منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 102
و النّسخة هذه: بِسْمِ اللَّهِ الرّحْمنِ الرّحيمِ هذا ما اشترى عبد ذليل من ميّت قد أزعج للرّحيل، اشترى منه دارا من دار الغرور من جانب الفانين، و خطّة الهالكين، و تجمع
هذه الدّار حدود أربعة: فالحدّ الأوّل ينتهي إلى دواعي الافات، و الحدّ الثّاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، و الحدّ الثّالث ينتهي إلى الهوى المردي، و الحدّ الرّابع ينتهي إلى الشّيطان المغوي، و فيه يشرع باب هذه الدار، اشترى هذا المغترّ بالأمل من هذا المزعج بالأجل هذه الدّار بالخروج من عزّ القناعة و الدّخول في ذلّ الطّلب و الضّراعة، فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى من درك. فعلى مبلبل أجسام الملوك و سالب نفوس الجبابرة، و مزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى و قيصر و تبّع و حمير، و من جمع المال على المال فأكثر، و من بنى و شيّد، و زخرف و نجّد، و ادّخر و اعتقد و نظر بزعمه للولد إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب، و مواضع الثّواب و العقاب إذا وقع الأمر بفصل القضاء و خسر هنالك المبطلون. شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدّنيا. (55854- 55555)
أقول: نقل الكتاب في البحار (ص 632 ج 8 و ص 545 ج 9 من طبع الكمباني) نقله أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، و العلامة الشيخ البهائي في الأربعين بلى ما نتلو عليك و سيأتي من ذي قبل بعض كلماته عليه السّلام لشريح في بحثنا المعنون القضاء و القاضي في الإسلام ذيل شرح هذا الكتاب.
اللغه:
(ميت) أصله ميوت على وزن فيعل من الموت.
(ازعج للرحيل) ازعج بالبناء للمفعول أي شخص به للرحيل يقال
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 114
أزعجه فانزعج أي أقلقه و قلعه من مكانه فقلق و اقنلع، هذا إن كانت اللام للتعليل و إن كانت بمعنى إلى فالمعنى سيق إليه يقال: أزعجه إلى المعصية أي ساقه إليها كما في لسان العرب في مادة أزز على ما في أقرب الموارد.
(دار الغرور) الغرور بضم الغين المعجمة مصدر يقال غره يغره غرورا من باب نصر أي خدعه و أطمعه بالباطل و لذا قيل: الغرور تزيين الخطاء بما يوهم أنه صواب، و كذا قيل: الغرور شرك الطريق بفتحتين، و المراد من دار الغرور الدنيا قال تعالى «وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (آل عمران- 184 و الحديد- 21) و قال تعالى: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» (لقمان- 35) و لذا توصف الدنيا بالغرور بالفتح و يقال: دنيا غرور بل أحد معاني الغرور بالفتح الدنيا، قال ابن السكيت كما في صحاح الجوهري: الغرور الشيطان و منه قوله تعالى «وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ».
أقول: الصواب أن كل ما يغر الانسان من مال و جاه و شهوة و شيطان و غيرها فهو غرور بالفتح و إنما فسر بالشيطان لأنه الغار الحقيقي و تلك الامور آلات و وسائط. إذ هو أخبث الغارين، و بالدنيا لأنها تغر و تضر و تمر كما قاله عليه السلام و سيأتي في باب المختار من حكمه.
(خطة) واحدة خطط قال الجوهري في الصحاح: الخطة بالكسر الأرض يختطها الرجل لنفسه و هو أن يعلم عليها علامة بالخط ليعلم أنه قد اختارها لنفسه ليبنيها دارا، و منه خطط الكوفة و البصرة، و المراد منها البقعة و الناحية و الجانب و أمثالها و يقال بالفارسية: سرزمين.
(تجمع هذه الدار) أي تحويها و تحيط بها. (دواعي) جمع الداعية بمعنى السبب، قال الحريري: و تاقت نفسي إلى أن أفض ختم سره و أبطن داعية يسره، أي أعرف باطن سبب يسره نقله في أقرب الموارد، دواعي الدهر: صروفه، دواعي الصدر: همومه، و لكن المراد هنا معناها الأول أى أسباب الافات و المصيبات.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 115
و في الحلية: و الحد الأول منها و في الأربعين و الحد الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات، و هي جمع العاهة أي الافة، و أصل العاهة عوهة، يقال: عيه الزرع و أيف و أرض معيوهة أي ذات عاهة و طعام ذو معوهة أي من أكله أصابته عاهة و في النهاية الأثيرية:
في الحديث نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، أي الافة التي تصيبها فتفسدها يقال: عاه القوم و أعوهوا إذا أصابت ثمارهم و ماشيتهم العاهة، و منه الحديث:
لا يورد ذو عاهة على مصح، أي لا يورد من بابله آفة من جرب أو غيره على من إبله صحاح لئلا ينزل بهذه ما نزل بتلك فيظن المصح أن تلك أعدتها فيأثم.
و في مجمع البحرين: في الحديث بظهر الكوفة قبر لا يلوذ به ذو عاهة إلا شفاه الله، أي آفة من الوجع، و في الحديث: لم يزل الإمام مبرءا عن العاهات أي هو مستوي الخلقة من غير تشويه.
و قيل: الفرق بين الافات و العاهات أن العاهات تكون الأمراض الظاهرية من قبيل برص أو جذام، و الافات تكون الأمراض الباطنية من مثل الحمي.
(المردي) اسم فاعل من الإرداء بمعنى الاهلاك، فالهوى المردي أي الهوى المهلك، و الردي: الهلاك، و المراد هنا هلاك الدين، و يقال أيضا: أرداه في البئر مثلا أي أسقطه فيها، فالمعنى على هذا الوجه الهوى المسقط إلى هوة جهنم و مال المعنيين واحد.
(المغوي) كالمردي فاعل من الاغواء أي المضل، و هو إشارة إلى قوله تعالى حاكيا عن الشيطان: «قالَ رَبِّ بِما اغویتنی» (الحجر- 41) «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (ص- 85).
و في الحلية (زقاق الفناء) الزقاق بضم الأول و تخفيف الثاني: السكة و قيل: الطريق الضيق دون السكة نافذا كان أو غير نافذ يذكر و يؤنث جمعه زقاق بالضم فالتشديد و أزقة.
(يشرع) بالبناء للمفعول من الاشراع أي يفتح، و في القاموس: أشرع بابا إلى الطريق فتحه. أو من الاشراع بمعنى التهيؤ أى يتهيأ للدخول و الخروج
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 116
نحو قول جعفر بن علبة الحارثي (الحماسة 4):
فقالوا لنا ثنتان لابد منهما صدور رماح اشرعت أو سلاسل
أي إذا كان الأمر على هذا فلا بد من أحدهما إما صدور رماح هيأت للطعن أو سلاسل، أي إما القتل أو الأسر و لكن المعنى الأول أبين و أنسب.
في الأربعين: بالخروج من عز القنوع، و القنوع بالضم: القناعة.
(الضراعة): الذلة: مصدر من ضرع ضراعة من بابي منع و شرف أي خضع و ذل و تذلل.
(أدرك) بمعنى لحق يقال: طلب الشي ء حتى أدركه أي حتى لحقه و وصل إليه.
(درك) قال في الصحاح: الدرك التبعة، تسكن و تحرك، يعني أن الدرك يقرأ على وجهين بفتح الأولين و بفتح الأول و سكون الثاني يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصه. و المراد من الدرك هنا ما يضر بملكية المشتري كأن يدعي أحد كان المبيع ملكه و بيع بغير حق و كان البائع غاصبا و غير ذلك.
(مبلبل) اسم فاعل من بلبل القوم بلبلة و بلبالا إذا هيجهم و أوقعهم في الهم و وسواس الصدور. قال باعث بن صريم «على التصغير»:
سائل أسيد هل ثأرت بوائل أم هل شفيت النفس من بلبالها
أى من همها و حزنها (الحماسة 175).
و قال منصور النمري:
فلما رآني كبر الله وحده و بشر قلبا كان جما بلابله
أى كانت غمومه مجتمعة عليه (الحماسة 749).
أو من بلبل الألسنة أي خلطها أي يخلط و يمزج أجسامهم بتراب القبر.
أو من بلبل الشي ء إذا فرقه و مزقه و أفسده بحيث أخرجه عن حد الانتفاع به، و المراد هنا المعنى الثاني أو الثالث كما هو ظاهر لاغبار عليه، فلا حاجة إلى ما تكلف به الشيخ محمد عبده حيث فسر مبلبل الأجسام بقوله: مهيج داءاتها المهلكة لها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 117
و في نسخة الشيخ في الأربعين: فعلى مبلي أجسام الملوك، و قال قدس سره في بيانه: مبلي كمكرم من البلاء بالكسر و هو الدثور و الاندراس، و كذا ابن الخاتون العاملي في شرحه قال: مبلي بر وزن مكرم مأخوذ از بلاى بكسر با است كه بمعني دثور و اندراس است يعني از هم پاشيدن و ريزه ريزه شدن، و لم ينقلا غير المبلي نسخة اخرى فعندهما المبلي هو المتعين، و في النهج و الحلية:
المبلبل مكان المبلي، و مال الكل واحد يقال: أبلى الثوب أي أخلقه و بلبله أي مزقه و أفسده، فمعنى أحدهما قريب من الاخر.
(سالب نفوس الجبابرة) سلبه يسلبه سلبا و سلبا من باب نصر أى انتزعه من غيره على القهر، و النفوس جمع النفس و هي هنا بمعنى الروح، و الجبابرة:
الملوك كما في اللسان فسالب نفوس الجبابرة أي قابض أرواح الملوك أو أن الملوك أحد بعض مصاديق الجبابرة.
كنايه [مبلبل اجسام الملوك ... الفراعنة] ثم الظاهر أنه عليه السلام كنى بالمبلبل و السالب و المزيل عن الله جلت عظمته و يمكن إرادة ملك الموت منها و لكن الشيخ صرح في الأربعين بأن المراد منها الموت فليتأمل.
(كسرى) بكسر الكاف و فتحها أيضا لقب ملوك الفرس، و هو معرب خسرو أي واسع الملك و أحد جموعه: أكاسرة.
(قيصر) لقب ملوك الروم و جمعه: قياصرة.
(تبع) بضم التاء المثناة من فوق و تشديد الباء الموحدة المفتوحة. لقب ملوك اليمن و الجمع: تبايعة.
(حمير) بكسر أوله و فتح ثالثه أبو قبيلة من اليمن و هو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و منهم كانت الملوك في الدهر الأول و اسم حمير العرنج، قاله في الصحاح.
(شيد) الشيد بكسر الشين ما يطلى به الحائط من حص أو بلاط و نحوهما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 118
و بالفتح المصدر يقال: شاده يشيده شيدا بالفتح جصصه، و هو مشيد أى معمول بالشيد قال تعالى: «وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ» و نقل إلى باب التفعيل للمبالغه، أو يكون من شيد البناء أي رفعه كما في أقرب الموارد و كذا في الصحاح حيث قال: و المشيد بالتشديد المطول، أو من شيد قواعده أي أحكمها.
قال الكسائي: المشيد للواحد من قوله تعالى «وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ» و المشيد بالتشديد للجمع من قوله تعالى «فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» نقله في الصحاح.
أقول: الظاهر أن الكسائي أراد أن المشيد و المشيد بمعنى واحد إلا أن الأول يستعمل في المفرد و الثاني في الجمع فلا يقال قصر مشيد بالتشديد أو بروج مشيدة بالتخفيف فتأمل.
تشبيه (زخرف) زخرفه أى زينه و حسنه، و الزخرف كل ما حسن به الشي ء و المزخرف المزين قال الله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ ...» (يونس- 26).
قال عنترة بن الأخرس (الحماسة 817):
لعلك تمنى من أراقم أرضنا بأرقم يسقى السم من كل منطف
تراه بأجواز الهشيم كأنما على متنه أخلاق برد مفوف
كأن بضاحي جلده و سراته و مجمع ليتيه تهاويل زخرف
شبه بارز جلد الحية و ظهره و مجمع صفحتي عنقه لاختلاف ألوانها بالتهاويل التي تزخرف بها الإبل. و في المفردات: الزخرف الزينة المزوقة و منه قيل للذهب زخرف.
قال في الصحاح: الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزور، فعلى هذا قوله عليه السلام زخرف بمعنى زينه بالزخرف أي ذهبه.
(نجد) بالنون و الجيم المشددة و الدال المهملة يقال: نجد البيت أي زينه بالبسط و الفرش و الوسائد، و في اللسان نجدت البيت بسطته بثياب موشية و النجد محركة: متاع البيت من فرش و نمارق و ستور، جمعه أنجاد، و نجود البيت:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 119
ستوره التي تعلق على حيطانه يزين بها.
أو يكون نجد من النجد بمعنى ما ارتفع من الأرض أي رفع البناء، و هذا المعنى على نسخة الشيخ في الأربعين حيث قال: «نجد فزخرف» أنسب إن لم يكن متعينا، و على نسخة الرضي المعنى الأول أنسب فإن زخرف أعني ذهب يستعمل غالبا في تزيين سقف البيت، و نجد في تزيين أرضه.
(ادخر) أي اكتسب المال و خبأه لوقت الحاجة إليه، و هو افتعل من الذخر لكنه أبدل من التاء دالا فادغم الدال فيه فلك أن تقول: ادخر، و لك أن تقول: اذخر، قال منظور بن سحيم «بالتصغير» الحماسة 422:
و عرضي أبقى ما ادخرت ذخيرة و بطني أطويه كطي ردائيا
(اعتقد) مالا: جمعه، و اعتقد ضيعة: اقتناها، تقول: اعتقد عقدة إذا اشترى ضيعة، و العقدة: الضيعة و العقار الذي اعتقده صاحبه ملكا أي اقتناه و غيرهما من الأموال الصامتة فلك أن تقول: اعتقد أي جعل لنفسه عقدة.
(الولد) بسكون الثاني و حركات الواو و بفتحههما كل ما ولده شي ء و يطلق على الذكر و الانثى و المثنى و المجموع، و هو مذكر و الجمع أولاد و ولدة بالكسر فالسكون و إلدة بإبدال الواو همزة و ولد بالضم فالكسر فالأخير جاء جمعا و مفردا كالفلك قال تعالى: «وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» (البقرة- 161)، و قال تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» (يونس- 24) فالأولى مفرد و الثانية جمع.
(نظر بزعمه للولد) يقال: نظر له أي رثاه و أعانه و المراد هنا جمع المال للولد إعانة له و تحننا عليه.
(إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب) أي إرجاعهم إليه قال في اللسان: أشخص فلانا إلى قومه: أرجعه اليهم. و يقال أيضا: أشخصه أي أزعجه و أحضره.
(العرض) أي عرض أعمالهم عليهم من عرض الشي ء عليه و له أي أراه إياه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 120
قال تعالى: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ» (البقرة- 31) «وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا» (الكهف- 47) «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (الأحزاب- 73) «وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً» (الكهف- 101) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ» «الأحقاف- 35).
(فصل القضاء) الفصل إبانة أحد الشيئين من الاخر حتى تكون بينهما فرجة و يوم الفصل أحد أسماء القيامة قال تعالى «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ» (المرسلات- 39) أي اليوم يبين الحق من الباطل، و قال تعالى «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ» (الدخان- 42) و قال: «وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» (الأنعام- 58) فقوله عليه السلام: فصل القضاء أي فصل القضاء بين الحق و الباطل.
(خسر هنالك المبطلون) اقتباس من قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ» (المؤمن- 80).
الاعراب:
«من ميّت قد ازعج للرّحيل» قد ازعج للرّحيل صفة للميّت لأنه نكرة كالذّليل للعبد. «اشترى منه دارا» بدل للأوّل كالثالث.
و القياس أن يقال: هذه ما اشترى لأنّ ما ابتاعها كانت دارا كقوله عليه السّلام: تجمع هذه الدّار، و لكنّه عليه السّلام قال: هذا ما اشترى باعتبار المنزل و نحوه.
«دارا من دار الغرور» كلمة من بمعنى في إن كان المراد من دار الغرور الدّنيا كما بيّنا أي دارا في دار الغرور نحو قوله تعالى (الجمعة- 10) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ» أي في يوم الجمعة، و يمكن أن تكون من على هذا الوجه للتبعيض أيضا كما هو ظاهر أو يكون الظرف مستقرا صفة للدّار، و إن كانت من لبيان الجنس لا يكون المراد منها الدّنيا. نحو من الثانية في قوله تعالى «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ» (الكهف- 31) أي دارا هي دار الغزور.
«تجمع هذه الدّار حدود أربعة» هذه الدّار مفعول قدّم و حدود فاعل تجمع و في بعض نسخ الأربعين جعلت هذه الدّار فاعل الفعل و حدود مفعوله حيث كتب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 123
تجمع هذه الدّار حدودا أربعة، و لكنه من تحريف النّساخ و تصرّفهم.
«فالحدّ الأوّل» الفاء هذه للترتيب الذكري لأنّ أكثر ما يكون ذلك في عطف مفصّل على مجمل نحو قوله تعالى: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» (النساء- 153).
«بالخروج من عزّ القناعة» الباء للعوض و المقابلة أي اشترى هذا بهذا كما تقول: اشتريت هذه الدّار بهذه الدّنانير. و الدّخول مجروره معطوف على الخروج «فما أدرك» كلمة ما إمّا موصولة أو موصوفة و على التقديرين مبتداء و خبره جملة «فعلى مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض» لأنّ إشخاصهم مبتداء ثان و خبره على مبلبل أجسام الملوك قدّم لتوسعة الظروف، و هذه الجملة الاسميّة خبر لما.
«من درك» من بيانيّة يبيّن ما «فعلى مبلبل» كلمة الفاء جواب لما لأنه على حدّ: الّذي يأتيني فله درهم، أعني من المواضع الّتي يتضمّن المبتدأ فيها معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره نحو قوله تعالى: «وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» (النحل- 55) و قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» (الجمعة- 8) و كأنما أراد الشيخ في الأربعين هذا المعنى حيث قال: ما في ما درك شرطية، سالب عطف على مبلبل، و كذا المزيل.
«و من جمع» من موصول اسميّ معطوف على الفراعنة أي مزيل ملك الّذي جمع المال- إلخ، أو على كسرى كقيصر و أخويه و كأنّ الأخير أظهر و كذا الحكم في من الثاني، و نسخة الشيخ هكذا: و من جمع المال إلى المال فأكثر و بنى فشيّد و نجّد فزخرف.
و لولا كلمة- إلى- مكان- على- لكانت نسخته أولى من النهج لعدم الاحتياج إلى من الثاني أوّلا، و عدم تنسيق العبارة على نظام واحد في النهج ثانيا، و خلوّه عن التعريفات الحسنة الأنيقة ثالثا.
و أمّا كلمة إلى و إن كانت تفيد معنى صحيحا في المقام و لكن على أصحّ و أفصح
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 124
منها. و الفاءات تفيد الترتيب «بزعمه» الباء للسببيّة.
إلى موقف العرض متعلّق بالاشخاص، و الظرف لغو، و على نسختي الشيخ و أبي نعيم «ما أبين الحق» كلمة ما للتعجّب.
ما الذى اوجب سخط الامير عليه السّلام على عمل شريح حتى كتب له ذلك الكتاب؟
قبل الورود في تفسير جمل الكتاب لا بدّ من ذكر مقدّمة ليزيد الطالب بصيرة في غرض الكتاب، و هي:
أنّ سفراء اللَّه تعالى لم يمنعوا النّاس عمّا لا مناص عنها في حياتهم كتعلّم المعارف و تحصيل المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و بناء الدّور و اتّخاذ الحرف و الصنائع و نحوها ممّا هي ضروريّة لحفظ نظام الاجتماع و بقاء بني نوع الانسان، بل ندبوهم إليها و رغّبوهم فيها و حرّموا عليهم الرّهبانيّة بأنّ الانسان مدنيّ بالطبع، و كذا لم يدّع أحد و لم يرو أنّ حجّة من الحجج الالهيّة عاتب أحدا في قبال عمله الصحيح العقلاني، بل حذّروهم و نهوهم عما يحكم العقل الناصع بقبحه و يذمّ من ارتكبه كالسرقة و الكذب و الافتراء و الخيانة و الغصب و الاقتداء بالنساء و نحوها ممّا هي تضرّ سعادة الاجتماع، و تمنع الناس عن التكامل و الارتقاء، و تورث بينهم العداوة و البغضاء.
و هذا هو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام يمدح هديّة و يذمّ اخرى، لأنّ الاولى كانت عارية عن الهوى، و الثانية كانت مشوبة بها، فانها كانت رشوة في صورة هديّة أتى بها آت ليلا و زعم أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام يضلّ بها عن الحقّ، و يفسق عن أمر ربّه أمّا مدحه عليه السّلام الاولى فبعض من كان يأنس إليه عليه السّلام من أصحابه دعاه إلى حلواء عملها يوم نوروز، فأكل و قال عليه السّلام: لم عملت هذا؟ فقال: لأنّه يوم نوروز، فضحك عليه السّلام و قال: نورزوا لنا في كلّ يوم إن استطعتم.
و أمّا ذمّه الثانية فإنّ أشعث بن القيس أهدى له نوعا من الحلواء تأنّق فيه و ظنّ الأشعث أنه يستميله بالمهاداة لغرض دنيويّ كان في نفس الأشعث، و كان
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 125
يبغض أمير المؤمنين عليه السّلام فردّ هديّته و قال: و أعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها و معجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أوقيئها، فقلت: أصلة؟ أم زكاة؟ أم صدقة؟ فذلك كلّه محرّم علينا أهل البيت، فقال: لا ذا و لا ذاك و لكنّها هديّة، فقلت: هبلتك الهبول أعن دين اللَّه أتيتني لتخدعني أ مختبط أم ذوجنّة أم تهجر؟ و اللَّه لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى اللَّه في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته، و إنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعليّ و نعيم يفنى، و لذّة لا تبقى نعوذ باللَّه من سبات العقل و قبح الزّلل و به نستعين (ذيل الكلام 222 من باب الخطب من النهج).
ثمّ إذا كان المتجر الحلال و تحصيل ما يحتاج إليه الناس و منه ابتياع الدّار ممدوحا شرعا و عقلا حتّى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع، و قال أبو جعفر عليه السّلام: من شقاء العيش ضيق المنزل و غيرهما من الأخبار المرويّة في الكافي و غيره (الوافي ص 107 ج 11).
فلازم للعاقل المستبصر أن ينظر في قول أمير المؤمنين عليه السّلام لشريح حتى يظهر له سبب سؤاله شريحا عن داره هذه فإنّ شريحا كان قاضيا من قبله عليه السّلام و سيأتي ترجمته في ذيل الشرح، و الظاهر أنّ شريحا تجاوز عن الحقّ في أوان قضائه و اشترى بالارتشاء أو نحوه بيتا فصار عمله هذا سبب مؤاخذة أمير المؤمنين عليه السّلام إيّاه على ابتياع الدّار سيّما أنّ القائمين بامور الدّين كالقاضي و المفتي و المدرّس و المؤذّن و الخطيب و الامام و أمثالهم لا تعظم ثروتهم في الغالب.
و لا ريب أنّ أزمّة الامور إذا كانت بيد رجل إلهيّ خيّر للاجتماع و رؤف بالناس يجتاح شوك الجور و العدوان من أصله و لا يدع أحدا أن يتجاوز عن قانون الفطرة و ينحرف عن الحقّ فلا جرم يدور رحى الاجتماع على محور العدل.
و بالجملة أنّ ما أوجب سخطه عليه السّلام على شريح و عمله كما يلوح من ظاهر كتابه عدول شريح عن الحقّ و تجاوزه عن حقوق الناس حتّى اشترى دارا بثمانين دينارا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 126
من غير حلال، و لو لا ذلك لما سخط عليه و ما جعل له أحد الحدود الحدّ الّذي ينتهي إلى الشيطان المغوي و فيه يشرع باب هذه الدّار.
المعنى:
قوله عليه السّلام: (بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم) من هنا إلى آخر الكتاب قبالة الدّار على نهج لو تؤمّل فيها لا يرغب في شرائها بدرهم، و لو نظر فيها العارف بفنون الكلام و أساليب البيان لأيقن أنّ هذا الكلام متميّز عن كلام من سواه عليه السّلام كالفضيل و أضرابه.
افتتح الكتاب بالبسملة اقتداء بالقرآن العظيم و امتثالا لمثال الرّسول الكريم.
افتتح القرآن ببسم اللَّه الرّحمن الرّحيم تعليما للعباد أن يبدؤا امورهم كبيرها و صغيرها بتلك الاية المباركة ليبارك فيها، و الافتتاح بتلك الكلمة الطيّبة سنّة الأنبياء و المرسلين، و شعار الأولياء و الصّالحين كما جاء في القرآن المبين حكاية كتاب سليمان النبيّ صلوات اللَّه و سلامه عليه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ» (النمل- 32 و 33).
و في الكافي عن الباقر عليه السّلام أوّل كلّ كتاب نزل من السماء بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم، فاذا قرأتها فلاتبال أن لا تستعيذ، و إذا قرأتها سترتك فيما بين السماء و الأرض
و في التهذيب عن الصادق عليه السّلام إنها أفرب إلى اسم اللَّه الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.
و في التوحيد عن الصادق عليه السّلام من تركها من شيعتنا امتحنه اللَّه بمكروه لينبّهه على الشكر و الثناء و يمحق عنه و صمة تقصيره عند تركه.
و عن أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حدّثني عن اللَّه عزّ و جلّ أنّه قال: كلّ أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم فهو أبتر.
قوله عليه السّلام: (هذا ما اشترى عبد ذليل) لم يقل هذه باعتبار المنزل و البيت و نحوهما و إنّما عبّر شريحا بالعبد الذّليل لئلّا يتوهّم حيث كان قاضيا أنّ له شأنا و رفعة بل نبّهه بأنّه في أيّة حال كان، و بلغ إلى أيّة رتبة رفيعة و درجة شامخة تتصوّر عبد ذليل في يد مولى قاهر لا يقدر من الفرار عن سلطانه و حكومته، و معلوم أنّ دأب الإنسان الفخر و العجب و الاستكبار إن رآه ذا رياسة و اقتدار إلّا الأوحدي من الناس، لا يلهيه التكاثر و لا يعتني بالتفاخر قال عزّ من قائل: «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» الاية (النور- 38).
و هذا التوجيه المختار أمتن و أتقن من توجيه الشارح البحراني حيث قال: خصّ المشتري بصفة العبوديّة و الذلّة كسرا لما عساه يعرض لنفسه من العجب و الفخر بشراء هذه الدّار.
قوله عليه السّلام: (من ميّت قد ازعج للرّحيل) و في بعض النسخ من عبد قد ازعج للرّحيل، و على الاولى إنما عبّر البائع بالميّت الّذي قد ازعج للرّحيل مع أنّه حيّ لعدم استقامة الشراء من الميّت، تنبيها على أنّ الموت لبالمرصاد بل أنشب أظفاره فإذا حان حينه لا منجى منه و لا مناص، فعدّه ميّتا لتحقّق وقوعه عن قريب و هذا تذكار للنّاس بأنّ الموت قريب وقوعه و كلّ نفس ذائقته، فلا ينبغي لهم أن يحبّوا العاجلة و يذروا و رائهم يوما ثقيلا.
و في الكافي عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام همام أنّ الدّنيا قد ارتحلت مدبرة، و أنّ الاخرة قد ارتحلت مقبلة و لكلّ واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الاخرة و لا تكونوا من أبناء الدّنيا، إلخ.
قوله عليه السّلام: (اشترى منه دارا من دار الغرور) بدل من اشترى الاولى: أي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 133
اشترى دارا في بيت الغرور أي الدّنيا، أو دارا هي دار الغرور، و قد مضى وجه التفسيرين في الاعراب فراجع.
و إنما كانت الدّنيا دار الغرور لأنّها تغرّ أهلها بألوانها و زخارفها و حطامها فتلهيهم عن ذكر اللَّه عزّ و جلّ قال تعالى «وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (آل عمران 184) و قال: «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» (لقمن- 35).
و في كتاب عيون الحكم عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: احذروا هذه الدّنيا الخدّاعة الغدّارة الّتي قد تزيّنت بحليّها، و افتتنت بغرورها، و غرّت بامالها و تشوّفت لخطّابها، فأصبحت كالعروس المجلوّة، و العيون إليها ناظرة، و النفوس بها مشغوفة، و القلوب إليها تائقة، و هي لأزواجها كلّهم قاتلة، إلخ.
قوله عليه السّلام: (من جانب الفانين و خطّة الهالكين) في نسخة الشيخ في الأربعين: من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين، و في نسخة أبي نعيم في حلية الأولياء:
حدّ منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، و ترجم ابن الخاتون العاملي نسخة الشيخ في شرحه الفارسي عليه بقوله: مسافت آن از جانب فنا و زوال است تا لشكر هلاك و ارتحال، و نسخ النهج متّفقة في العبارة المذكورة.
أقول: الفناء خلاف البقاء، و الهلاك يستعمل غالبا في من مات ميتة سوء من معصية اللَّه و مخالفة أمره قال تعالى: «كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ» (آل عمران- 115) و قال: «وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» (الأعراف- 5) و قال: «وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا» (الكهف- 60) و قال عزّ من قائل: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ» (الحاقّة- 7) و غيرها من الايات.
و إنّما قلنا غالبا لأنّه قد يطلق على الموت على حتف الأنف كقوله تعالى:
«إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» (النساء- 176) و على غير الموت أيضا نحو قوله تعالى حكاية عن أصحاب الشمال: «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» (الحاقّة- 30).
و قال في أقرب الموارد: هلك الرّجل مات، و لا يكون إلّا في ميتة سوء و لهذا لا يستعمل للأنبياء العظام، انتهى.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 134
أقول: و يردّه قول اللَّه عزّ و جلّ: «وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» الاية (المؤمن- 38).
على أنّا لا نفرّق بين الأنبياء في قبح اسناد نحو الميتة السوء ممّا ينفر عنه الطباع إليهم و إن كنّا لا ننكر أنّ اللَّه تعالى فضّل بعضهم على بعض قال عزّ قائلا:
«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» الاية (البقرة- 256).
فعلى ما عرفت من معنى دار الغرور و الفناء و الهلاك فيكون من جانب الفانين أخصّ من دار الغرور و خطّة الهالكين أخصّ من جانب الفانين، و هذا كما قيل على ما جرت العادت به في كتب البيع من الابتداء بالأعمّ و الانتهاء في تخصيص المبيع إلى امور بعينه.
ثمّ على نسختي الأربعين و حلية الأولياء عيّن عليه السّلام أوّلا مسافة الدّار بأنها من جانب الفانين أو رقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، و بيّن ثانيا حدودها الأربعة و لا يخفى لطفه.
قوله عليه السّلام: (و تجمع هذه الدّار حدود أربعة) أي تحوي هذه الدّار و تحيط بها حدود أربعة آتية، بيّن حدودها الأربعة كما هو المتعارف في تعيين حدود الأراضي و الدّور و غيرهما، و الحدود في تحديد الأملاك بمنزلة الجنس و الفصل في الحدود قوله عليه السّلام: (فالحدّ الأوّل ينتهي إلى دواعي الافات- إلى آخر الحدود) أخذ يفصّل حدودها المذكورة على الاجمال أوّلا و في النسخ الثلاث أعني النهج و الأربعين و الحلية في تعيين الحدود اختلاف في الجملة و قد ذكرنا النسخ فلا حاجة إلى الإعادة.
ثمّ إنّه لا توجد دار في الدّنيا تكون دار السّلام، بل تنتهي لا محالة إلى الافات و الأسقام و المصيبات و الالام، لأنّ الدّنيا نفسها دار بالبلاء معروفة و بالتزاحم و التصادم معجونة، فالحدّ ان الأوّلان تعمّ جميع الدّار و أمّا الاخران فيختصّان بما بنيت على أساس الجور و مال الزّور لأنّ المال الصالح في يد الرجل الصالح لا ينجرّ إلى الهوى المردي و الشيطان المغوي بل هو نعم المال.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 135
ثمّ إنه عليه السّلام جعل باب هذه الدّار الّذي يشرع أي يفتح للدّخول فيها في الحدّ المنتهي إلى الشيطان المغوي تنبيها على أنّ الدّار المبنيّة على الجور و العدوان ليست إلّا من إغواء الشيطان، و إشارة إلى أنّ الشيطان كان سببا لاشترائها، و لو أعرض شريح عن اتّباعه لما أقدم إلى ابتياعها.
قوله عليه السّلام: (اشترى هذا المغترّ بالأمل من هذا المزعج بالأجل هذه الدّار بالخروج من عزّ القناعة و الدّخول في ذلّ الطلب و الضراعة) بدل من الأوّل و أفاد عليه السّلام في هذه الفقرة:
أوّلا أنّ اغترار شريح بالأمل صار سبب اشترائه الدّار.
و ثانيا أنّه جعل ثمنها الخروج من عزّ القناعة و الدّخول في ذلّ الطلب و الضراعة لما مرّ في الإعراب من أنّ الباء للعوض و للمقابلة.
و ثالثا أنّ القانع عزيز و للقناعة عزّة.
و رابعا أنّ الخروج من عزّ القناعة يؤدّي إلى الذّلة و المسكنة من الطلب و الضراعة للخلق.
ثمّ انظر في لطائف كلامه عليه السّلام و دقائق بيانه: ذمّ الأمل، و الطلب و الضراعة و الخروج من القناعة، مدح القناعة، و وصفها بالعزّة، و جمع بين الأمل و الأجل و الخروج و الدّخول، و العزّ و الذلّ، و القناعة و الضراعة، و محاسن هذا الكتاب فوق أن يحوم حولها العبارة.
الانبياء و ورثتهم عليهم السّلام لا يأمرون بالذل و السؤال بل يحضون على العز و الجلال:
زعم الجاهلون و المغفلون عن غرض سفراء اللَّه تعالى و بعثتهم أنّهم يدعون الناس إلى الفقر و الكدية، و يأمرونهم بالبطالة و العزلة و الرّهبانيّة، و ذلك ظنّ الّذين اتّبعوا أهواءهم و لم يصلوا إلى درك مقاصد الأنبياء و فهم مطالبهم، و لم يدروا أنّهم نهوا الناس عن الدّنيا المذمومة أي اقتراف المال و ادّخاره على وجه لم يمضه العقل و لا يرضى به، كأن يقترفه بالسرقة و القيادة و القمار و الرّبا و الجور و شهادة الزور و بيع الخمر و نحوها ممّا تضرّ الاجتماع و تمنعه عن الارتقاء.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 136
قال اللَّه تبارك و تعالى: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ...» (الحجرات- 8 و 9).
و لا منعوهم عن الدّنيا المحمودة قال عزّ من قائل: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (الأعراف- 32 و 33).
ثمّ إنّ إسناد الأمر بالرّهبانيّة إلى الأنبياء و ورثتهم كما اجترأ النصارى بذلك و عزوه إلى عيسى نبيّ اللَّه فرية و اختلاق، لأنّهم حرّموا عليهم الرّهبانيّة و حثّوهم على الكسب و تحصيل العزّة و الكمال و ما رضوا بالذّلّة و النكبة قال اللَّه تعالى: «وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ» (المنافقون- 9).
و هذا هو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله كيف شدّد النكير على عثمان بن مظعون لمّار كن إلى الرّهبانيّة: روى الشيخ الأجلّ ابن بابويه الصدوق رضوان اللَّه عليه في أوّل المجلس السادس عشر من اماليه باسناده عن أنس بن مالك قال: توفّى ابن لعثمان بن مظعون رضي اللَّه عنه فاشتدّ حزنه عليه حتّى اتّخذ من داره مسجدا يتعبّد فيه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، فقال له: يا عثمان إنّ اللَّه تبارك و تعالى لم يكتب علينا الرّهبانيّة إنما رهبانيّة امّتي الجهاد في سبيل اللَّه، الحديث.
و كيف يدعونهم إليها مع أنّ كلماتهم في ذمّها لا تحصى كثرة، و ينادون الناس جهارا، بأنّ كل واحد منهم كعضو من أعضاء جثمان الاجتماع، لأنّ الانسان مدنيّ بالطبع فلا بدّ لكلّ واحد منهم من مكسب يتمّ به أمرهم، و لا يختلّ حتّى لا يتطرّق إليهم النكبة و الذلّة قال تعالى: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» (النّجم- 41).
و لقد روى الفريقان عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أنه قال: إنّما المؤمنون في تعاطفهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 137
و تراحمهم بمنزلة جسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى و السهر فمن هذا الحديث يستفاد مطالب أنيقة أخلاقيّة و اجتماعيّة منها أنهم بمنزلة جسد، فأخذ هذا المضمون الشيخ الأجلّ السعدي و قال بالفارسيّة:
بني آدم أعضاي يكديگرند كه در آفرينش ز يك گوهرند
چو عضوي بدرد آورد روزگار دگر عضوها را نماند قرار
تو كز محنت ديگران بى غمي نشايد كه نامت نهند آدمي
و هذا هو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام كيف آخذ شريحا في كتابه هذا بخروجه من عزّ القناعة، و دخوله في ذلّ الطلب و الضراعة، باغتراره بالأمل.
و أخبارنا في ذمّ طول الأمل و السؤال من الناس و مدح الكسب و تحصيل الكمال و ترغيب الناس إلى ما فيه سعادتهم و رفعتهم و تبرّي الأنبياء من الّذين صاروا بالعطالة و البطالة كلّا على الناس كثيرة جدّا و لولا خوف الإطناب و الخروج عن اسلوب الكتاب لذكرناها فلعلّنا نأتي بطائفة منها في المباحث الاتية إن شاء اللَّه تعالى.
و بالجملة أنّ ما جاء به الأنبياء فانما هو لاحياء النفوس و إيقاظ العقول و سوق الناس إلى ما فيه حياتهم الأبديّة المعنويّة و سعادتهم السرمديّة و خروجهم من حضيض الذلّ إلى أوج العزّ، قال اللَّه جلّ و علا. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» (الأنفال- 25).
قوله عليه السّلام: (فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى من درك فعلى مبلبل أجسام الملوك) لمّا بيّن عليه السّلام مسافة الدّار و حدودها أخذ في بيان ضمان درك ما يلحق المشترى.
فاعلم أنّ المشتري إن لم يكن عالما بالغصب فاشترى المال المغصوب ثمّ شهد مالكه و لم يجز بناء على صحّة البيع الفضولي و أخذه منه يرجع في ثمنه و ما لحقه من درك آخر إلى البائع، و إن كان عالما به و أقدم إلى شراء المغصوب فلا حرمة لماله لأنّه ألقى بيده. إلى التهلكة، لأنّه استولى على مال الغير و تصرّف فيه عدوانا فهو غاصب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 138
و ضامن العين و المنافع، و لم يكن حينئذ ما أدركه من درك على البائع و ليس له حقّ الرّجوع اليه.
و لذا ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنّه لا رجوع للمشتري على البائع الغاصب مع علمه حتّى بالثمن مع تلفه، بل في المسالك أنّ الأشهر عدم الرّجوع به مع وجود عينه، بل ادّعى عليه في التذكرة الإجماع عقوبة له، و خالفهم الاخرون فصرّح بعضهم كالشهيد في اللّمعة بالرّجوع به مع بقاء العين سواء كان عالما أو جاهلا و بعضهم بالرّجوع مطلقا سواء تلف الثمن أو لا كالمحقق في أحد قوليه.
و من لطائف كلامه عليه السّلام في المقام أنّه عليه السّلام لم يبيّن حكم ضمان الدّرك الّذي يلحق المشتري في هذه المعاملة بأنّ الضامن من هو؟ بل أحاله إلى يوم القيامة حيث قال عليه السّلام: فعلى مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب- إلخ، فلا يخفى لطفه.
ثمّ إنّ درك الضمان لا يختصّ بمال المغصوب بل يجري في المبيع المعيب أيضا، و كذا في الثمن المعيب على التفصيل المذكور في الفقه.
ثمّ لا يخفى على ذي مسكة أنه عليه السّلام لم يعلّق ضمان الدّرك على أحد. بل صريح كلامه أنّ على مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم إلى موقف العرض و الحساب يعني هنا لك يحكم بين الحقّ و الباطل بفصل القضاء فيعلم أنّ ضامن الدّرك من هو و العجب من شارح البحراني ذهب في شرحه على النهج إلى أنّه عليه السّلام علّق الدّرك و التبعة اللّازمة في هذا البيع بملك الموت.
و كذلك بما حققنا علم أنّ ما ذهب إليه المجلسيّ قدّس سرّه في شرح الكتاب (ص 545 ج 9 من البحار الطبع الكمباني) حيث قال: ثمّ اعلم أنه يكفي لمناسبته ما يكتب في سجلّات البيوع لفظ الدّرك، و لا يلزم مطابقته لما هو المعهود فيها من كون الدّرك لكون المبيع أو الثمن معيبا أو مستحقا للغير، فالمراد بالدّرك التبعة و الاثم أي ما يلحق هذا المشتري من وزر و حطّ مرتبة و نقص عن حظوظ الاخرة، فيجزي بها في القيامة، ليس بصحيح، و يأباه قوله عليه السّلام إشخاصهم جميعا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 139
و غيره من العبارات فهو تفسير لا يناسبه الكتاب.
قوله عليه السّلام: (و سالب نفوس الجبابرة) عطف على مبلبل و كذا قوله عليه السّلام:
و مزيل ملك الفراعنة. و إنّما خصّ الملوك و الجبابرة و الفراعنة بالذكر كسرا لشريح و أضرابه حتّى لا يغترّوا بالمنصب و المقام و الشهرة و العنوان، و تنبيها لهم أنه لمّا كان هؤلاء الملوك و الجبابرة و الفراعنة مقهورين في يد اللَّه الواحد القهّار فكيف مثل شريح و أشياعه، على و زان قوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ» (المؤمن- 24) و قوله تعالى: «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» (المؤمن- 84).
قوله عليه السّلام: (مثل كسرى و قيصر و تبّع و حمير) مثل لكلّ واحد من الملوك و الجبابرة و الفراعنة و لا يختصّ بالأخير.
قوله عليه السّلام: (و من جمع المال على المال فأكثر) قد مضى في الاعراب أنّ الأظهر أن يكون من معطوفا على كسرى كالثلاثة قبله أي مثل من جمع المال- إلخ قوله عليه السّلام: (و من بنى و شيّد) عطف على من الأوّل أي مثل من بنى دارا و جصّصها أو رفعها أو أحكم قواعدها على الوجوه الّتي بيّناها في اللّغة.
قوله عليه السّلام: (و زخرف) أي زيّن سقف البناء و جدرانه بالذّهب.
قوله عليه السّلام (نجّد) أي زيّنه بالبسط و الفرش و الوسائد و النمارق و الستور و نحوها، و قد مضى في اللّغة أنّ التذهيب يناسب تزيين سقف البيت، و التنجيد تزيين أرضه و جدرانه.
قوله عليه السّلام: (و ادّخر) أي اكتسب المال و جعله ذخيرة لوقت الحاجة إليه قوله عليه السّلام: (و اعتقد) أي جعل لنفسه عقدة أي اقتنى الضياع و العقار و غيرهما من الأموال الصامتة.
قوله عليه السّلام: (و نظر بزعمه للولد) أي نظر في جمع المال لولده إعانة له
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 140
و ترحّما عليه و رآه مصلحة له ظنّا منه أنّ عمله هذا ينفعه و يعزّه. و سيأتي في أواخر باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال لابنه الحسن عليه السّلام: يا بنيّ لا تخلفنّ وراءك شيئا من الدّنيا فإنك تخلّفه لأحد رجلين: إمّا رجل عمل فيه بطاعة اللَّه فسعد بما شقيت، و إمّا رجل عمل فيه بمعصية اللَّه فكنت عونا له على معصيته، و ليس أحد هذين حقيقا أن تؤثره على نفسك.
فإن قلت: فعلى هذا ترى أنّ الشارع منع الناس أن ينظروا لأولادهم و يخلّفوا لأخلافهم ما ينفعهم و يمدّهم في معاشهم؟.
قلت: كلّا بل الشارع أغراهم بذلك و كره أن يتكفّف أولادهم بعدهم الناس غاية الأمر نهاهم عن الاكتساب بالحرام نظرا للأولاد و نكتفي في ذلك بذكر رواية روما للاختصار.
روى ابن بابويه الصدوق رضوان اللَّه عليه في من لا يحضره الفقيه و نقلها الفيض في الوافي في أبواب الوصية (ص 12 ج 13): أنّ رجلا من الأنصار توفّى و له صبية صغار و له ستّة من الرّقيق فأعتقهم عند موته و ليس له مال غيرهم، فاتي النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فاخبر فقال: ما صنعتم بصاحبكم؟ قالوا: دفنّاه، قال: لو علمت ما دفنّاه مع أهل الإسلام، ترك ولده يتكفّفون الناس.
قوله عليه السّلام: (إشخاصهم جميعا- إلى قوله: و خسر هنالك المبطلون) إشخاصهم أي إزعاجهم و إحضارهم و في نسخة أبي نعيم: و أشخصهم إلى موقف العرض و لكنّها تصحيف و الحقّ ما في النسختين الاخريين لأنّ إشخاصهم مبتداء مؤخّر عن على مبلبل أجسام الملوك قدّم الخبر لتوسع الظروف و ما يجري مجراها و لا يمكن حمل تلك النسخة على وجه صحيح.
ثمّ إنّ الضمير في إشخاصهم لا يمكن إرجاعه إلى الملوك و ما بعده لا لفظا و لا معنى أمّا الأوّل فلأنّ الضمير في المبتدأ لا يرجع إلى جزء لفظ الخبر و هو ظاهر، و أمّا الثاني فلأنّ المقصود إحالة ضمان الدّرك على من أوجب الشرع الرجوع به إليه، فلا بدّ أن يكون ممن كان دخيلا في البيع فهو يرجع إلى البائع
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 141
و المبيع و المشتري و صاحب الدّرك، فالمراد أنّ ملك الموت متعهّد و متكفّل باحضارهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب للفصل و القضاء.
قوله عليه السّلام: (شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدّنيا) لمّا بيّن حكم الدّرك أردفه بذكر الشهود كما هو السنّة المتعارفة في سائر القبالة و جعل العقل شاهدا على ما قال.
ثمّ إنّ ههنا دقيقة أنيقة و هي أنّ الشاهد لا بدّ من أن يكون عادلا، و إنما قيّد عليه السّلام شهد على ذلك العقل بقوله: إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدّنيا، ليفيد هذا المعنى، أعني أن يأتي بالشاهد العادل على ما كتب، و ذلك لأنّ تلك القوّة القدسيّة الملكوتيّة أعني العقل لمّا تعلّق بشرك البدن و ألف مجاورة الخراب البلقع و صار حشره مع الماديّات قد يتأثّر عن البدن و قواه الحيوانيّة و غيرهما، فيعرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه، لأنّ تلك العوائق كاللّصوص القطّاع لطريقه تمنعه عن الوصول إلى صريح الحقّ و محض الحكم العقلي، فلو لم يجرّد عنها سيّما عن النفس الأمّارة بالسوء و حبّ الدّنيا و أسر الهوى و قيد الأوهام كان حكمه مزوقا مشوبا بالباطل، فلم يكن حينئذ شاهدا عادلا، فلا يخفى لطفه.
فالمراد أنّ العقل لو خلّي و طبعه بحيث لم يكن مأسورا في قيد الهوى و علائق الدّنيا يشهد على أنّ لنحو هذا المشتري خسران الدارين، و في نحو هذا المبيع يلزم تلك الافات و المصيبات عليه و غيرهما ممّا هي مذكورة في القبالة.
ثمّ الحقّ أنّ الرّضيّ رضي اللَّه عنه لم يذكر الكتاب بتمامه، لأنّ غرضه كان جمع المختار من كلامه عليه السّلام كما صرّح في عدّة مواضع النهج بأنّ ما أتى به هو بعض تلك الخطبة أو ذلك الكتاب أو نحوهما، و الكتاب بتمامه هو ما في النسختين الاخريين و إن كان بينهما اختلاف ما في بعض العبارات، فنذكر بعض ما في الأربعين و بيان الشيخ فيه:
قوله عليه السّلام: (في عرصاتها) أي ساحاتها و الضمير إمّا للدار أو للدّنيا و الأوّل أقرب و إن كان أبعد.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 142
قوله عليه السّلام: (ما أبين الحقّ لذي عينين) كلمة ما تعجبيّة أي ما أظهر الحقّ لصاحب البصيرة.
قوله عليه السّلام: (إنّ الرّحيل أحد اليومين) أي كما أنّ لابن آدم يوم ولادة و هو يوم القدوم إلى هذه الدار، فله يوم رحيل عنها و هو يوم الموت فينبغي أن لا يزول عن خاطره، بل يجعله أبدا نصب عينيه.
قوله عليه السّلام: (و قرّبوا الامال بالاجال) أي قصروها بتذكّر الموت الّذي هو هادم اللّذات، و فاضح الامال.
«اشارة»:
فسّر العالم العامل العاملي الشيخ بهاء الدّين قدّس سرّه في الأربعين هذا الكتاب بوجه آخر أيضا يليق أن يذكر في المقام للطافته و عذوبته.
قال: اشارة. يمكن أن يكون الدّار في قوله عليه السّلام اشترى منه دارا، رمزا إلى هذه البنية البدنيّة، و المشتري رمزا إلى النفس الناطقة الإنسانيّة العاكفة على تلك البنية الظلمانيّة المشغولة بها عن العوالم المقدّسة النورانيّة، و البائع رمزا إلى الأبوين اللّذين منهما حصلت الأجزاء المنويّة المتكوّن منها البنية الّتي مبدءها من جانب الفانين و مالها إلى عسكر الهالكين.
ثمّ إنّ هذه البنية أعني البدن و إن كان مركبا للنفس و وسيلة لها إلى تحصيل كمالاتها، لكن قواه البهيميّة دواع و أسباب لافات النفس و عاهاتها و مصيباتها و اتّباعها للهوى و الشيطان، فنزل تلك الدّواعي منزلة حدود الدار المكتنفة بها من جوانبها.
و لمّا كان الخروج من ولاية اللَّه و الدّخول في ولاية الطاغوت يحصل باتّباع الهوى و الشيطان ناسب أن يجعل باب تلك الدّار في هذا الحدّ.
و لمّا كان ذلّ النفس و خروجها عن استغنائها الّذي كانت عليه في عالمها النوراني ملازما لعكوفها على هذا البدن الهيولاني و مسبّبا عن تعلّقها به و شرائها له شبّهه عليه السّلام بالثمن الّذي هو من لوازم الشراء.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 143
و لمّا كان الموت هو السائق الّذي يسوق الخلق بأجمعهم طوعا و كرها إلى موقف القيامة ليقضي بينهم الحكم العدل و ينتصف من المعتدي للمعتدى عليه شبّهه عليه السّلام بشخص ضمن الدرك فتعهد أن يحضر كلّ من له دخل في هذه المعاملة إلى دار القضاء ليحكم بينهم و يقضي لمن له الحقّ بحقه.
هذا ما خطر بالبال في معنى هذا الكلام و لعلّ أمير المؤمنين عليه السّلام أراد معنى آخر غير هذا لم يهتد نظري الكليل إليه، و ثمّ يعثر فكري العليل عليه، و اللَّه أعلم بحقيقة الحال. انتهى كلامه رفع مقامه.
و ذكر قريبا من هذه الإشارة أو عينها على عبارات اخر العلّامة المجلسي في المجلّد التاسع من البحار (ص 545 الطبع الكمباني) أيضا.
أقول: الحقّ أنّ هذا التوجيه وجيه في نفسه و لكنه ليس معنى كلامه عليه السّلام بل تأويل يناسبه و يستفاد منه كالتأويلات المذكورة في طائفة من التفاسير و شروح الأخبار المناسبة للايات و الأخبار.
مثلا أنّ النيشابوري ذكر في تفسيره غرائب القرآن التأويل الاتي من قوله تعالى «وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً- الى قوله تعالى- وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (البقرة- 65- الى 71) و نعلم يقينا أنّ هذا التأويل ليس تفسير كلامه تعالى و إن كان لا يخفى من لطافة من حيث التشبيهات و المناسبات و هو صرّح بذلك أيضا حيث قال بعد تفسيره الايات ما هذا لفظه:
التأويل: ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيميّة فإنّ في ذبحها حياة القلب الرّوحاني و هو الجهاد الأكبر، موتوا قبل أن تموتوا.
اقتلوني يا ثقاتي إنّ في قتلي حياتي و حياتي في مماتي و مماتي في حياتي
مت بالإرادة تحي بالطبيعة، و قال بعضهم: مت بالطبيعة تحي بالحقيقة، ما هي أنّه بقرة نفس تصلح للذبح بسيف الصدق، لا فارض في سنّ الشيخوخة فيعجز عن رضايف سلوك الطريق لضعف القوى البدنيّة كما قيل: الصوفي بعد الأربعين
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 144
بارد، و لا يكون في سنّ شرح الشباب يستهويه سكره عوان بين ذلك لقوله تعالى حتّى إذا بلغ أشدّه و بلغ أربعين سنة، صفراء إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرّياضات، فاقع لونها يريد أنّها صفرة زين لا صفرة شين فانّها سيماء الصالحين لا ذلول تثير الأرض، لا يحتمل ذلّة الطمع و لا تثير بالة الحرص أرض الدّنيا لطلب زخارفها و مشتهياتها، و لا تسقي حرث الدّنيا بماء وجهه عند الخلق و بماء وجاهته عند الخالق فيذهب ماؤه عند الحقّ و عند الخلق، مسلمة من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير اللَّه، و ما كادوا يفعلون بمقتضى الطبيعة، لو لا فضل اللَّه و حسن توفيقه و إذ قتلتم نفسا يعني القلب، فادّارأتم، فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدّنيا أو من نفس الأمّارة، فقلنا اضربوه ببعضها ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكّين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي باذن اللَّه عزّ و جلّ و قال:
إنّ النفس لأمّارة بالسّوء و إنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، مراتب القلوب في القسوة مختلفة فالّتي يتفجّر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان «من ظ» أنوار الرّوح بترك اللّذات و الشهوات، بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيّين و الهنود، و الّتي تشقّق فيخرج منها الماء هي الّتي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشريّة من أنوار الرّوح فيريه بعض الايات و المعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء، و الّتي يهبط من خشية اللَّه ما يكون لبعض أهل الأديان و الملل من قبول عكس أنوار الرّوح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف و الخشية، انتهى.
«القضاء و القاضى فى الاسلام»:
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» (القرآن الكريم- سورة النساء- الاية 62) يناسب في المقام تقديم نبذة من الكلام على ما قرّره الشرع في القضاء و القاضي على سبيل الإجمال و الاختصار فنقول:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 145
الغرض من إرسال الرّسل و إنزال الكتب إحياء مكارم الأخلاق، و محاسن الأفعال، و إماتة الصفات المردية، و الاداب المغوية، و إيقاظ عقول الناس من نوم الغفلة، و تزكيتهم من رين الهوى، و إنارة أرواحهم بالملكات الملكوتيّة، و إثارة فطرتهم إلى جناب الرّبّ جلّ و علا، و قيامهم بالعدل، و احتياج الظلم من بينهم ليتّصفوا بالأوصاف الرّبوبيّة، و يتخلّقوا بالأخلاق الإلهيّة، و لئلّا يتطرّق إليهم الجور و العدوان و الهرج و المرج قال اللَّه تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد- 26).
ثمّ لو تنازع اثنان في أمر فلا بدّ من حكم عدل يعطي كل ذي الحقّ حقّه، و يذبّ عنه التصرّف العدوانيّ و أكل المال بالباطل بالأمارات و الاصول الّتي جعلها الشارح الحكيم ميزانا له لحسم مادّة التنازع و قلع شجر التشاجر و فصل القضاء.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام كما في الكافي و التهذيب: أحكام المسلمين على ثلاثة:
شهادة عادلة. أو يمين قاطعة. أو سنّة ماضية من أئمة الهدى.
فلا بدّ لحفظ اجتماع الناس من حاكم عادل لا يبيع آخرته بدنياه و لا يعقل عقله بهواه.
و كما أنّ الإنسان يحتاج في سلامة جسمه إلى الطبيب الحاذق الأمين المؤمن، و في سلامة روحه إلى عالم عامل إلهيّ روحانيّ، كذلك يحتاج الاجتماع لحفظ نظامه و رفع المخاصمة و النزاع إلى طبيب آخر و هو القاضي العادل و حكومة عادلة و لا مناص للنّاس من هؤلاء الأطبّاء.
قال الامام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام في هذا المعنى: لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة تفزع إليه في أمر دنيا [هم ظ] و آخرتهم، فإن عدموا ذلك كانوا همجا:
فقيه عالم ورع، و أمير خيّر مطاع، و طبيب بصير ثقة (نقل في مادّة طبب من السفينة).
و اعتبر الشارع في القاضي البلوغ و كمال العقل و الايمان و طهارة المولد و العلم و الذكورة و العدالة، و إنما اعتبر فيه العدالة حتّى يراعي التسوية بين الخصمين
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 146
مطلقا و إن كان أحدهما وضيعا و الاخر شريفا و في الكافي و التهذيب عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: من ابتلى بالقضاء فليواس بينهم في الاشارة و في النظر و في المجلس فيجب عليه التسوية بينهما في الكلام و السّلام و القيام و غيرها من أنواع الاكرام حتّى لا يجوز له خطاب أحد الخصمين بالكنية و الاخر بالاسم لأنّ الاولى تنبى ء بالتعظيم دون الثاني، و كذا الانصات لكلّ واحد منهما على التفصيل الّذي بيّن في الكتب الفقهيّة.
و نحن نكتفي ههنا بما قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام لشريح أيضا في آداب الحكم لم يأت به الرّضيّ رضوان اللَّه عليه في النهج، نقله ثقة الاسلام الكليني مسندا في الكافي، و شيخ الطائفة في التهذيب، و الشيخ الأجلّ الصدوق في من لا يحضره الفقيه، و المحقق الفيض في الوافي (ص 135 ج 9) باسنادهم عن سلمة بن كهيل قال:
سمعت عليّا عليه السّلام يقول لشريح: انظر إلى أهل المعك و المطل و دفع حقوق الناس من أهل المقدرة و اليسار ممن يدلي بأموال المسلمين إلى الحكّام، فخذ للنّاس بحقوقهم منهم، و بع فيها العقار و الدّيار، فانّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول: مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم، و من لم يكن له عقار و لا دار و لا مال فلا سبيل عليه، و اعلم أنّه لا يحمل الناس على الحقّ إلّا من وزعهم عن الباطل، ثمّ واس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتّى لا يطمع قريبك في حيفك، و لا ييأس عدوّك من عدلك. و ردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته فانّ ذلك أجلى للعمى و أثبت في القضاء، و اعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلّا مجلودا في حدّ لم يتب منه، أو معروفا بشهادة زور، أو ظنينا، و إيّاك و التضجّر و التأذّي في مجلس القضاء الّذي أوجب اللَّه فيه الأجر، و أحسن فيه الذّخر لمن قضى بالحقّ، و اعلم أنّ الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما، و اجعل لمن ادّعى شهودا غيّبا أمدا بينهما، فان أحضرهم أخذت له بحقّه، و إن لم يحضرهم أوجبت عليه القضيّة. و إيّاك أن تنفذ قضيّة في قصاص أو حدّ من حدود اللَّه أو حقّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 147
من حقوق المسلمين حتّى تعرض ذلك عليّ إنشاء اللَّه، و لا تقعدنّ في مجلس القضاء حتّى تطعم.
و قال عليه السّلام لشريح أيضا كما في الكافي و التهذيب و الفقيه: لا تسارّ أحدا في مجلسك، و إن غضبت فقم، و لا تقضينّ و أنت غضبان.
و الأخبار المرويّة في الكتب الأربعة و غيرها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و أئمّة الهدى في آداب الحكم و القضاء و القاضي كثيرة جدّا تركناها خوفا من الإطناب و فيما قدّمناه كفاية لمن كان طالبا للصواب.
ثمّ إنّ ما قدّمنا من وجوب مراعاة المساواة بين الخصمين على القاضي يكون على وجه تساويهما في الإسلام أو الكفر، بأن كانا مسلمين أو كافرين، و لو كان أحدهما مسلما و الاخر كافرا، فلا يجب عليه مراعاتها بينهما، بل له أن يرفع المسلم على الكافر، و ذلك لما يأتي من قول أمير المؤمنين مع الرّجل اليهودي في مجلس شريح.
«وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (القرآن الكريم الاية 186 من البقرة).
و حرّم على الناس رفع الدّعاوي إلى قضاة الجور و التحاكم إليهم كما حرّم عليهم أكل المال بالباطل، و في الصحاح للجوهري: أدلى بما له إلى الحاكم:
رفعه إليه و منه قوله تعالى «وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ» يعني الرشوة، انتهى.
و قال الفيض في الوافي: قوله تعالى: تدلوا، أي و لا تدلوا حذف لا اعتمادا على العطف و المعنى لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم استعارة من قولهم أدلى دلوه إذا أرسلها، فانّ الرشوة ترسل إلى الحكّام.
و في الكافي و التهذيب باسنادهما عن ابن مسكان عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام: قول اللَّه تعالى في كتابه «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ» فقال: يا با بصير إنّ اللَّه قد علم أنّ في الامّة حكّاما يجورون أما أنّه لم يعن حكّام أهل العدل و لكنّه عنى حكام أهل الجور، يا با محمّد إنّه لو كان
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 148
لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت و هو قول اللَّه عزّ و جلّ «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» (النساء- 65).
و في التهذيب باسناده عن ابن فضال قال: قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني عليه السّلام و قرأته بخطه سأله ما تفسير قوله «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ؟» قال: فكتب إليه بخطّه: الحكّام القضاة قال: ثمّ كتب تحته: هو أن يعلم الرّجل أنه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذ ذلك الّذي حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم.
و إنما اعتبر فيه العلم أي العلم بجميع الأحكام عن اجتهاده أعني أن يكون مجتهدا في الدّين مستنبطا أحكامه بالأدلّة الأربعة من العقل و الإجماع و الكتاب و السنّة فلا يكفيه فتوى العلماء و قد وردت آيات و روايات كثيرة في تشديد ذلك و تأكيده، و لو نذكرها لكثر بنا الخطب و نقتصر بذكر شر ذمة قليلة منها.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام كما في الكافي و الفقيه و التهذيب لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ.
قال الباقر عليه السّلام: إنّ من أفتى النّاس بغير علم و لا هدى من اللَّه لعنته ملائكة الرّحمة و ملائكة العذاب، و لحقه و زر من عمل بفتياه.
و قال عليه السّلام: أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرّجال: أنهاك أن تدين اللَّه بالباطل، و تفتي الناس بما لا تعلم.
و قال الصادق عليه السّلام كما في الكافي و التهذيب: القضاة أربعة ثلاثة في النّار و واحد في الجنّة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النّار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم أنّه قضى بجور فهو في النّار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم أنّه قضى بجور فهو في النّار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النّار جل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 149
و في دعائم الاسلام عن عليّ عليه السّلام أنه قال: القضاة ثلاثة واحد في الجنّة و اثنان في النار: رجل جار متعمّدا فذلك في النار، و رجل أخطأ في القضاء فذلك في النّار و رجل عمل بالحقّ فذلك في الجنّة.
بيان: و لا تنافي بين الأخيرين لأنّ الوسط من الأخير يعمّ الوسطين من الأوّل و الوصيّ في قوله عليه السّلام أو وصيّ نبيّ يعمّ الوصيّ الخاصّ و العامّ، جمعا بين الأدلّة و تفصيل البحث موكول إلى الكتب الفقهيّة.
و أمّا الايات فقد قدّمنا بعضها و قال اللَّه تبارك و تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» (النساء- 106) و قوله تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (المائدة- 51) و قوله تعالى: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى » (ص- 27).
و إنما اعتبر فيه الذّكورة فلقوله صلّى اللَّه عليه و آله: لا يفلح قوم وليتهم امرأة، و وصيّته صلّى اللَّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام المرويّة في الفقيه باسناده عن حمّاد: يا علي ليس على المرأة جمعه- إلى أن قال: و لا تولّي القضاء، على أنّ ذلك إجماعيّ لا خلاف فيه عندنا الإماميّة، فلا يليق لها مجالسة الرّجال و رفع الصوت بينهم.
و أمّا اعتبار الإيمان فلأنّ المسلم الفاسق، إذا لم يصلح لهذا المنصب الجليل فكيف الكافر، على أنّ الكافر ليس أهلا للأمانة و لم يجعل اللَّه له سبيلا على المسلم إذ الإسلام يعلو و لا يعلا عليه قال اللَّه تعالى: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (النساء- 140). و أمّا اعتبار البلوغ و العقل فبيّن، و أمّا طهارة المولد فالعمدة فيها الإجماع و فحوى ما دلّ على المنع من إمامته و شهادته، على أنّ النفوس تنفر عن ولد الزنا.
ثمّ إنّ في سيرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و أهل بيته في دعاوي الناس لعبرة لأولي الألباب يليق لهم أن ينظروا فيها بعين العلم و الدّراية حتّى يتبيّن لهم أنّ الغرض من بعثهم لم يكن إلّا تعليم النّاس ما فيه نجاحهم و نجاتهم:
و هذا هو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله كيف يراعي حقوق النّاس و يحترمها، روى الشيخ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 150
الجليل العلّامة بهاء الدّين العاملي في الأربعين الحديث التاسع عشر باسناده عن موسى بن اسماعيل، عن أبيه، عن الامام أبي الحسن موسى الكاظم، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: إنّ يهوديّا كان له على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله دنانير فتقاضاه، فقال: يا يهودي ما عندي ما أعطيك، قال: فانّي لا افارقك يا محمّد حتى تقضيني، فقال صلّى اللَّه عليه و آله: إذا أجلس معك، فجلس صلّى اللَّه عليه و آله معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر و العصر و المغرب و العشاء الاخرة و الغداة و كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يتهدّدونه و يتواعدونه، فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إليهم فقال: ما الّذي تصنعون به؟
فقالوا: يا رسول اللَّه يهوديّ يحبسك، فقال صلّى اللَّه عليه و آله: لم يبعثني ربي عزّ و جلّ بأن أظلم معاهدا و لا غيره، فلمّا علا النّهار قال اليهوديّ: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و شطر ما لي في سبيل اللَّه أما و اللَّه ما فعلت بك الّذي فعلت إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة فانّي قرأت نعتك في التوراة: محمّد بن عبد اللَّه مولده بمكّة، و مهاجره بطيبة و ليس بفظّ، و لا غليظ، و لا سخاب، و لا مترنن بالفحش و لا قول الخنا، و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللَّه و أنك رسول اللَّه، و هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللَّه و كان اليهوديّ كثير المال.
و هذا هو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام فانظر إلى فعله و قوله كيف يراعي المواساة و العدل مع يهوديّ و يؤاخذ شريحا بر كونه إلى خلاف العدل حيث قام في مجلس المحاكمة له عليه السّلام إكراما له و لم يقم لليهودي.
قال أبو الفرج في الأغاني: و لشريح أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها و فيها ما لا يستغنى عن ذكره، منها محاكمة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في الدّرع قال:
حدّثني به عبد اللَّه بن محمّد بن إسحاق ابن اخت داهر بن نوح بالأهواز، قال: حدّثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، قال حدّثني حكيم بن حزام عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال: عرف عليّ صلوات اللَّه عليه درعا مع يهودي فقال: يا يهودي درعي سقطت مني يوم كذا و كذا. فقال اليهوديّ: ما أدري ما تقول، درعي و في يدي بيني و بينك قاضي المسلمين، فانطلقا إلى شريح فلمّا رآه شريح قام له عن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 151
مجلسه. فقال له عليّ: اجلس: فجلس شريح ثمّ قال: إنّ خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك و لكنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول: لا تساووهم في المجلس و لا تعودوا مرضاهم. و لا تشيّعوا جنائزهم، و اضطرّوهم إلى أضيق الطرق، و إن سبّوكم فاضربوهم، و إن ضربوكم فاقتلوهم، ثمّ قال عليه السّلام: درعي عرفتها مع هذا اليهودي، فقال شريح لليهودي: ما تقول؟ قال: درعي و في يدي، قال شريح:
صدقت و اللَّه يا أمير المؤمنين إنها لدرعك كما قلت و لكن لا بدّ من شاهد، فدعا قنبرا فشهد له، و دعا الحسن بن عليّ فشهد له، فقال: أمّا شهادة مولاك فقد قبلتها و أمّا شهادة ابنك لك فلا، فقال عليّ عليه السّلام: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول: إنّ الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، قال: اللّهمّ نعم، قال عليه السّلام: أفلا تجيز شهادة أحد سيّدي شباب أهل الجنّة، و اللَّه لتخرجنّ إلى بانقيا فلتقضينّ بين أهلها أربعين يوما، ثمّ سلّم الدّرع إلى اليهودي فقال اليهوديّ: أمير المؤمنين مشى معي إلى قاضيه فقضى عليه فرضي به، صدقت إنها لدرعك سقطت منك يوم كذا و كذا عن جمل أورق فالتقطتها و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللَّه و أنّ محمّدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، فقال عليّ عليه السّلام: هذه الدّرع لك، و هذه الفرس لك، و فرض له في تسعمائة فلم يزل معه حتّى قتل يوم صفين. انتهى.
قال القاضي ابن خلكان في التاريخ: روي أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام دخل مع خصم ذمّي إلى القاضي شريح فقام له، فقال: هذا أوّل جورك ثمّ أسند ظهره إلى الجدار و قال: أما إنّ خصمي لو كان مسلما لجلست بجنبه.
أقول: الظاهر أنهما قضيّة واحدة نقلها أبو الفرج بالتفصيل، و ابن خلّكان بالإجمال إلّا أنّ أبا الفرج لم ينقل قوله عليه السّلام له «هذا أوّل جورك».
و كذا يشير إلى هذه القضيّة ما في الرّوضات و غيره حيث قالوا: روي أنه عليه السّلام سخط على شريح مرّة فطرده من الكوفة و لم يعزله عن القضاء و أمره بالقيام ببانقيا، و كانت قرية من الكوفة أكثر سكّانها اليهود، فأقام بها مدّة حتّى رضي عنه و أعاده إلى الكوفة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 152
و روي قريب هذه المحاكمة في الكافي و التهذيب و الفقيه و جاء بها الفيض في أبواب الفضاء و الشهادات من الوافي (ص 141 ج 9) عن ابن أبي عمير، عن البجلي قال: دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السّلام، فسألاه عن شاهد و يمين فقال: قضى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، و قضى به عليّ عليه السّلام عندكم بالكوفة فقالا: هذا خلاف القرآن: قال عليه السّلام: و أين وجدتموه خلاف القرآن؟ فقالا:
إنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» (الطلاق- 3) فقال لهما أبو جعفر عليه السّلام: و أشهدوا ذوي عدل منكم هو أن لا تقبلوا شهادة واحد و يمينا؟! ثمّ قال عليه السّلام:
إنّ عليّا عليه السّلام كان قاعدا في مسجد الكوفة فمرّ به عبد اللَّه بن قفل التميمي و معه درع طلحة، فقال له عليّ عليه السّلام: هذه درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقال له عبد اللَّه بن قفل: فاجعل بيني و بينك قاضيك الّذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه و بينه شريحا، فقال عليّ عليه السّلام: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن عليه السّلام، فشهد أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة، فقال: هذا شاهد و لا أقضي بشهادة شاهد حتّى يكون معه آخر، قال: فدعا قنبرا فشهد أنّها. درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقال شريح: هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك، قال: فغضب عليّ صلوات اللَّه عليه و قال: خذوها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات.
قال: فنحوّل شريح عن مجلسه ثمّ قال: لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات؟.
فقال له: ويلك أو ويحك إنّي لما أخبرتك أنّها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت هات على ما تقول بيّنة و قد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حيث ما وجد غلول اخذ بغير بيّنة فقلت رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة، ثمّ أتيتك بالحسن عليه السّلام فشهد، فقلت: هذا واحد و لا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر و قد قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بشهادة واحد و يمين فهذه ثنتان، ثمّ أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت: هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك و ما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا ثمّ قال: ويلك أو ويحك إمام المسلمين
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 153
يؤتمن من امورهم على ما هو أعظم من هذا.
قال الفيض في بيانها: الغلول الخيانة و ربما يختصّ بالغنيمة يقال: غلّ شي ء من المغنم إذا اخذ في خفية، و لعلّ الوجه في جواز أخذ الغلول بغير بيّنة أنه ممّا يعرفه العسكر و لم يقسم بعد بين أهله ليباع و يوهب، و كفى بهذه القضيّة شاهدا على حماقة شريح، إلى آخر ما قال.
ثمّ و ممّا يليق أن يذكر في المقام تنبيها للقضاة و غيرهم من ذوي المناصب أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قال: الفقر فخري، و هذا الفقر قد فسّر بالفقر إلى اللَّه تعالى قال عزّ من قائل «أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (فاطر- 17) كما هو السائر في ألسنة العرفاء.
و لكن يمكن أن يفسّر بوجه آخر و هو أن يكون الفقر بمعناه المصطلح الدّراج أي الفقر من الدّرهم و الدّينار و الأرض و الدّار و غيرها من حطام الدّنيا و زخارفها، و أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يباهي بفقره من حيث إنّه لم يخن النّاس و لم يطمع إلى أموالهم مع أنّ الدّنيا كانت مقبلة إليه، و لو شاء أن يكون له بيت من زخرف فما فوقه لتيسّر له و قد قدّمنا في شرح الخطبة 233 (ص 93 ج 1 من تكملة المنهاج) كانت عنده صلّى اللَّه عليه و آله في مرضه الّذي توفي منه سبعة دنانير أو ستّة فأمر أن يتصدّق بها و قال صلّى اللَّه عليه و آله: ما ظنّ محمد بربّه أن لو لقى اللَّه و هذه عنده؟.
و لا ريب أنّ ذا منصب و مقام إذا زاد أمواله على قدر اجرته و نفقته من غير نسبة متناسبة كما نرى في عصرنا هذا أنّ كثيرا من أشباه الرّجال و لا رجال إذا تولّوا أمرا من الامور لم ينصرم عليهم برهة من الزّمان إلّا بلغت أموالهم من الدّور و القصور و النقود و الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي القوّة، اتّبع الشيطان لا جرم فعدل عن سواء الطريق، فخان الناس.
و لو لا السرقة و الخيانة و الارتشاء و أكل المال بالباطل فأنّى حصلت له، و لم لم تحصل للاخر الشريف النجيب الأصيل المؤمن الموحّد الرّؤوف بالنّاس و خدومهم فحريّ أن يقال لهؤلاء اللّصوص: اجتنبوا عن ظلم العباد فانّ ربّكم لبالمرصاد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 154
و إن لم يكن لكم دين فكونوا في دنياكم أحرارا، و لا تكونوا كالّذين قال الشاعر فيهم:
ليل البراغيث ليل لا نفاد له لا بارك اللَّه في ليل البراغيث
كأنهنّ بجسمي إذ خلون به قضاة سوء على مال المواريث
ثمّ الروايات في ذمّ أخذ الرشا في الحكم و ذمّ القاضي الجائر في الحكم كثير جدّا مع أنّها تمضي حكم العقل في ذلك، لأنّ العقل يحكم بذمّ الرشا و الجور.
روي في الكافي و التهذيب عن سماعة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: الرشا في الحكم هو الكفر باللَّه.
و فيهما عن ابن مسكان عن يزيد بن فرقد قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن السحت فقال: الرشا في الحكم.
بيان: مراد السائل من السحت هو قوله تعالى: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» الاية (المائدة- 47) و قوله تعالى: «وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ» و قوله تعالى «لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ» (المائدة- 68 و 69) فسأله عليه السّلام عن السحت أي ما معناه في القرآن الكريم أكّالون للسحت و أكلهم السحت. و نعم ما قال العارف الرّومي:
تا تو رشوت نستدي بيننده اي چون طمع كردي ضرير و بنده اى
«ذكر شريح و نسبه و خبره»:
قد اختلف الرواة في نسبه اختلافا كثيرا و أصحّ الطرق فيه هو: أبو اميّة شريح بن المحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتّع- بتشديد التاء المثناة من فوقها و كسرها- الكندي، كما في الأغاني (ص 35 ج 16 طبع ساسي) و اسد الغابة و تاريخ ابن خلكان و غيرها من الكتب المعتبرة.
و في الروضات للخوانساري: الكندي بكسر الكاف نسبة إلى كندة الّتي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 155
لقّب بها جدّه الثامن ثور بن مرتع الكوفي، لأنّه كند أباه نعمته بمعنى كفّرها و كذا في تاريخ ابن خلّكان أيضا.
و قال في الأغاني بعد ذكر نسبه المذكور: و قد اختلف الرّواة بعد هذا في نسبه فقال بعضهم: شريح بن هانى ء، و هذا غلط، ذاك شريح بن هانى ء الحارثي، و اعتلّ من قال هذا بخبر روي عن مجاهد عن الشعبي أنّه قرأ كتابا من عمر إلى شريح من عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إلى شريح بن هانى ء، و قد يجوز أن يكون كتب عمر هذا الكتاب إلى شريح بن هانى ء الحارثني و قرأه الشعبي و كلا هذين الرّجلين معروف، و الفرق بينهما النسب و القضاء، فانّ شريح بن هانى ء لم يقض و شريح ابن الحارث قد قضى لعمر بن الخطاب و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و قيل: شريح بن عبد اللَّه، و شريح بن شراحيل، و الصحيح ابن الحارث و ابنه أعلم به.
أقول: و إنما قال و ابنه أعلم به لأنه روى نسبه المذكور عن هشام بن السائب و عن ابن شريح ميسرة بن شريح.
ثمّ روى باسناده عن أبي ليلى أنّ خاتم شريح كان نقشه: شريح الحارث و قيل: إنه من أولاد الفرس الّذين قدموا اليمن مع سيف بن ذي يزن و عداه في كندة و قد روى عنه شيبة بذلك.
و روى باسناده عن الشعبي قال: جاء أعرابيّ إلى شريح فقال: من أنت؟
قال: أنا من الّذين أنعم اللَّه عليهم و عدادي في كندة. و روى عن أبي حصين قال: كان شريح إذا قيل له: ممّن أنت؟ قال: ممّن أنعم اللَّه عليه بالإسلام عديد كندة قال و كيع: و قيل: إنه لما خرج إلى المدينة ثمّ إلى العراق لأنّ امّه تزوّجت بعد أبيه، فاستحيا.
و في اسد الغابة: أنّه أدرك النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلم و لم يلقه، و قيل لقيه، و استقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة فقضى بها أيّام عمر و عثمان و عليّ، و لم يزل على القضاء بها إلى أيّام الحجّاج، فأقام قاضيا بها ستّين سنة، و كان أعلم الناس بالقضاء
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 156
ذا فطنة و ذكاء و معرفة و عقل، و كان شاعرا محسنا، له أشعار محفوظة و كان كوسجا لا شعر في وجهه.
قال: روى عليّ بن عبد اللَّه بن معاوية بن ميسرة بن شريح القاضي، عن أبيه عن جدّه معاوية، عن شريح أنه جاء إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فأسلم ثمّ قال: يا رسول اللَّه إنّ لي أهل بيت ذو عدد باليمن فقال له: جي ء بهم، فجاء بهم و النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قد قبض.
و قال ابن خلكان: كان من كبار التابعين و أدرك الجاهليّة و استقضاه عمر ابن الخطاب على الكوفة فأقام قاضيا خمسا و ستّين سنة لم يتعطّل فيها إلّا ثلاث سنين امتنع فيها من القضاء في فتنة ابن الزبير، و استعفى الحجّاج بن يوسف من القضاء فأعفاه و لم يقض بين اثنين حتّى مات.
و قال ابن عبد البر: و كان شاعرا محسنا، و هو أحد السادات الطلس و هم أربعة: عبد اللَّه بن الزبير، و قيس بن سعد بن عبادة، و الأحنف بن قيس الّذي يضرب به المثل في الحلم، و القاضي شريح المذكور.
الطلس: جمع الأطلس أي الّذي لا شعر في وجهه و قال الخوانساري في الروضات: و قيل: إنه من الكواسج الأربعة و فيه مسامحة، لأنّ الكوسج في اللّغة من كانت لحيته على الذقن دون العارضين أو كان خفيفها جدّا و كذلك في العرف و عليه قول بعض أهل الحكمة: ما طالت لحية أحد إلّا تكوسج عقله، بمعنى رقّ و خفّ- انتهى.
أقول: الكوسج إن كان معرّب كوسه كما في البرهان القاطع قال: كوسه بر وزن بوسه معروف است يعنى شخصى كه او را در چانه و زنخ زياده بر چندي موى نباشد و معرّب آن كوسج است، فهو كما قاله الخوانساري، و إن كان عربيّا من كسج الرّجل أي لم ينبت له لحية فالتعبير بالكوسج صحيح بلا مسامحة و إن كان الأوّل هو الأصحّ و الأصوب، قال الجوهريّ: الكوسج الأثط و هو معرّب، و قال الأزهريّ لا أصل له في العربيّة. و الأثط هو الّذي لحيته على ذقنه لا على العارضين.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 157
و كان شريح خفيف الرّوح مزّاحا دخل عليه عذيّ بن أرطاة (حاتم خ ل) فقال له: أين أنت أصلحك اللَّه؟ فقال: بينك و بين الحائط قال: استمع منّي، قال:
قل أسمع، قال: إنّي رجل من أهل الشّام، قال: من مكان سحيق، قال: تزوّجت عندكم، قال: بالرفاء و البنين، قال: و أردت أن أرحلها، قال: الرّجل أحقّ بأهله، قال: و شرطت لها دارها، قال: الشرط أملك، قال: فاحكم الان بيننا قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: على ابن امّك، قال: بشهادة من؟
قال: بشهادة ابن اخت خالتك. نقله الجاحظ في البيان و التبيين (ص 98 ج 4 طبع مصر 1380 ه) و ابن خلكان في وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزّمان.
و في الوفيات أيضا: حدّث أبو جعفر المدني عن شيخ من قريش قال: عرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري: يا أبا اميّة كيف لبنها؟ قال: احلب في أيّ إناء شئت، قال: كيف الوطأ؟ قال: افرش و نم، قال: كيف نجاؤها؟ قال: إذا رأيتها في الابل عرفت مكانها علّق سوطك و نم، قال: كيف قوّتها؟ قال: احمل على الحائط ما شئت، فاشتراها فلم ير شيئا ممّا وصفها به. قال: ما كذبتك قال: أقلني قال: نعم.
و فيه أيضا: قيل: تقدم رجلان إلى شريح فاعترف أحدهما بما ادّعى عليه و هو لا يعلم بذلك فقضى عليه، فقال الرّجل: تقضي عليّ من غير بيّنة؟ فقال: قد شهد عندي الثقة، قال: و من هو؟ قال: ابن أخي عمّك. و قد ألمّ بهذا المعنى أبو عبد اللَّه الحسين الحجاج:
و إن قدّموا خيلهم للركوب خرجت فقدّمت لي ركبتي
و في جمل النّاس غلمانهم و ليس سوى أنا في جملتي
و لا لي غلام فادعى به سوى من أبوه أخو عمّتي
قال: و قال الأشعث بن قيس لشريح: ما أشدّ ما ارتفعت؟! قال: فهل ضرّك ذلك؟
قال: لا، قال: الأشعث بن قيس لشريح: ما أشدّ ما ارتفعت! قال:: فهل ضرّك ذلك؟
قال: لا، قال: فأراك تعرف نعمة اللَّه عليك فيحفظها في نفسك.
قال: و حدّث محمّد بن سعد عن عامر الشعبي أنّ ابن الشريح قال لأبيه: إنّ بيني و بين قوم خصومة فانظر فان كان الحقّ لي خاصمت و إن لم يكن لي الحقّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 158
لم اخاصمهم، فقصّ قصّته عليه، فقال: انطلق فخاصمهم، فانطلق إليهم فتخاصموا إليه فقضى عليه ابنه، فقال لمّا رجع إلى أهله: و اللَّه لو لم أتقدّم إليك لم ألمك فقال: و اللَّه يا بنيّ لأنت أحبّ إليّ من ملء الأرض مثلهم، و لكنّ اللَّه هو أعزّ عليّ منك خشيت أن اخبرك أنّ القضاء عليك فتصالحهم ببعض حقّهم.
و عن الشعبي أيضا قال: شهدت شريحا و جائته امرأة تخاصم رجلا فأرسلت عينيها فبكت، فقلت: يا أبا اميّة ما أظنّ هذه الباكية إلّا مظلومة، فقال: يا شعبي إنّ إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.
قال: و يروى أنّ زياد بن أبيه كتب إلى معاوية: يا أمير المؤمنين قد ضبطت لك العراق بشمالي و فرغت يميني لطاعتك فولّني الحجاز، فبلغ ذلك عبد اللَّه بن عمر و كان مقيما بمكّة فقال: اللّهمّ اشغل عنّا يمين زياد، فأصابه الطّاعون في يمينه فجمع الأطبّاء و استشارهم فأشاروا عليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحا و عرض عليه ما أشار به الأطبّاء فقال له: لك رزق معلوم و أجل محتوم و إني أكره إن كانت لك مدّة أن تعيش فى الدّنيا بلا يمين، و إن كان قد دنا أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليمين، فاذا سألك لم قطعتها؟ قلت: بغضا في لقائك و فرارا من قضائك فمات زياد من يومه، فلام الناس شريحا على منعه من القطع لبغضهم له فقال: إنه استشارني و المستشار مؤتمن، و لو لا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطع يده يوما و رجله يوما. و سائر جسده يوما يوما.
و كان شريح رجلا داهيا، قال الدميري في حيوة الحيوان: قيل للشعبي:
يقال في المثل: إنّ شريحا أدهى من الثعلب و أحيل. فما هذا؟ فقال: خرج شريح أيّام الطاعون إلى النجف فكان إذا قام يصلّي يجي ء ثعلب فيقف تجاهه و يحاكيه و يخيّل بين يديه و يشغله عن صلاته، فلمّا طال ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة و أخرج كمّيه و جعل قلنسوته عليها، فأقبل الثعلب فوقف بين يديه على عادته فأتاه شريح من خلفه و أخذه بغتة فلذلك يقال: شريح أدهى من الثعلب و أحيل.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 159
و كان شاعرا محسنا و ذكر أبياتا منه أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني و القاضي ابن خلكان في وفيات الأعيان ففي الأغاني، بعد ذكر خبر زينب بنت حدير و ترويج شريح إيّاها قال: قال شريح: فما غضبت عليها قطّ إلّا مرّة كنت لها ظالما فيها، و ذاك إني كنت إمام قومي فسمعت الإقامة و قد ركعت ركعتي الفجر فأبصرت عقربا فعجّلت عن قتلها فأكفأت عليها الإناء، فلمّا كنت عند الباب قلت:
يا زينب لا تحرّكي الإناء حتّى أجي ء. فعجّلت فحرّكت الإناء فضربتها العقرب فجئت فإذا هي تلوي، فقلت: ما لك؟ قالت: لسعتني العقرب فلو رأيتني يا شعبي و أنا أعرك اصبعها بالماء و الملح و أقرأ عليها المعوذتين و فاتحة الكتاب، و كان لي يا شعبي جار يقال له: ميسرة بن عرير من الحيّ، فكان لا يزال يضرب امرأته فقلت:
رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلّت يميني يوم أضرب زينبا
يا شعبي فوددت أني قاسمتها عيشي، قال: و ممّا يغني فيه من الأشعار الّتي قالها شريح في امرأته زينب:
رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلّت يميني يوم أضرب زينبا
أ أضربها في غير جرم أتت به إليّ فما عذري إذا كنت مذنبا
فزينب شمس و النساء كواكب إذا طلعت لم تبد منهنّ كوكب
فتاة تزين الحلي إن هي حليت كأنّ بفيها المسك خالط محلبا
أقول: و قال آخر نحو مضمون البيت الأخير:
و إذا الدّرّ زان حسن وجوه كان للدّرّ حسن وجهك زينا
و كذا قال بهذا المضمون حسين بن مطير «بالتصغير» في باب النسيب من الحماسة (الحماسة 460):
مخصّرة الأوساط زانت عقودها بأحسن مما زيّنتها عقودها
و بهذا المضمون للشيخ الأجلّ السعدي بالفارسيّة:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 160
تو از هر در كه باز آيي بدين خوبيّ و رعنائي درى باشد كه از رحمت بروى خلق بگشائي
بزيورها بيارايند مردم خوبرويان را تو سيمين تن چنان خوبي كه زيورها بيارائي
و ذكر أبو الفرج في الأغاني أنّ شريحا قال هذه الأبيات الاتية في زوجته زينب بنت حدير التميمية أيضا، ثمّ قال: و ذكر اسحاق في كتاب الاغاني المنسوب اليه أنه لابن محرز:
إذا زينب زارها أهلها حشدت و أكرمت زوّارها
و إن هي زارتهم زرتهم و إن لم أحد لي هوى دارها
فسلمي لمن سالمت زينب و حربي لمن أشعلت نارها
و ما زلت أرعى لها عهدها و لم أتّبع ساعة عارها
و في تاريخ ابن خلكان: روي أنّ عليا عليه السّلام قال: اجمعوا إليّ القرّاء فاجتمعوا في رحبة المسجد فقال: إنّي اوشك أن افارقكم، فجعل يسألهم ما تقولون في كذا؟. ما تقولون في كذا؟، ما تقولون في كذا؟، و شريح ساكت، ثمّ سأله فلمّا فرغ منهم قال: اذهب فأنت من أفضل الناس أو من أفضل العرب.
و في الروضات بعد نقل هذه الرّواية من ابن خلكان قال: و أنت خبير بأنّ من هذه الرّواية العاميّة تلوح آثار الوضع إلى آخر ما قال، فراجع و تأمّل.
و قال في الأغاني باسناده عن الشعبي: إنّ عمر بن الخطاب أخذ من رجل فرسا على سوم فحمل عليه رجلا فعطب الفرس، فقال عمر: اجعل بيني و بينك رجلا، فقال له الرجل: اجعل بيني و بينك شريحا العراقي، فقال: يا أمير المؤمنين أخذته صحيحا سليما على سوم فعليك أن تردّه كما أحذته، قال: فأعجبه ما قال و بعث به قاضيا ثمّ قال: ما وجدته في كتاب اللَّه فلا تسأل عنه أخذا، و ما لم تستبن في كتاب اللَّه فالزم السنّة، فإن لم يكن في السنّة فاجتهد رأيك.
أقول: قد قدّمنا في المباحث السالفة أنّ كلّ ما يحتاج اليه الناس من امور الدّين قد جاء به الكتاب و السنّة يستنبط منهما الأحكام الجزئيّة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 161
و في الأغاني قال عمر لشريح حين استقضاه: لاتشار، و لا تضار، و لا تشتر و لا تبع، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين:
إنّ القضاة إن أرادوا عدلا و فصّلوا بين الخصوم فصلا
و زحزحوا بالحكم منهم جهلا كانوا كمثل الغيث صاب محلا
ثمّ قال: و له أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها، و فيها ما لا يستغنى عن ذكره، منها محاكمة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في الدّرع و قد قدّمناها في البحث السابق آنفا.
و قد روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي و الصدوق في الفقيه و شيخ الطائفة في التهذيب و الفيض في أبواب القضاء و الشهادات من الوافي (ص 159 ج 9) قضيّة قضى بها شريح أوّلا ثمّ قضى بها أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بخلافه رادّا عليه و هي:
أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام دخل المسجد فاستقبله شابّ يبكي و حوله قوم يسكّتونه، فقال عليّ عليه السّلام: ما أبكاك؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنّ شريحا قضى عليّ بقضيّة ما أدري ما هي، إنّ هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر فرجعوا و لم يرجع أبي فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما ترك مالا فقدّمتهم إلى شريح فاستحلفهم، و قد علمت يا أمير المؤمنين أنّ أبي خرج و معه مال كثير، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السّلام: ارجعوا، فرجعوا و الفتى معهم إلى شريح، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: يا شريح كيف قضيت بين هؤلاء القوم؟ فقال: يا أمير المؤمنين ادّعى هذا الفتى على هؤلاء النفر أنهم خرجوا في سفر و أبوه معهم فرجعوا و لم يرجع أبوه، فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما خلّف مالا، فقلت للفتى: هل لك بيّنة على ما تدّعي؟ فقال: لا، فاستحلفتهم فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: هيهات يا شريح هكذا تحكم في مثل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين فكيف؟ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و اللَّه لأحكمنّ فيهم بحكم ما حكم به خلق قبلي إلّا داود النّبيّ عليه السّلام، يا قنبر ادع لي شرطة الخميس، فدعاهم فوكّل بكلّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 162
واحد منهم رجلا من الشرطة، ثمّ نظر إلى وجوههم فقال: ما ذا تقولون؟
أ تقولون إنّي لا أعلم ما صنعتم بأب هذا الفتى؟ إنّي إذا لجاهل، ثمّ قال: فرّقوهم غطّوا رؤوسهم ففرّق بينهم و اقيم كلّ رجل منهم إلى اسطوانة من أساطين المسجد و و رؤوسهم مغطّاة بثيابهم.
ثمّ دعا عبيد اللَّه بن أبي رافع كاتبه فقال: هات صحيفة و دواة، و جلس أمير المؤمنين عليه السّلام في مجلس القضاء و اجتمع الناس إليه فقال لهم: إذا أنا كبّرت فكبّروا، ثمّ قال للنّاس: افرجوا.
ثمّ دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه و كشف عن وجهه ثمّ قال لعبيد اللَّه: اكتب إقراره و ما يقول، ثمّ أقبل عليه بالسؤال فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: في أيّ يوم خرجتم من منازلكم و أبو هذا الفتى معكم؟ فقال الرّجل: في يوم كذا. و كذا، قال عليه السّلام في أيّ شهر؟ قال: في شهر كذا و كذا، قال عليه السّلام: في أيّ سنة؟ قال في سنة كذا و كذا، قال: و إلى أين بلغتم من سفركم حين مات أبو هذا الفتى؟ قال: إلى موضع كذا و كذا، قال عليه السّلام: في منزل من مات؟ قال: في منزل فلان بن فلان: قال: و ما كان مرضه؟ قال: كذا و كذا، قال عليه السّلام: فكم يوما مرض؟ قال، كذا و كذا، قال عليه السّلام، فمن كان يمرّضه و في أيّ يوم مات و من غسّله و أين غسّله، و من كفّنه و بم كفّنتموه، و من صلّى عليه و من نزل قبره؟
فلمّا سأله عن جميع ما يريد كبّر أمير المؤمنين عليه السّلام و كبّر الناس جميعا فارتاب اولئك الباقون و لم يشكّوا أنّ صاحبهم قد أقرّ عليهم و على نفسه، فأمر عليه السّلام أن يغطّي رأسه و ينطلق به إلى السجن.
ثمّ دعا باخر فأجلسه بين يديه و كشف عن وجهه ثمّ قال عليه السّلام، كلّا زعمتم أنّي لا أعلم بما صنعتم؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا إلّا واحد من القوم و لقد كنت كارها لقتله فأقرّ.
ثمّ دعا بواحد بعد واحد كلّهم يقرّ بالقتل و أخذ المال ثمّ ردّ الّذي كان أمر به إلى السجن فأقرّ أيضا فألزمهم المال و الدّم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 163
فقال شريح: يا أمير المؤمنين و كيف كان حكم داود النبيّ عليه السّلام؟
فقال عليه السّلام: إنّ داود النبيّ مرّ بغلمة يلعبون و ينادون بعضهم بيامات الدّين فيجيب منهم غلام، فدعاهم داود عليه السّلام فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقال: مات الدّين فقال له داود: من سمّاك بهذا الاسم؟ فقال: أمّي، قال عليه السّلام: فانطلق داود عليه السّلام إلى امّه فقال لها: يا أيّتها المرأة ما اسم ابنك هذا؟ فقالت: مات الدّين، فقال لها: و من سمّاه بهذا الاسم؟ قالت: أبوه، قال: و كيف كان ذلك؟ قالت: إنّ أباه خرج في سفر له و معه قوم و هذا الصبيّ حمل في بطني فانصرف القوم و لم ينصرف زوجي فسألتهم عنه فقالوا: مات، فقلت لهم: فأين ما ترك؟ قالوا: لم يخلّف شيئا فقلت: هل أوصاكم بوصيّة؟ قالوا: نعم زعم أنك حبلى فما ولدت من ولد جارية أه غلام فسميّه مات الدّين، فسميّته.
قال داود: و تعرفين القوم الّذين كانوا خرجوا مع زوجك؟ قالت: نعم قال: فأحياء هم أم أموات؟ قالت: بل أحياء، قال: فانطلقي بي إليهم.
ثمّ مضى معها فاستخرجهم من منازلهم فحكم بينهم بهذا الحكم بعينه و أثبت عليهم المال و الدّم، ثمّ قال للمرأة: سمّي ابنك هذا عاش الدّين.
ثمّ إنّ الفتى و القوم اختلفوا في مال الفتى كم كان؟ فأخذ أمير المؤمنين عليه السّلام خاتمه و خواتيم من عنده ثمّ قال: اجبلوا بهذه السهام فأيكم أخرج خاتمي فهو صادق في دعواه، لأنه سهم اللَّه و سهم اللَّه لا يخيب.
ثمّ إنّ الكليني روى تلك القضيّة باسناده عن الأصبغ بن نباتة أيضا و قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لما رأى قضاء شريح فيها قال:
أوردها سعد و سعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الابل
و قال عليه السّلام: ما يغني قضاك يا شريح، ثمّ قال عليه السّلام: و اللَّه لأحكمنّ فيهم بحكم ما حكمه قبلي إلّا داود النبي عليه السّلام- إلى آخرها.
بيان: قال الميداني في باب الألف من مجمع الأمثال في بيان مثل «آبل من مالك بن زيد مناة» هو سبط تميم بن مرّة، و كان يحمق إلّا أنه كان آبل أهل
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 164
زمانه، ثمّ إنه تزوّج و بنى بامرأته فأورد الإبل أخوه سعد و لم يحسن القيام بها و الرفق عليها، فقال مالك: أوردها سعد، البيت. فأجابه سعد و قال:
يظلّ يوم وردها مزعفرا و هي خناطيل تجوش الخضرا
و قال في فصل الواو الساكنة منه في بيان مثل «أوردها سعد و سعد مشتمل»
يضرب لمن قصّر في طلب الأمر. انتهى.
فمراده عليه السّلام أنّ شريحا قصّر في حكم هذه القضيّة و لم يحسن القيام به.
و في المجلّد العاشر من البحار ص 90 طبع الكمباني: ادّعى رجل على الحسن ابن عليّ عليهما السّلام ألف دينار كذبا و لم يكن له عليه فذهبا إلى شريح فقال للحسن عليه السّلام أ تحلف؟ قال: إن حلف خصمي أعطيه، فقال شريح للرّجل: قل باللَّه الّذي لا إله إلّا هو عالم الغيب و الشهادة، فقال الحسن عليه السّلام: لا اريد مثل هذا لكن قل: باللَّه إنّ لك عليّ هذا و خذ الألف، فقال الرّجل ذلك و أخذ الدّنانير، فلمّا قام خرّ إلى الأرض و مات، فسئل الحسن عليه السّلام عن ذلك فقال: خشيت أنه لو تكلّم بالتوحيد يغفر له يمينه ببركة التوحيد و يحجب عنه عقوبة يمينه.
أقول: و نظير ذلك روى الشيخ المفيد في الإرشاد و الكليني في الكافي و الفيض في الوافي (ص 245 ج 5) عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام و هو أنّ المنصور أمر الرّبيع باحضاره فأحضره فلمّا بصر به المنصور قال له: قتلني اللَّه إن لم أقتلك أتلحد في سلطاني و تبغيني الغوائل؟ فقال له أبو عبد اللَّه عليه السّلام: و اللَّه ما فعلت و لا أردت و إن كان يلغك فمن كاذب، و لو كنت فعلت فقد ظلم يوسف فغفر، و ابتلى أيّوب فصبر، و اعطى سليمان فشكر، فهؤلاء أنبياء اللَّه و إليهم يرجع نسبك.
فقال له المنصور: أجل ارتفع ههنا فارتفع، فقال له: إن فلان بن فلان أخبرني عنك بما ذكرت، فقال: أحضره يا أمير المؤمنين ليوافقني على ذلك، فاحضر الرّجل المذكور فقال له المنصور: أنت سمعت ما حكيت عن جعفر عليه السّلام؟ قال: نعم، فقال له أبو عبد اللَّه عليه السّلام: فاستحلفه على ذلك.
فقال له المنصور: أ تحلف؟ قال: نعم، و ابتدأ باليمين. فقال له أبو عبد اللَّه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 165
عليه السّلام: دعني يا أمير المؤمنين احلّفه أنا، فقال له: افعل فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام للساعي: قل: برئت من حول اللَّه و قوّته و التجأت إلى حولي و قوّتي لقد فعل كذا و كذا جعفر و قال كذا و كذا جعفر، فامتنع منها هنيئة ثمّ حلف بها فما برح حتى ضرب برجله فقال أبو جعفر: جرّوا برجله فأخرجوه لعنه اللَّه.
قال الربيع: و كنت رأيت جعفر بن محمّد عليهما السّلام حين دخل على المنصور يحرّك شفتيه. فكلّما حركهما سكن غضب المنصور حتّى أدناه منه و قد رضي عنه، فلمّا خرج أبو عبد اللَّه عليه السّلام من عند أبي جعفر اتبعته فقلت له: إنّ هذا الرّجل كان من أشدّ النّاس غضبا عليك فلمّا دخلت عليه دخلت و أنت تحرّك شفتيك و كلّما حرّكتهما سكن غضبه فبأيّ شي ء كنت تحرّكهما؟.
قال عليه السّلام: بدعاء جدّي الحسين بن عليّ عليهما السّلام قلت: جعلت فداك و ما هذا الدّعاء؟ قال: «يا عدّتي عند شدّني و يا غوثي عند كربتي احرسني بعينك الّتي لا تنام و اكتفني بركنك الّذي لا يرام».
قال الرّبيع: فحفظت هذا الدّعاء فما نزلت بي شدّة قطّ إلّا دعوت به ففرّج عني.
قال: و قلت لجعفر بن محمّد عليهما السّلام: لم منعت الساعي أن يحلف باللَّه؟.
قال عليه السّلام: كرهت أن يراه اللَّه يوحّده و يمجّده فيحلم عنه و يؤخّر عقوبته فاستحلفته بما سمعت، فأخذه اللَّه أخذا رابية.
و في عاشر البحار ص 179 طبع الكمباني أنّ ابن زياد لما ضرب بالقضيب هانيا رضوان اللَّه عليه في قضيّة مسلم بن عقيل عليه السّلام حتّى كسر أنفه و سال الدّماء على ثيابه و وجهه و لحيته و نثر لحم جبينه و خدّه على لحيته حتى كسر القضيب ثمّ أمر بإلقائه في بيت من بيوت الدّار و حبسه فيه بلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانيا قد قتل فأقبل في مذحج حتّى أحاط بالقصر و معه جمع عظيم، ثمّ نادى و قال: أنا عمرو بن الحجاج و هذه فرسان مذحج و وجوهها لم نخلع طاعة و لم نفارق جماعة و قد بلغهم أنّ صاحبهم قد قتل فأعظموا ذلك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 166
فقيل لابن زياد: هذه فرسان مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبكم فانظر إليه ثمّ اخرج و أعلمهم أنه حيّ لم يقتل.
فدخل شريح فنظر إليه فقال هانى ء لما رأى شريحا: يا للَّه يا للمسلمين أهلكت عشيرتي أين أهل الدّين؟ أين أهل المصر؟ و الدّماء تسيل على لحيته إذ سمع الصيحة على باب القصر فقال: إني لأظنها أصوات مذحج و شيعتي من المسلمين إنه إن دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني.
فلمّا سمع مقاله شريح خرج إليهم فقال لهم: إنّ الأمير لمّا بلغه كلامكم و مقالتكم في صاحبكم أمرني بالدّخول إليه فأتيته فنظرت إليه فأمرني أن ألقيكم و أعرّفكم أنه حيّ و أنّ الّذي بلغكم من قتله باطل، فقال له عمرو بن الحجاج و أصحابه: أما إذا لم يقتل فالحمد للَّه، ثمّ انصرفوا.
و في روضات الجنّات بعد نبذة من ترجمة شريح قال:
و بالجملة فالأخبار في خباثة رأي هذا الرّجل و سوء عاقبته كثيرة، و حسب الدلالة على غاية ملعنته و شقاوته كونه من جملة من ترك إغاثة مولانا الحسين عليه السّلام بكلمة خير عند بني اميّة، كانت تمكنه يقينا بل كونه من جملة من تسبّب ذلك منه و من أمثاله الّذين كانوا يطئون بساط الظالم عبيد اللَّه بن زياد الملعون في دار الإمارة كوفة، كما يشهد بذلك واقعة مسلم بن عقيل المظلوم و ولديه الشهيدين و ما صدر منه في حقّهم و بدر منه على قتلهم، و يؤيّده أيضا ما نقل عن أبي مخنف الأزدي صاحب المقتل أنّه ذكره من جملة من قتله المختار في زمن انتقامه من بني اميّة و أتباعهم الملعونين. فليتأمّل. انتهى قوله.
اختلف في سنّه فقيل: مائة و عشرون سنة، و قيل: مائة و عشر، و قيل: أقلّ من ذلك و أكثر، و كان وفاته سنة سبع و ثمانين للهجرة، و قيل غير ذلك.
و في الأغاني عن أبي سعيد الجعفي أنه مات في زمن عبد الملك بن مروان، و فيه باسناده عن الأصمعي ولد شريح و هو ابن مائة سنة.
و في الروضات، أنّه كان خفيف الرّوح مزاحا و يشهد بصحة هذه النسبة إليه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 167
طول عمره فانّ من أشدّ ما ينقص به العمرو ينغص به العيش إنما هو زيادة الغيرة و الاغتمام، و الشفقّة على أهل الكروب. انتهى.
الترجمة:
بسم اللَّه الرّحمن الرحيم اين سرائيست كه آنرا بنده اى خوار از مرده اى كه از اين سرا كوچش داده اند خريده است، خانه اى خريده كه مسافت آن از جانب فانى شدگان تا سرزمين هالكان است. اين سرا محدود به چهار حدّ است حدّ نخستين آن باسباب آفتها پايان مى يابد، و دوّم آن بعلل مصيبتها، حدّ سوّم به هواى نفس، و چهارم آن به ديو گمراه كننده، و در آن در اين حدّ گشوده مى شود. اين شخص فريب آرزو خورده اين خانه را از آنكه مرگش فرا رسيد و كوچ داده شد ببهاى از عزت قناعت بدر رفتن و در ذلّت سؤال بدر آمدن، خريده است.
پس اگر عوارضى در اين معامله از پى پديد آيد بر عهده خراب كننده خانه كالبد شاهان- و رباينده جان ستمكاران، و نابود كننده سلطنت فرعونان، همچون شاهان پارس و ملوك روم و سلاطين و واليان يمن، و آنانكه مال را بر مال انباشتند و بنا كردند و بر أفراشتند، و زينتش دادند و بياراستند، و گنج نهفتند و آب و خاك گرد آوردند، و بدلسوزى فرزندان و بخيال يارى آنان مال اندوخته اند- ميباشد كه فروشنده و خريدار و آنكه درك باو تعلّق گرفته همه را در پيشگاه عدل إلهى كه خلايق را براي پرسش سان دهند و بپاداش و كيفر رسانند، حاضر كند تا آن گاه كه فرمان خداوند قهّار بفصل ميان حقّ و باطل فرود آيد مهمّ دعواى ايشان فيصل يابد، در آنجا تباه پيشه گان باطل كيش زيانكار شوند. خرد آزاد از بردگى هوى، و سالم از أمراض علائق دنيا بر اين قباله شاهد عادل و حجّت بالغ است.