منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 345
و من كتاب له عليه السّلام الى ابن عباس و كان يقول عبد اللّه: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله كانتفاعى بهذا الكلام. و هذا هو المختار الثاني و العشرون من باب كتب أمير المؤمنين عليه السّلام و رسائله:
أمّا بعد فإنّ المرأ، يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه؛ فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، و ليكن أسفك على ما فاتك منها. و ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا، و ليكن همّك فيما بعد الموت. (57758- 57705)
المصدر:
رواه مسندا أبو الفضل نصر بن مزاحم المنقري المتوفّي 212 ه في كتاب صفين (ص 58 من الطبع الناصري) قال: و في حديث عمر بن سعد قال: و كتب عليّ عليه السّلام إلى عمّاله فكتب: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن عبّاس أمّا بعد فإنّ الإنسان قد يسرّه ما لم يكن ليفوته و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه و إن جهد؛ فليكن سرورك فيما قدّمت من حكم أو منطق أو سيرة، و ليكن أسفك على ما فرّطت للّه فيه من ذلك، و دع ما فاتك من الدّنيا فلا تكثر به حزنا، و ما أصابك فيها فلا تبغ به سرورا؛ و ليكن همّك فيما بعد الموت، و السّلام.
و نقله اليعقوبي المتوفّي حدود 300 من الهجرة في تاريخه (ص 181 ج 2) و قال: كتب أبو الأسود الدئلي- و كان خليفة عبد اللّه بن عبّاس بالبصرة- إلى عامله عليّ عليه السّلام يعلمه أنّ عبد اللّه أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم فكتب إليه يأمره بردّها فامتنع فكتب يقسم له باللّه لتردنّها فلمّا ردّها عبد اللّه بن عباس أو ردّ أكثرها كتب إليه عليّ عليه السّلام: أمّا بعد فإنّ المرأ يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه فما أتاك من الدّنيا فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعا و اجعل همّك لما بعد الموت، و السلام.
قال اليعقوبيّ: فكان ابن عبّاس يقول: ما اتّعظت بكلام قطّ اتّعاظي بكلام أمير المؤمنين عليه السّلام. انتهى.
و رواه ثقة الإسلام الكلينيّ المتوفّى 329 ه في الروضة من الكافي (ص 219 الطبع الحجري 1301 ه) و هو حديث 327 منها، قال: عدّة من أصحابنا، عن سهل ابن زياد، عن عليّ بن أسباط رفعه قال: كتب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى ابن عبّاس أمّا بعد فقد يسرّ المرأ ما لم يكن ليفوته، و يحزنه ما لم يكن ليصيبه أبدا و إن جهد؛ فليكن سرورك بما قدّمت من عمل صالح أو حكم أو قول، و ليكن أسفك فيما فرّطت فيه من ذلك ودع ما فاتك من الدّنيا فلا تكثر عليه حزنا و ما أصابك منها فلا تنعم به سرورا و ليكن همّك فيما بعد الموت، و السلام.
و أتى الفيض برواية الكلينيّ في الوافي (ص 63 ج 14) في باب مواعظ أمير المؤمنين عليه السّلام، و المجلسيّ في مرآة العقول (ص 354 ج 4 من المطبوع على الحجر).
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 346
و رواه عليّ بن شعبة المتوفّى 332 ه في تحف العقول (ص 46 الطبع الحجري 1297 ه و ص 197 من الطبع المترجم بالفارسى في طهران 1384 ه) و ما رواه قريب من النهج و يخالفه قوله: فليكن سرورك بما نلته من آخرتك و ليكن أسفك على ما فات منها، و ما نلته من الدّنيا و لا تكثرنّ به فرحا، و ما فاتك منها و لا تأسفنّ عليه حزنا، و ليكن همّك فيما بعد الموت، انتهى.
و رواه أبو عليّ إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي المتوفّى 356 ه في الأمالي (ص 94 ج 2 طبع مصر) المعنون بقوله: كتاب عليّ بن أبي طالب إلى ابن عبّاس رضي اللّه عنهما بموعظة من أحسن المواعظ، و حدّثنا أبو بكر بن دريد رحمه اللّه قال حدّثنا العكلي عن أبيه قال: بلغني عن ابن عبّاس أنّه قال: كتب إليّ عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه بموعظة ما سررت بموعظة سروري بها! أمّا بعد، فإنّ المرء يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما نالك من دنياك فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تتبعه أسفا، فليكن سرورك بما قدّمت، و أسفك على ما خلّفت، و همّك فيما بعد الموت.
و نقله القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفّى 403 ه في كتاب اعجاز القرآن (هامش الاتقان للسيوطي ج 1 ص 195 طبع مصر 1318 ه) قال: كتب عليّ إلى عبد اللّه بن عبّاس و هو بالبصرة: أمّا بعد فإنّ المرء يسرّ بدرك ما لم يكن ليحرمه و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه فليكن سرورك بما قدّمت من أجر أو منطق، و ليكن أسفك فيما فرّطت فيه من ذلك و انظر ما فاتك من الدّنيا فلا تكثر عليه جزعا، و ما نلته فلا تنعم به فرحا و ليكن همّك لما بعد الموت.
و نقله العلّامة الشيخ بهاء الدّين العاملي في المجلّد الثالث من الكشكول (ص 284 طبع نجم الدولة، و ص 562 من طبع قم) قال: قال ابن عبّاس ما اتّعظت بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله بمثل كتاب كتبه إليّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أمّا بعد فإنّ الإنسان يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، و يسؤوه فوت ما لم يكن ليدركه فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا، و لا بما فاتك منها ترحأ؛ و لا تكن ممّن يرجو الاخرة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 347
بغير عمل، و يرجو التّوبة بطول الأمل، فكان و قد، و السّلام.
و رواه سبط ابن الجوزي في التذكرة (ص 89 من الطبع الرّحلي الناصري 1285 ه) قال: «فصل» في ذكر قصة جرت له عليه السّلام مع عبد اللّه بن عبّاس رضي اللّه عنه: أخبرنا أبو الحسن بن النجّار المقريّ قال: حدّثنا محمّد بن أبي منصور قال:
حدّثنا أحمد بن عليّ بن سوار قال: حدّثنا أحمد بن عبد الواحد بن محمّد الحريريّ قال: حدّثنا أحمد بن محمّد الجنديّ قال: حدّثنا أبو حامد محمّد بن هارون الخضرمي قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد الجوهريّ قال: حدّثنا المأمون عبد اللّه بن هارون عن أبيه هارون، عن أبيه محمّد المهديّ، عن أبيه أبي جعفر المنصور، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن عبد اللّه، عن أبيه عبد اللّه بن عبّاس قال: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله كانتفاعي بكلام كتب به أمير المؤمنين كتب إليّ:
سلام عليك أمّا بعد فإنّ المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه و يسرّه درك ما لم يكن ليفوته فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك و ليكن أسفك على ما فاتك منها و ما فاتك من الدّنيا فلا تأسفنّ عليه و ليكن همّك فيما بعد الموت، و السلام.
قال السبط: و قد روى السديّ هذا عن أشياخه و قال عقيبه: كان الشيطان قد نزع بين ابن عبّاس و بين عليّ عليه السّلام مدّة ثمّ عاد إلى موالاته- إلخ. انتهى.
و قد نقله الرضيّ رضوان اللّه عليه في أواخر هذا الباب برواية اخرى و هو المختار السادس و الستّون منه، قال: و من كتاب كتبه عليه السّلام إلى عبد اللّه بن العبّاس رحمه اللّه و قد مضى هذا الكتاب فيما تقدّم بخلاف هذه الرّواية: أمّا بعد فإنّ العبد يفرح بالشيء الّذي لم يكن ليفوته، و يحزن على الشيء الّذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ و لكن إطفاء باطل أو إحياء حقّ، و ليكن سرورك بما قدّمت، و أسفك على ما خلّفت و همّك فيما بعد الموت.
و قد نقل المجلسيّ رحمه اللّه روايتي النّهج في المجلّد الثامن من البحار (ص 633 و 634 من الطبع الكمباني)،
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 348
و سيأتي ذكر القصّة الّتي أشار إليها اليعقوبي و سبط ابن الجوزي في شرح المختارين 40 و 41 من هذا الباب، الأوّل منهما معنون بقول الرّضي و من كتاب له عليه السّلام إلى بعض عمّاله: أمّا بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك- إلخ، و الثاني و من كتاب له عليه السّلام إلى بعض عمّاله:
أمّا بعد فإنّي كنت أشركتك- إلخ، و إنّما نقلت النسخ الّتي وجدتها بحذافيرها لما رأيت من الاختلاف فيها، و من أنّ ذكر مواقع الاختلاف كان أطول من نقلها.
اللغة:
(درك) بالتحريك و يسكن أيضا: اللحاق و الوصول إلى الشيء بعد طلبه، قال الزمخشريّ في الأساس: و «اللّهمّ أعنّي على درك الحاجة» أي على إدراكها و قال ابن الأثير في النّهاية: في الحديث «أعوذ بك من درك الشقاء» الدّرك: اللحاق و الوصول إلى الشيء و أدركته إدراكا و دركا، و منه الحديث: لو قال إن شاء اللّه لم يحنث و كان دركا له في حاجته. و قال الفيّومي في المصباح: الدرك بفتحتين و سكون الراء لغة من أدركت الشيء و أدركته إذا طلبته فلحقته.
(نلت) من النيل يقال: نال من عدوّه ينال و ينيل من بابي ضرب و علم نيلا و نالا و نالة بلغ منه مقصوده و منه قيل: نال من امرأته ما أراد و نال من مطلوبه المراد و يتعدّي بالهمزة إلى اثنين فيقال: أنلته مطلوبه فناله و المطلوب منيل، و الرّجل نائل.
(فلا تأس عليه) أي لا تحزن، يقال: أسي عليه أسى من باب علم أي حزن فهو آس و أسيان و هي آسية و أسيانة، و أسى لفلان أي حزن له.
(ترحا) على رواية الشيخ في الكشكول، بفتحتين: ضدّ الفرح.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 349
الاعراب:
الضمير في لم يكن في الموضعين يرجع إلى ما و كذا ضمير الفعلين يفوت و يدرك، و الضمير المنصوب فيهما يرجع إلى المرء بقرينة قوله ما فاتك، و أمكن أن يرجع ضمير الأفعال إلى المرء، و الضميران المنصوبان إلى ما.
المعنى:
قد شرحه العالم الجليل المولى محمّد صالح المازندراني في شرحه على روضة الكافي بقوله: يعني أنّ المرأ يكون من هذه الحالة و هي أنّه تسرّه إصابة ما ينفعه، و يحزنه فواته، و ما ينفع على قسمين: أحدهما ما ينفع في الاخرة، و ثانيهما ما ينفع في الدّنيا؛ و العاقل اللّبيب ينبغي أن يسرّ بإصابة الأوّل، و يحزن بفواته و إليه أشار بقوله: فليكن سرورك بما قدّمت من عمل صالح أو حكم بالعدل أو قول بالحقّ و ليكن أسفك و حزنك فيما فرّطت فيه من ذلك فانّ هذا السرور أبديّ و هذا الحزن مع كونه ندامة و عبادة موجب للزيادة و التدارك، و أن لا يحزن بفوات الثاني و لا يسرّ باصابته و إليه أشار بقوله: ودع ما فاتك من الدّنيا فلا تكثر عليه حزنا و ما أصابك منها فلا تنعم به سرورا كما يسرّ و ينعم أهل الدّنيا يقال: نعم العود كفرح إذا اخضرّ و نضر، ثمّ أمر بما هو كالسبب بجميع ذلك بقوله: و ليكن همّك فيما بعد الموت و السلام لأنّ التذكير بهادم اللّذات و التخويف بذكره تنفير عن محبّة الدّنيا و الحزن بفواتها و ترغيب في محبّة الاخرة و العمل لها و الحزن بفواتها. انتهى.
و أقول: هذا الكتاب مقتبس من قول اللّه عزّ و جلّ: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» (التغابن- 12)، و قوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» (الحديد- 24)، نعم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 350
كلّ ما أفاده رسول اللّه و أهل بيته إنّما هو مقتبس من القرآن الكريم و ما روى عنهم عليهم السّلام فإنّما هو بيان بطون الايات و حقائقها المستورة عن غيرهم، و أصل الجميع القرآن و لا بدّ من أن يرجع المروي عنهم إليه، إنّ اللّه تعالى يقول: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (النحل- 92) و في الكافي بإسناده عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه و لكن لا تبلغه عقول الرّجال، (الوافي ص 61 ج 1).
و فيه بإسناده عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السّلام إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب اللّه، ثمّ قال في بعض حديثه إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله نهى عن القيل و القال و فساد المال و كثرة السؤال فقيل له: يا ابن رسول اللّه أين هذا من كتاب اللّه؟ قال: إنّ اللّه تعالى يقول: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ»، و قال: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً»، و قال: «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» (الوافي ص 61 ج 1).
و حاصل الفصل أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أشار فيه إلى حقيقة و فرّع عليها أمرين، و الحقيقة: أنّ ما يناله الإنسان أو يفوته فانّما كان بقضاء اللّه المحتوم المقطوع أن يناله أو يحرمه فلا يصحّ الفرح و الجزع بما كان حصوله و فواته كذلك، و قد قال عليه السّلام كما يأتي في الحكمة 439: الزّهد كلّه بين كلمتين من القرآن قال اللّه سبحانه: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» و من لم يأس على الماضي و لم يفرح بالاتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.
و نحوه ما رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي بإسناده، عن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام على المنبر: لا يجد أحدكم (أحد- خ ل) طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه، (الوافي ص 54 ج 3).
و بإسناده عن صفوان الجمّال، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 351
ليخطئه و أنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه و أنّ الضارّ النّافع هو اللّه تعالى (الوافي ص 54 ج 3).
و روى بإسناده عن الثمالي، عن سعيد بن قيس الهمداني قال: نظرت يوما في الحرب إلى رجل عليه ثوبان فحرّكت فرسي فإذا هو أمير المؤمنين عليه السّلام فقلت:
يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضع؟ فقال: نعم يا سعيد بن قيس إنّه ليس من عبد إلّا و له من اللّه تعالى واقية معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو يقع في بئر فإذا نزل القضاء خلّيا بينه و بين كلّ شيء (الوافي ص 54 ج 3).
و روى نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين (ص 128 من الطبع الناصري) عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي إسحاق قال: خرج عليّ يوم صفين و في يده عنزة فمرّ على سعيد بن قيس فقال له سعيد: أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد و أنت قرب عدوّك؟ فقال له عليّ عليه السّلام: إنّه ليس من أحد إلّا عليه من اللّه حفظة يحفظونه من أن يتردّى في قليب أو يخرّ عليه حائط أو تصيبه آفة فإذا جاء القدر خلّوا بينه و بينه.
و قال ابن قتيبة الدينوريّ في الإمامة و السياسة (ص 162 ج 1) في مقتل أمير المؤمنين عليه السّلام جاء رجل من مراد إلى عليّ عليه السّلام فقال له يا أمير المؤمنين احترس فإنّ هنا قوما يريدون قتلك، فقال: إنّ لكلّ إنسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خلّياه.
و هذه الأخبار في الحفظة مأخوذة من قول اللّه عزّ و جلّ: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» (الرّعد- 13) و قوله تعالى: «إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» (الانفطار 11- 13)، و قوله عزّ من قائل: «وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ» (الأنعام- 62).
و المرويّ أيضا عن الباقر عليه السّلام في قوله: له معقّبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر اللّه: من أمر اللّه يقول بأمر اللّه من أن يقع في ركيّ، أو يقع عليه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 352
حائط أو يصيبه شيء حتّى إذا جاء القدر خلّوا بينه و بينه إلى المقادير و هما ملكان يحفظانه باللّيل و ملكان بالنهار يتعاقبانه.
و المؤمن العارف بسرّ القدر لا يفرح بما ناله و لا يحزن على ما فاته لعلمه بأنّ قضاء اللّه و قدره في نظام العالم أوجبا وقوع الأوّل و فوت الثاني فلم يكن الأوّل ليفوته و لا الثاني ليدركه و قد قال صلّى اللّه عليه و اله: جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم الدّين فالحزن على فوات شيء محتوم عليه أن يفوته، و الفرح بحصول شيء مقطوع الحصول لما ذا؟ و للعارف قلب مطمئنّ لا يرى إلّا اللّه و لا يرجو إلّا إيّاه و لا يخاف إلّا منه، و لا يحسد و لا يعادي أحدا و لا يحزن و لا يبطر، و قد ورد في الخبر كما في تفسير النيسابوري في سورة الحديد: من عرف سرّ اللّه في القدر هانت عليه المصائب، و نعم ما في تفسير المجمع من أنّ في قوله تعالى: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» إشارة إلى أربعة أشياء: الأوّل حسن الخلق لأنّ من استوى عنده وجود الدّنيا و عدمها لا يحسد و لا يعادي و لا يشاحّ فإنّ هذه من أسباب سوء الخلق و هي من نتائج حبّ الدّنيا، و ثانيها استحقار الدّنيا و أهلها إذا لم يفرح بوجودها و لم يحزن لعدمها، و ثالثها تعظيم الاخرة لما ينال فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب، و رابعها الافتخار باللّه دون أسباب الدّنيا.
قال: و يروى أنّ عليّ بن الحسين عليهما السّلام جاءه رجل فقال له: ما الزّهد؟ قال: الزّهد عشرة أجزاء: فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا؛ و أنّ الزهد كلّه في آية من كتاب اللّه: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ».
قال: و قيل لبزرجمهر: مالك أيّها الحكيم لا تأسف على ما فاتك و لا تفرح بما هو آت؟ فقال: إنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة، و الاتي لا يستدام بالحبرة.
و عن عبد اللّه بن مسعود قال: لئن الحسن جمرة أحرقت ما أحرقت و أبقت ما أبقت أحبّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 353
إليّ من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان. انتهى. و نعم ما قيل:
لا تطل الحزن على فائت فقلّما يجدي عليك الحزن
سيّان محزون على ما مضى و مظهر حزنا لما لم يكن
و المروي عن الإمام الصّادق عليه السّلام: يا ابن آدم ما لك تأسو على مفقود لا يردّه إليك الفوت، و مالك تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت.
و التّفريع الأوّل أنّ ما ينبغي أن يسرّ المرء به هو ما ناله من الحقائق الّتي تفيده في ما بعد موته و ينبغي له أن يأسف على فوتها، و الثاني أنّ ما ناله من الدّنيا و ما فاته منها هو ما لا قدر له أن يفرح به أو يجزع عليه، ثمّ أكّد الأوّل بقوله و ليكن همّك فيما بعد الموت.
قال الفاضل الشارح المعتزلي في المقام: و لقائل أن يقول: هب أنّ الامور كلّها بقضاء و قدر فلم لا ينبغي للإنسان أن يفرح بالنفع و إن وقع بالقدر، و يساء بفوته أو بالضرر و إن وقعا بقدر؟ أليس العريان يساء بقدوم الشتاء و إن كان لا بدّ من قدومه، و المحموم غبّا يساء بتجدّد نوبة الحمّي و إن كان لا بدّ من تجدّدها؟
فليس سبب الإختيار في الأفعال ممّا يوجب أن يسرّ الإنسان و لا يساء بشيء منها.
قال: و الجواب ينبغي أن يحمل هذا الكلام على أنّ الإنسان ينبغي أن لا يعتقد في الرزق أنّه أتاه بسعيه و حركته فيفرح معجبا بنفسه معتقدا أنّ ذلك الرزق ثمرة حركته و اجتهاده، و كذلك ينبغي أن لا يساء بفوات ما يفوته من المنافع لائما نفسه في ذلك ناسبا لها إلى التقصير و فساد الحيلة و الاجتهاد لأنّ الرزق هو من اللّه تعالى لا أثر للحركة فيه و إن وقع عندها و على هذا التأويل ينبغي أن يحمل قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة- إلخ، انتهى كلامه.
و أقول: الظاهر أنّ المراد من الأسى و الفرح المنهيّين ما بلغ حدّ الجزع و البطر و الاختيال المنسية عن ذكر اللّه بقرينة قوله تعالى في ذيل الاية: «وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ». لا ما لا يملك ردّه و لا يستطاع دفعه من الأسى و الفرح
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 354
لا يخلو منهما بشر على الغريزة و الفطرة تكوينا، نظير ما رواه الكلينيّ في الكافي و الصّدوق في الفقيه: لمّا مات إبراهيم ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله هملت عين رسول اللّه بالدّموع ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله: تدمع العين و يحزن القلب (يحزن القلب و تدمع العين- كما في الفقيه) و لا نقول ما يسخط الربّ (ص 88 ج 13 من الوافي).
ثمّ إنّ الأسى و الفرح في كلامه عليه السّلام و في قوله عزّ و جلّ يعمّان حصول الرزق و فوته و غيره ممّا لم يكن برزق فلا وجه لاختصاصهما بالرزق فقط، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الشارح المذكور أراد من الرزق أعمّ ممّا تربّى به الحيوان من الأغذية و الأشربة كما هو مذهب الاعتزال و الشارح منهم فإنّ الرزق عند المعتزلة هو كلّما صحّ انتفاع الحيوان به بالتغذّي أو غيره كما أشار إليه العلّامة الشيخ البهائي في شرح الحديث الثالث عشر من كتابه الأربعين.
و ليعلم أنّ ما مضى من القول بأنّ قضاء اللّه و قدره أوجبا ما أوجبا و أنّ ما أصاب المرأ لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه و نظائرها لا تنافي ما ورد في القرآن و الأخبار من الحثّ على الدّعاء و الطلب إلى اللّه تعالى و إلّا لما أمرنا اللّه تعالى و رسوله و أهل البيت بالسؤال و الدّعاء و قد قال عزّ من قائل: «ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ» (آخر الفرقان)، و قال: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» (المؤمن، الغافر- 60) و قال تعالى: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (الأعراف- 55 و 56)، و قال تعالى: «وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (البقرة- 184).
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله: ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم و يدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: تدعون ربّكم باللّيل و النّهار فإنّ سلاح المؤمن الدّعاء.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 355
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الدّعاء ترس المؤمن و متى تكثر قرع الباب يفتح لك.
و قال الصّادق عليه السّلام: الدّعاء أنفذ من السنان الحديد.
و قال الكاظم عليه السّلام: إنّ الدّعاء يردّ ما قدّر و ما لم يقدّر، قلت (أي قال الراوي) ما قدّر فقد عرفته فما لم يقدّر؟ قال عليه السّلام حتّى لا يكون.
و قال عليه السّلام: عليكم بالدّعاء فإنّ الدّعاء و الطلب إلى اللّه. تعالى يردّ البلاء و قد قدّر و قضى فلم يبق إلّا إمضاؤه فإذا دعى اللّه و سئل صرفه صرفه.
و روى زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ألا أدلكم على شيء لم يستثن فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله؟ قلت: بلى، قال: الدّعاء يردّ القضاء و قد أبرم إبراما و ضمّ أصابعه.
و عن سيّد العابدين عليه السّلام: إنّ الدّعاء و البلاء ليتوافقان إلى يوم القيامة إنّ الدّعاء ليردّ البلاء و قد أبرم إبراما.
و عنه عليه السّلام: الدّعاء يدفع البلاء النازل و ما لم ينزل.
و قد أتى بهذه الروايات الفقيه الحبر المحقّق أحمد بن فهد الحلّي قدّس سرّه في أوّل كتاب عدّة الدّاعي و نجاح الساعي و الروايات في ذلك كثيرة جدّا و الكتب المؤلّفة فيه غير عزيزة، نعم إنّ القضاء ينقسم إلى قضاء ثابت محتوم لا يتغيّر و قضاء متغيّر و ما نحن فيه من الثّاني فإيّاك أن تظنّ أنّ الدّعاء ينافي القول بالقضاء فإنّه «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» (الرّعد- 41)، و في ضمن هذه الاية روايات دقيقة و مطالب أنيقة لعلّنا نبحث عنها في شروحنا الاتية في فصل نعقد في ذلك إن شاء اللّه تعالى. و قد قدّمنا نبذة من البحث عن استجابة الدّعاء في شرحنا على المختار 236 من باب الخطب (ص 359- 362 ج 15) فراجع.
الترجمة:
اين نامه ايست كه أمير عليه السّلام به عبد اللّه عبّاس نوشت و او مى گفت كه من بعد از گفتار رسول خدا به هيچ گفتارى چون اين كلام أمير بهره نبردم:
امّا بعد براستى مرد را رسيدن چيزى باو كه نمى بايستى از او فوت شود شاد ميكند، و فوت چيزى كه نمى بايستى آن را بدست آورد اندوهگين مى سازد، پس بايد شادى تو به آن چه باشد كه براى آخرتت اندوختى، و اندوه تو بفوت چنان چيزي، و آنچه كه از دنيا عايدت شده بسيار بان شادمانى مكن، و آنچه كه از آن از تو فوت شد بى تابى مكن، و بايد همّت براى بعد از مرگت مصروف باشد.