منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 119
فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها، و تلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثا، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف طريق المتاهة. (64917- 64789)
اللغة:
(التقمّم): أكل الشاة ما بين يديها بمقمتّها أي بشفتها (تكترش من أعلافها): أي تملأ كرشها من العلف، و الكرش للشاة بمنزلة المعدة للإنسان، و يقال (أجررته) رسنه: أى أهملته، (الاعتساف): السلوك في غير طريق (المتاهة): أرض يتاه فيها لعدم وجود الطريق.
الاعراب:
همّها علفها، جملة حالية عن البهيمة، شغلها تقمّمها مبتدأ و خبر و الجملة حال عن المرسلة، أو اترك سدى عطف على قوله يشغلني و كذلك قوله اهمل و اجرّ و اعتسف.
***
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 120
بقية من المختار الرابع و الاربعين من كتبه عليه السّلام:
و كأنّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران، و منازلة الشّجعان؟! ألا و إنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عودا، و الرّوائع الخضرة أرقّ جلودا، و النّابتات العذية [و النّباتات البدويّة] أقوى وقودا و أبطأ خمودا! و أنا من رسول اللّه كالصّنو من الصّنو و الذّراع من العضد، و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، و لو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، و سأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس، و الجسم المركوس حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد. (65008- 64918)
اللغة:
(الأقران): جمع قرن و هو الكفو في المبارزة و القتال، (الشجرة البرّيّة): الّتي تنبت في البرّ الّذي لا ماء فيه، (الروائع): جمع رائعة و هي الشجرة النابتة على الماء، (النابتات العذية) بسكون الذال: الزرع لا يسقيه إلّا ماء المطر، (الصنو): إذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكلّ واحدة منها هي صنو أو صنو، (ركس) ركسا الشيء: قلب أوّله على آخره.
المعنى:
كان المخالفون لعليّ عليه السّلام يعترضون عليه حتّى في زهده و رياضته و يذمّون قلّة أكله باعتبار أنّه مخلّ بما يجب عليه من وظيفة الجهاد و الدفاع عن العدوّ، لأنّه موجب لضعفه و قلّة مقاومته تجاه العدوّ الشجاع اللدود، و كأنّه ارتفع صدى هذا الاعتراض من الكوفة إلى البصرة فتذكّر عليه السّلام في هذا الكتاب وجه الدفاع عنه بقوله: (ألا و إنّ الشجرة البرّية أصلب عودا و الروائع الخضرة أرقّ جلودا).
و يمكن أن يكون هذا الكلام جوابا عن اعتراض ربما يرد على تحريص
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 121
أصحابه بالزهد و قلّة الأكل و المواظبة على جشوبة العيش، فدفعه عليه السّلام بأنّ القوّة و الشجاعة ذاتيّة للمؤمن و لا تتوقّف على تقوية الجسم بالأغذية اللذيذة.
ثمّ أيّد سيرته هذه بمتابعته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: (أنا من رسول اللّه) كغصنان من أصل واحد فأصلهما عبد المطلب عليه السّلام تفرّع منه عبد اللّه أبو النبيّ و أبو طالب أبو عليّ عليه السّلام أو أنّهما مشتقّان من أصل نوريّ واحد في تسلسل الوجود و انبعاثه عن المصدر الأزلي كما في غير واحد من الأخبار، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا و عليّ من شجرة واحدة و سائر النّاس من شجر شتّى. و هذه الرواية تؤيّد النسخة الّتي روت قوله (كالصّنو من الصّنو) بالصّاد المهملة بعدها نون معجمة.
و نسخة شرح ابن أبى الحديد «289 ج 16 ط مصر»: «كالضوء من الضوء» بالضّاد المعجمة، و بهذا الاملاء فسّره في شرحه فقال: (ص 290) و ذلك لأنّ الضّوء الأوّل يكون علّة في الضّوء الثاني، ألا ترى أنّ الهواء المقابل للشّمس يصير مضيئا من الشّمس، فهذا الضوء هو الضوء الأوّل.
ثمّ إنّه يقابل وجه الأرض فيضيء وجه الأرض منه، فالضوء الّذي على وجه الأرض هو الضوء الثاني، و ما دام الضّوء الأوّل ضعيفا فالضّوء الثاني ضعيف، فإذا ازداد الجوّ إضاءة ازداد وجه الأرض إضاءة لأن المعلول يتبع العلّة، فشبّه عليه السّلام نفسه بالضوء الثاني، و شبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالضوء الأوّل، و شبّه منبع الأضواء و الأنوار سبحانه و جلّت أسماؤه بالشّمس الّتي توجب الضوء الأوّل، ثمّ الضوء الأوّل يوجب الضّوء الثاني، و ها هنا نكتة و هي أن الضوء الثاني يكون أيضا علّة لضوء ثالث، و ذلك أنّ الضوء الحاصل على وجه الأرض- و هو الضوء الثاني- إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار قريبا منه مكان مظلم، فانّ ذلك المكان يصير مضيئا بعد أن كان مظلما.
أقول: قد اعتبر الشارح المذكور لفظة من في كلامه نشويّة فيصير المعنى و أنا من رسول اللّه كالضوء الناشي من الضّوء، و استفاد منه تسلسل أنواع العلوم و الافاضات إلى سائر النّاس بوساطته جيلا بعد جيل إلى أن يضعف و يضمحلّ و يعود
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 122
الإسلام غريبا، و يمكن استفادة تسلسل الإمامة منه نسلا بعد نسل كما هو معتقد الاماميّة و لا يلزم أن يكون الضوء الثاني أضعف من الضوء الأوّل إذا تساوت القابليّات و الانعكاسات المثالية كما لا يخفى.
ثمّ التفت عليه السّلام إلى شجاعته في ذات اللّه و أنّه لا يخاف تظاهر العرب تجاهه و بيّن أنّهم ارتدّوا عن الإسلام و صاروا كالمشركين يجب قتالهم و تطهير الأرض من وجودهم و أنّ من يجاهد الكفّار يجب عليه أن يغلظ عليهم و يستأصل شافتهم، و أشار إلى معاوية رأس النفاق و الشقاق و وصفه بأنّه شخص معكوس انقلب على وجهه و ارتدّ عن حقيقة إنسانيته، و سقط في مهوى شهواته حتّى أثر باطنه في ظاهره فصار جسمه مركوسا إلى ظلمات الطبيعة و دركات الهوى و البهيميّة، فوجوده بين المسلمين كالمدرة بين حبّ الحصيد يوجب الفساد و يضلّ العباد قالوا: و إلى ذلك وقعت الاشارة بقوله تعالى: «أ فمن يمشي مكبّا على وجهه أهدى أم من يمشى سويّا على صراط مستقيم: 22- الملك».