منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 101
و من كتاب له عليه السّلام كتبه لشريح بن الحارث قاضيه و هو الكتاب الثالث من باب المختار من كتبه و رسائله عليه السّلام:
روي أنّ شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السّلام اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا، فبلغه ذلك فاستدعى شريحا و قال له:
بلغني أنّك ابتعت دارا بثمانين دينارا، و كتبت لها كتابا، و أشهدت فيه شهودا، فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فنظر إليه نظر مغضب ثمّ قال له: يا شريح أما إنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، و لا يسئلك عن بيّنتك حتّى يخرجك منها شاخصا و يسلّمك إلى قبرك خالصا، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدّار من غير مالك، أو نقدت الثّمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدّنيا و دار الاخرة، أما لو إنّك كنت أتيتني عند شرائك ما شريت لكتبت لك كتابا على هذه النّسخة، فلم ترغب في شراء هذه الدّار بدرهم فما فوقه.
«وهم و رجم»:
إنّ ما يهمنّا و لا بدّ لنا منه ههنا قبل بيان لغة الكتاب و إعرابه تقديم مطلب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 103
لم يتعرّضه أحد من شرّاح النهج، و هو أنّ الحافظ أبا نعيم أحمد بن عبد اللَّه الاصفهاني المتوفى سنة 430 ه أسند هذا الكتاب في كتابه حلية الأولياء إلى الفضيل بن عياض قاله للفيض بن إسحاق في واقعة اقتضت ذلك، و بين ما في النهج و بين الحلية اختلاف يسير في بعض الألفاظ و العبارات و لكنهما واحد بلا ارتياب و دونك ما نقله أبو نعيم: قال أبو نعيم في ترجمة الفضيل بن عياض من حلية الأولياء (ص 101 و 102 ج 8 طبع مصر 1356 ه- 1937 م) ما هذا لفظه:
حدّثنا سليمان بن أحمد، ثنا بشر بن موسى، ثنا عليّ بن الحسين بن مخلّد قال: قال الفيض بن إسحاق: اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا فبلغ ذلك الفضيل بن عياض فأرسل إليّ يدعوني فلم أذهب، ثمّ أرسل إليّ فمررت إليه فلمّا رآني قال: يا ابن يزيد بلغني أنّك اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا؟ قلت: قد كان كذلك، قال: فانه يأتيك من لا ينظر في كتابك و لا يسأل عن بيّنتك حتّى يخرجك منها شاخصا يسلّمك إلى قبرك خالصا، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدّار من غير مالك، أو ورثت مالا من غير حلّه، فتكون قد خسرت الدّنيا و الاخرة، و لو كنت حين اشتريت كتبت على هذه النسخة:
هذا ما اشترى عبد ذليل من ميّت قد ازعج بالرّحيل، اشترى منه دارا تعرف بدار الغرور، حدّ منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، و يجمع هذه الدّار حدود أربعة: الحدّ الأوّل ينتهي منها إلى دواعي العاهات، و الحدّ الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، و الحدّ الثالث ينتهي منها إلى دواعي الافات، و الحدّ الرّابع ينتهي إلى الهوى المردي و الشيطان المغوي، و فيه يشرع باب هذه الدّار على الخروج من عزّ الطاعة إلى الدّخول في ذلّ الطلب، فما أدركك في هذه الدّار فعلى مبلبل أجسام الملوك، و سالب نفوس الجبابرة، و مزيل ملك الفراعنة مثل كسرى و قيصر، و تبّع و حمير، و من جمع المال فأكثر و اتّحد و نظر بزعمه الولد، و من بنى و شيّد و زخرف و أشخصهم إلى موقف العرض إذا نصب اللَّه عزّ و جلّ كرسيّه لفصل القضاء، و خسر هنالك المبطلون، يشهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، و نظر بالعينين إلى زوال الدّنيا، و سمع صارخ الزّهد عن عرصاتها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 104
ما أبين الحقّ لذي عينين إنّ الرّحيل أحد اليومين
فبادروا بصالح الأعمال فقد دنا النقلة و الزوال. انتهى.
أقول: مع فرض صحّة إسناد الرواية إلى الفضيل أوّلا، و عدم سهو الراوي و عدم الإسقاط و الحذف ثانيا، ما كان للفضيل و أضرابه أن يسوقوا الكلام إلى ذلك الحدّ من الزّهد في الدّنيا و الرغبة عنها أو يعبروا تلك المعاني اللّطيفة بتلك الألفاظ الوجيزة ثالثا، بل لا نشكّ في أنّ سبك العبارات على هذا الاسلوب البديع، و سوق المعاني على هذا النهج المنيع و التنفير عن الدّنيا بهذه الغاية و الجودة و اللّطافة إنما نزل من حضرة القدس العلويّة.
و لا ننكر أنّ مثل تلك الواقعة وقع للفضيل أيضا إلّا أنّ الفضيل لما رأى أنّ عمل الفيض بن إسحاق شبيه بعمل شريح و يناسبه انتقل إلى ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام لشريح فخاطب به الفيض تنبيها له، و إنما لم ينسب الكلام إليه عليه السّلام إمّا لعلمه بأنّ الفيض أيضا عالم بذلك الكتاب لاشتهاره بين أهله، أو كان نقله من باب الاقتباس إن لم يتطرّق إليه سقط و حذف من الراوي و كم لما قلنا من نظير و شبيه نظما و نثرا، مثلا أنّ العروضي نقل في كتابه المعروف ب «چهار مقاله» أى أربع مقالات، أنّ نوح بن منصور أمير الخراسان كتب إلى آلبتكين كتابا توعّده فيه بالعقوبة و أوعده بالقتل و الأسر و النهب فلمّا بلغه الكتاب أمر الإسكافيّ الكاتب البليغ المشهور أن يجيبه عن كتابه و يستخفّ به و يستهين، فكتب الإسكافيّ: «يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما نعدنا إن كنت من الصادقين».
فانظر فيه كيف اقتبس كتابه من القرآن الكريم من غير أن يتفوّه باسناده إليه.
ثمّ لا ننكر فضل الفضيل و أنّ له كلمات فاضلة لأنّه كان له شأن و إدراك السعادة العظمى لأنّه كان من سلسلة الرواة و أتى بكثير من رواياته و كلماته الأنيقة العذبة أبو نعيم في الحلية، و لأنّه أدرك أبا عبد اللَّه عليه السّلام و اغترف من بحر حقائقه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 105
بقدر وسعه، و اقترف من كنوز معارفه بمبلغ كدّه و جهده، روى عنه عليه السّلام نسخة يرويها النجاشيّ و لكن كلماته موجودة و نقل كثير منها في الحلية بينها و بين الكتاب بون بعيد و مسافة كثيرة لا تشابهه في سلك ألفاظه و لا تدانيه في سبك معانيه.
ثمّ ممّا يؤيّد كلامنا بأنّ الفضيل اقتبس الكتاب منه عليه السّلام ما أسند إليه أبو نعيم في الحلية أيضا و هو عن الصادق عليه السّلام قال أبو نعيم (ص 100 ج 8 حلية الأولياء الطبع المذكور): حدّثنا محمّد بن عليّ، ثنا المفضل بن محمّد الجندي، ثنا محمّد بن عبد اللَّه بن يزيد المقري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت الفضيل ابن عياض يقول: يغفر للجاهل سبعون ذنبا ما لم يغفر للعالم ذنب واحد. انتهى.
و هذه الرواية مع أنها لا تدلّ على أنّ الفضيل قائلها تنافي ما في الكافي و نقلها الفيض في الوافي (ص 52 ج 1) في أوّل باب لزوم الحجة على العالم و تشديد الأمر عليه مسندا عن المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال يا حفص يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.
و إن اختلج ببالك أنّ تنظيم قبالة الأرض و الدّار على هذا النظم المتضمّن للحدود لم يعهد مثله في صدر الاسلام، بل صار متعارفا معهودا بعد ذلك العصر فكيف يصحّ اسناد هذا الكتاب إلى الأمير عليه السّلام؟.
فاعلم: أنّ أمثال هذه الامور الغير المعهودة الصادرة منه عليه السّلام ليس بعزيز حتّى يستغرب من إسناد هذا الكتاب إليه عليه السّلام.
و من نظر في كتبه و رسائله حيث إنّه عليه السّلام يبيّن في بعضها آداب العامل و الوالي، و في بعضها وظائف الخليفة و الأمير، و في بعضها فنون المجاهدة و رسوم المقاتلة، و في بعضها تعيين أوقات الفرائض، و في بعضها ما يتمّ به صلاح الاجتماع و ما به يصير المدينة فاضلة و غيرها من المطالب المتنوّعة في الموضوعات المختلفة الشاخصة الّتي لم تتغيّر بتغيّر الأعصار، و لم تختلف باختلاف الأمصار قطّ، لأنّها حقائق و الحقيقة فوق الزّمان و الزّماني و غير متغيّر بتغيّر المادّة و المادّيات، علم أنّ جميع ما فاض من سماء علمه ممّا يتحيّر فيه العقول، و يستغرب، و أنّ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 106
بروز نحو هذا الكتاب منه عليه السّلام ليس بمستبعد.
على أنّه رويت عنه عليه السّلام واقعة اخرى و قبالة نظير هذه الواقعة و القبالة نقلها حسين بن معين الدّين الميبدي في شرح الدّيوان المنسوب إلى الأمير عليه السّلام (ص 448 طبع ايران 1285 ه): روى أنّ بعض أهل الكوفة اشترى دارا و ناول أمير المؤمنين عليه السّلام رقّا و قال له: اكتب لي قبالة، فكتب عليه السّلام: بسم اللَّه الرحمن الرّحيم هذا ما اشترى ميّت عن ميّت دارا في بلدة المذنبين، و سكنة الغافلين.
الحدّ الأوّل منها ينتهي إلى الموت، و الثاني إلى القبر، و الثالث إلى الحساب و الرابع إمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار، ثمّ كتب في ذيلها هذه الأبيات:
النفس تبكي على الدّنيا و قد علمت أنّ السلامة منها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلّا الّتي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنها و إن بناها بشرّ خاب ثاويها
أين الملوك الّتي كانت مسلّطة حتّى سقاها بكأس الموت ساقيها
لكلّ نفس و إن كانت على و جل من المنيّة آمال تقوّيها
فالمرء يبسطها و الدّهر يقبضها و النفس تنشرها و الموت تطوبها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها و دورنا لخراب الدّهر نبنيها
كم من مدائن في الافاق قد بنيت أمست خرابا و دون الموت أهليها
و كذا روي عن الصادق عليه السّلام نحو هذا الحديث من جهة تحديد الحدود الأربعة كما في المناقب لمحمّد بن شهر آشوب عن هشام بن الحكم قال: كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الصادق عليه السّلام في حجّة كلّ سنة، فينزله أبو عبد اللَّه عليه السّلام في دار من دوره في المدينة، و طال حجّه و نزوله فأعطى أبا عبد اللَّه عليه السّلام عشرة آلاف درهم ليشتري له دارا و خرج إلى الحجّ، فلمّا انصرف قال: جعلت فداك اشتريت لي الدّار؟ قال عليه السّلام: نعم، و أتى بصكّ فيه:
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم هذا ما اشترى جعفر بن محمّد لفلان بن فلان الجبلي، اشترى دارا في الفردوس حدّها الأوّل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، و الحدّ الثاني
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 107
أمير المؤمنين عليه السّلام، و الحدّ الثالث الحسن بن عليّ، و الحدّ الرابع الحسين بن عليّ عليهم السّلام.
فلمّا قرأ الرّجل ذلك قال: قد رضيت جعلني اللَّه فداك قال: فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: إنّي أخذت ذلك المال ففرّقته في ولد الحسن و الحسين عليهما السّلام و أرجو أن يتقبّل اللَّه ذلك، و يثيبك به الجنّة.
قال: فانصرف الرّجل إلى منزله و كان الصكّ معه، ثمّ اعتلّ علّة الموت فلمّا حضرته الوفاة جمع أهله و حلّفهم أن يجعلوا الصكّ معه، ففعلوا ذلك فلمّا أصبح القوم غدوا إلى قبره فوجدو الصكّ على ظهر القبر مكتوب عليه: و في لي و اللَّه جعفر بن محمد عليهما السّلام بما قال.
أقول: و للخدشة في هذا الحديث المنسوب إلى الصادق عليه السّلام مجال و إنما ذكرناه تأييدا لما قدّمنا و بالجملة إنما يستفاد من واقعة الأمير عليه السّلام مع شريح و مع بعض أهل الكوفة أنّ القبالة المتداولة في زماننا تكتب في ابتياع الأملاك حيث يتعيّن فيه الحدود و يذكر فيه الشروط و الشهود إنما كانت متعارفة في زمن الصحابة أيضا هب أنّها بتلك الكيفيّة لم تكن معهودة في صدر الإسلام، فلا بأس أن يكون أمير المؤمنين عليه السّلام مبتكرة فيه، فانّه عليه السّلام كان سباقا إلى العجائب و الغرائب دائما فلا مجال لتوهّم إسناد الكتاب إلى غيره عليه السّلام بمجرّد الاستبعاد بل استناده إلى مثل الفضيل مستبعد جدّا، بل عدم صحة الاسناد إليه معلوم قطعا.
«سند الكتاب»:
نحن بعون اللَّه تعالى وجدنا أسانيد جلّ ما في نهج البلاغة و نرجو من اللَّه الهادي تحصيل أسانيد ما لم يحصل بعد، و ببالي إن أخذ التوفيق بيدي أن أذكر أسانيد ما في النهج و ما لم يأت به الرّضيّ رضوان اللَّه عليه من كلامه عليه السّلام في آخر الشرح.
فنقول: يا ليت الرّضيّ ذكر أسانيد ما نقل في النهج و مدار كه لئلّا يتقوّل عليه بعض الأقاويل، و لكنّ الانصاف أن يقال: كفى في سنده أنّ مثل الرّضيّ أسنده إليه عليه السّلام.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 108
ثمّ نقول في المقام: أوّلا إنّ الشريف الرّضيّ مع جلالة شأنه و فخامة أمره و تتبّعه في الاثار و عرفانه بالأخبار و تبحّره في فنون الكلام و تضلّعه في جلّ ما أتى به الشرع أسند الكتاب أعني ذلك الكتاب الّذي كتبه عليه السّلام لشريح، إليه عليه السّلام و ثانيا أنّ العلّامة الشيخ بهاء الدّين العاملي قدّس سرّه رواه مسندا في كتابه المعروف بالأربعين و هو الحديث الرابع عشر منه و سلسلة سنده من المشايخ العظام و الرواة الأجلّاء، فبعد اللّتيا و الّتي فلا مجال لأحد أن يناقش في إسناد الكتاب إليه عليه السّلام، و في اقتباس الفضيل منه عليه السّلام و دونك الكتاب و سنده على ما في الأربعين.
روى الشيخ رحمه اللَّه بسنده المتصل إلى الشيخ الجليل محمّد بن بابويه- و قد ذكر سنده إلى ابن بابويه في الحديث الأوّل من الأربعين- عن صالح بن عيسى بن أحمد، عن محمّد بن محمّد بن عليّ، عن محمّد بن الفرج الرخجي- بالراء المهملة المضمومة و الخاء المعجمة المفتوحة و الجيم ثقة من أصحاب الرّضا عليه السّلام- عن عبد اللَّه بن محمّد العجلي، عن عبد العظيم بن عبد اللَّه الحسني- المعروف بشاه عبد العظيم المدفون بالري- عن أبيه، عن أبان مولى زيد بن عليّ، عن عاصم بن بهدلة قال:
قال لي شريح القاضي: اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا، فبلغ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فبعث إليّ مولاه قنبر، فأتيته فلمّاد دخلت عليه قال: يا شريح اتّق اللَّه فإنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، و لا يسأل عن بيّنتك حتّى يخرجك من دارك شاخصا، و يسلّمك إلى قبرك خالصا، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدّار من غير مالكها، و وزنت مالا من غير حلّه، فاذا قد خسرت الدّارين جميعا: الدّنيا و الاخرة، ثمّ قال عليه السّلام: فلو كنت عند ما اشتريت هذه الدّار أتيتني فكتبت لك كتابا على هذه النسخة إذ لم تشترها بدرهمين، قال: قلت:
و ما كنت تكتب يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السّلام: كنت أكتب لك هذا الكتاب:
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم هذا ما اشترى عبد ذليل من ميّت ازعج بالرّحيل اشترى دارا في دار الغرور من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين و تجمع هذه الدّار
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 109
حدود أربعة: فالحدّ الأوّل منها ينتهي إلى دواعي الافات، و الحدّ الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات، و الحدّ الثالث منها ينتهي إلى دواعي المصيبات، و الحدّ الرابع منها ينتهي إلى الهوى المرديّ و الشيطان المغويّ، و فيه يشرع باب هذه الدّار.
اشترى هذا المفتون بالأمل، من هذا المزعج بالأجل، جميع هذه الدّار بالخروج من عزّ القنوع، و الدّخول في ذلّ الطلب، فما أدرك هذا المشتري من درك فعلى مبلي أجسام الملوك و سالب نفوس الجبابرة مثل كسرى و قيصر، و تبّع و حمير، و من جمع المال إلى المال فأكثر، و بنى فشيّد، و نجّد فزخرف و ادّخر بزعمه للولد، إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض لفصل القضاء، و خسر هنالك المبطلون شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسرى الهوى، و نظر بعين الزوال لأهل الدّنيا، و سمع منادي الزّهد ينادي في عرصاتها:
ما أبين الحقّ لذي عينين إنّ الرّحيل أحد اليومين
تزوّدوا من صالح الأعمال، و قرّبوا الامال بالاجال.
«اللغة»:
(على عهده) أي في زمانه فإنّ كلمة الجارّة ههنا بمعنى في، و أحد معاني العهد الزّمان، ففي أقرب الموارد: كان ذلك في عهد شبابي أي زمانه، و منه كان ذلك على عهد فلان أي في زمانه. انتهى.
(دينار) الدّينار ضرب من النقود القديمة الذّهبيّة، و في أقرب الموارد أنه فارسي معرّب، و أصله دنّار بالتشديد بدليل جمعه على دنانير و تصغيره على دنينير، لأنّهما يرجعان الكلمة إلى أصلها غالبا فابدل من أحد حرفي تضعيفه ياء لئلّا يلتبس بالمصادر الّتي يجي ء على فعّال كقوله تعالى: «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» (النبأ- 29) إلّا أن يكون بالهاء فيخرج على أصله مثل الصنّارة و الدنّامة لأنّه أمن الان من الالتباس، قاله في الصحاح.
(استدعاه) أي طلبه (أشهدت فيه شهودا) أي أحضرت فيه شهودا، أو تكون
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 110
كلمة في الجارة بمعنى على نحو قوله تعالى «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ» (طه 76) و يقال: أشهد فلانا على كذا أي جعله شاهدا عليه، فالمعنى و جعلت قوما شهودا عليه، و الشهود جاء مصدرا و غير مصدر و المراد هنا الثاني يقال: شهد عند الحاكم لفلان على فلان بكذا شهادة من بابي علم و كرم إذا أدّى ما عنده من الشهادة، فهو شاهد فيجمع على شهود نحو عادل و عدول، و شهد كصاحب و صحب، و أشهاد كناصر و أنصار و شاهدين كعالم و عالمين. و في نسختي الأربعين و حلية الأولياء: و أشهدت عدولا و لكن الشهود أنسب بالمقام من العدول.
(أما) بفتح الأوّل و تخفيف الثاني: حرف تنبيه ههنا.
(سيأتيك من) المراد من من إمّا الموت أو ملك لموت، و الثاني أولى لأنّ من يستعمل غالبا في ذوي العقول كما أنّ ما يستعمل غالبا في غير ذوي العقول و إنّما قلنا غالبا لأنّ ما قد يستعمل في ذوي العقول كقوله تعالى: «وَ السَّماءِ وَ ما بَناها» (الشمس- 6) و من في غير ذوي العقول كقوله تعالى «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ» (النور- 45) و التفصيل مذكور في الموصولات من كتب النحو.
(لا ينظر في كتابك) يقال: نظره و نظر إليه إذا أبصره بعينه و نظر فيه إذا تدبّره و فكّر فيه، يقدّره و يقيسه و منه قوله تعالى «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» (الصافات- 87 و 88) و لذا قال بعضهم: إنّ نظر يتعدّى إلى المبصرات بنفسه و يتعدّى إلى المعاني بفي.
(لا يسألك عن بيّنتك) السؤال إذا كان بمعنى الاستخبار يتعدّى إلى مفعولين إلى الأوّل بنفسه و إلى الثاني بعن كما في المقام، و قد يتعدّى إلى الثاني بالباء مضمّنة معنى عن نحو: سل به خبيرا، إي سل عنه، و قد تخفف الهمزة من فعله فيقال سال يسال سل و مسول كخاف يخاف خف و مخوف، المستفاد من ظاهر كلام المرزوقي في شرح الحماسة (الحماسة 757 ص 1715 طبع مصر 1371 ه) أنّ التخفيف هو لغة هذيل. قال عبد اللَّه بن الدمينة (الحماسة 510).
سلي البانة الغناء بالأجرع الّذي به البان هل حبّبت أطلال دارك
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 111
فقوله: سلي، كان أصله اسألي فخذف الهمزة تخفيفا و ألقيت حركتها على السين فصار اسلي، ثمّ استغنى عن همزة الوصل لتحرّك ما بعدها فحذفت فصارت سلي، و على هذا القياس قوله تعالى: «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» (البقرة- 209).
(البيّنة) الحجّة. و في نسخة الأربعين عن بيتك أي دارك الّتي اشتريتها و الأوّل أنسب بالمقام، و ما يختلج في البال أنّ الثاني حرّف من الكتّاب و إلّا لقال عليه السّلام: حتّى يخرجك منه، لا من دارك كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، و الشاهد لذلك ترجمة ابن خاتون العاملي بالفارسية في شرحه على الأربعين للشيخ بهاء الدّين قدّس سرّه حيث قال: زود باشد كه بر تو وارد شود شخصى كه نگاه بسند تو نكند، و از گواهان تو چيزى نپرسد، إلخ. على أنّ النسختين متفقتان في الأوّل.
كنايه (شاخصا) إشارة إلى قوله تعالى: «إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ» (الحجر- 44) و قوله تعالى: «وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ...» (الأنبياء 98) قال الراغب في المفردات: قال تعالى: تشخص فيه الأبصار، شاخصة أبصارهم أي أجفانهم لا تطرف. و في مجمع البيان التفسير: شخص المسافر شخوصا إذا خرج من منزله، و شخص عن بلد إلى بلد و شخص بصره إذا نظر إليه كأنه خرج إليه. يقال: شخص بصره فهو شاخص إذا فتح عينيه و جعل لا يطرف مع دوران في الشحمة، و شخص الميّت بصره و ببصره أي رفعه، و في منتهى الارب: شخص بصره:
واكرد چشم را و وا داشت و بر هم نزد آنرا و بلند كرد نگاه را، و شخصت عينه باز ماند چشم او.
و يمكن أن يتّخذ الشاخص من شخص المسافر من بلد إلى بلد شخوصا بمعنى ذهب و سار و خرج من موضع إلى غيره، و منه حديث إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل.
أو من شخص السهم إذا ارتفع عن الهدف، و منه الدّعاء: اللّهمّ إليك شخصت
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 112
الأبصار أي ارتفعت أجفانها ناظرة إلى عفوك و رحمتك، قال الجوهريّ في الصحاح:
أشخص الرامي إذا جاز سهمه الغرض من أعلاه، و هو سهم شاخص، فالمراد على هذا الوجه الأخير حتّى يخرجك منها مرفوعا أي محمولا على أكتاف الرّجال.
و الوجهان الأخيران ممّا احتملهما الشيخ في الأربعين أيضا و جعل العبارة على الأوّل كناية عن الموت، فانّه ذكر معنى الشاخص على الوجه الّذي أتى به الجوهريّ في الصّحاح حيث قال: شخص بصره بالفتح فهو شاخص إذا فتح عينيه و صار لا يطرف، و هو كناية عن الموت و كذا الطريحي في مجمع البحرين.
و لكن في أقرب الموارد بعد ما في الصحاح أتى بقيد زائد و هو قوله: مع دوران الشحمة، و هذا المعنى لا يناسب قوله عليه السّلام: حتّى يخرجك، فانّ المرء ما لم يمت لا يخرج من داره، و لا يخفى أنّ المعنى الّذي ذكره في الصحاح لا يشير إلى الموت، غاية الأمر إلى شدّة الأمر و هو له، و لذا فسّر الكلبي كما في مجمع البيان قوله تعالى: «فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بقوله: إنّ أبصار الّذين كفروا تشخص في ذلك اليوم أي لا تكاد تطرف من شدّة ذلك اليوم و هو له، ينظرون إلى تلك الأهوال.
و بالجملة إنّ شخص بالمعنى الأوّل لا يدلّ على موت الشاخص إلّا أن يؤخذ الشاخص من شخص الميت بصره و ببصره إذا رفعه، و كذا شخصت عينه، حتّى يستقيم المعنى الكنائي، أو من شخص المسافر بمعنى ذهب و سار على نوع من التجوّز.
(يسلّمك إلى قبرك) من التسليم أي يعطيك قبرك و يناولك إيّاه يقال: سلّمه إلى فلان أي أعطاه إيّاه فتناوله منه، و يمكن أن يؤخذ من الاسلام لأنّ أسلم جاء بمعنى سلّم أيضا يقال: فلان أسلم أمره إلى فلان أي سلّمه إليه.
(خالصا) الخالص هو المحض و المراد هنا العاري من أعراض الدّنيا و حطامها أي يخرجك عاريا منها.
(نقدت الثمن من غير حلالك) يقال: نقدته و نقدته لفلان الثمن أي أعطيته
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 113
إيّاه نقدا معجّلا، فالمراد أنك ابتعتها بيعا نقدا أي بيع الحال بالحال.
و على نسخة الشيخ في الأربعين: و وزنت مالا من غير حلّه، أي وزنت للدّار أو لبائعها مالا يقال: وزنت فلانا وزنت لفلان كما يقال: كلت زيدا و كلت لزيد قال تعالى «وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» (المطففين- 4).
و على نسخة أبي نعيم في الحلية: أو ورثت مالا من غير حلّه، و معناه ظاهر و لكن الصواب أن يقال: إن ورثت محرف و زنت لعدم مناسبة ورثت في المقام و تفسير العبارة على ورثت لا يخلو من تكلّف و تعسف. و ما في المتن موافق للنسختين.
(ترغب في شراء) الأفعال كما تتغير معانيها بتغيّر الأبواب سواء كانت الأبواب مجردة أو غير مجردة كذلك تتغيّر معانيها بتغيّر صلاتها، و كذا الحكم في مصادرها، فالرغبة و مشتقاتها إذا كانت صلتها كلمة في الجارة تفيد معنى الارادة و الميل إلى الشي ء و نحوهما يقال: رغب في الشي ء إذا أراده و أحبّه، و مال إليه و طمع فيه و حرص عليه، و إذا كانت صلتها كلمة عن الجارة تفيد الاعراض و الترك يقال: رغب عنه إذا زهد فيه و لم يرده و أعرض عنه و تركه قال تعالى: «وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» (البقرة- 126).
(الدرهم) بكسر الدّال و فتح الهاء و كسرها: ضرب من النقود القديمة المضروبة من الفضّة للمعاملة، قال في الصحاح و منتهى الارب: إنه فارسي معرب و في أقرب الموارد و المنجد: يوناني معرب. و ربما قالوا درهام أيضا بكسر الدال قال الشاعر:
لو أن عندي مأتي درهام لجاز في آفاقها خاتامي
و جمع الدرهم دراهم، و جمع الدرهام دراهيم، قال الشاعر:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
نقل البيتين في الصحاح.
الاعراب:
«قاضي» صفة لشريح بالإضافة. «بثمانين» الباء للتعويض و المقابلة و هي الداخلة على الأعواض و الأثمان. جملة اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا خبر إن. «قد كان ذلك» كان تامة و ذلك فاعل لها. «نظر مغضب» مفعول مطلق لفعل نظر.
ثم إن كلمة مغضب فيما رأينا من النسخ المطبوعة من النهج مشكولة بكسر الضاد لكنها و هم و الصواب بفتحها كما في نسخة عتيقة مصحّحة جدا قد رزقنا الله أثناء الشرح و وفقنا بابتياعها و قد تفألت بها التوفيق في إتمام هذا الأثر كيف لا و في الخبر: إذا أراد الله شيئا هيا أسبابه.
و بعد ذلك تفضل علينا صديقنا الفاضل السيد مهدي الحسيني اللاجوردي زاده الله توفيقا بالاطلاع على نسخة من مكتبته بدار العلم قم قوبلت بنسخة السيد الامام الرضي رضوان الله عليه، و النسختان موافقتان متنا و صحة في عدة مواضع قوبلتا فيها، و المغضب فيهما مشكولة بالفتح.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 121
أما من حروف التنبيه يصدّر بها الجمل كلّها حتّى لا يغفل المخاطب عن شي ء ممّا يلقي المتكلّم إليه، و لذا سمّيت حروف التنبيه، و هي: أما و ألا و ها، و الأخيرة خاصّة من المفردات على أسماء الإشارة حتّى لا يغفل المخاطب عن الاشارة الّتي لا يتعيّن معانيها إلّا بها نحو: هذا، و هاتا، و نحوهما.
«حتى لا يخرجك» الفعل منصوب بأن المقدرّة وجوبا و يسلّمك عطف عليه.
«شاخصا» حال لضمير المفعول في يخرجك. «خالصا» حال لضمير المفعول في يسلّمك.
«فانظر يا شريح لا تكون» في نسختي الأربعين و حلية الأولياء: فانظر أن لا تكون. فإن كان بمعنى تدبّر و تفكر فلا بدّ من صلته بفي، و إن كان بمعنى أبصر إمّا أن تكون صلته بإلى، و إمّا يتعدّى بنفسه يقال نظره و نظر إليه أي أبصره بعينه كما قدّمنا في اللّغة.
ثمّ إنّ الأولى و الأنسب أن تكون صلة الفعل كلمة في الجارة المقدّرة حتّى تفيد معنى التدبّر و التّأمّل و التفكّر أي تأمّل و تدبّر في أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك أو نقدت الثمن من غير حلالك. فعلى هذا يكون المصدر المسبوك بأن الناصبة منصوبا بنزع الخافض، أي تأمّل في عدم كونك شاريا لها من غير مالك و في أدائك ثمنها من غير حلالك، و أمّا نسخة النهج فعلى وزان قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» (الاسراء- 52) ثمّ اعلم الصواب أن يقرأ ما لك في قوله عليه السّلام: ابتعت هذه الدّار من غير مالك بهيئة الفاعل لأنّه لو قرئ باضافة المال إلى الضمير يلزم التكرار لأنّ معنى جملتي «ابتعت هذه الدّار من غير مالك» و «أو نقدت الثمن من غير حلالك» واحد حينئذ فالمتعين أنه فاعل لا مضاف و مضاف اليه، و نسخة الشيخ في الأربعين «فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدّار من غير مالكها» شاهد صادق بل حجة قاطعة للمختار و قد ترجم العبارة و فسّرها كثير من المترجمين و المفسّرين بالإضافة و لم يتفطنوا لتلك الدّقيقة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 122
«فاذا أنت قد خسرت» قال الشيخ في الأربعين: إذا هذه فجائيّة كالواقعة في قوله تعالى «إِنْ كانَتْ إِلَّا...» (يس- 30) أي فيكون مفاجئا للخسران.
«فلم ترغب في شراء هذه الدّار بالدّرهم فما فوقه» و في نسخة الأربعين «إذا لم تشترها بدرهمين» و قال الشيخ في إعرابه: إذا حرف جواب و جزاء و الأكثر وقوعها بعد أن و لو، و اختلف في رسم كتابتها و الجمهور بالألف و المازني بالنون، و الفرّاء كالجمهور إن أعملت و كالمازني إن أهملت. انتهى قوله.
أقول: و أمّا على نسخة النهج فقوله عليه السّلام: بالدّرهم فما فوقه. الفاء للعطف و ما نكرة موصوفة أو بمعنى الّذي مجرور محلا بالباء و لم تعد لأنّه عطف على الظاهر و العامل في فوق على الوجهين الاستقرار، و المعطوف عليه الدّرهم و سيأتي توجيه قوله عليه السّلام فما فوقه و تحقيقه في المعنى إن شاء اللَّه تعالى.
المعنى:
قوله: (روي أنّ شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السّلام) سنذكر في ذيل شرح الكتاب ترجمة شريح و نسبه و خبره و مدّة قضائه و ما قيل فيه إنشاء اللَّه تعالى قوله: (اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا) أي اشترى في زمان حياة أمير المؤمنين عليه السّلام دارا في الكوفة كان ثمنها ثمانين دينارا، و إنّما قلنا اشترى دارا في الكوفة لأنّه كان قاضيا فيها، و يظنّ ظاهرا أنّه اشتراها في الكوفة أيضا.
قوله: (فبلغه ذلك فاستدعى شريحا) أي بلغ أمير المؤمنين عليا عليه السّلام ابتياع شريح تلك الدّار فطلب عليه السّلام شريحا.
قوله: (و قال له بلغني أنّك ابتعت دارا بثمانين دينارا و كتبت لها كتابا و أشهدت فيه شهودا) أي قال عليه السّلام لشريح: بلغني اشتراءك دارا ثمنها ثمانون دينارا، و كتبت لها قبالة و أحضرت في ذلك شهودا، أو جعلت قوما شهودا عليه على أن تكون في بمعنى على.
قوله: (فقال له شريح قد كان ذلك يا أمير المؤمنين) أي قد ثبت و وقع ذلك لأنّ كان تامّة.
قوله: (قال فنظر إليه نظر مغضب) أي قال الرّاوي و هو عاصم بن بهدلة على رواية الشيخ قدّس سرّه في الأربعين، و لا يجوز إرجاع الضمير إلى شريح و إلّا لقال فنظر إليّ.
ثمّ إنّ غضب سفراء اللَّه و أوليائه على غيرهم لا يكون إلّا للَّه عزّ و جلّ، و إنما كان ذلك من كمال إيمانهم باللَّه و غاية رأفتهم بالناس، لأنّهم لا يحبّون أن تشيع الفاحشة أو يرتكب أحد منكرا، و شريح قد آسف أمير المؤمنين عليه السّلام باعترافه باشتراء الدّار فنظر عليه السّلام إليه نظر مغضب و ذلك لما قدّمنا أنّ شريحا لو لم يظلم أحدا على اشترائها و لم يتجاوز عن الحقّ لما سخط عليه السّلام عليه و لما جعل أحد حدود الدّار الحدّ الّذي ينتهي إلى الشيطان المغوي.
قوله: (ثمّ قال يا شريح أما أنه سيأتيك) و في نسخة الشيخ في الأربعين «قال
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 127
يا شريح اتّق اللَّه فانه سيأتيك» أي خف اللَّه و احذر ما حرّمه عليك، قال بعضهم:
التقوى أن لا يراك اللَّه حيث نهاك، و لا يفقدك حيث أمرك. و قيل: المتقي الّذي اتّقى ما حرّم عليه و فعل ما أوجب عليه. و قيل: هو الّذي يتّقي بصالح أعماله عذاب اللَّه. و سأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ فقال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت و شمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، و نظمه بعض الناس فقال:
خلّ الذّنوب صغيرها و كبيرها فهو التّقى
و اصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى
و روي عن النبي صلّى اللَّه عليه و آله أنّه قال: إنّما سمّي المتّقون لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس.
و قال عمر بن عبد العزيز: التقيّ ملجم كالمحرم في الحرم أتى بها الطبرسي في المجمع ضمن قوله تعالى «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (البقرة- 3).
قوله عليه السّلام: (أما إنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك و لا يسألك عن بيّنتك) أما للتنبيه كأنّ شريحا كان نائما استيقظه أمير المؤمنين عليه السّلام، لأنّ الغافل في أعماله كالنائم فنبّهه عليه السّلام من نوم الغفلة فقال: انتبه يا شريح سيأتيك ملك الموت أو الموت لا يتأمّل في كتابك و لا يستخبرك عن حجّتك.
أمّا عدم نظره و استخباره، فان كان المراد من من الموت فالأمر واضح و إن كان المراد منه ملك الموت عليه السّلام فوجهان:
الأوّل أنه مأمور لقبض الأرواح فقط، و ليس تكليفه السؤال عن أعمال الناس قال تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» (السجدة- 13) و قوله تعالى: «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ» (الصافات- 165).
الوجه الثاني أنّه من العقول المجرّدة المحيطة بما دونهم، و إنما يسأل عن الشي ء و يستخبر عنه من لم يكن محيطا به.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 128
قوله عليه السّلام: (حتّى يخرجك منها شاخصا) أي حتّى يخرجك الموت، أو ملك الموت من تلك الدّار حال كونك مرفوعا محمولا على أكتاف الرّجال، هذا إن أخذنا الشاخص من شخص السهم إذا ارتفع عن الهدف.
أو و الحال أنت خارج من تلك الدّار و سائر إلى دار اخرى أي أنت مرتحل من هذه الدّار إلى الدّار الاخرة إن أخذناه من شخص المسافر شخوصا إذا خرج من منزله إلى غيره.
أو حال كونك ميّتا إن أخذناه من شخص الميّت بصره و شخصت عينه على التحقيق الّذي قدّمناه في اللّغة.
قوله عليه السّلام: (و يسلّمك إلى قبرك خالصا) أي يسلّمك إلى قبرك حال كونك عاريا من المال و الأهل و العيال و مجرّدا من أعراض الدّنيا و حطامها، أي لا ينفعك ما تركت من الأهل و العيال و ما ادّخرت من الأموال في وحشة القبر و غربته إلّا صالح الأعمال يوم لا ينفع مال و لا بنون إلّا من أتى اللَّه بقلب سليم.
مجاز قوله عليه السّلام: (فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدّار من غير مالك) أي إذا كان مال كلّ أحد أن يخرج من الدّنيا شاخصا و يسلّم إلى قبره خالصا فتأمّل و تدبّر في عدم كونك شاريا لها من غير مالكها بأن تكون الدّار مغصوبة فحينئذ لا بدّ في معنى ابتعت من توسع، لأنه لم يكن بيعا صحيحا جزما.
قوله عليه السّلام: (أو نقدت الثمن من غير حلالك) عطف على ابتعت، أي إذا كان كذلك فتدبّر و تأمّل في أدائك ثمنها من غير حلالك بأن اكتسبه من حرام بأخذ رشوة أو نحوها، لأنه كان قاضيا و القضاة في معرض الارتشاء و أكل المال بالباطل، إلّا من اتّقى للَّه حقّ تقاته.
قوله عليه السّلام: (فاذا أنت قد خسرت دار الدّنيا و دار الاخرة) إذا فجائيّة أى إن كانت الدّار المبيعة مغصوبة أو ثمنها من الحرام فأنت مفاجأ للخسران في الدّارين.
أمّا خسرانه في دار الدّنيا لأنّ مالك الدّار يسلبها من يد غاصبها سيّما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 129
في عصر كان فيه هيكل التوحيد و عنصر العدل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أمير الناس رحب الباع فيردّ الدّار إلى مالكها، فيبقى الخسران على المشتري، فقد تقرّر في الفقه أنّ أحدا لو اشترى مالا من غير مالكه فمالكه يأخذه من المشتري و المشتري يرجع في ثمنه إلى البائع الغاصب، و إن تعاقبت أيد عديدة فيه تخيّر المالك في إلزام أيّهم شاء.
و أمّا خسرانه في دار الاخرة فإنّ التّمتّع من غير الحلال في الدّنيا تصير و بالا في الاخرة، و ذلك هو الخسران المبين.
قوله عليه السّلام: (أما لو أنك كنت- إلى قوله: بدرهم فما فوقه) أي كتبت لك في قبال قبالتك قبالة في مسافة تلك الدّار و حدودها و مبدئها و منتهاها و سائر أوصافها لم ترد و لم تحبّ ابتياعها بدرهم فما دونه في الصّغر و القيمة.
و العاقل إذا تأمّل في نسخة القبالة كيف يرغب في بيت أحد حدوده دواعي الافات، و الاخر دواعي المصيبات، و الثالث منته إلى الهوى المردي، و الرابع إلى الشيطان المغوي و لو اعطيها مجّانا.
فإن قلت: إنه عليه السّلام قال: بدرهم فما فوقه، فكيف فسّرته بدرهم فما دونه؟
قلت: إنّ الدّار الّتي لا يرغب في شرائها بدرهم فبالأولى أن لا يرغب بما فوقه من الدّرهمين فأكثر، و هذا ظاهر لا غبار عليه، فلا يصحّ حمل العبارة على ما فوق الدّرهم في مقدار الثمن، بل المراد من قوله فما فوقه، فوق الدّرهم في القلّة و الحقارة، نحو قولك لمن يقول: فلان أسفل الناس و أنذلهم: هو فوق ذاك، تريد هو أبلغ و أعرق فيما وصف به من السفالة و النذالة فيئول فما فوقه إلى فما دونه في الصّغر و القيمة.
و هذا هو أحد الوجهين ذكرهما المفسرون في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها» (البقرة- 26) فذهب بعضهم كقتادة و ابن جريح و أتباعهما إلى أنّ المراد فما فوقها في الصغر و القلّة، و بعض آخر إلى أنّ المراد فما فوقها أي أكبر منها و ما زاد عليها في الحجم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 130
و يجري الاحتمالان في ما روي في صحيح مسلم عن ابراهيم عن الأسود قال:
دخل شباب من قريش على عائشة و هي بمنى و هم يضحكون، فقالت: ما يضحككم؟
قالوا: فلان خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب، فقالت: لا تضحكوا إتّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قال: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلّا كتبت له بها درجة و محيت عنه بها خطيئة.
فيحتمل فما عدا الشوكة و تجاوزها في القلّة، و يحتمل ما هو أشدّ من الشوكة و أوجع.
و قال العكبريّ في شرحه على ديوان المتنبي عند قوله:
و من جسدي لم يترك السقم شعرة فما فوقها إلّا و فيها له فعل
و ما فوقها يجوز أن يكون ما هو أعظم منها، و يجوز أن يريد ما دونها في الصغر و قد قال المفسّرون في قوله تعالى «بَعُوضَةً فَما فَوْقَها» الوجهان اللّذان ذكرنا.
انتهى.
و لكن كلا الوجهين في الاية و الخبر لا يتمشّيان في المقام لما علمت أنّ ما لا يرغب فيه بدرهم فبالأولى أن لا يرغب فيه بما فوقه.
فما أشار إليه بعض في حاشية النهج من أنّ هذه العبارة في المقام تكون مثل قوله تعالى «بَعُوضَةً فَما فَوْقَها» ليس باطلاقه صحيحا.
ثمّ إنّ لتفسير نحو هذه العبارة وجها آخر أدقّ و ألطف ممّا قدّمنا لم يتعرّضه أحد من الشراح و المفسّرين و هي:
أنّ مفاد عبارة النهج مثلا يكون هكذا: لم ترغب فيها بدرهم فكيف ترغب فيها بما فوقه، كأنّه قال: فبأن لا يرغب فيها بما فوق الدّرهم أولى، نظير هذا المضمون يقال في المحاورات الفارسيّة: اين كالا بدرمي نمى ارزد تا چه رسد كه به بيشتر از آن. و هكذا نحوه في كلّ مقام بحسبه مثلا «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً» فبأن لا يستحيي أن يضرب مثلا فوقها أولى، أو كيف يستحيي أن يضرب مثلا فوقها، و على هذا القياس في الخبر و شعر المتنبي و نحوها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 17، ص: 131
ثمّ إنّ الشارح البحراني قرّر السؤال و الجواب بقوله:
فان قلت: فكيف قال فما فوقه و معلوم أنه إذا لم يرغب فيها بدرهم فبالأولى أن لا يرغب فيها بما فوقه؟.
قلت: لما كان الدّرهم أقلّ ما يحسن التملّك به في القلّة و كان الغرض أنّك لو أتيتني عند شرائك هذه الدّار لما شريتها بشي ء أصلا لم يحسن أن يذكر وراء الدّرهم إلّا ما فوقه، و نحوه قول المتنبي: و من جسدي لم يترك، البيت، و كان قياسه أن يقول: فما دونها. انتهى.
أقول: إذا كان الدّرهم أقلّ ما يحسن التملّك به و كان الغرض ذلك فكيف لم يكتف عليه السّلام بدرهم فقط و لما ذا ذكر فوقه، و لا يرتبط قوله لم يحسن أن يذكر وراء الدّرهم إلّا ما فوقه بما قبله معنىّ، و بالجملة أنّ ما أتى به من الجواب بعيد عن الصواب، و تأبى عنه عبارة الكتاب.
الترجمة:
اين كتابيست از أمير المؤمنين علي عليه السّلام كه بقاضي خود شريح بن حارث مرقوم فرموده است:
روايت است كه شريح در زمان خلافت أمير المؤمنين عليه السّلام كه از جانب آن بزرگوار بسمت قضا منصوب بود، خانه اى بهشتاد دينار خريد، اين خبر بان جناب رسيد و شريح را طلبيد و بدو گفت كه شنيدم خانه اى بهشتاد دينار خريده اى و سند و قباله بر آن نوشته اى و جمعى را بر آن گواه گرفته اى؟ شريح گفت: أي أمير المؤمنين آري چنين است.
راوي گفت: چون على اين سخن از شريح بشنيد خشمگين در وي نگريست و گفت اى شريح آگاه باش كه بزودي كسى بسويت آيد (مرگ، يا جان شكر) كه در قباله ات ننگرد و از گواهت نپرسد تا از خانه تو را با چشم بى نور و جسم بى روح بدر برد و دست از همه چيز شده و جدا مانده بخانه گورت سپارد، پس اى شريح با ديده بصيرت درنگر كه مبادا آنرا از كسى كه مالك آن نبوده خريده باشى، و يا بهاى آنرا از مال حرام داده باشى كه در اين سرا و آن سرا زيان كار خواهى بود. بدان كه گاه خريد آن اگر نزد من آمدى هر آينه اين قباله برايت نوشتمى كه بدرمى آنرا نمى خريدى تا چه رسد كه به بيشتر.