منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 46
و من كلام له عليه السّلام و هو المأتان و الاثنان و الثلاثون من المختار فى باب الخطب:
روى اليماني عن أحمد بن قتيبة عن عبد اللَّه بن يزيد عن مالك بن دحية قال: كنّا عند أمير المؤمنين علي عليه السّلام و قد ذكر عنده اختلاف النّاس فقال:
إنّما فرّق بينهم مبادي طينهم، و ذلك أنّهم كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها، و حزن تربة و سهلها، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، و على قدر اختلافها يتفاوتون، فتامّ الرّواء ناقص العقل، و مادّ القامة قصير الهمّة، و زاكي العمل قبيح المنظر، و قريب القعر بعيد السّبر، و معروف الضّريبة منكر الجليبة، و تائه القلب متفرّق الّلبّ، و طليق اللّسان حديد الجنان (54732- 54668).
اللغة:
(الطين): التراب، و الطّينة: القطعة منه، في لسان العرب الطين معروف الوحل واحدته طينة، و الطينة أيضا الخلقة و الجبلّة و في بعض النسخ طينتهم، (الفلقة):
القطعة و الشق من الشيء و جمعه فلق كعنب، و (السبخة) محركة و مسكنة: أرض ذات ملح لا تستعد للنبات و الزرع، مقابل العذب، و (العذب) ما طاب منها و استعد للنبات، (الحزن) على وزن فلس: ما غلظ من الأرض كالحزنة، و (السهل) من الأرض ضدّ الحزن، (الرواء) بالضم و الهمز كغلام مشتق من روى: حسن المنظر قال المتنبي:
فارم بي ما اردت منى فانى اسد القلب آدمى الرّواء
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 47
(الهمة) بالكسر و بالفتح: ما هم به من أمر ليفعل و هممت بالشىء أهمّ هما إذا أردته. (الزاكى): الطيّب الخالص الحسن و الزّكاة صفوة الشيء، (السبر): امتحان غور الجرح و غيره كالاستبار يقال سبرت الرّجل اسبره أي اختبرت باطنه و غوره و السبر فى الاصل ادخال الميل في الجراحة لمعرفة غورها و يطلق على مطلق الاختبار قال الحريري: فولجت غابة الجمع لا سبر مجلبة الدمع و قال المرزوقي في شرح الحماسة «873» و توسع في استعماله «يعني سبرت» حتى وضع موضع جرّبت، و لذا سمّى الملمول الذي يقدّر به الجرح و غوره مسبارا، و المسبار مفعال من ابنية الالات كالمفتاح و من أبيات تلك الحماسة.
فلقد سمتنى بوجهك و الوصل قروحا أعيت على المسبار (الضريبة): الطبيعة و الخليقة و جمعها الضّرائب، قال القتّال الكلابي «حماسة 217»:
جليد كريم خيمه و طباعه على خير ما تبنى عليه الضّرائب
(الجليبة): ما يجلبه الانسان و يتكلّفه، المجلوبة و جمعها كالضريبة و المراد بها الخلق الذي يتكلفه الانسان و يستجلبه مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة أو شحيحا بالطبع فيتكلف الجود، (التائه) فاعل من التيه بمعنى الحيرة و الضلالة لسان طلق و (طليق) فصيح ذو حدّة، (الجنان) بفتح أوّله: القلب.
اليماني هو أبو محمّد ذعلب و هو من شيعته عليه السّلام في الكافي للكليني قدّس سرّه في باب جوامع التوحيد و في الوافي للفيض ص 95 ج 1 بينا أمير المؤمنين عليه السّلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك فقال ويلك يا ذعلب ما كنت اعبد ربا لم أره فقال يا أمير المؤمنين كيف رأيته قال ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الابصار و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان ويلك يا ذعلب ان ربّي لطيف اللّطافة لا يوصف باللّطف الحديث.
و ذعلب بالذال المعجمة و العين المهملة كزبرج معناه في الاصل الناقة السريعة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 48
ثمّ صار علما للانسان كما أن بكرا في الأصل فتى الابل ثمّ صار علما لبكر بن وائل.
الاعراب:
اضافة المبادي إلى الطين بيانية و يمكن أن تكون بمعنى اللام أي المبادي لطينهم.
كلمة من بيانية للفلقة و يمكن أن تكون للتبعيض و ان كان الأوّل أظهر.
جملة هم يتقاربون مبتداء و خبر و على تتعلّق بالخبر قدمت عليه للتوسع في الظروف و كذا الجملة التالية المعطوفة عليها.
الفاءان سببيّتان فتفيدان التفريع.
و قوله عليه السّلام: فتام الرّواء إلى آخره من الجملات السبع تفسير و تفصيل لقوله: يتفاوتون.
المعنى:
نقدّم عدّة مباحث تبيينا للمراد و تبليغا إلى الرّشاد مستعينا من اللّه الواهب الفيّاض:
الاول:
انّ الإنسان كسائر المركبات مركب من العناصر إلا أن بعض المركّبات ذو صورة لا نفس له كالمعدنيات، و بعضها ذو صورة له نفس غاذية و نامية و مولّدة للمثل لا حسّ و لا حركة ارادية له كالنبات، و بعضها ذو صورة له نفس غاذية و نامية و مولّدة للمثل و حساسة و متحركة بالارادة كالإنسان و سائر الحيوانات المتكونة في حيز الأرض.
و انّ العناصر لكلّ واحد منها صورة مضادّة للاخر منها ينبعث كيفيّاته المحسوسة و تلك الكيفيّات هى الحرارة و البرودة و الرّطوبة و اليبوسة الناشئة من اسطقس النّار و الماء و الهواء و الأرض، فانّ النّار حارّة يابسة و الهواء حارّ رطب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 49
و الأرض باردة يابسة و الماء بارد رطب و تلك الاسطقسات تسمى الأركان و العناصر أيضا- و هذا القول لا ينافي ما ذهبوا إليه علماء هذه الاعصار من أن هذه الأركان ليست ببسيطة بل كلّ واحد منها مركب من أجزاء اخر- و هذه الأركان إذا تصغرت اجزاؤها و تماست و فعل بعضها في بعض بقواها المتضادّة و كسر كلّ واحد منها سورة كيفيّة الاخر فإذا انتهى الفعل و الانفعال بنيها إلى حدّ ما حدثت لذلك المركّب الممتزج كيفية متشابهة في أجزائه و هى المزاج.
و بعبارة اخرى انّ العناصر إذا اختلطت و امتزجت تفعل كلّ واحدة منها بصورته فى الاخرى و ينفعل في كيفيّتها عنها و تحصل من تفاعل كيفيّات متضادة موجودة فى عناصر و انكسارها كيفيّة متوسطة وحدانيّة توسطا ما في حدّ ما متشابه في أجزائها و هي تسمّى مزاجا فالأرض تفيد الكائن تماسكا و حفظا لما يفاده من التشكيل و التخليق، و الماء يفيد الكائن سهولة قبول التخليق و التشكيل و يستمسك جوهر الماء بعد سيلانه بمخالطة الأرض و يستمسك جوهر الأرض عن تشتته بمخالطة الماء، و الهواء و النار ينكسران عنصريّة هذين و يفيد انهما اعتدال المزاج، و الهواء يخلخل و يفيد وجود المنافذ و المسام، و النّار تنضج و تطبخ.
الثاني:
المزاج الّذي يحصل باختلاط الأركان لا يجوز أن يكون معتدلا حقيقيا سواء كان معدنيا أو نباتيا أو حيوانيا، لأنّ الاعتدال الحقيقي هو أن يكون المقادير من الكيفيّات المتضادّة في الممتزج متساوية و هو ممّا لا يمكن ان يوجد أصلا لانّه إذا حصل شيء من الأركان متساوي المقادير لا بدّ أن يكون في الخارج مكان و ذلك المكان ان كان لأحد من الأركان فيلزم الترجيح بلا مرجّح فنقول أى سبب اقتضى أن يكون ذلك المركّب في هذا المكان دون ذلك، و امّا أن يكون خارجا من أمكنتها مع انا نرى بالعيان و البرهان أيضا انّه ليس كذلك فلا بدّ أن يكون في ذلك المركّب واحد من الأركان غالب على غيره حتّى يميل المركّب إلى المكان اللائق للغالب فإن كان التراب مثلا غالبا فهو يميل إلى مكانه الحرىّ به و هكذا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 50
قال الشّيخ في النّمط الثّاني من الاشارات و انت إذا تعقبت جميع الأجسام الّتي عندنا وجدتها منتسبة بحسب الغلبة إلى واحد من هذه التي عددناها يعني بها الأركان، و قال المحقّق الطوسى في شرحه: و فيه تعريض بان المركّب من الاجزاء المتساوية من الأركان غير موجود.
فإن قلت أليس يمكن أن يكون مزاج إنسان معتدلا بحيث لا يعتريه أحوال و أسباب منافية له ممرّضة له من جهة الاخلاط و يجري أفعال البدن دائما على أفعاله الطبيعي و لا يخرج عنه، بأن يكون إنسان عالما بما يصلح للبدن و ما يفسده من الأغذية و الأشربة و الأمكنة و الأهوية و غيرها فيجتنب عن كلّ ما ينافيه و يمرضه و يؤذيه و يؤدّى بدل ما يتحلّل غذاء للبدن على وفق المزاج المتوسّط عن حدّى التفريط و الافراط؟
قلت هذا ممكن بل ثابت محقق و به يبين سرّ قول المجتبى و الصّادق عليهما السّلام ما منّا إلّا مقتول أو مسموم و به يجاب الخصم الألدّ في بقاء حجّة اللّه فى العالمين بقيّة اللّه في الأرضين حجّة بن الحسن العسكري روحي لروحه الفداء و نفسي لنفسه الوقاء و هو أحد البراهين العقلية على ذلك و إن كانت البراهين العقليّة و النّقليّة فيه كثيرة، و بالجملة موت إنسان يحتاج إلى دليل و يسأل عن السّبب الّذي مات به لا بقائه، و لكن هذا الاعتدال طور آخر من الاعتدال غير ما ذكرناه آنفا و الفرق بينهما انّ الأوّل يبحث فى الطبيعيّات من الكتب الحكميّة و الاعتدال بذلك المعنى ممّا لا يجوز أن يوجد أصلا كما دريت، و الاعتدال الممكن المحقق هو الّذي يبحث الطبيب عنه و هو بمعنى آخر.
و لا بأس أن ننقل كلام الشّيخ في القانون حتّى يتضح المراد أتم إيضاح قال في أوّل القانون: يجب أن يتسلم الطبيب من الطبيعى أنّ المعتدل على هذا المعنى «أي ما قلنا من حصول الشيء و تركيبه من الأركان متساوي المقادير» ممّا لا يجوز أن يوجد أصلا فضلا عن أن يكون مزاج إنسان أو عضو إنسان
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 51
و ان تعلم أنّ المعتدل الّذي يستعمله الاطباء في مباحثهم ليس هو مشتقّا من التعادل الّذي هو التوازن بالسويّة بل من العدل في القسمة و هو أن يكون قد توفر فيه على الممتزج بدنا كان بتمامه أو عضوا من العناصر بكميّاتها و كيفيّاتها القسط الّذي ينبغي له في المزاج الانساني على أعدل قسمة و نسبة لكنه قد يعرض أن يكون هذه القسمة التي تتوفر على الإنسان قريبة جدا من المعتدل الحقيقي الأوّل.
الثالث:
ان كلّ نوع من أنواع المركّبات يشتمل على أصناف و كلّ صنف على أشخاص لا حصر لها بحيث نرى لا يتشابه اثنان من الأنواع بل من الانواع بل من الأشخاص لونا و خلقا و خلقا و منطقا و قال عزّ من قائل في سورة الرّوم «وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» و هذا الاختلاف لا بدّ أن يكون من سبب و ذلك السبب لا محالة مادّي لأنّ المادّة هي منشأ الاختلاف و مثار الكثرة و لذا صار المجرد نوعه منحصرا في فرده لعدم وجود المادة هناك.
و ذلك السبّب ما ذا؟ قال العلامة الطوسى في شرحه على الاشارات: و ليس هذا الاختلاف بسبب الهيولى الاولى و لا بسبب الجسميّة فانّهما مشتركان يعني أنّهما مشتركان في جميع الاشخاص فلو كان الهيولى أو الجسميّة سببا للزم أن يكون كلّ شخص من أي نوع من الأنواع يتشابه الاخر لاتحاد السبب، و لا بسبب المبدأ المفارق فانّه موجود أحديّ الذات متساوى النسبة إلى جميع المادّيّات فهو إذن بسبب امور مختلفة و الامور المختلفة في الهيولى بعد الصّورة الجسميّة هي هذه الصّور الأربع النّوعيّة الّتي أجسامها موادّ المركّبات و الاختلاف ليس بسبب هذه الصّور أنفسها، لأنّ الاختلاف الّذي يكون بسببها لا يزيد على أربعة فهو إذن بحسب أحوالها فى التركيب و فيما يعرض بعد التركيب، و التّركيب يختلف باختلاف مقادير الاسطقسات في القلّة و الكثرة بقياس بعضها إلى بعض اختلافا لا نهاية له و يختلف ما يعرض بعد التركيب باختلاف ذلك لا محالة فتلك الاختلاف الغير المتناهية هي أسباب اختلاف المركّبات.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 52
أقول: و من تلك الأحوال المؤثرة في اختلاف الاشخاص اختلاف البقاع و الاقاليم و الأمكنة، لأنّ مقادير الاسطقسات في المركّبات يختلف باختلاف عروض البلاد أي قربها من خطّ الاستواء و بعدها عنه فهو يصير سببا لاختلاف مدار الشمس بحسب الافاق كما أنّ في الافاق الاستوائية تتحرّك الشمس دولابيا و في القطبيين رحويا و ما بينهما حماليا و الافاق التي عرضها أكثر من الميل الكلّي شماليّا كان أو جنوبيّا لا تسامت الشّمس رءوس أهلها قطّ و الافاق الّتي عرضها بقدر الميل الكلي تسامتها في الدورة مرّة و التي عرضها أقل و اتي عديم العرض تسامتها في الدورة مرتين حين كون ميل الشّمس أعني بعده من معدل النهار مساويا لعرض تلك الافاق و في عديم العرض حين كونها على نقطتى الاعتدال و قرب الشمس و بعدها مؤثر في أحوال أشخاص تلك الافاق كما في ترابها و هوائها و نباتها و عامة ما يوجد فيها و هذا ممّا لا يليق أن يرتاب فيه فلذلك يكون عامّة أهل الاقليم الاوّل السود، و عامّة أهل الاقليم الثّاني بين السواد و السمرد، و عامّة أهل الثالث السمر، و عامّة أهل الرابع بين السمرة و البيض، و عامّة أهل الخامس البيض و في الاقليم السّادس الغالب على أهله الشقرة، و أهل السّابع لونهم بين الشّقرة و البياض.
و كما يكون صفاتهم الظاهرية و ألوانهم مختلفة كذلك أمزجتهم متفاوتة متغيرة فلا محالة اختلاف اللّون و المزاج حاك عن اختلاف من جهة تركيب الاخلاط فإن غلبة الدّم سبب لحمرة لون البدن و غلبة البلغم سبب لبياضه و غلبة الصفراء لصفرته و غلبة السوداء لسواده و ما بينها متوسطات مسميات باسامى الألوان الاخر كل ذلك مبرهنة بالبراهين القاطعة في الكتب المفصّلة الطبيّة لا سيّما فى قانون الشّيخ الرّئيس أبي عليّ بن سينا و شروحها.
ثمّ اختلفوا فى أنّ أهل أي الاقليم أعدل مزاجا، و الصّواب أن أهل الاقليم الرّابع أعدل من غيرهم فانهم لا محترقون بدوام مسامتة الشّمس رؤوسهم حينا بعد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 53
تباعدها عنهم كسكان أكثر الثاني و الثالث و لا هم فجّون نيّون بدوام بعد الشمس عن رؤوسهم كسكان آخر الخامس و ما هو أبعد منه عرضا.
و صرح كثير من علماء الهيئة و الجغرافيا بأن سكان عرض 66 درجة و ما هو أبعد منه شبيهة بالوحوش و صرّح غير واحد منهم أيضا بانّ سكان الافاق الاستوائية بسبب قرب الشّمس منهم و مسامتتها إياهم سود مجعّد الشعر خارج عن الاعتدال خلقا و خلقا و لكن الشّيخ الرّئيس ذهب فى القانون إلى خلافه و قال:
فقد صحّ عندنا أنه إذا كان فى الموضع الموازي لمعدل النّهار عمارة و لم يعرض من الاسباب الأرضيّة أمر مضادّ أعني من الجبال و البحار فيجب أن يكون سكانها أقرب الأصناف من الاعتدال الحقيقي و انّ الظنّ الّذي يقع أن هناك خروجا عن الاعتدال بسبب قرب الشّمس ظن فاسد فان مسامتة الشّمس هناك أقل نكاية و تغيير الهواء من مقاربتها هاهنا أو الأكثر عرضا مما هاهنا و إن لم تسامت ثمّ سائر أحوالهم فاصلة متشابهة و لا يتضاد عليهم الهواء تضادا محسوسا بل يشابه مزاجهم دائما ثمّ من بعد هؤلاء فأعدل الاصناف سكان الاقليم الرّابع إلى آخر ما قال. فتأمل.
الرابع:
كما أنّ اختلاف مقادير الاسطقسات فى القلّة و الكثرة و شدّتها و ضعفها و اختلاف البقاع و الاقاليم و غيرها من الأحوالات المشار إليها يكون سببا لاختلاف الأمزجة و الألوان و الصّور من الأحوالات الجسمانيّة و المادّية، كذلك يكون سببا لاختلاف الصّفات الباطنيّة المعنوية و ذلك لارتباط و اتصال كامل بين النّفس و البدن بحيث يتأثر كلّ واحد منهما عن الاخر كما نرى أنّ النفس يكل بكلال القوى البدنيّة و بالعكس يظهر أحوال النفس في الأعضاء الظاهريّة، و فى النّمط الثالث من الاشارات و التنبيهات ما هو كاف في أداء مقصودنا.
قال الشّيخ: و له «أي لجوهر النّفس» فروع من قوي منبثة فى أعضائك فاذا احست بشيء من أعضائك شيئا أو تخيلت أو اشتهيت أو غضبت القت العلاقة التي بينها و بين هذه الفروع هيئة فيك حتّى تفعل بالتكرار اذعانا مّا، بل عادة و خلقا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 54
يمكّنان من هذا الجوهر المدبر تمكن الملكات كما يقع بالعكس فانّه كثيرا ما يبتدىء فيعرض فيه هيئة مّا عقلية فتنقل العلاقة من تلك الهيئة أثرا إلى الفروع ثمّ إلى الأعضاء، انظر إذا استشعرت جانب اللّه عزّ و جلّ و فكرت في جبروته كيف يقشعر جلدك و يقف شعرك، و هذه الانفعالات و الملكات قد تكون أقوى و قد تكون أضعف، و لو لا هذه الهيئات لما كان نفس بعض النّاس بحسب العادة أسرع إلى التهتك و الاستشاطة غضبا من نفس بعض.
و قوله «فإذا أحست إلى تمكن الملكات» بيان كيفيّة تأثر النّفس عن البدن و قوله «كما يقع بالعكس إلى شعرك» بيان كيفيّة تأثر البدن عن النّفس و قوله «و هذه الانفعالات» إلى آخره اشارة كما فى شرحه للعلامة الطوسي إلى أن هذه الكيفيّات المذكورة في الجانبين قابلة للشدّة و الضعف و يختلف النّاس بحسبها في هذه الانفعالات و الملكات، و ذلك لاختلاف أحوال نفوسهم و أمزجتهم و بحسب تلك الشدّة و الضعف يتفاوتون فى اخلاقهم الفاضلة و الرذلة فيكون بعضهم أشدّ و أضعف استعداد للغضب و بعضهم للشهوة و كذلك فى سائرها.
ثمّ نقول: و من هنا يمكن أن يستنبط أن السر في تفاوت الخلايق في الخيرات و الشرور و اختلافهم في السعادة و الشقاوة هو اختلاف استعداداتهم و تنوع حقائقهم لتباين المواد السفلية في اللّطافة و الكثافة و اختلاف أمزجتهم في القرب و البعد من الاعتدال الحقيقي و اختلاف الارواح الّتي بازائها في الصفاء و الكدورة و القوة و الضعف و ترتب درجاتهم في القرب من اللّه سبحانه و البعد عنه كما اشير إليه في الحديث: الناس معادن كمعادن الذهب و الفضّة خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الاسلام، كما نبه إليه بعض الاعلام.
فنقول بعد ما اخذت الفطانة بيدك و استحضرت معاني المباحث الاربعة المذكورة في ذهنك يظهر معاني كلامه عليه السّلام بأنّه كيف صار مبادي طينهم سببا لاختلاف أمزجتهم و صورهم و اخلاقهم و فرق بعضهم عن بعض.
و إن قلت: إنّه علم في المباحث المذكورة انّ السبب في تفرق النّاس في
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 55
أخلاقهم و خلقهم انما هو اختلاف مبادي خلقتهم من التراب و الماء و الهواء و النّار و غيرها مما مر و لكن الظّاهر في كلامه عليه السّلام هو الارض فقط فكيف التوفيق؟
قلت: أوّلا انها أكثر ممّا يوجد في المركّبات و لذلك تكون في حين الارض.
و ثانيا انّ للتراب أثرا عظيما في اختلاف أخلاقهم و خلقهم و الاركان الاخر في الطيب و الخبث تابعة لها و لذا خصها بالذكر دونها و ذلك لانه ممّا يري بالعيان ان الارض العذبة الّتي طيبة ترابها ماؤها عذب طيب و أيضا و كذا هواؤها و الارض السبخة ماؤها مالح و هواؤها تابع لها لا محالة و كذا في أوصافها الاخر ممّا هو أكثر من أن يحصى فلذلك من نشأ و تولد في الارض العذبة تكون في الخلق و الخلق أحسن و أعدل من غيره و الذي تولد في الارض السبخة يكون ذا مزاج حار يابس و تكون صفاته تابعة لمزاجه و خلقه كما دريت في المبحث الرابع و كفاك في ذلك قول اللّه جلّ جلاله في الاعراف «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» الاية.
قوله عليه السّلام (فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون و على قدر اختلافها يتفاوتون) نحن نرى الاشخاص بالحس و العيان انّ أهل الافاق الاستوائية و أهل الافاق كثيرة العرض مثلا أهل عرض ستين درجة و ما بعدها بينهما في الخلق و الخلق بون بعيد بحيث لو رأي هذا ذلك ليستوحش منه و يتنفر عنه و لم يكن بين أهل الاقليم الثالث و الرّابع ذلك البعد فيهما، و كذلك نرى أن بين أهل مبدء الاقليم الرّابع مثلا و بين من كان في آخره تشابه و تناسب و تقارب فيهما و هكذا الأقرب فالأقرب و الأبعد فالأبعد و ذلك لما حققناه في المبحث الثالث فهم حسب قرب أرضهم يتقاربون و على قدر اختلافها يتفاوتون.
قوله عليه السّلام (فتام الرّواء ناقص العقل) من قوله عليه السّلام هذا إلى آخره بيان لقوله يتفاوتون فذكر تفاوت سبع طوائف من النّاس خلقا و خلقا فهذه الاقسام السبعة بعضها يضاد خلقها لاخلاقها و بعضها يلائم و يناسب، فبدأ بالّتي تضاد و هى خمسة:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 56
الاولى ان منهم من يكون تام الرّواء أى حسن المنظر و لكنه ناقص في عقله.
كما ثبت في فن القيافة أنّ من يكون لمقدم رأسه نتوّا و كذا لمؤخر رأسه فهو داه حازم و له زيادة عقل و خبرة و فهم وجودة فكر لانّ هيئة الدماغ شبيهة بمثلث قاعدته من جانب مقدم الرّأس و زاويته التي يحيط بها الساقان من جانب المؤخر و هو مبدء القوة النفسانيّة و به يكون الحس و الحركة، أمّا الحس فبواسطة العصب اللّين و أمّا الحركة فبواسطة العصب الصّلب و عند القائفين إذا كان في الرأس تنوكما ذكر يكون البطن المقدم من الدماغ على وجه الكمال و الاعصاب المنشعبة الناشئة منه على أحسن الحال فإذا يستلزم ذكاء صاحبه و الرّأس إذا كان بتلك الصفة تصير العين غائرة لا محالة فليس له منظر جميل فهو ليس بتام الرواء مع أنّه كامل العقل.
فتام الرّواء ناقص العقل، و هذا القسم قليل جدّا لانّ حسن الجمال و اعتدال الخلقة دالّ على استواء التركيب و اعتدال المزاج و من اعتدل مزاجه فتصرف الروح و تعلقه فيه أشدّ و أتمّ و تدبير النّفس النّاطقة و عملها فيه أكمل و أقوم و ذكاؤه و رويته أكثر و أسلم.
و كفاك شاهدا في ذلك خلق الانبياء و السفراء الإلهية و خلفائهم المنصوبين من عند اللّه حيث خلقوا على أعدل الامزجة و الخلقة فكانوا في كمال العقل و الذكاء و قوّة الرأى و الفطنة و بالجملة في كمال الاتصاف بالصفات الالهية و مكارم الاخلاق و محاسن الافعال و التنزه عن الامور المنفرة للطباع عنهم خلقا و خلقا.
و جاء في شمائل رسولنا خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله انّه كان فخما مفخّما، يتلالا وجهه كالقمر ليلة البدر، أعلى الهامة، رجل الشّعر، واسع الجبهة، أزجّ الحواجب أقنى الأنف، كثّ اللّحية، سهل الخدّين، ضليع الفم، مفلّج الأسنان، كان فى وجهه تدوير، أسمر اللون، أبيض مشرب، أهدب الاشفار، أدعج العينين، سواء البطن و الصّدر، طويل اليدين، أسود العينين، أقصر من المشذّب رحب الرّاحة،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 57
أطول القامة، عريض الصّدر، ليس شعر في بدنه إلّا كالخط من الصّدر إلى السرّة و نظمها ابن الحاج في رسالته المنظومة الموسومة بنظم المحاسن الغرر و منها:
و بعد فاعلم أنّ من تمام ايماننا معاشر الإسلام
ايقاننا بأنّ أبهى بدن جثمان أحمد النّبيّ المدني
ففيه حسن مدهش الأبصار تشبيهه يحتاج لاستغفار
كان كما صحّ عن البراء أكمل خلق اللّه في البهاء
و عن عليّ لم يكن مطهّما منتفخ الوجه و لا مكلثما
و عن أبي هريرة ذي الجدّ كان نبيّنا أسيل الخد
ما ذا يقال مطنبا أو مختصر في عينه من بعد ما زاغ البصر
عن ابن عبّاس يرى في الدّاج كما يرى في الضوء و السّراج
و سمعه أسمع كلّ سامع يسمع غيبا من سواه لم يع
حسبك فيه ما رواه الترمذي و مثله أبو نعيم يحتذي
إنّي أرى ما لم تروا و لم تعوا و إنّ مالا تسمعون أسمع
افصح خلق اللّه إذ تلفظا أو ضحهم أحلاهم إذ وعظا
أتاه ربّه جوامع الكلم كانّها في عقدها درّ نظم
و صحّ كان واضح الجبين مزججا أقرن حاجبين
و في حديث البيهقي العلامة صحّحه كان عظيم الهامة
ضخم الكراديس عنوا رؤساء من العظام احفظ حميت البؤسا
تلك العظام مثل ركبتيه و المرفقين ثمّ منكبيه
و قد رووا أن كان أقنى الانف رقيق عرنين هما كالرّدف
إذا لقنا في الأنف رقّة القصب و طوله و كان في الوسط حدب
مع ضيق منخرين و العرنين بالكسر أنف خذه ياقمين
و عنقه إبريق فضة روى ذاك مقاتل حديثه حوى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 58
(وصف على عليه السّلام لرسول اللَّه (ص):
قال ابن هشام في السيرة النّبويّة: و كانت صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- فيما ذكر عمر مولى غفرة، عن إبراهيم بن محمّد بن علىّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام إذا نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال-: لم يكن بالطويل الممغّط، و لا القصير المتردّد. و كان ربعة من القوم و لم يكن بالجعد القسط و لا السبط، كان جعدا رجلا، و لم يكن بالمطهم و لا المكلثم، و كان أبيض مشربا أدعج العينين، أهدب الاشفار، جليل المشاش و الكتد، دقيق المسربة، أجر دشثن الكفّين و القدمين، إذا مشى تقلّع كانما يمشى في صبب، و إذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النّبوّة و هو صلّى اللّه عليه و آله خاتم النّبيّين، أجود النّاس كفّا، و اجرأ النّاس صدرا، و أصدق النّاس لهجة، و اوفى النّاس ذمّة، و ألينهم عريكة، و أكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه، و من خالطه احبّه، يقول ناعته: لم ار قبله و لا بعده مثله صلّى اللّه عليه و آله.
بيان: الممغّط و الممعطّ بالعين المعجمة و المهملة: الممتد. القسط:
الشديد جعودة الشعر. رجلا: مسرح الشعر. المطهم: العظيم الجسم. المكلثم:
المستدير الوجه فى صغر. الادعج: الاسود العينين. اهدب الاشفار: طويلها.
المشاش عظام رءوس المفاصل. الكتد: ما بين الكتفين. المسربة: الشعر الّذي يمتد من الصدر إلى السرة. الاجرد: القليل شعر الجسم. الشثن: الغليظ.
تقلع: لم يثبت قدميه. الصبب: ما انحدر من الأرض. اصل اللّهجة: طرف اللسان، و يكنى بصدق اللهجة عن الصدق. الذمّة: العهد. العريكة «فى الاصل»:
لحم ظهر البعير، فاذا لانت سهل ركوبه، يريد انه احسنهم معاشرة.
و في الكافى لثقة الإسلام الكليني في باب ما جاء في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عن جابر قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام صف لي نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال كان نبى اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبيض مشرب بالحمرة ادعج العينين مقرون الحاجبين شثن الاطراف كان الذهب افرغ على براثنه عظيم مشاشة المنكبين إذا التفت يلتفت جميعا من شدة استرساله سربة سابلة من لبته إلى سرّته كانها وسط الفضة المصفّاة و كانّ عنقه إلى كاهله ابريق
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 59
فضة يكاد انفه إذا شرب ان يرد الماء و إذا مشى تكفّا كانه ينزل في صبب لم ير مثل نبى اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبله و لا بعده، كذا عدة أخبار اخر فيه فراجع.
فإن قلت: ما نفقه كثيرا ما تقول مع انه وردت روايات على انّ بعض الانبياء ابتلاهم اللّه بقبح الصّورة و الخلقة كما فى أيّوب عليه السّلام بحيث تنتن له رائحة و تدوّد جسده بل فى رواية اصابه الجذام حتى تساقطت اعضاؤه فكيف التوفيق؟
قلت قضاء العقل فى هذه الامور أولى و أقدم و لا ريب انّ اللّه تعالى بعث الأنبياء لطفا منه على العباد ليقوم الناس بالقسط و ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حىّ عن بينة و لامور اخر ذكرها المتكلمون فى الكتب الكلاميّة مفصلة فلو كان فى الانبياء ما يوجب النفرة عنهم لا يرغب النّاس إليهم فيكون منافيا للغرض من البعثة فاللّه ليس بمتم نوره و لطفه و حجته فى هذه الصّورة على عباده و الحكم فى اصول الدّين و ما يتبعها هو العقل وحده و صريح العقل يقضى بذلك و من لم يكن أحول و أعور لا يرتاب فيه.
قال أفضل المتاخرين العلامة الطوسى قدس اللّه نفسه القدسى فى التجريد:
و يجب فى النبىّ العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض و لوجوب متابعته و ضدها و الانكار عليه و كمال العقل و الذكاء و الفطنة و قوة الرأى و عدم السهو و كلما ينفر عنه من دناءة الاباء و عهر الامهات و الفظاظة و الابنه و شبهها و الاكل على الطريق و شبهه. انتهى فان كان فيما يقضى به صريح العقل رواية يعاضدها و إلّا فإن كانت الرواية قابلة لان يحمل على ذلك المقضى به و إلا فلا نعبأ بها و نعرض عنها.
مع انا نعلم ان هذه الرّوايات القائلة فى الأنبياء بهذه الصفات الّتى تنفر عنها الطباع اسرائيليات و ذلك كما نبه عليه ابن خلدون فى مقدمة تاريخه ان كعب الاحبار و وهب بن منبه لما اسلموا و ذكروا تلك الرّوايات للمسلمين قبلها عوام المسلمين منهم حسن الظن فيهم بانهم مسلمون و ان هذه الرّوايات مما جاء بها الوحى على خاتم الانبياء صلّى اللّه عليه و آله و الحق الصريح في ذلك و الكلام المبين فيه ما قاله عزّ من قائل فى سورة آل عمران «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» الاية و هذا امضاء فى حكم العقل و معاضدة له و هو إحدي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 60
فوائد البعثة و قال الطبرسي «ره» فى المجمع و فيها: «أى فى هذه الاية» أيضا دلالة على ما نقوله فى اللطف لانّه سبحانه نبه على انّه لو لا رحمته لم يقع اللين و التّواضع و لو لم يكن كذلك لما أجابوه فبيّن انّ الامور المنفرة منفيّة عنه و عن سائر الأنبياء و من يجرى مجراهم في انّه حجة علي الخلق إلى آخر ما قال و أيضا جاءت رواية رواها الصدوق رضوان اللّه عليه في الخصال و نقلها المجلسى رحمة اللّه عليه في كتاب النّبوّة من البحار «ص 204 طبع كمباني» خلاف ما جاءت في تلك الرّوايات في أيّوب عليه السّلام و لا بأس بذكرها لانها رواية الصادقة الموافقة للعقل و الاية قال الصّدوق «ره»: القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال انّ أيّوب عليه السّلام ابتلى سبع سنين من غير ذنب و ان الأنبياء لا يذنبون لانهم معصومون مطهرون لا يذنبون و لا يزيغون و لا يرتكبون ذنبا صغيرا و لا كبيرا و قال عليه السّلام ان أيوب من جميع ما ابتلى به لم تنتن له رائحة و لا قبحت له صورة و لا خرجت منه مدة من دم و لا قيح و لا استقذره أحد رآه و لا استوحش منه أحد شاهده و لا تدوّد شيء من جسده و هكذا يصنع اللّه عزّ و جلّ بجميع من يبتليه من انبيائه و أوليائه المكرمين عليه و انما اجتنبه النّاس لفقره و ضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بماله عند ربه تعالى ذكره من التأييد و الفرج.
و قال علم الهدى سيّد المرتضى قدّس سرّه في كتاب تنزيه الأنبياء في أيّوب عليه السّلام فان قيل افتصحّحون ما روى من أن الجذام اصابه «يعنى أيّوب عليه السّلام» حتّى تساقطت أعضاؤه؟
قلنا اما العلل المستقذرة الّتى تنفر من رآها و توحشه كالبرص و الجذام فلا يجوز شيء منها على الأنبياء عليهم السّلام لان النفور ليس بواقف على الامور القبيحة بل قد يكون من الحسن و القبيح معا و ليس ينكر ان يكون أمراض أيوب عليه السّلام و أوجاعه و محنته في جسمه ثمّ في أهله و ماله بلغت مبلغا عظيما تزيد في الغم و الالم على ما ينال المجذوم و ليس ننكر تزايد الالم فيه عليه السّلام و انّما ننكر ما اقتضى التنفير.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 61
فإن قلت فلم قال عليه السّلام فتام الرّواء ناقص العقل مع أن على ما حققته يقتضى ان يكون تام الرواء كامل العقل.
قلت ان قوله عليه السّلام ليس بقضية كلّية حاكمة بان كلّ من كان تام الرّواء فهو ناقص العقل البتة بل هى قضية مهملة في قوّة الجزئية يعني ان بعض تام الرّواء ناقص العقل كما لا يخفى على الاديب العارف باساليب العبارات و كذلك الستة الباقية و من يكن له منظر جميل و عقل ناقص اعترته آفة لا محالة و ان خفيت علينا و كما اشرنا إليه انّه قليل و الأكثر بخلافه.
قوله عليه السّلام (و مادّ القامة قصير الهمّة) الطائفة الثانية من يكون طويل القامة لكنه ناقص في همّته و هذا القسم يشترك الأول في مخالفة ظاهره لباطنه و يتفاوت عنه في الاستعداد الباطن و سببه بعد الدّماغ عن القلب لانّ القلب مبدء الحرارة الغريزية و الاعراض النفسانيّة من الفطنة و الذكاء و علو الهمة و قلة الانفعال عن الاشياء و جودة الرأى و حسن الظنّ و النشاط و الرّجاء و غيرها دالّة على فرط الحرارة الغريزية و ضدّ هذه الاوصاف تدلّ على برودتها فقرب الدّماغ من القلب يوجب وصول كثرة الحرارة إليه فيكون الانسان متصفا بتلك الفضائل كالقصار من الناس فبعد الدّماغ عنه يوجب قلّة الحرارة الغريزيّة في الدماغ فيتصف بخلافها من الرذائل، فمادّ القامة يكون في الاغلب ناقص العقل و هو يستلزم قصور الهمة و فتور العزم حتّى قيل كلّ طويل أحمق و فى باب الأسد و الثور من الكليلة الاحمق من طال و طالت عنقه، و سيجيء فى الطائفة الرابعة الكلام فى القصار.
قوله عليه السّلام (و زاكى العمل قبيح المنظر) و هى الطائفة الثالثة أي بعض النّاس من يكون مزاج ذهنه معتدلا فيصدر عنه الاعمال الزاكية الحسنة الطيبة و لكن صورته الظاهرة قبيحة لانّ مزاجه اقتضى ذلك و استعدّ له و هذا أيضا قليل لما بيناه فى الطّائفة الاولى من أن ذا المزاج المستعدّ لحسن الصّورة و جمالها يكون فطنا غالبا و يصدر عنه الافعال الزاكية و المستعدّ لقبح الصورة على خلاف ذلك و من زكى عمله و ان قبح منظره فهو فائز لان العمل هو الملاك للفلاح و البدن كالغمد و النفس كالسيف و اللّه تعالى لا ينظر إلى الابدان بل إلى الأعمال و القلوب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 62
و نعم ما قاله أبو العلاء فى سقط الزند:
و لو كان فى لبس الفتى شرف له فما السيف الّا غمده و الحمائل
و ما اجاد السعدي أيضا بالفارسية:
طعنه بر من مزن بصورت زشت اى تهى از فضيلت و انصاف
تن بود چون غلاف و جان شمشير كار شمشير ميكند نه غلاف
كنايه قوله عليه السّلام (و قريب القعر بعيد السبر) و هذه الطائفة الرّابعة من الطوائف السبع المذكورة و هذا القسم أيضا يضاد خلقه لخلقه و قريب القعر كناية عن قصير القامة و المراد من القعر هو البطن و قريب القعر من لم يكن من رأسه إلى بطنه و كذا من قدميه إلى مسافة كثيرة فهو كناية عن قصير القامة، و بعيد السبر كناية عن دهائه و فطاتته يعني ان قصير القامة لبيب داهية فطن حازم بحيث يصعب للغير الوقوف على اسراره و اختيار باطنه و ذلك كما هو المشاهد لنا فى القصار و نجدهم غالبا ذوي لب و حزم لا يطلع الغير على ضمائرهم على مرور الأيّام بل الشهور و الاعوام و حكى أن رجلا قصيرا اتى كسرى أنوشروان العادل و تظلم عنده من رجل فقال الملك انّ القصير لا يظلمه أحد فقال الرّجل أيّها الملك من ظلمنى كان اقصر منى فضحك الملك فانصفه، و السبب فى ذلك هو كما قال بعض الحكماء حين سئل ما بال القصار من الناس ادهى و احذق قال لقرب قلوبهم من ادمغتهم و مراده كما أشرنا اليه ان القلب مبدء الحرارة الغريزية و الاعراض النفسانيّة كلّها دالّة على الحرارة و توفرها و اضداد تلك الاعراض على برودتها فالقصير لقرب قلبه من دماغه يوجب توفر الحرارة فى الدّماغ و يؤدي إلى تلك الفضائل النفسانية، و فى الطوال من الناس على عكس ذلك.
قوله عليه السّلام (و معروف الضريبة منكر الجليبة) هذه الطّائفة الخامسة منها و هى أيضا يضاد ظاهرها باطنها و ينافي خلقها أخلاقها و المعنى الصحيح لهذه الجملة ان بعضا من الناس يكون ذا خلقة حسنة و طبيعة طيّبة يحبّ مكارم الخصال و محاسن الافعال بحسب ضريبته المعروفة و يتنفّر عن الفحشاء و الصفات الرذيلة و مع ذلك يستجلب إليه رذائل الاخلاق و مقابح الاعمال لدواع نفسانيّة و تسويلات شيطانية
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 63
و عوارض و حوادث بها يعرض عن مقتضى طبيعته السليمة و فطرته الكريمة فيرتكب الفواحش و المعاصى و الرذائل و إليه يرجع ما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّ اللّه يحبّ العبد و يبغض عمله و ذلك كما ترى رجلا يحب السخاء و الجود و يكون جوادا سخيا بالطبع و لكن قد يعرضه املاق فيسلك مسلك البخلاء و آخر يتنفر بطبعه عن المعاصى و لكن قرينه السوء مثلا يجرّه إليها و هكذا و لا يخفى أن معروف الضريبة يلتذ عن الأعمال الحسنة و الصفات الحميدة و ان عرضته احيانا اضدادها زالت عنه بسرعة لان اتصافه بها و اقتحامه فيها يكون قسرا بعائق و متى زال العائق يعود إلى أصله المعروف و القسرى لا يدوم بل هو سريع الزوال فالمؤمن الموحّد الذي ليس من أهل المعاصى و الفجور و يستبشعها طبعا و يستقبحها إذ ابتلى بها و ارتكبها آثما خائفا من اللّه جل جلاله في إتيانها فلا جرم يندم على ارتكابها إذا رجع إلى عقله و اناب إلى ربّه و هو الّذي يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيّئات و بذلك التحقيق فسر قوله تعالى «يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً».
و ورد فيه حديث تابى نفسى الّا ايراده في هذا المقام لتضمنه هذه الدقيقة روى الصّدوق (ره) فى التوحيد بإسناده عن زيد بن وهب عن أبي ذرّ قال خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمشى وحده ليس معه إنسان فظننت انّه يكره أن يمشى معه أحد قال (ره) فجعلت امشى في ظل القمر فالتفت فرآنى فقال من هذا فقلت أبو ذر جعلنى اللّه فداك فقال يا أبا ذر تعال فمشيت معه ساعة فقال إنّ المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلّا من أعطاه اللّه خيرا فنفخ منه بيمينه و شماله و بين يديه و ورائه و عمل فيه خيرا قال فمشيت ساعة فقال صلّى اللّه عليه و آله اجلس ههنا و أجلسني في قاع حوله حجارة فقال لي اجلس أرجع إليك قال و انطلق فى الحرّة حتّى لم أره و تواري عنّى و أطال اللبث ثمّ إنّى سمعته و هو مقبل يقول و ان زنى و ان سرق قال فلماء جاء لم اصبر حتّى قلت له يا نبى اللّه جعلنى اللّه فداك من تكلّمه فى جانب الحرّة فانى ما سمعت أحدا يردّ عليك شيئا فقال صلّى اللّه عليه و آله ذاك جبرئيل عرض لى فى جانب الحرّة فقال ابشر امتك انّه من مات لا يشرك باللّه عزّ و جل شيئا دخل الجنّة قال قلت
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 64
يا جبرئيل و ان زنى و إن سرق و ان شرب الخمر قال نعم و ان شرب الخمر انتهى.
و من ذلك الحديث يستفاد ما ذكرنا من أن ارتكاب المعاصى للمؤمن قسرى و يعرض عنها لا محالة فيتوب إلى اللّه و اللّه هو التوّاب الرحيم فالعاصى لما تاب دخل الجنّة كما قال الصّدوق (ره) أيضا بعد ذكر هذا الخبر: يعنى بذلك انّه يوفق للتّوبة حتّى يدخل الجنّة.
ثمّ انّ ابن ميثم (ره) لم يسلك في تمثيل هذه الجملة و تشبيهه و تعليله طريق الصواب لأنه قال قوله عليه السّلام: «معروف الضريبة منكر الجليبة» أى يكون له خلق معروف يتكلف ضده فيستنكر منه و يظهر عليه تكليفه كأن يكون مستعدا للجبن فيتكلف الشجاعة أو بخيلا فيتكلف السخاوة فيستنكر منه ما لم يكن معروفا منه و هو أكثري و ذلك لمحبّة النفوس للكمالات، فترى البخيل يحبّ ان يعدّ كريما فيتكلف الكرم و الجبان يحبّ أن يعد شجاعا فيتكلّف الشجاعة انتهى و كذا المترجم القاساني (ره) مشى حذوه و لا يخفى انّ ما ذهب إليه و اختاره و علّله يقتضى أن تكون الجملة هكذا:
«و منكر الضريبة معروف الجليبة» كما يظهر بادنى تأمل و الصواب أن يقول كان يكون مستعدا للشجاعة فيتكلّف الجبن أو سخيا فيتكلف البخل و كذلك تعليله بقوله و ذلك لمحبة النفوس آه ليس بصحيح و ظنى ان عبارة الشارح المعتزلي أوقعتهما فيه حيث قال قوله عليه السّلام «و معروف الضريبة منكر الجليبة» الجليبة هى الخلق الذي يتكلفه الإسنان و يستجلبه مثل ان يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة أو شحيحا بالطبع فيتكلف الجود، و حسبا ان قوله مثل أن يكون اه بيان لقوله عليه السّلام معروف الضريبة منكر الجليبة و غفلا عن أنه يكون بيانا للجليبة.
قوله عليه السّلام (و تائه القلب متفرق اللب و طليق اللّسان حديد الجنان) هذان القسمان يتشاركان في مناسبة ظاهرهما لباطنهما فهما يخالفان الاقسام الخمسة السالفة كما يفارق القسم الأوّل منهما تاليه بانّه ذمّ و ذلك مدح لأن الطائفة الاولى منهما همج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كلّ ريح لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجئوا إلى ركن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 65
وثيق و لو رزقوا نور العلم و استمسكوا بالعروة الوثقى لم يكونوا تائهى القلب متفرقى اللب في كلّ سانحة و عارضة اقبلت أو أدبرت و كانوا كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف، و لا يخفى حسن صنيعته عليه السّلام جمع بين التام و الناقص، و الماد و القصير و الزاكي و القبيح، و القريب و البعيد، و المعروف و المنكر و ما روعى من السجع المتوازي بين قرينتى الاخيرين.
ثمّ اعلم ان في هذا المقام اخبارا مروية عن أهل بيت العصمة و الطّهارة منقولة شرذمة منها في كتاب الايمان و الكفر من الكافي لرئيس المحدثين ثقة الاسلام الكليني (ره) و ما ذكر فيه من أبواب الطينات و بدء الخلائق و بيانها ينجرّ الى بحث طويل الذيل لانها صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبى مرسل أو مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان و كذا في المقام لعرفائنا الشامخين كلاما كانه سرّ ما في تلك الأخبار و هو على سبيل الاجمال ان سر اختلاف الاستعدادات و تنوع الحقائق فهو تقابل صفات اللّه تعالى و اسمائه الحسنى التي من أوصاف الكمال و نعوت الجلال و ضرورة تباين مظاهرها التي بها يظهر أثر تلك الأسماء فكل من الاسماء يوجب تعلّق ارادته سبحانه و قدرته إلى إيجاد مخلوق يدلّ عليه من حيث اتصافه بتلك الصفة فلا بدّ من إيجاد المخلوقات كلّها اختلافها و تباين أنواعها لتكون مظاهر لأسمائه الحسنى جميعا و مجالي لصفاته العليا قاطبة فلكل اسم من اسمائه الحسنى و صفة من صفاته العليا مظهر في الوجود العلمي و العيني.
قال القيصري في شرح الفصوص و كلّ واحد من الاقسام الأسمائية يستدعى مظهرا به يظهر أحكامها و هو الأعيان فإن كانت قابلة لظهور الأحكام الأسمائية كلّها كالأعيان الإنسانيّة كانت في كلّ آن مظهرا لشأن من شئونها و إن لم يكن قابلة لظهور أحكامها كلّها كانت مختصّة ببعض الأسماء دون البعض كالأعيان الملائكة و دوام الأعيان في الخارج و عدم دوامها فيها دنيا و آخرة يراجع إلى دوام الأسماء و عدم دوامها.
و لنعم ما قال العارف الرّومى في المثنوي:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 15، ص: 66
آدم اسطرلاب گردون علوست وصف آدم مظهر آيات اوست
هر چه در وى مى نمايد عكس اوست همچو عكس ماه اندر آب جوست
خلق را چون آب دان صاف و زلال اندر او تابان صفات ذو الجلال
علمشان و عدلشان و لطفشان چون ستاره چرخ بر آب روان
پادشاهان مظهر شاهى حق عارفان مرآت آگاهى حق
خوبرويان آينه خوبى او عشق ايشان عكس مطلوبى او
جمله تصويرات عكس آب جوست چون بمالي چشم خود خود جمله اوست
الترجمة:
از كلام آن حضرت عليه السّلام است كه يماني از أحمد بن قتيبة از عبد اللّه بن يزيد از مالك دحيه كه او گفت: در نزد أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بوديم كه در حضرت او سخن از اختلاف مردمان در خلق و خلق بميان آمد، فرمود:
بدرستى كه جدائى انداخته است و فرق نهاده است ميان مردم از مبادى طينت و سرشت ايشان يعنى از جهت صفات و حالات عناصر كه از آن خلق شده اند بدين أحوال گوناگون در خلق و خلق متصف شده اند چه ايشان پاره از زمين شوره و شيرين و خاك درشت و نرم بودند پس بحسب نزديكى خاكشان بيكديگر قرب پيدا ميكنند و بقدر اختلاف آن متفاوت مى گردند پس يكى نيكو منظر كم عقلست و يكى كشيده قامت كوتاه همت و يكى پاكيزه كردار زشت روى و يكى نزديك تك دور انديش است (قريب القعر كنايه از اين كه قامت او كوتاه است، و بعيد السبر كنايه از اين كه دور انديش و زيرك است كه باسانى كسى نمى تواند از نهاد او و أسرار وى آگاه شود) و يكى نيكو خوى و بد بسوى خود كشنده است «يعنى اصل طبيعت و سرشت او خوب است و دوستدار اخلاق و اعمال نيكو است و لكن جهت غرضى و پيش آمدى خصال بد را بتكلف بسوى خود مى كشاند مثل اين كه أصلا شخص صادق است و بغرضى دروغ مى گويد و يا طبيعة مردي بخشنده است و از جهتى در جائى زفتى ميكند و هكذا) و يكى سرگشته دل پراكنده عقلست و يكى گشاده زبان تيز دل.