص في العلم الالهي و اللّوح المحفوظ.
قال: و قال بعض الشارحين: أراد أسماء أجناس و ذلك أنّ اللّه تعالى كتب في اللّوح المحفوظ كلّ لغة تواضع عليها العباد في المستقبل، و ذكر الأسماء الّتي يتواضعون عليها، و ذكر لكلّ اسم مسمّاه فعند إرادة خلقها نادى كلّ نوع باسمه فاجاب دعواه و أسرع في إجابته.
(و كفل له برزقه) أى ضمنه ثمّ أشار إلى كمال قدرته تعالى في خلق المطر و السحاب فقال (و انشأ السحاب الثقال) أى الثقيلة بما فيها من الماء، و هو اقتباس من قوله سبحانه في سورة الرّعد «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» و قد تقدّم في الهداية الرابعة في شرح الفصل السّادس من المختار التسعين تفسير هذه الاية و نبّهنا هناك على ما تضمنها الرّعد و البرق و السحاب و المطر من عجائب القدرة و العظمة و الحكمة فليراجع ثمّة.
و قوله: (فأهطل ديمها) أى جعل ديمها هاطلة سائلة متتابعة (و عدّد قسمها) أى أحصى ما قدر منها لكلّ بلد و أرض على وفق الحكمة و المصلحة (فبلّ الأرض بعد جفوفها و أخرج نبتها بعد جدوبها) كما قال عزّ من قائل في سورة الحجّ «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَ...» أى ترى الأرض ميتة يابسة فاذا أنزلنا عليها المطر تحرّكت بالنبات و انتفخت و أنبتت من كلّ نوع من أنواع النبات موصوف بالبهجة و الحسن و النضارة و في سورة الروم «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 33
تبصرة:
لما كان هذه الخطبة الشريفة متضمّنة بوصف خلقة أصناف من الحيوان و تشريح ما أبدعه اللّه سبحانه فيها من دلائل القدرة و الحكمة و براهين التّوحيد و التفريد و العظمة، بعضها بالتفصيل كالنملة و الجرادة، و بعضها بالاجمال و الاشارة كالغراب و العقاب و الحمامة و النعامة أحببت أن أذكر فصلا وافيا في وصف هذه الأنواع الستّة من الحيوان التي تضمّنها كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على الترتيب الوارد في كلامه، و المقصود بذكر هذا الفصل تأكيد الغرض المسوق له هذه الخطبة الشريفة و هي الدّلالة على قدرة الصانع و حكمة المبدع عزّ و جلّ فأقول:
تذنيبات:
الاول- فى خلقة النملة:
قال الدميرى في كتاب حيوة الحيوان: النمل معروف الواحدة نملة و الجمع أنمال، و أرض نملة ذات نمل، و النملة بالضمّ النميمة يقال رجل نمل أى نمام، و ما أحسن قول الأوّل:
اقنع بما تلقي بلا بلغة فليس ينسى ربّنا النملة
إن أقبل الدّهر فقم قائما و إن تولّى مدبرا نم له
قال: و سميت النملة نملة لتنمّلها و هو كثرة حركتها و قلّة قوائمها، و النمل لا يتزاوج و لا يتلاقح إنّما يسقط منه شيء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيظتا ثم يتكوّن منه، و البيض كلّه بالضاد المعجمة إلّا بيض النمل فانّه بالظاء المشالة و النمل عظيم الحيلة في طلب الرّزق فاذا وجد شيئا أنذر الباقين يأتون إليه، و قيل انما يفعل ذلك منه رؤساؤها، و من طبعه أنّه يحتكر في أيّام الصيف للشتاء، و له في الاحتكار من الحيل ما أنه إذا احتكر ما يخاف إنباته قسّمه نصفين ما خلا الكسفرة فانه يقسّمها أرباعا لما ألهم من أنّ كلّ نصف منها ينبت، و إذا خاف العفن على
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 34
الحبّ أخرجه إلى ظاهر الأرض و نشره، و أكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر و يقال: إنّ حياته ليست من قبل ما يأكل و لا قوامه، و ذلك إنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام و لكنه مقطوع نصفين، و إنّما قوته إذا قطع الحبّ في استنشاق ريحه فقط و ذلك يكفيه.
أقول: و ظاهر كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الخطبة أعنى قوله عليه السّلام في مجاري أكلها و من شراسيف بطنها يدلّ على فساد زعم هذا القائل، و التجربة أيضا تشهد بخلافه، فانا قد شاهدنا كثيرا أنّ الذّر و هي صغار النمل تجتمع على حبوبات الطعام و نحوها و يأكلها حتّى يفنيها بتمامها.
قال الدميرى: و قد روى عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شيء يخبا قوته إلّا الانسان و العقعق و النمل و الفار، و به جزم في الاحياء في كتاب التوكل، و عن بعضهم أنّ البلبل يحتكر الطعام و يقال: إنّ للعقعق محابي إلّا أنّه ينساها، و النمل شديد الشم، و من أسباب هلاكه نبات أجنحته فاذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنّها تصيدها في حال طيرانها، و قد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله:
فاذا استوت للنمل أجنحة حتى تطير فقد دنا عطبه
و كان الرشيد يتمثل بذلك كثيرا عند نكبة البرامكة.
و هو يحفر قرية بقوائمه، و هي ستّ فاذا حفرها جعل فيها تعاويج «تعاريخ خ» لئلّا يجرى إليها ماء المطر، و ربما اتخذ قرية فوق قرية لذلك و إنما يفعل ذلك خوفا على ما يدّخره من البلل.
قال البيهقي في الشعب: و كان عدى بن حاتم الطائي يفتّ الخبز للنمل و يقول: إنهنّ جارات و لهنّ علينا حقّ الجوار.
و سيأتي في الوحش عن الفتح بن خرشف الزاهد انّه كان يفتّ الخبز لهنّ في كلّ يوم فاذا كان يوم عاشوراء لم تأكله.
و ليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مرارا غيره على انّه لا يرضى بأضعاف الأضعاف حتّى أنّه يتكلّف حمل نوى التمر و هو لا ينتفع به و إنما يحمله على حمله
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 35
الحرص و الشره و هو يجمع غذاء سنين لو عاش و لا يكون عمره أكثر من سنة.
و من عجايبه اتخاذ القرية تحت الأرض و فيها منازل و دهاليز و غرف و طبقات معلقات تملاءها حبوبا و ذخاير للشتاء، و منه ما يسمّى الذرّ الفارسي و هو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل، و منه أيضا ما يسمّى بنمل الأسد سمّى بذلك لأنّ مقدمه يشبه وجه الأسد و مؤخره يشبه النمل.
و روى البخارى و مسلم و أبو داود النسائى عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: نزل نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام تحت شجرة فلذعته، فأمر بجهازه فاخرج من تحتها و أمر بها فاحرقت بالنار فأوحى اللّه تعالى إليه هلّا نملة واحدة.
قال أبو عبد اللّه الترمذي في نوادر الأصول: لم يعاتبه على تحريقها و إنما عاتبه بكونه أخذ البريء بغير البريء، و هذا النّبي هو موسى بن عمران عليه السّلام و أنّه قال يا ربّ تعذّب أهل قرية بمعاصيهم و فيهم الطايع، و كأنّه أحبّ أن يريه ذلك من عنده فسلّط عليه الحرّ حتّى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلّها و عندها قرية نمل فغلبه النوم فلما وجد لذّة النوم لذعته نملة فدلكهنّ بقدمه فأهلكهنّ و أحرق مسكنهنّ فأراه تعالى الاية في ذلك عبرة لما لذعته نملة كيف اصيب الباقون بعقوبتها، يريد أن ينبّهه على أنّ العقوبة من اللّه تعالى تعمّ الطايع و العاصي، فتصير رحمة و طهارة و بركة على المطيع، و شرّا و نقمة و عدوانا على العاصي، و على هذا ليس في الحديث ما يدلّ على كراهة و لا حظر في قتل النّمل، فانّ من أذاك حلّ لك دفعه عن نفسك و لا أحد من خلق اللّه أعظم حرمة من المؤمن و قد أبيح لك دفعه بضرب أو قتل على ماله من المقدار، فكيف بالهوام و الدّواب التي قد سخّرت للمؤمن و سلّط عليها.
قال الدميري: و روى الطبراني و الدار قطني أنّه قال: لما كلّم اللّه موسى عليه السّلام كان يبصر دبيب النملة على الصفاء في اللّيلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ.
قال: و روى أنّ النملة التي خاطبت سليمان أهدت إليه نبقة «1» فوضعها عليه السّلام في كفّه فقالت:
______________________________
(1) النبقة بالنون المكسورة ثم الباء الساكنة حمل السدر، ق
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 36
أ لم ترنا نهدى إلى اللّه ماله و إن كان عنه ذاغني فهو قابله
و لو كان يهدى للجليل بقدره لقصر عنه البحر حين يساجله
و لكنّنا نهدى إلى من نحبّه فيرضى بها عنّا و يشكر فاعله
و ما ذاك إلّا من كريم فعاله و إلّا فما في ملكنا من يشاكله
فقال سليمان عليه السّلام: بارك اللّه فيكم فهو بتلك الدعوة أكثر خلق اللّه، انتهى ما أهمّنا نقله من كتاب حيوة الحيوان.
أقول: و من عجيب قصّة النمل ما جرى له مع سليمان عليه السّلام و قد اخبر به سبحانه في كتابه العزيز قال تعالى في سورة النمل «وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» .
قال الطبرسيّ «أتوا على واد النمل» هو واد بالطايف و قيل بالشام «قالت نملة» أى صاحت بصوت خلق اللّه لها، و لما كان الصوت مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول، و قيل: كانت رئيسة النّمل «لا يحطمنّكم» أى لا يسكرنّكم «سليمان و جنوده و هم لا يشعرون» بحطمكم أو وطئكم فانهم لو علموا بمكانكم لم يطئوكم.
و هذا يدلّ على أنّ سليمان و جنوده كان ركبانا و مشاة على الأرض و لم تحملهم الريح، لأنّ الريح لو حملتهم بين السّماء و الأرض لما خافت النملة أن يطئوها بأرجلهم و لعلّ هذه القصّة كانت قبل تسخير اللّه الريح لسليمان عليه السّلام.
فان قيل: كيف عرفت النّملة سليمان و جنوده حتّى قالت هذه المقالة؟
قلنا: إذا كانت مأمورة بطاعته فلا بدّ و أن يخلق اللّه لها من الفهم ما تعرف به امور طاعته، و لا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما تستدرك به ذلك و قيل: إنّ ذلك كان منها على سبيل المعجز.
«فتبسّم ضاحكا من قولها» و سبب ضحكه التعجب لأنّه رأى ما لا عهد له به
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 37
و قيل انه تبسّم بظهور عدله حتّى عرفه النمل، و قيل: إنّ الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتّى سمع ذلك فانتهى إليها و هى تأمر النمل بالمبادرة، فتبسّم عليه السّلام من حذرها، هذا.
قال بعض أهل العلم: إنّ النملة تكلّمت بعشرة أنواع من البديع قولها: يا نادت، أيّها، نبّهت، النمل، سمّت، ادخلوا، أمرت، مساكنكم، نعتت، لا يحطمنّكم حذرت، سليمان، خصّت، و جنوده، عمّت، و هم، أشارت، لا يشعرون، اعتذرت.
و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم «و حشر لسليمان جنوده من الجنّ و الانس و الطير» قعد على كرسيّه و حملته الرياح على واد النمل و هو واد ينبت الذّهب و الفضة، قد وكّل اللّه به النمل و قول الصّادق عليه السّلام: إن للّه واديا ينبت الذّهب و الفضة قد حماء اللّه بأضعف خلقه و هو النمل لو رامه البخاتي ما قدرت عليه، فلما انتهى سليمان إلى وادى النمل قالت نملة الاية.
و في البحار من العيون و العلل بسنده عن داود بن سليمان الغازي قال: سمعت عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام يقول عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر ابن محمّد عليهم السّلام في قوله عزّ و جلّ «فتبسّم ضاحكا من قولها».
قال: لما قالت النملة «يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان و جنوده» حملت الريح صوت النملة إلى سليمان و هو مارّ في الهواء و الريح قد حملته فوقف و قال: علىّ بالنملة.
فلما اتى بها قال سليمان: يا أيّتها النملة أما علمت أنّي نبيّ اللّه و أنّي لا أظلم أحدا؟ قالت النّملة: بلى، قال سليمان: فلم حذّر تنيهم ظلمي؟ و قلت: يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم؟ قالت النملة: خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن ذكر اللّه.
ثمّ قالت النملة: أنت أكبر أم أبوك داود؟ قال سليمان: بل أبي داود، قالت النملة: فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم أبيك داود؟ قال سليمان عليه السّلام: ما لى بهذا علم، قالت النملة: لأنّ أباك داوى جرحه بودّ فسمّى داود و أنت يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 38
ثمّ قالت النّملة: هل تدرى لم سخّرت لك الرّيح من بين ساير المملكة؟
قال سليمان: ما لي بهذا علم، قالت النّملة: يعني عزّ و جلّ بذلك لو سخّرت لك جميع المملكة كما سخّرت لك هذه الرّيح لكان زوالها من يدك كزوال الريح «فتبسّم ضاحكا من قولها».
قال العلّامة المجلسي (ره) معنى التعليل الذي ذكره النملة أنّ أباك لما ارتكب ترك الأولى و صار قلبه مجروحا بذلك فداواه بودّ اللّه و محبّته فلذا سمّى بداود و اشتقاقا من الدواء بالودّ، و أنت لما ترتكب بعد و أنت سليم منه سمّيت سليمان فخصوص العلتين للتسميتين صارتا علّة لزيادة اسمك على اسم أبيك.
ثمّ لما كان كلامها موهما لكونه من جهة السّلامة أفضل من أبيه استدركت ذلك بأنّ ما صدر منه لم يصر سببا لنقصه بل صار سببا لكمال محبّته و تمام مودّته و أرجو أن تلحق أنت أيضا بأبيك في ذلك ليكمل محبّتك.
و في حيوة الحيوان عن الثعلبي و غيره أنّها كانت مثل الذئب في العظم و كانت عرجاء ذات جناحين.
و في تفسير مولا فتح اللّه من كشف الغمّة: كانت مثل الدّيك، و من زاد المسير: كانت بعظم نعجة، و من كشف الأسرار سألها سليمان عليه السّلام عن مقدار جيشها فقالت أربعة آلاف قائد، و لكلّ قائد أربعون ألف نقيب، و لكلّ نقيب أربعون ألفا و في روضة الصفا قال لها سليمان عليه السّلام أما علمت أنّي نبيّ اللّه لا أرضى بظلم أحد؟ قالت: نعم، قال: فلم حذرتهم؟ قال: يلزم على السائس أن ينصح قومه، و أيضا فقد خفت من جنودك أن يحطمنّهم من حيث لا يشعرون، فاستحسن عليه السّلام قولها.
ثمّ قال لها تلطّفا: سلطانك أعظم أم سلطاني؟ قالت: بل سلطاني، قال: فكيف ذلك؟ قالت: لأنّ سريرك على الريح و سريرى كفك.
ثمّ قال: جندك أكثر أم جندي؟ قالت: بل جندي، قال من أين هذا؟ قالت فارجه حتّى أعرض عليك بعض جيشي، فصاحت عليهم أن اخرجوا من حجراتكم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 39
حتّى ينظر إليكم نبيّ اللّه، فخرج سبعون ألف فوج لا يعلم عددهم إلّا اللّه قال عليه السّلام:
هل بعد ذلك؟ قالت: لو خرج كلّ يوم مثلها إلى سبعين عاما لم تنفدوا، ثمّ لما أراد المسير أهدت إليه نصف رجل جراد و اعتذرت كما قال الشاعر:
أهدت سليمان يوم العرض نملته تأتى برجل جراد كان في فيها
ترنمت بفصيح القول و اعتذرت إنّ الهدايا على مقدار مهديها
الثاني- في الجرادة:
قال في حيوة الحيوان: الجراد معروف الواحدة جرادة الذكر و الانثى فيه سواء يقال هذه جرادة انثى كنملة و حمامة، قال أهل اللّغة: و هو مشتقّ من الجرد قالوا: و الاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدّا يقال: ثوب جرد أى أملس، و ثوب جرد إذا ذهب زبره.
و هو أصناف مختلفة فبعضه كبير، و بعضه صغير، و بعضه أصفر و بعضه أبيض و إذا خرج من بيضه يقال له الدبا، فاذا طلعت أجنحته و كبرت فهو الغوغا، الواحدة غوغاة و ذلك حين يموج بعضه في بعض، فاذا بدت فيه الألوان و اصفرت الذكور و اسودت الاناث سمّى جرادا حينئذ و إذا أراد أن يبيض التمس لبيضه المواضع الصّلدة و الصخور الصّلبة التي لا تعمل فيها المعاول فيضربها بذنبه فتفرج له فيلقى بيضه في ذلك الصّدع فيكون له كالافحوص و يكون حاضنا له و مربيا.
و للجرادة ستّة أرجل يدان في صدرها و قائمتان في وسطها و رجلان في مؤخّرها و طرفا رجليها منشاران، و هو من الحيوان الّذي ينقاد لرئيسه فيجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعنا و إذا نزل أوله نزل جميعه، و لعابه سمّ ناقع للنبات لا يقع على شيء منه إلّا أهلكه.
قال: و في الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه: وجه فرس و عينا فيل، و عنق ثور، و قرنا ايل، و صدر أسد، و بطن عقرب، و جناحا نسر، و فخذا جمل، و رجلا نعامة، و ذنب حيّة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 40
و قد أحسن القاضي محيى الدّين في وصف الجراد بذلك في قوله:
فخذا بكر و ساقا نعامة و قادمتا نسر و جؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعى الأرض بطنا و أنعمت عليها جياد الخيل بالرأس و الفم
قال الشارح المعتزلي: قال أبو عثمان في كتاب الحيوان: من عجائب الجرادة التماسها لبيضها الموضع الصّلد و الصّخور الملس ثقة بأنها إذا ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها، و معلوم أنّ ذنب الجراد ليس في خلقة المنشار و لا طرف ذنبه كحدّ السّنان و لا لها من قوّة الاسر و لا لذنبها من الصّلابة ما اذا اعتمدت به على الكدية جرح فيها، كيف و هي تتعدّى إلى ما هو أصلب من ذلك.
و ليس في طرفها كابرة العقرب و على أنّ العقرب ليس تخرق القمقم بذنبها من جهد الأيد و قوّة البدن، بل انما ينفرج المها بطبع مجعول هناك، و كذلك انفراج الصخور لأذناب الجراد.
و لو أنّ عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها إلّا بالتكلّف الشديد و العقاب هى التي تنكدر على الذئب فتقد بدابرتها ما بين صلوه إلى موضع الكاهل فاذا غرزت الجرادة و ألقت بيضها و انضمّت عليها تلك الأخاديد التي هي أحدثتها و صارت كالأفاحيص لها، صارت حاضنة لها و مربية و حافظة و صائنة واقية.
حتّى اذا جاءت وقت دبيب الرّوح فيها حدث عجب آخر لأنّه تخرج من بيضه أصهب إلى البياض، ثمّ يصفّر و يتكوّن فيه خطوط سود و بيض، و حجم جناحه ثمّ يستقل فيموج بعضه في بعض.
قال في حيوة الحيوان: تكتب هذه الكلمات و تجعل في انبوبة قصب و تدفن في الزرع أو في الكرم فانّه لا يؤذيه الجراد باذن اللّه تعالى و هي:
«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّد و على آل سيّدنا محمّد و سلّم، اللّهمّ أهلك صغارهم و اقتل كبارهم، و افسد بيضهم و خذ بأفواههم عن معايشنا و أرزاقنا إنّك سميع الدّعاء، إنّى توكّلت على اللّه ربّي و ربّكم ما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 41
من دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم، اللّهم صلّ على سيّدنا محمد و على آل سيدنا محمّد و سلّم و استجب منّا يا أرحم الرّاحمين» و هو عجيب مجرّب.
الثالث- في الغراب:
قال في حيوة الحيوان: الغراب معروف سمّى بذلك لسواده و منه قوله تعالى «و غرابيب سود» و كنيته أبو المرقال قال: قال الشاعر:
انّ الغراب و كان يمشى مشية فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطاة و رام يمشى مشيها فأصابه ضرب من العقال
فأضلّ مشيته و أخطأ مشيها فلذاك سمّوه أبا المرقال
و هو أصناف: العذاف، و الزاغ، و الاكحل، و غراب الزرع، و الاورق، و هذا الصنف يحكى جميع ما يسمعه، و الغراب الأعصم عزيز الوجود قالت العرب: أعزّ من الغراب الأعصم.
و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم في مأئة غراب رواه الطبراني من حديث أبي أمامة.
و في رواية ابن أبي شيبة قيل: يا رسول اللّه و ما الغراب الأعصم؟ قال: الّذي إحدى رجليه بيضاء.
و قال في الاخبار الأعصم أبيض البطن، و قيل: أبيض الجناحين، و قيل: أبيض الرجلين، و غراب الليل قال الجاحظ: هو غراب ترك أخلاق الغربان و تشبه باخلاق البوم فهو من طير الليل.
و قال ارسطا طاليس: الغراب أربعة أجناس: أسود حالك، و أبلق، و مطرف ببياض لطيف الجرم يأكل الحبّ، و أسود طاووسى براق الرّيش و رجلاه كلون المرجان يعرف بالزاغ.
قال صاحب المنطق: الغراب من لئام الطير و ليس من كرامها و لا من أحرارها و من شأنه أكل الجيف و القمامات.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 42
و هو إما حالك السّواد شديد الاحتراق، و يكون مثله في النّاس الزنج فانّهم شرار الخلق تركيبا و مزاجا كمن بردت بلاده و لم تنضجه الأرحام أو سخنت بلاده فأحرقته الأرحام، و إنما صارت عقول أهل بابل فوق العقول و كمالهم فوق الكمال لأجل ما فيها من الاعتدال، فالغراب الشديد السّواد ليس له معرفة و لا كمال.
و الغراب الأبقع كثير المعرفة و هو اللئيم من الأسود.
و غراب البين الأبقع قال الجوهري: هو الذي فيه سواد و بياض، و قال صاحب المجالسة: سمّي الغراب البين لأنه بان عن نوح عليه السّلام لما وجّهه لينظر إلى الماء فذهب و لم يرجع، و لذلك تشأموا به.
و قال صاحب منطق الطير: الغربان جنس من الأجناس التي امر بقتلها في الحلّ و الحرم من الفواسق، اشتقّ لها ذلك الاسم من اسم إبليس لما يتعاطاه من الفساد الذي هو شأن إبليس، و اشتقّ ذلك أيضا لكلّ شيء اشتدّ أذاه، و أصل الفسق الخروج عن الشيء، و في الشرع الخروج عن الطاعة.
و قال الجاحظ: غراب البين نوعان: أحدهما غراب صغير معروف باللّوم و الضعف و أمّا الاخر فانّه ينزل في دور النّاس و يقع على مواضع اقامتهم إذا ارتحلوا عنها و بانوا منها، فلما كان هذا الغراب لا يوجد إلّا عند بينونتهم عن منازلهم اشتقّوا له هذا الاسم من البينونة.
و قال المقدسي: هو غراب أسود ينوح نوح الحزين المصاب و ينعق بين الحلال «الخلّان» و الأحباب، و إذا رأى شملا مجتمعا انذر بشتاته، و إن شاهد ربعا عامرا بشّر بخرابه و دروس عرصاته، يعرّف النازل و الساكن بخراب الدّور و المساكن، و يحذّر الاكل غصّة الماكل، و يبشّر الراحل بقرب المراحل، ينعق بصوت فيه تحزين، كما يصيح المعلن بالتأذين، و أنشد على لسان حاله:
أنوح على ذهاب العمر منّى و حق أن أنوح و أن أنادى
و أنذر كلّما عاينت ركبا حدا بهم لو شك البين حادى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 43
يعنّفني الجهول إذا رآني و قد البست أثواب الحداد
فقلت له اتّعظ بلسان حالي فانّى قد نصحتك باجتهاد
و ها أنا كالخطيب و ليس بدعا على الخطباء أثواب السّواد
ألا ترنى إذا عاينت ركبا أنادى بالنوى في كلّ ناد
أنوح على الطلول فلم يجبني بساحتها سوى خرس الحماد
فأكثر في نواحيها نواحى من البين المفتّت للفؤاد
تيقّظ يا ثقيل السّمع و افهم إشارة من تسير به الغوادي
فما من شاهد في الكون إلّا عليه من شهود الغيب بادى
و كم من رائح فيها و غاد ينادى من دنوّ أو بعاد
لقد أسمعت لو ناديت حيّا و لكن لا حياة لمن ينادى
قال الدميرى: و العرب تتشأم بالغراب و لذا اشتقّوا من اسمه الغربة و الاغتراب و الغريب.
و قال الجاحظ: و انما كان الغراب عندهم هو المقدم في باب الشوم لأنّه لما كان أسود و لونه مختلفا ان كان أبقع و لم يكن على ابلهم شيء أشدّ من الغراب و كان حديد البصر يخاف من عينيه كما يخاف من عين المعيان قدّموه في باب الشوم، انتهى.
و يقال: إنّ الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره، و في طبع الغراب كلّه:
الاستتار عند السّفاد، و هو يسفد مواجهة و لا يعود إلى الأنثى بعد ذلك أبدا لقلّة وفائه، و الأنثى تبيض أربع بيضات أو خمسا.
و إذا خرجت الفراخ من البيض طردتها لأنّها تخرج قبيحة المنظر جدّا اذ تكون صغار الأجرام عظام الرءوس و المناقير، جرو اللون متفاوتات الأعضاء، فالأبوان ينكران الفراخ و يطيران لذلك و يتركانه، فيجعل اللّه قوته في الذباب و البعوض الكائن في عشه إلى أن يقوى و ينبت ريشه، فيعود إليه أبواه و على الأنثى الحضن و على الذكر أن يأتيها بالمطعم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 44
و في طبعه أنّه لا يتعاطى الصّيد بل إن وجد جيفة أكل منها و إلّا مات جوعا و يتقمقم كما يتقمقم صغار الطير، و فيه حذر شديد و تنافر، و الغذاف يقاتل البوم و يخطف بيضها و يأكله.
و من عجيب إنّ الانسان إذا أراد أن يأخذ فراخه تحمل الانثى و الذكر في زايد في أرجلهما حجارة و يتحلقان في الجوّ و يطرحان الحجارة عليه يريدان بذلك دفعه.
قال أبو الهثيم: يقال إنّ الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره، و الحكمة في ذلك أن اللّه تعالى بعث إلى قابيل لما قتل أخاه هابيل غرابا و لم يبعث له غيره من الطير و لا من الوحش إن القتل كان مستغربا جدّا إذ لم يكن معهودا قبل ذلك، فناسب بعث الغراب.
عجيبة:
نقل القزويني عن أبي حامد الاندلسى أنّ على البحر الأسود من ناحية الاندلس كنيسة من الصّخر منقورة في الجبل عليها قبّة عظيمة، و على القبّة غراب لا يبرح و في مقابل القبّة مسجد يزوره النّاس يقولون: إنّ الدّعاء فيه مستجاب، و قد قرّر على القسيسين ضيافة من يزور ذلك المسجد من المسلمين، فاذا قدم زائر دخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبّة و صاح صيحة، و إذا قدم اثنان صاح صيحتين و هكذا كلّما وصل زوار صاح على عددهم، فتخرج الرّهبان بطعام يكفى الزائرين و تعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب، و زعم القسيسون أنهم ما زالوا يرون غرابا على تلك القبة و لا يدرون من أين يأكل أو يشرب.
الرابع- في العقاب:
قال الدّميري: العقاب طاير معروف و الجمع أعقب قال في الكامل: العقاب سيّد الطيور و النسر عريفها، قال ابن ظفر: حاد البصر و لذلك قالت العرب: أبصر من عقاب، و الأنثى منه تسمّى لقوة و قال ابن خلكان: يقال: إنّ العقاب جميعه أنثى و إنّ الّذي يسافده طير آخر من غير جنسه، و قيل: إنّ الثعلب يسافده، قال:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 45
و هذا من العجايب، و لابن عنين الشاعر في هجو شخص يقال له: ابن سيدة:
ما أنت إلّا كالعقاب فامّه معروفة و له أب مجهول
و العقاب تبيض ثلاث بيضات في الغالب، و تحضنها ثلاثين يوما و ما عداها من الجوارح يبيض بيضتين و يحضن عشرين يوما، فاذا خرجت فراخ العقاب ألقت واحدا منها لأنّها يثقل عليها طعم الثلاث و ذلك لقلّة صبرها، و الفرخ الّذي تلقيه يعطف عليه طائر آخر يسمى كاسر العظام، فيربّيه، و من عادة هذا الطائر أن يزقّ كلّ فرخ ضائع.
و العقاب إذا صادت شيئا لا تحمله على الفور إلى مكانها، بل تنقله من موضع إلى موضع، و لا تقعد إلّا على الأماكن المرتفعة، و إذا صادت الأرانب تبدء بصيد الصّغار ثمّ الكبار.
و من عجيب ما الهمته أنّها إذا اشتكت أكبادها أكلت أكباد الأرانب و الثعالب فتبرء، و هي تأكل الحيّات إلّا رؤوسها، و الطيور إلّا قلوبها، و يدلّ لهذا قول امرء القيس.
كأنّ قلوب الطير رطبا و يابسا لدى و كرها العناب و الحشف البالي
و من شأنها أن جناحها لا يزال يخفق قال عمرو بن خرام:
لقد نركت عفراء قلبي كأنّه جناح عقاب دائم الخفقان
و هي أشدّ الجوارح حرارة، و أقواها حركة، و أيبسها مزاجا، و هي خفيفة الجناح سريعة الطيران، تتغدى بالعراق و تتعشى باليمن، و ريشها الذي عليها فروتها بالشتاء و حليتها في الصّيف، و متى ثقلت عن النهوض و عميت حملتها الفراخ على ظهورها و نقلتها من مكان إلى مكان، فعند ذلك تلتمس لها عينا صافية بأرض الهند على رأس جبل فتغمسها فيها ثمّ تضعها في شعاع الشمس فيسقط ريشها و ينبت لها ريش جديد و تذهب ظلمة بصرها، ثمّ تغوص في تلك العين فاذا هي قد عادت شابة كما كانت فسبحان القادر على كلّ شيء الملهم كلّ نفس هداها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 46
الخامس- في الحمام:
قال الجوهري: هو عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت و القماري «1» و ساق حرّ و القطاء و الوراشين و أشباه ذلك، يقع على الذكر و الانثى لأنّ الهاء إنّما دخلت على أنّه واحد من جنس لا للتأنيث، و نقل الأزهرى عن الشافعي أنّ الحمام كل ما عبّ و هدر.
قال الدّميري: الحمام الذي يألف البيوت قسمان:
أحدهما البرّي و هو الذي يلازم البروج و ما أشبه ذلك و هو كثير النفور و سمّى برّيا لذلك.
و الثاني الأهلي و هو أنواع مختلفة و أشكال متباينة منها الرواعب، و المراعيش و العداد، و السداد، و المضرب، و القلاب، و المنسوب، و هو بالنسبة إلى ما تقدّم كالعتاق من الخيل و تلك كالبراذين.
قال الجاحظ: الفقيع من الحمام كالصصلاب «الصقلاب ظ» من الناس و هو الأبيض.
قال الدّميري: و من طبعه أنّه يطلب و كره و لو ارسل من ألف فرسخ و يحمل الأخبار و يأتي بها من البلاد البعيدة في المدّة القريبة، و فيه ما يقطع ثلاثة آلاف فراسخ في يوم واحد، و ربما اصطيد و غاب عن وطنه حتّى يجد فرصة فيطير إليه.
و سباع الطير تطلبه أشدّ الطلب و خوفه من الشاهين أشدّ من خوفه من غيره، و هو أطير منه و من ساير الطيور كلّها لكنّه يذعر منه و يعتريه ما يعتريه الحمار من الأسد و الشاة إذا رأت الذئب و الفار إذا رأى الهرّ.
و من عجيب الطبيعة فيه ما حكاه ابن قتيبة في عيون الأخبار عن المثنّى بن زهير أنّه قال: لم أر شيئا قطّ من رجل و امرأة إلّا و قد رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلّا ذكرها و ذكرا لا يريد إلّا انثاه إلّا أن يهلك أحدهما أو يفقد، و رأيت حمامة تتزيّن للذكر ساعة يريدها، و ما رأيت حمامة لها زوج و هي تمكن آخر
______________________________
(1) و هو ذكر القمرى (منه)
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 47
ما تعدوه، و رأيت حمامة تقمط حمامة و يقال إنّها تبيض من ذلك و لكن لا يكون لذلك البيض فراخ، و رأيت ذكرا يقمط ذكرا، و رأيت ذكرا يقمط كلّ ما رأى و لا يزاوج و انثى يقمطها كلّ ما رآها من الذكور و لا تزاوج، و ليس من الحيوان ما يستعمل التقبيل عند السفاد إلّا الانسان و الحمام، و هو عفيف في السّفاد يجرّ ذنبه ليعفى أثر الأنثى كأنه قد علم ما فعلت فيجتهد في إخفائه، و قد يسفد لتمام ستة أشهر و الانثى تحمل أربعة عشر يوما و تبيض بيضتين إحداهما ذكر و الثانية انثى، و بين الاولى و الثّانية يوم و ليلة، و الذكر يجلس على البيض و يسخنه جزء من النّهار و الأنثى بقية النهار، و كذلك في اللّيل، و إذا باضت الأنثى و أبت الدّخول على بيضها لأمر مّا ضربها الذكر و اضطرّها للدّخول، و إذا أراد الذكر أن يسفد الأنثى اخرج فراخه من الذكر «الوكر» و قد الهم هذا النوع إذا خرجت فراخه من البيض بأن يمضغ الذكر ترابا مالحا و يطمّها إياه ليسهل به سبيل المطعم، و زعم ارسطو أنّ الحمام يعيش ثماني سنين.
و ذكر الثعلبي و غيره عن وهب بن منبه في قوله تعالى «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ» قال: اختار من النعم الضأن، و من الطير الحمام.
و ذكر أهل التاريخ أنّ المسترشد باللّه لما حبس رأى في منامه كأنّ على يده حمامة مطوقة، فأتاه آت فقال له: خلاصك في هذا، فلما أصبح حكى ذلك لابن السكينة فقال له: ما أوّلته؟ قال: أوّلته ببيت أبي تمام:
هنّ الحمام فان كسرت عيافة من حائهن فانهنّ حمام
و خلاصي في حمامي، فقتل بعد أيام يسيره سنة تسع و عشرين و خمس مأئة.
و في البحار من الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: اتّخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم فانّها تلعن قتلة الحسين عليه السّلام.
و فيه من العيون و العلل سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن معنى هدير
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 48
الحمام الراعبية فقال عليه السّلام: تدعو على أهل المعازف «1» و القيان و المزامير و العيدان و من الكافي عن أبي خديجة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: هذه الحمام حمام الحرم من نسل حمام إسماعيل بن إبراهيم التي كانت له.
و عن أبي سلمة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الحمام طير من طيور الأنبياء عليهم السّلام الّتي كانوا يمسكون في بيوتهم و ليس من بيت فيه حمام إلّا لم يصب ذلك البيت آفة من الجنّ، إنّ سفهاء الجن يعبثون بالحمام و يدعون الناس، قال فرأيت في بيت أبي عبد اللّه عليه السّلام حماما لابنه إسماعيل.
السادس- في النعام:
قال في حيوة الحيوان: معروف يذكر و يؤنث، و هو اسم جنس مثل حمام و حمامة و جراد و جرادة و تجمع النعامة على نعامات قال الجاحظ: و الفرس يسمّونها شتر مرغ، و تأويله بعير و طائر قال الشاعر:
و مثل نعامة تدعى بعيرا تعاميا إذا ما قيل طيرى
فان قيل احملي قالت فإنّي من الطير المرفه في الوكور
قال: و تزعم الأعراب أنّ النعامة ذهبت تطلب قرنين فقطعوا اذنيها، فلذلك سمّيت بالظليم، انتهى.
و كانهم انما سمّوها ظليما لأنّهم إنّما ظلموها حين قطعوا اذنيها و لم يعطوها ما طلبت، و هذا بناء على اعتقادهم الفاسد.
قال الدّميري: و النّعام عند المتكلّمين على طبايع الحيوان ليست بطاير و إن كانت تبيض و لها جناح و ريش، و يجعلون الخفّاش طيرا، و إن كان يحبل و يلد و له اذنان بارزتان و ليس له ريش لوجود الطيران فيه و مراعاة لقوله تعالى «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ...» و هم يسمّون الدّجاجة طيرا و إن كانت لا تطير.
______________________________
(1) المعازف الملاهى كالعود و الطنبور و الواحد معزف كمنبر، و القيان جمع القينة الامة المغنية فهو عطف على الاهل، و يقدّر المضاف في الأخيرين (بحار)
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 49
و ظنّ بعض النّاس أنّ النعامة متولّدة من جمل و طاير، و هذا لا يصحّ، و من أعاجيبها أنّها تضع بيضها طولا بحيث لو مدّ عليها خيط لاشتمل على قدر بيضها و لم تجد لشيء منه خروجا عن الاخر، ثمّ إنّها تعطى كلّ بيضة منه نصيبها من الحضن إذ كان كلّ بدنها لا يشتمل على عدد بيضها، و هي تخرج لعدم الطعم، فان وجدت بيض نعامة اخرى تحضنه و تنسى بيضها. و لعلّها ان تصاد فلا ترجع إليه و لهذا توصف بالحمق و يضرب بها المثل قال الشاعر:
فاني و تركى ندى الأكرمين و قد حى بكفّى زنادا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء و ملبسة بيض أخرى جناحا
قال الدّميري: و النعام من الحيوان الذي يعاقب الذكر الانثى في الحضن و كل ذي رجلين إذا انكسرت له إحداهما استعان بالاخرى في نهوضه و حركته ما خلا النعامة فانها تبقى في مكانها جاثمة حتّى تهلك جوعا قال الشاعر:
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد على أختها نهضا و لا باستها حبوا
و ليس للنعام حاسة السمع و لكن له شمّ بليغ، فهو يدرك بأنفه ما يحتاج فيه إلى السمع، فربما شم رائحة القناص من بعد، و لذلك تقول العرب: هو أشم من النعامة قال ابن خالويه: ليس في الدّنيا حيوان لا يسمع و لا يشرب الماء أبدا إلّا النعام و لا مخّ له و متى رميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية، و الضبّ أيضا لا يشرب و لكنه يسمع، و من حمقها أنها إذا ادركها القناص أدخل رأسها في كثيب رمل تقدّر أنها قد استخفت منه، و هو قوية الصّبر على ترك الماء و أشدّ ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح، و كلّما اشتدّ عصوفها كانت أشدّ عدوا، و تبتلع العظم الصلب و الحجر و المدر و الحديد فتذيبه و تميعه كالماء.
قال الجاحظ: من زعم أنّ جوف النعام يذيب الحجارة لفرط الحرارة فقد أخطأ و لكن لا بدّ مع الحرارة من غرائز آخر بدليل أنّ القدر يوقد عليها الأيام و لا تذيب الحجارة، و كما أنّ جوفي الكلب و الذئب يذيبان العظم و لا يذيبان نوى التمر، و كما أنّ الابل تأكل الشوك و تقتصر عليه و إن كان شديدا كالسّمر و هو شجر أمّ غيلان و تلقيه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 50
ردما، و إذا أكلت الشعير ألقته صحيحا انتهى.
و إذا رأت النعامة في اذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفها و تبتلع الجمر فيكون جوفها هو الحامل في إطفائه و لا يكون الجمر عاملا في إحراقه، و في ذلك اعجوبتان إحداهما التغذي بما لا يتغذى به، و الثانية الاستمراء و الهضم، و هذا غير منكر لأنّ السّمندل يبيض و يفرخ في النار.
فسبحان من أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى، و أبدع في الملك و الملكوت من لطايف القدرة من الحكمة ما فيه كفاية لمن اهتدى، و اودع فيهما من بدايع الصنع و الخلقة ما لا يعدّ و لا يحصى، و في أدنى مصنوعاته و مكوّناته تذكرة و ذكري لاولى النهى، شرح اللّه صدورنا للاهتداء إلى مناهج المعرفة بالتحقيق، و الارتقاء إلى معارج اليقين و التصديق انّه وليّ التوفيق.
الترجمة:
پس بلند است آن خدائى كه سجده ميكند او را أهل آسمانها و زمين با رضا و كراهت، و مى مالد بخاك از براى او رخسار و روى را، و مى اندازند جلو فرمان بردارى را بسوى او از حيثيت ضعف و تسليم، و مى دهند او را افسار انقياد از جهة خوف و ترس پس مرغ ها مسخّرند از براى أمر او، شمرده شماره پرها و نفسهاى آنها را، و محكم ساخته و ثابت نموده پاهاى آنها را برترى و برخشكى، مقدر فرموده روزيهاى آنها را، و شمرده و ضبط كرده جنسهاى آنها را، پس اين كلاغ است، و اين هما است و اين كبوتر است، و اين شتر مرغ است، دعوت فرمود هر مرغى را بنام خود، و كفالت كرد بروزى آن، و ايجاد نمود ابر سنگين را، پس بارانيد باران نرم بي رعد و برق آن را، و شمرد قسمتهاى آن را كه بهر ولايت باندازه معين تقسيم شده پس تر ساخت آن باران زمين را پس از خشك شدن آن، و بيرون آورد گياه آن را بعد از قحط سالى آن.