منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 228
و من كتاب له عليه السّلام الى معاوية جوابا عن كتاب منه اليه و هو المختار السابع عشر من باب الكتب و الرسائل:
و أمّا طلبك إلىّ الشّام فإنّي لم أكن لاعطيك اليوم ما منعتك أمس. و أمّا قولك إنّ الحرب قد أكلت العرب إلّا حشاشات أنفس بقيت ألا فمن أكله الحقّ فإلى النّار. و أمّا استوائنا في الحرب و الرّجال فلست بأمضى على الشّكّ منّي على اليقين. و ليس أهل الشّام بأحرص على الدّنيا من أهل العراق على الاخرة. و أمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن و لكن ليس أميّة كهاشم، و لا حرب كعبد المطلّب، و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا المهاجر كالطّليق، و لا الصّريح كاللّصيق، و لا المحقّ كالمبطل و لا المؤمن كالمدغل، و لبئس الخلف خلف يتّبع سلفا هوى في نار جهنّم.
المآخذ:
روى الكتابين سليم بن قيس الكوفي المتوفّى حدود سنة 90 ه كما في الكتاب المنسوب إليه (174 من طبع النجف).
و نصر بن مزاحم المنقريّ الكوفيّ المتوفّى 212 ه في كتاب صفّين (ص 252 من الطبع النّاصريّ)
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 229
و ابن قتيبة الدّينوري المتوفّى 276 ه في كتاب الإمامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء (ص 117 و 118 ج 1 من طبع مصر 1377 ه).
و عليّ بن الحسين بن عليّ المعروف بالمسعوديّ المتوفّى 346 ه في مروج الذّهب (ص 60 و 61 ج 2 من طبع مصر 1346 ه).
و الشيخ الجليل أبو الفتح محمّد بن عليّ المعروف بالكراجكي المتوفّى 449 ه و قد كان عاصر الرّضي، في كتابه كنز الفوائد (ص 201 من الطبع الحجري في إيران 1322 ه).
و أتى المجلسيّ رحمه اللّه برواية سليم بن قيس في ثامن البحار (ص 520 من الطبع الكمباني)، و برواية نصر في ص 545 من ذلك المجلّد.
لابدّ لنا من الإتیان ببعضها و الإشارة إلى اختلاف نسخها لأنّ معنى الكتاب الصحيح يتوقّف عليهما، و بذلك يعرف أيضا صحة نسخ، و تحريف اخرى، فدونك ما رواه نصر في صفّين عن عمر في إسناده قال: و كان من أهل الشّام بصفّين رجل يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي، و كان يكون طليعة و مسلحة لمعاوية، فندب عليّ له الأشتر فأخذه أسيرا من غير أن يقاتل، و كان عليّ ينهى عن قتل الأسير الكافّ؛ فجاء به ليلا و شدّ وثاقه و ألقاه مع أضيافه ينتظر به الصّباح، و كان الأصبغ شاعرا مفوها، و نام أصحابه، فرفع صوته فأسمع الأشتر فقال:
ألا ليت هذا اللّيل اطبق سرمدا على النّاس لا يأتيهم بنهار
يكون كذا حتّى القيامة إنّني احاذر في الإصباح ضرمة نار
فيا ليل طبّق إنّ في اللّيل راحة و في الصبح قتلي أو فكاك اسارى
و لو كنت تحت الأرض ستّين واديا لما ردّ عنّي ما أخاف حذاري
فيا نفس مهلا إنّ للموت غاية فصبرا على ما ناب يا ابن ضرار
أ أخشى ولي في القوم رحم قريبة أبى اللّه أن أخشى و الأشتر جاري
و لو أنّه كان الأسير ببلدة أطاع بها شمّرت ذيل إزاري
و لو كنت جار الأشعث الخير فكّني و قلّ من الأمر المخوف فراري
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 230
و جار سعيد أو عديّ بن حاتم و جار شريح الخير قرّ قراري
و جار المراديّ العظيم و هانيء و زحر بن قيس ما كرهت نهاري
و لو أنّني كنت الأسير لبعضهم دعوت رئيس القوم عند عثاري
اولئك قومي لا عدمت حياتهم و عفوهم عنّي و ستر عواري
فغدا به الأشتر على عليّ فقال: يا أمير المؤمنين هذا رجل من المسلحة لقيته بالأمس فو اللّه لو علمت أنّ قتله الحقّ قتلته؛ و قد بات عندنا اللّيلة و حركنا فإن كان فيه القتل فاقتله و إن غضبنا فيه و إن كنت فيه بالخيار فهبه لنا، قال: هو لك يا مالك، فإذا أصبت أسيرا فلا تقتله فإنّ أسير أهل القبلة لا يفاد، أولا يقتل، فرجع به الأشتر إلى منزله و قال: لك ما أخذنا معك ليس لك عندنا غيره.
قال: و ذكروا أنّ عليّا أظهر أنّه مصبح غدا معاوية و مناجزه فبلغ ذلك معاوية و فزع أهل الشّام لذلك و انكسروا لقوله، و كان معاوية بن الضحّاك بن سفيان صاحب راية بني سليم مع معاوية و كان مبغضا لمعاوية و كان يكتب بالأخبار إلى عبد اللّه بن الطفيل العامري و يبعث بها إلى عليّ عليه السّلام فبعث إلى عبد اللّه بن الطفيل أنّي قائل شعرا أذعر به أهل الشام و اذعر (أرغم- خ) به معاوية، و كان معاوية لا يتّهمه و كان له فضل و نجدة و لسان فقال ليلا ليسمع أصحابه:
ألا ليت هذا اللّيل أطبق سرمدا علينا، و أنّا لا نرى بعده غدا
و يا ليته إن جاءنا بصباحه وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعدا
حذار عليّ إنّه غير مخلف مدى الدّهر مالبّى الملبّون موعدا
فأمّا فراري في البلاد فليس لي مقام و لو جاوزت جابلق مصعدا
كأنّي به في النّاس كاشف رأسه على ظهر خوّار الرّحالة أجردا
يخوض غمار الموت في مرحجنّة ينادون في نقع العجاج محمدا
فوارس بدر و النضير و خيبر و احد يردّون الصّفيح المهنّدا
و يوم حنين جالدوا عن نبيّهم فريقا من الأحزاب حتّى تبدّدا
هنالك لا تلوي عجوز على ابنها و إن أكثرت في القول نفسي لك الفدا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 231
فقل لابن حرب ما الّذي أنت صانع أتثبت أم ندعوك في الحرب قعددا؟
و ظنّي بأن لا يصبر القوم موقفا نقفه و إن لم نجز في الدّهر للمدا
فلا رأى إلّا تركنا الشّام جهرة و إن أبرق الفجفاج فيها و أرعدا
فلمّا سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية فهمّ بقتله، ثمّ راقب فيه قومه و طرده عن الشّام فلحق بمصر و ندم معاوية على تسييره إيّاه، و قال معاوية: و اللّه لقول السّلمي (لشعر السلمي- خ) أشدّ على أهل الشام من لقاء عليّ ماله قاتله اللّه لو أصاب خلف جابلق مصعدا نفذه- و جابلق مدينة بالمشرق و جابلص مدينة بالمغرب ليس بعد هما شيء.
و قال الأشتر حين قال عليّ عليه السّلام: إنّني مناجز القوم إذا أصبحت:
قد دنا الفضل في الصّباح و للسّلم رجال و للحرب رجال
فرجال الحروب كلّ خدبّ مقحم لا تهدّه الأهوال
يضرب الفارس المدحّج بالسيف إذا فلّ في الوغا الأكفال
يا ابن هند شدّ الحيازيم للموت و لا يذهبن بك الامال
إنّ في الصّبح إن بقيت لأمرا تتفادى من حوله الأبطال
فيه عزّ العراق أو ظفر الشام بأهل العراق و الزّلزال
فاصبروا للطّعان بالأسل السّمر و ضرب يجري به الأمثال
إن تكونوا قتلتم النّفر البيض و غالت اولئك الاجال
فلنا مثلهم و إن عظم الخطب قليل أمثالهم أبدال
يخضبون الوشيح طعنا إذا جرّت للموت بينهم أذيال
طلب الفوز في معاد و في ذا تستهان النّفوس و الأموال
فلمّا انتهى إلى معاوية شعر الأشتر قال: شعر منكر من شاعر منكر رأس أهل العراق و عظيمهم و مسعّر حربهم و أوّل الفتنة و آخرها، و قد رأيت أن أكتب إلى عليّ كتابا أسأله الشام و هو الشيء الأوّل الّذي ردّنى عنه و القي في نفسه الشّكّ و الرّقّة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 232
فضحك عمرو بن العاص ثم قال: أين أنت يا معاوية من خدعة عليّ؟
فقال: ألسنا بني عبد مناف؟
قال: بلى، و لكنّ لهم النبوّة دونك و إن شئت أن تكتب فاكتب فكتب معاوية إلى عليّ مع رجل من السّكاسك يقال له عبد اللّه بن عقبة و كان من ناقلة أهل العراق فكتب:
أمّا بعد فإنّي أظنّك أن لو علمت أنّ الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت و علمنا لم يجنها بعضنا على بعض، و إن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما نندم به ما مضى و نصلح ما بقى، و قد كنت سألتك الشّام على أن لا تلزمني لك طاعة و لا بيعة فأبيت ذلك عليّ فأعطاني اللّه ما منعت؛ و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإنّي لا أرجو من البقاء إلّا ما ترجو، و لا أخاف من الموت إلّا ما تخاف، و قد و اللّه رقّت الأجناد و ذهبت الرّجال، و نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلّا فضل لا يستذلّ به عزيز، و لا يسترقّ به حرّ و السّلام.
فلمّا انتهى كتاب معاوية إلى عليّ عليه السّلام قرأه ثمّ قال: العجب لمعاوية و كتابه ثمّ دعا عليّ عليه السّلام عبيد اللّه بن أبي رافع كاتبه فقال: اكتب إلى معاوية:
أمّا بعد فقد جائني كتابك تذكر أنّك لو علمت و علمنا أنّ الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، فإنّا و إيّاك منها في غاية لم تبلغها (لم نبلغها- ظ)، و إنّي لو قتلت في ذات اللّه و حيّيت ثمّ قتلت ثمّ حيّيت سبعين مرّة لم أرجع عن الشّدّة في ذات اللّه و الجهاد لأعداء اللّه.
و أمّا قولك: إنّه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى فإنّي ما نقضت عقلي، و لا ندمت على فعلي؛ فأمّا طلبك الشّام فإنّي لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس.
و أمّا استواؤنا في الخوف و الرّجاء فإنّك لست بأمضى على الشّكّ منّي على اليقين، و ليس أهل الشّام بأحرص على الدّنيا من أهل العراق على الاخرة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 233
و أمّا قولك: إنّا بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل فلعمري إنّا بنو أب واحد و لكن ليس اميّة كهاشم، و لا حرب كعبد المطلّب، و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا المهاجر كالطّليق، و لا المحقّ كالمبطل، و في أيدينا فضل النبوّة الّتي أذللنا بها العزيز، و أعززنا بها الذّليل. و السّلام.
نصر، عن عمر بن سعد، عن نمير بن و علة قال: فلمّا أتى معاوية كتاب عليّ عليه السّلام كتمه عن عمرو بن العاص أيّاما ثمّ دعاه بعد ذلك فأقرأه الكتاب فشمت به عمرو و لم يكن أحد من قريش أشدّ تعظيما لعليّ عليه السّلام من عمرو منذلقيه و صفح عنه فقال عمرو بن العاص فيما كان أشار به على معاوية شعرا.
ألا للّه درّك يا ابن هند و درّ الأمرين لك الشّهود
أ تطمع لا أبا لك في عليّ و قد قرع الحديد على الحديد
و ترجو أن تخبّره بشّك و ترجو أن يهابك بالوعيد
و قد كشف القناع و جرّ حربا يشيب لهو لها رأس الوليد
له جأواء مظلمة طحون فوارسها تلهّب كالاسود
يقول لها إذا دلفت إليه و قد ملّت طعان القوم عودي
فإن وردت فأوّلها ورودا و إن صدرت فليس بذي صدود
و ماهي من أبي حسن بنكر و ما هي من مسائك بالبعيد
و قلت له مقالة مستكين ضعيف الرّكن منقطع الوريد
دعنّ الشّام حسبك يا ابن هند من السّوءات و الرأي الزّهيد
و لو أعطاكها ما ازددت عزّا و لا لك لو أجابك من مزيد
و لم تكسر بذاك الرّأي عودا لركّته و لا ما دون عود
فلمّا بلغ معاوية قول عمرو دعاه فقال: يا عمرو إنّني قد أعلم ما أردت بهذا قال: ما أردت؟ قال: أردت تفييل رأيي و إعظام عليّ و قد فضحك، فقال: أمّا تفييلي رأيك فقد كان، و أمّا إعظامي عليّا فإنّك باعظامه أشدّ معرفة منّي و لكنّك تطويه و أنا أنشره، و أمّا فضيحتي فلم يفتضح امرؤ لقى أبا حسن، و قد كان معاوية
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 234
شمت بعمرو حيث لقي من عليّ عليه السّلام ما لقي فقال عمرو في شماتة معاوية:
معاوي لا تشمت بفارس بهمة لقي فارسا لا تعتريه الفوارس
معاوي إن أبصرت في الخيل مقبلا أبا حسن يهوي دهتك الوساوس
و أيقنت أنّ الموت حقّ و أنّه لنفسك إن لم تمض في الرّكض حابس
فإنّك لو لاقيته كنت بومة اتيح لها صقر من الجوّ آنس
و ما ذا بقاء القوم بعد اختباطه و إنّ امرأ يلقى عليّا لايس
دعاك فصمّت دونه الاذن هاربا فنفسك قد ضاقت عليها الأمالس
و أيقنت أنّ الموت أقرب موعد و أنّ الّتي ناداك فيها الدّهارس
و تشمت بي أن نالني حدّ رمحه و عضعضني ناب من الحرب ناهس
أبى اللّه إلّا أنّه ليث غابة أبو أشبل تهدى إليه الفرايس
و إنّي امرؤ باق فلم يلف شلوه بمعترك تسفي عليه الرّوامس
فإن كنت في شكّ فأدهج عجاجه و إلّا فتلك التّرّهات البسابس
و كتاب معاوية في نسخة الإمامة و السياسة يخالف ما في كتاب صفّين في الجملة ففيه: لو علمت أن الحرب تبلغ و لم يأت بلفظة «و علمنا» كما أتى بها في صفين.
و فيه: فلنا منها ما نذمّ به- و كان في صفين «مانندم به».
و فيه: و قد كنت سألتك ألّا يلزمني- و كان في صفين «و قد كنت سألتك الشّام على أن لا تلزمني».
و فيه: و إنّي أدعوك إلى- و كان في صفين «و أنا أدعوك اليوم إلى» و فيه: فانّك لا ترجو من البقاء إلّا ما أرجو، و لا تخاف من الفناء إلّا ما أخاف- و كان في صفين بعكس ذلك، و التأمّل الصحيح يقضي بأن نسخة نصر كانت أمتن و أبلغ.
صورة كتاب أمير المؤمنين على عليه السلام على ما في الامامة و السياسة:
قال الدّينوري: فلمّا انتهى كتابه- يعني كتاب معاوية المقدّم نقله- إلى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 235
عليّ عليه السّلام، دعا كاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع، فقال: اكتب: أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنّك لو علمت و علمنا أنّ الحرب تبلغ ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، و إنا و إيّاك في غاية لم نبلغها بعد، و أمّا طلبك إليّ الشام فانّي لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، و أمّا استواؤنا في الخوف و الرّجاء فإنّك لست أمضى على الشّكّ منّي على اليقين، و ليس أهل الشام بأحرص من أهل العراق على الاخرة، و أمّا قولك: إنّا بنو عبد مناف فكذلك و لكن ليس اميّة كهاشم، و لا حرب كعبد المطلّب و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا المهاجر كالطّليق، و لا المحق كالمبطل، و في أيدينا فضل النبوّة الّتي قتلنا بها العزيز، و بعنابها الحرّ. و السّلام.
نسخة الكتابين على ما في كتاب سليم بن قيس:
قال سليم: ثمّ إنّ عليّا عليه السّلام قام خطيبا فقال: أيّها الناس إنّه قد بلغكم ما قد رأيتم و بعدوكم كمثل فلم يبق إلّا آخر نفس و إنّ الامور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها و قد صبر لكم القوم على غير دين حتّى بلغوا فيكم ما قد بلغوا و أنا غاد عليهم بالغداة إن شاء اللّه و محاكمهم إلى اللّه فبلغ ذلك معاوية ففزع فزعا شديدا و انكسر هو و جميع أصحابه و أهل الشام لذلك فدعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو إنّما هي اللّيلة حتّى يغدوا علينا فما ترى؟
قال: أرى الرّجال قد قلّوا، و ما بقى فلا يقومون لرجاله و لست مثله و إنما يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء و ليس يخاف أهل الشام عليّا إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم، و لكن ألق إليهم أمرا فإن ردّوه اختلفوا و إن قبلوه اختلفوا، ادعهم إلى كتاب اللّه و ارفع المصاحف على رءوس الرّماح فإن بالغ حاجتك فإنّي لم أزل أدّخرها لك.
فعرفها معاوية و قال: صدقت و لكن قد رأيت رأيا أخدع به عليّا طلبي إليه الشام على الموادعة و هو الشيء الأوّل الّذي ردّنى عنه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 236
فضحك عمرو و قال: أين أنت يا معاوية من خديعة عليّ؟ و إن شئت أن تكتب فاكتب.
قال: فكتب معاوية إلى عليّ عليه السّلام كتابا مع رجل من أهل السّكاسك يقال له عبد اللّه بن عقبة: أمّا بعد فانّك لو علمت أنّ الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت و علمناه نحن لم يجنها بعضنا على بعض و إن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقى منها ما نرم به ما مضى و نصلح ما بقى، و قد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة و لا بيعة فأبيت ذلك فأعطانى اللّه ما منعت و أنا أدعوك إلى ما دعوتك إليه أمس فإنّك لا ترجو من البقاء إلّا ما أرجوه و لا تخاف من الفناء إلّا ما أخاف، و قد و اللّه رقّت الأكباد و ذهب الرّجال، و نحن بنو عبد مناف و ليس لبعضنا على بعض فضل يستذلّ به عزيز و لا يسترقّ به ذليل. و السلام.
قال سليم: فلمّا قرأ عليّ عليه السّلام كتابه ضحك و قال: العجب من معاوية و خديعته لي فدعا كاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع فقال له: اكتب: أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّك لو علمت أنّ الحرب تبلغ بنا و بك إلى ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، و إنّا و إيّاك يا معاوية على غاية منها لم نبلغها بعد، و أمّا طلبك الشام فانّي لم أعطك اليوم ما منعتك أمس، و أمّا استواؤنا في الخوف و الرّجاء فانّك لست بأمضى على الشّك مني على اليقين و ليس أهل الشام أحرص على الدّنيا من أهل العراق على الاخرة، و أمّا قولك: إنّا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض فكذلك نحن و لكن ليس اميّة كهاشم، و لا حرب كعبد المطّلب، و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا الطليق كالمهاجر، و لا المنافق كالمؤمن، و لا المبطل كالمحق، في أيدينا فضل النبوّة الّتي ملكنا بها العرب، و استعبدنا بها العجم و السّلام.
و كتاب معاوية على نسخة المسعودي: «و إنّا و إن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقى لنا ما نردّ به ما مضى» «على أن لا تلزمني لك طاعة و أنا أدعوك اليوم» «و ذهبت الرّجال» «و يسترقّ به حرّ، و السّلام» و سائر العبارات يطابق نسخة سليم.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 237
و كتاب أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام على نسخته «و أنا و إيّاك نلتمس منها غاية لم نبلغها بعد»، «و ليس أهل الشام على الدّنيا بأحرص» «و ليس اميّة» «و في أيدينا فضل النبوّة الّتي قتلنا بها العزيز و بعنا بها الحرّ و السّلام» و سائر عباراته يوافق نسخة سليم.
و نسخة كتاب الأمير عليه السّلام من الكراجكي في الكنز تطابق نسخة المسعودي في المروج، و أمّا نسخة كتاب معاوية ففي الكنز: «فقد بقي لنا ما نرم به ما مضى» كما في نسخة سليم «يستذلّ به عزّ و لا يسترقّ به حد (حرّ- ظ) و السلام» و البواقي توافق نسخة المسعودي.
أقول: و بعد اللّتيا و الّتي فلم نجد مع الجدّ في الطّلب و كثرة الفحص و التتبّع رواية تحوز جميع ما في نسخة الرّضي في النهج أو توافق لها متنا، أو تطابق أجوبتها ما أتى به معاوية في كتابه و إن كان الاختلاف قليلا و لا نشكّ في أنّ الرضيّ نقل كلامه عليه السّلام من ماخذ قيمة كانت تحضره، غاية الأمر أن يكون مختار واحد ملفّقا من ملتقطات عباراته الشتّى.
نعم على ما نقله الفاضل البحراني في شرحه على النهج تطابق أجوبة كتابه عليه السّلام كتاب معاوية، قال: كتب إليه معاوية: أمّا بعد فإنّي أظنّك لو علمت أنّ الحرب يبلغ بنا و بك ما بلغت و علمنا لم يجنها بعض على بعض، و إنّا و إن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما نندم بها على ما مضى و نصلح به ما بقى، و قد كنت سألتك الشام على أن لا يلزمني لك طاعة و لا بيعة و أبيت ذلك عليّ فأعطاني اللّه ما منعت و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فانّك لا ترجو من البقاء إلّا ما أرجو و لا أخاف من القتل إلّا ما تخاف و قد و اللّه رقّت الأجناد و ذهبت الرجال و أكلت الحرب العرب إلّا حشاشات نفس بقيت، و إنّا في الحرب و الرّجال سواء و نحن بنو عبد مناف و ليس لبعضنا على بعض فضل إلّا فضل لا يستذلّ به عزيز و لا يسترقّ به حرّ. و السّلام. فلمّا قرأ عليّ عليه السّلام كتابه تعجّب منه و من كتابه ثمّ دعا عبيد اللّه بن أبي رافع كاتبه و قال له اكتب إليه أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر- الفصل.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 238
اللغة:
«طلبك إليّ» قال في أقرب الموارد: طلب إليّ: رغب، و قال الفاضل الشارح المعتزلي: يقال: طلبت إلى فلان كذا و التقدير طلبت كذا راغبا إلى فلان كما قال تعالى «في تسع آيات إلى فرعون» أي مرسلا، و في تعليقة نسخة خطيّة عندنا فسّرت العبارة هكذا: أي طلبك الشام قاصدا إليّ بذلك، و سيأتي وجه آخر في بيان الإعراب.
«حشاشات» جمع حشاشة بالضمّ، الحشاش و الحشاشة بقيّة الرّوح في المريض قال في الأساس: و ما بقي منه إلّا حشاشة، قال ذو الرّمّة:
فلمّا رأين اللّيل و الشمس حيّة حياة الّتي تقضي حشاشة نازع
و في الحماسة (502):
فهل أنت إلّا مستعير حشاشة لمهجة نفس آذنت بفراق
و قال المرزوقي في الشرح: الحشاشة هي روح القلب، و رمق من حياة النّفس و قد آذنت بالمفارقة، و المهجة: خالصة النفس.
و في منتهى الأرب: حشاش بالضمّ كغراب: بقيّه جان در بيمار و جريح، حشاشه بالهاء كذلك.
«الطّليق» قال ابن الأثير في النهاية: و في حديث حنين: و خرج إليها و معه الطّلقاء، هم الّذين خلّى عنهم يوم فتح مكّة و أطلقهم و لم يسترقّهم واحدهم طليق فعيل بمعنى مفعول و هو الأسير إذا طلق سبيله، و منه حديث الطّلقاء من قريش و العتقاء من ثقيف كأنّه ميّز قريشا بهذا الاسم حيث هو أحسن من العتقاء.
«الصّريح»: الخالص من كلّ شيء، قال الفيومي في المصباح: صرح الشيء بالضمّ صراحة و صروحة: خلص من تعلقات غيره فهو صريح، و عربيّ صريح خالص النّسب و الجمع صرحاء، و كلّ خالص صريح، و منه قول صريح و هو الّذي لا يفتقر إلى إضمار أو تأويل.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 239
و في أقرب الموارد يقال: رجل صريح النسب أي خالصه.
مجاز «اللّصيق» أصل اللّصيق: الدّعيّ في قوم الملصق بهم و ليس منهم من قولك لصق الشيء بغيره من باب تعب لصقا و لصوقا: لزق، و قال في الأساس: و من المجاز: فلان ملصق و لصيق، دعيّ.
«المدغل» اسم فاعل من الإدغال، قال الجوهريّ في الصحاح: الدّغل بالتحريك: الفساد مثل الدّخل، يقال: قد أدغل في الأمر إذا أدخل فيه ما يخالفه و يفسده.
و في النهاية الأثيريّة: فيه- يعني في الحديث- اتّخذوا دين اللّه دغلا أي يخدعون النّاس، و أصل الدّغل الشجر الملتّف الّذي يكمن أهل الفساد فيه، و قيل: هو من قولهم: أدغلت في هذا الأمر إذا أدخلت فيه ما يخالفه و يفسده و منه حديث عليّ عليه السّلام ليس المؤمن بالمدغل هو اسم فاعل من أدغل.
الاعراب:
«و أمّا طلبك إليّ الشام» الواو عاطفة على ما سبق في الكتاب من قوله: و أمّا قولك إنّه قد بقي من عقولنا- إلخ- كما دريت في بيان الماخذ، و في بعض
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 240
النسخ: فأمّا طلبك، بالفاء كما في نسخة نصر المقدّم نقلها، و نسخة الرّضي أصحّ، و ياء إليّ مشدّدة مدعّمة من ياء إلى الجارّة و ياء ضمير المتكلّم المجرور و الشّام منصوب مفعول للطّلب.
و العبارة في بعض النسخ مشكولة بجرّ الشام و تخفيف إلى أي رغبتك إلى الشّام و نحوه، و كأنّها و هم و نسخة الرّضي و أكثر المتون ما اخترناها و هو أوفق باسلوب الكلام، و أوثق في تأدية المعنى. و أوجز و أبلغ في الفحوى و المغزى.
و أمكن أن تكون كلمة إلى بمعنى من أى طلبك منّي الشّام نحو قول عمرو ابن أحمر الباهلي في قصيدة قالها بعد ما هرب من يزيد بن معاوية لما بلغ عنه شيء إليه.
تقول و قد عاليت بالكور فوقها أيسقى فلا يروى إليّ بن أحمر؟
أي تقول الناقة و قد رفعت الرّحل و وضعته على ظهرها: أ يركبني عمرو بن أحمر فلا يملّ من ركوبي، و البيت في جامع الشواهد.
«اكلت» الضمير يرجع إلى الحرب و هي تؤنّث و تذكّر.
«حشاشات» منصوب بالكسر لأنّ المستثنى متصل. «ألا» حرف تنبيه.
«فالى النّار» خبر لقوله من الموصولة في من أكله. و الفاء في فإلى لتضمّن من معنى الشّرط، و قال ابن الحاجب في البحث عن المبتدأ و الخبر من الكافية:
و قد يتضمّن المبتدأ معنى الشرط فيصحّ دخول الفاء في خبره و ذلك إمّا الاسم الموصول بفعل أو ظرف أو النكرة الموصوفة بهما مثل الّذي يأتيني أو الّذي في الدّار فله درهم و مثل كلّ رجل يأتيني أو في الدّار فله درهم.
«ما منعتك» ما موصول اسمي مفعول ثان لأعطيك «منّي على اليقين» الظّرفان متعلّقان بأمضى، و من أهل العراق على الاخرة متعلّقان بأحرص «اميّة» غير منصرف للعلميّة و التأنيث، و كذلك سفيان لمكان الألف و النّون الزّائدتين كعثمان.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 241
«لبئس» بئس من أفعال الذّم، الخلف فاعله و خلف مخصوص بالذّم و جملة يتبع سلفا، في محلّ الرّفع صفة له لأنّه نكرة، و جملة هوى في نار جهنّم في محلّ الرّفع صفة لسلف لذلك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 242
المعنى:
هذا الكتاب كتب قبل ليلة الهرير كما هو الظاهر، قيل بيومين أو ثلاثة جوابا عن كتاب كتبه معاوية إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، و إنّما كتبه معاوية إليه بعد ما بلغه قول عليّ عليه السّلام: لاناجزنّهم مصبحا، و تناقل النّاس كلمته و فزع أهل الشام لذلك و انكسروا لقوله كما تقدّم الكلام فيه من نصر و غيره آنفا.
و معاوية قد أظهر في كتابه الندامة و النفرة على إنارته نار الحرب و إثارته إيّاها و إقدامه على إقبالها، و اعترف بأنه أطاع نفسه في ذلك و أدبر عن فتيا العقل، و فيه اشعار بجزعه من الحرب و اضطرابه من القتال و عدم نجدته في الحراب.
و أساء بأمير المؤمنين علىّ عليه السّلام الظنّ و خرج عن صوب الصواب و طريق الأدب حيث خاطبه عليه السّلام بقوله: فإنّي أظنّك- إلى قوله: لم يجنها بعض على بعض و أشركه في اتّباعه الهوى و خروجه عن الطريقة المثلى، بقوله: و إنّا و إن كنّا قد غلبنا على عقولنا.
و طلب منه عليه السّلام ثانيا أن يترك له الشّام، و لا يطلب منه طاعة و لا بيعة كما كان طلبه منه كذلك من قبل.
و شمخ بأنفه و أرعد و أبرق فجعل نفسه عكم خليفة اللّه بقوله: فانّك لا ترجو من البقاء- إلخ.
و استعطفه و دعاه إلى الشّفقة على النّاس و الكفّ من البأس بقوله: و قد و اللّه رقت- إلخ.
و خوّفه باستواء الفريقين في الحرب و الرّجال بقوله: و إنّا في الحرب- إلخ.
ثمّ تبصبص و أبدى القرابة منه بأنّ اميّة و هاشم صنوان من أصل واحد.
ثمّ تغطرس بأنّ بني عبد مناف ليس لبعضهم على بعض فضل، و استثنى من ذلك فقال: إلّا فضل لا يستذلّ به عزيز و لا يسترقّ به حرّ، فأجاب عنها أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بما ترى:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 243
أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر: «أنّك لو علمت و علمنا أنّ الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض» نقل كلام معاوية أوّلا فأجابه بقوله:
فإنّا و إيّاك منها في غاية لم نبلغها، و إنّي لو قتلت في ذات اللّه و حيّيت ثمّ قتلت ثمّ حيّيت سبعين مرّة لم أرجع عن الشدّة في ذات اللّه و الجهاد لأعداء اللّه.
و ضمير منها يرجع إلى الحرب، و كلمة لم تبلغها جاءت في نسخة نصر بتاء الخطاب و في نسخة كنز الكراجكي بياء الغيبة و في سائر النسخ بنون المتكلّم مع الغير، و الأخير أنسب بسياق الكلام، و المراد: أنّا نلتمس و ننتظر من الحرب غاية لم نبلغها بعد، أي إنّي أعلم أنّ الحرب ستشبّ إلى حدّ يكون ما مضى منها دونه.
و كلامه هذا إذعار معاوية و إرغامه في قبال قوله ذلك، و تهديد و تخويف و ايعاد إيّاه بأنّ أمره سيئول إلى أشدّ من ذلك و أنّ عاقبته و خيمة و أنّ عاقبة الّذين أساءوا السّوأى، و إنبائه بنفسه أي إنّي لعلى بصيرة و بيّنة من ربّي و إنّي لعلى الطّريق الواضح، ثمّ أكّده بقوله: و إنّي لو قتلت في ذات اللّه و حيّيت ثمّ قتلت ثمّ حيّيت سبعين مرّة لم أرجع عن الشّدّة في ذات اللّه و الجهاد لأعداء اللّه، و أعلمه بذلك ثبات قدمه في الدّين، و كونه على النهج القويم و الصّراط المستقيم، و عدم بأسه من القتال و القتل في سبيل اللّه و لو قتل و حيّي سبعين مرّة، و عرّف في أثناء قوله معاوية و من سلكوا مسلكه و اتّبعوا مأخذه بأنّهم كافرون لأنّهم أعداء اللّه.
و اعلم أنّ أولياء اللّه لكونهم على بيّنة من ربّهم لا يبالون وقعوا على الموت أو وقع الموت عليهم، و لا يخافون من القتل في سبيل اللّه و لا من القتال في سبيله، و يعلمون أنّهم لا يتربّصون بالأعداء إلّا إحدى السوئين، و أنّ الأعداء لا يتربّصون بهم إلّا إحدى الحسنيين إمّا الفتح و إمّا الشّهادة كما قال اللّه تعالى خطابا لرسوله صلّى اللّه عليه و اله: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» (التوبة 53).
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 244
و اقتفى أثره عليه السّلام في قوله هذا: و إنّي لو قتلت في ذات اللّه- إلخ، الّذين استضاءوا من مشكاة وجوده، و اقتبسوا من نور علمه و ربّوا في بيته و حجره، و احتذوا حذوه، و اتّبعوا سبيله سلام اللّه عليهم أجمعين: فهذا هو عمّار بن ياسر فاستمع ما ذا يقول رضوان اللّه عليه: روى نصر في صفّين عن عمر قال: حدّثني عبد الرّحمن بن جندب، عن جندب بن عبد اللّه قال: قام عمّار بن ياسر بصفّين فقال: امضوا عباد اللّه إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظّالم لنفسه، الحاكم على عباد اللّه بغير ما في كتاب اللّه إنّما قتله الصّالحون المنكرون للعدوان الامرون بالإحسان فقال هؤلاء الّذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدين: لم قتلتموه؟ فقلنا لأحداثه، فقالوا: إنّه ما أحدث شيئا و ذلك لأنّه مكّنهم من الدّنيا فهم يأكلونها و يرعونها و لا يبالون لو انهدّت عليهم الجبال، و اللّه ما أظنّهم يطلبون دمه إنّهم ليعلمون أنّه لظالم و لكنّ القوم ذاقوا الدّنيا فاستحبّوها و استمرءوها، و علموا لو أنّ الحقّ لزمهم لحال بينهم و بين ما يرعون فيهم منها، و لم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقّون بها الطاعة و الولاية فخدعوا أتباعهم بأن قالوا قتل إمامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا، و تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون و لو لا هي ما بايعهم من النّاس رجلان، اللّهمّ إن تنصرنا فطال ما نصرت، و إن تجعل لهم الأمر فادّخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم، ثمّ مضى و مضى معه أصحابه فلمّا دنى من عمرو بن العاص فقال: يا عمرو بعت دينك بمصر تبّا لك و طال ما بغيت الإسلام عوجا ثمّ حمل عمّار و هو يقول:
صدق اللّه و هو للصّدق أهل و تعالى ربّي و كان جليلا
ربّ عجّل شهادة لي بقتل في الّذي قد احبّ قتلا جميلا
مقبلا غير مدبر إنّ للقتل على كلّ ميتة تفضيلا
إنّهم عند ربّهم في جنان يشربون الرّحيق و السلسبيلا
من شراب الأبرار خالطه المسك و كأسا مزاجها زنجبيلا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 245
و الأبيات الثلاثة الأخيرة تشير إلى قوله تعالى: «وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ» (البقرة- 152).
و قوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ»- إلى قوله تعالى: «وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» (آل عمران 165- 170).
و قوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (المطفّفين 24- 27).
و قوله تعالى: «وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا. عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» (هل أتى- 18 و 19).
قال نصر: ثمّ نادى عمّار عبيد اللّه بن عمر و ذلك قبل مقتله فقال: يا ابن عمر صرعك اللّه بعت دينك بالدّنيا من عدوّ اللّه و عدوّ الإسلام، قال: كلّا و لكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم، قال: كلّا أشهد على علمي فيك أنّك أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه اللّه و أنّك إن لم تقتل اليوم فستموت غدا فانظر إذا أعطى اللّه العباد على نيّاتهم ما نيّتك؟
ثمّ قال عمّار: اللّهمّ إنّك لتعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثمّ انحنى عليها حتّى يخرج من ظهري لفعلت، اللّهمّ و إنّي أعلم ممّا أعلمتني أنّي لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، و لو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته. (ص 165 من الطبع الناصري).
و قد نقل قوله هذا أبو جعفر الطّبري في تاريخه كما تقدّم في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 284 ج 15).
و تقدّمت طائفة من كلمات قيّمة من أصحاب عليّ عليه السّلام في شرح الكتاب العاشر فراجع.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 246
و لمّا جمع ريحانة رسول اللّه سيّد الشهداء الحسين بن عليّ عليهم السّلام أصحابه عند قرب المساء من يوم التّاسوعاء و قال لهم: إنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام هذا اللّيل قد غشيكم فاتّخذوه جملا فبعد ما قال أعوانه من إخوته و أبنائه و بني أخيه و بني عقيل و ابني عبد اللّه بن جعفر ما قالوا، قام إليه مسلم بن عوسجة رضوان اللّه عليه فقال: أنحن نخلّي عنك و بما نعتذر إلى اللّه في أداء حقّك أما و اللّه حتّى أطعن في صدورهم برمحي و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمة في يدي و لو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة و اللّه لا نخلّيك حتّى يعلم اللّه أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما و اللّه لو قد علمت أنّي اقتل ثمّ احيى ثمّ احرق ثمّ احيي ثمّ اذري يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك و كيف لا أفعل ذلك و إنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبدا.
و قام زهير بن القين رحمة اللّه عليه فقال: و اللّه لوددت أنّي قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت حتّى اقتل هكذا ألف مرّة و أنّ اللّه عزّ و جلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
تو مكن تهديدم از كشتن كه من تشنه زارم بخون خويشتن
عاشقان را هر زماني مردنى است مردن عشّاق خود يك نوع نيست
او دو صد جان دارد از نور هدى و آن دو صد را ميكند هر دم فدا
هر يكى جان را ستاند ده بها از نبي خوان عشرة أمثالها
آزمودم مرگ من در زندگيست چون رهم زين زندگى پايندگيست
إنّ في موتي حياتي يا فتى كم افارق موطني حتّى متى
فرقتي لو لم تكن في ذا السكون لم يقل إنّا إليه راجعون
قال عليه السّلام و أمّا قولك: «انّه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى» نقل كلام معاوية ثمّ أجابه بقوله: «فإنّي ما نقضت عقلي و لا ندمت على فعلي»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 247
و ذلك لأنّه عليه السّلام كان مأمورا بقتاله من اللّه تعالى كما احتجّ عليه السّلام بذلك على معاوية في الكتاب السابع (ص 223 ج 16) حيث قال معاوية: و إنّي احذّرك اللّه أن تحبط عملك و سابقتك بشق عصا هذه الامّة و تفريق جماعتها، فأجابه الأمير عليه السّلام: فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذّرني ذلك، و لكنّي وجدت اللّه تعالى يقول: «فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه» فنظرنا إلى الفئتين ما الفئة الباغية؟ فوجدناها الفئة الّتي أنت فيها- إلخ.
على أنّ الحجج الإلهيّة كما أنّهم معصومون من الذّنوب كذلك معصومون من أن يفعلوا فعلا أو يتركوا ما يوجب ندامتهم به لأنّهم ينظرون بنور اللّه و يحكمون بالعقل النّاصع فإذا سكتوا فسكوتهم هو الصّواب، و إذا نطقوا فنطقهم هو الصّواب و إذا فعلوا ففعلهم هو الصّواب و إذا تركوا و كفّوا فتركهم هو الصّواب ثمّ من لم يكن عالما بعواقب الامور يندم من فعله لأنّه يفعل فعلا كان الصواب تركه أو يترك فعلا كان الصواب فعله فاذا ظهر له خلافه يندم به فأين هذا ممّن كان بنهاية قربه من اللّه و كمال الإتّصال بجنابه و تمام الحضور إلى حضرته مصونا و معصوما عن جميع ما تنفر عنها الطباع و قد تقدّم البحث عن صفاتهم و عصمتهم في شرح المختار 237 من باب الخطب و لذا قال عليه السّلام: فإنّي ما نقضت عقلي و لا ندمت على فعلي، و في بعض النسخ: فإنّي ما تنقّصت عقلي، أي ما أنسبه إلى النقصان.
قال عليه السّلام: «و أمّا طلبك إليّ الشّام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس» طلب معاوية من الأمير عليه السّلام الشّام غير مرّة كما اعترف به في كتابه المتقدّم إليه، و كان أتباعه أيضا يطلبون بأمره من الأمير عليه السّلام أن يخلّي بينهم و بين الشام، و يخلّوا بينه و بين العراق وهما منهم أنّ خلفاء اللّه تعالى إنّما يقاتلون أعداء اللّه لاقتراف الدّيار و العقار و حطام الدّنيا و قد روى نصر في صفّين (ص 255) أنّ رجلا من أهل الشام ينادي بين الصفّين: يا أبا حسن يا عليّ ابرز إليّ فخرج إليه عليّ عليه السّلام حتّى إذا اختلف أعناق دابّتيهما بين الصفّين؛ فقال: يا عليّ إنّ لك قدما في الإسلام و هجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدّماء
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 248
و تأخير هذه الحروب حتّى ترى من رأيك؟
فقال له عليّ عليه السّلام: و ما ذاك؟
قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك و بين العراق و نرجع إلى شامنا فتخلّي بيننا و بين شامنا.
فقال له عليّ عليه السّلام: لقد عرفت أنّما عرضت هذا نصيحة و شفقة، و لقد أهمّني هذا الأمر و أسهرني و ضربت أنفه و عينه فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما انزل على محمّد صلّى اللّه عليه و اله إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض و هم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن المنكر فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنّم، فرجع الشاميّ و هو يسترجع.
أقول: و قد مضى كلامنا في ذلك في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 322 ج 15)، و هذا من أبناء الدّنيا يقصر الهمّة في الماء و الكلاء و يتمرّغ في الأهواء و الأميال الشهوانيّة، و ذلك رجل إلهيّ و سفير ربّانيّ يرشد النّاس من عبارة و جيزة إلى حقيقة أشرقت من صبح الأزل فيها بيان علّة قيام أولياء اللّه و نهضتهم في قبال أعدائه قائلا: إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يرض من أوليائه- إلخ.
و الحريّ بباغي الرّشد أن ينظر حقّ النّظر في قوله عليه السّلام فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنّم.
و لقد سبق معاوية في الطّلب المذكور مسيلمة المتنبّي إلّا أنّ هذا المفتري الكذّاب طلب من النبيّ و ذاك طلب من الوصيّ سنّة بسنّة؛ ففي السيرة النبويّة لابن هشام (ص 600 ج 2 طبع مصر 1375 ه): و قد كان مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله: من مسيلمة رسول اللّه، إلى محمّد رسول اللّه سلام عليك، أمّا بعد فانّي قد أشركت في الأمر معك و إنّ لنا نصف الأرض و لقريش نصف الأرض و لكنّ قريشا قوم يعتدون.
فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب.
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: فحدّثني شيخ من أشجع عن سلمة بن نعيم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 249
ابن مسعود الأشجعيّ، عن أبيه نعيم، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يقول لهما حين قرأ كتابه: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال: أما و اللّه لو لا أنّ الرّسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثمّ كتب صلّى اللّه عليه و اله إلى مسيلمة:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم: من محمّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب: السّلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين.
و هذه المشابهة بين مسيلمة و بين معاوية في النبيّ و الوصيّ شبيهة بما وقع بين النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سهيل بن عمرو يوم الحديبيّة، و بين الوصيّ عليه السّلام و معاوية يوم صفّين و ذلك أنّ صحيفة الصلح لمّا كتبت يوم الحديبيّة «هذا ما تصالح عليه محمّد رسول اللّه و سهيل بن عمرو» قال سهيل: لا اجيبك إلى كتاب تسمّى رسول اللّه و لو علمت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك إنّي إذا ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت اللّه و أنت رسول اللّه و لكن اكتب محمّد بن عبد اللّه اجيبك.
و لمّا كتبت صحيفة الصلح يوم صفّين «هذا ما تقاضى عليه عليّ أمير المؤمنين و معاوية بن أبي سفيان» قال معاوية: بئس الرّجل أنا إن أقررت أنّه أمير المؤمنين ثمّ قاتلته فمحوا كلمة أمير المؤمنين، و قد مرّ تفصيله في شرح المختار 236 ص 242 من ج 15 فراجع.
و العجب لمعاوية تارة يحرّض النّاس و يألّبهم على قتال الحقّ مدّعيّا الطّلب بدم عثمان، و يتّخذ عمرو بن العاص العاصي الظالم المضلّ عضده و جعل مصرا طعمة له؛ و مرّة يطلب من أمير المؤمنين عليه السّلام الشّام فأين هذا من ذاك؟ و لا يدرى أنّه كان بأيّ رأي يعيش؟ بلى من كان ميّت القلب و أعماه حبّ الدّنيا فهو يهيم في كلّ واد من أودية الأباطيل و الأضاليل و الأهواء المردية و الاراء الرّدية، قال عزّ من قائل: «و لا تكونوا كالّذين نسوا اللّه فانسيهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون»
اى عجب چون مى نبينند اين سپاه عالمى پر آفتاب چاشتگاه
چشم باز و گوش باز و اين ذكا حيرتم از چشم بندى خدا
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 250
دو سر انگشت بر دو چشم نه هيچ بيني از جهان انصاف ده
ور نه بينى اين جهان معدوم نيست عيب جز ز انگشت نفس شوم نيست
تو ز چشم انگشت را بردار هين و آنگهانى هر چه مى خواهى ببين
نوح را گفتند امّت كو ثواب؟ گفت او ز ان سوى و استغشوا ثياب
رو و سر در جامه ها پيچيده اند لا جرم با ديده و بى ديده اند
و قوله: أمس إشارة إلى طلبه من أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام حين بويع بالخلافة إقراره على إمرة الشّام، و نقل عن ابن عبّاس أنّه قال له عليه السّلام: و لّه شهرا و اعزله دهرا فإنّه بعد أن يبايعك لا يقدر على أن يعدل في إمرته و لا بدّ أن يجور فتعزله بذلك، فقال عليه السّلام: كلّا و ما كنت متّخذ المضلّين عضدا.
و قال المسعوديّ في مروج الذّهب (ص 5 ج 2) أتى المغيرة بن شعبة عليّا فقال له: إنّ حقّ الطاعة النصيحة، و إنّ الرأى اليوم تحوز به ما في غد، و إنّ التّصارع اليوم تضيع به ما في غد، اقرر معاوية على عمله، و اقرر ابن عامر على عمله، و اقرر العمّال على أعمالهم حتّى إذا أتتك طاعتهم و طاعة الجنود استبدلت أو تركت.
قال عليه السّلام: حتّى أنظر، فخرج من عنده و عاد إليه من الغد فقال: إنّي أشرت عليك بالأمس برأى و تعقّبته و إنّما الرأى أن تعالجهم بالنزع فتعرف السامع من غيره و يستقلّ أمرك، ثمّ خرج فتلقّاه ابن عبّاس خارجا و هو داخل فلمّا انتهى إلى عليّ عليه السّلام قال: رأيت المغيرة خارجا من عندك ففيم جاءك؟ قال: جاءني أمس بكيت و كيت، و جاءني اليوم بذيت و ذيت، فقال: أمّا أمس فقد نصحك و أمّا اليوم فقد غشّك.
قال: فما الرّأى؟ قال: كان الرّأى أن تخرج حين قتل عثمان أو قبل ذلك فتأتي مكّة فتدخل دارك فتغلق عليك بابك فإنّ العرب كانت لجائلة مضطرّة في إثرك لا تجد غيرك فأمّا اليوم فإنّ بني اميّة سيحسنون الطّلب بأن يلزموك شعبة من هذا الأمر و يشبهون فيك على النّاس، و قال المغيرة: نصحته فلم يقبل فغششته
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 251
و ذكر انه قال و أمّا أنا فنصحته قبلها و لا أنصحه بعدها.
قال المسعوديّ: وجدت في وجه آخر من الرّوايات أنّ ابن عبّاس قال: قدمت من مكّة بعد مقتل عثمان بخمس ليال فجئت عليّا أدخل عليه فقيل لي عنده المغيرة بن شعبة فجلست بالباب ساعة فخرج المغيرة فسلّم عليّ، و قال: متى قدمت؟
قلت: الساعة، و دخلت على عليّ و سلّمت عليه، فقال: أين لقيت الزّبير و طلحة؟
قلت: بالنواصف، قال: و من معهما؟ قلت: أبو سعيد بن الحرث بن هشام بن قتيبة من قريش فقال عليّ: أما إنّهم لم يكن لهم بدّ أن يخرجوا يقولون نطلب بدم عثمان، و اللّه يعلم أنّهم قتلة عثمان.
فقلت: أخبرني عن شأن المغيرة و لم خلابك؟ قال: جاءني بعد مقتل عثمان بيومين فقال: اخلني، ففعلت؛ فقال: إنّ النّصح رخيص و أنت بقيّة النّاس و أنا لك ناصح و أنا اشير عليك أن لا تردّ عمّال عثمان عامك هذا، فاكتب إليهم باثباتهم على أعمالهم فإذا بايعوا لك و اطمأنّ أمرك عزلت من أحببت و أقررت من أحببت، فقلت له: و اللّه لا اداهن في ديني و لا اعطى الرّياء في أمري.
قال: فإن كنت قد أبيت فانزع من شئت و اترك معاوية فإنّ له جرأة، و هو في أهل الشّام مسموع، و لك حجّة في إثباته؛ فقد كان عمر ولّاه الشّام كلّها.
فقلت: لا و اللّه لا أستعمل معاوية يومين أبدا. فخرج من عندي على ما أشار به ثمّ عاد فقال: إنّي أشرت عليك بما أشرت به و أبيت عليّ فنظرت في الأمر و إذا أنت مصيب لا ينبغي أن تأخذ أمرك بخدعة و لا يكون فيه دنسة.
قال ابن عبّاس: فقلت له: أمّا أوّل ما أشار عليك فقد نصحك و أمّا الاخر فقد غشّك، و أنا اشير عليك أن تثبت معاوية فإن بايع لك فعليّ أن أقلعه من منزله.
قال: لا و اللّه لا أعطيه إلّا السّيف ثمّ تمثّل:
فما منّة إن منّها غير عاجز بعار إذا ما غالت النفس غالها
فقال: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع أما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يقول: الحرب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 252
خدعة؟ فقال عليّ عليه السّلام: بلى، قلت: أمّا و اللّه لإن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد ورود، و لأتركنّهم ينظرون في آثارهم الأمر و لا يدرون ما كان وجهها من غير نقص لك و لا إثم عليك.
فقال: يا ابن عبّاس لست من هنيّاتك و هنيّات معاوية في شيء يسير مالك عندي الطاعة و اللّه وليّ التوفيق.
بيان: هنيّات جمع هنيّة على التصغير أصلها من ه ن ه، أو من ه ن و، قال ابن الأثير في النهاية: و في حديث ابن الأكوع قال له: ألا تسمعنا من هناتك؟
أي من كلماتك أو من أراجزك؛ و في رواية من هنياتك على التصغير؛ و في اخرى من هنيهاتك على قلب الياء هاء.
ثمّ أردف معاوية قوله: «و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس» بقوله: «فإنّي لا أرجو من البقاء إلّا ما ترجو، و لا أخاف من الموت إلّا ما تخاف» إشارة إلى أنّه مثل عليّ عليه السّلام في الخوف من القتل و الرّجاء من البقاء يعني أنّه لا يبالي من الموت، و لا يطمع في الحياة بل يقاتل لإحياء حقّ أو إماتة باطل.
و غرضه من هذا القول دفع ما يوهم في طلبه الشام و موادعته الحرب من حصول الجبن و الفزع له، أي لا تظنّ من طلبي الشّام إدخال الجبن فيّ فإنّي لا أخاف من الموت و القتل و لا أطمع في الحياة بل أطلب الموادعة لحقن دماء النّاس.
أقول: و قد ظهر صدق قوله حينما قام عليّ عليه السّلام بين الصّفين في صفّين ثمّ نادى يا معاوية يكرّرها؛ فقال معاوية: اسألوه ما شأنه؟ قال: احبّ أن يظهر لي فاكلّمه كلمة واحدة فبرز معاوية و معه عمرو بن العاص فلمّا قارباه لم يلتفت إلى عمرو و قال لمعاوية: ويحك على م يقتل النّاس بيني و بينك و يضرب بعضهم بعضا؟
ابرز إليّ فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له.
فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أبا عبد اللّه فيما ههنا ابارزه؟ فقال عمرو: لقد أنصفك الرّجل، و اعلم أنّه إن نكلت عنه لم تزل سبّة عليك و على عقبك ما بقي عربيّ.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 253
فقال معاوية: يا عمرو بن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه و اللّه ما بارز ابن أبي طالب رجلا قطّ إلّا سقى الأرض من دمه، ثمّ انصرف معاوية راجعا حتّى انتهى إلى آخر الصّفوف و عمرو معه.
هذا هو رواية نصر في صفين نقلناها بألفاظه (ص 140 من الطبع النّاصري) و قد أتى بقريب منها المسعودي في مروج الذّهب (ص 25 ج 2) و قد تقدّم نقله في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 316 ج 15).
و نقل ابن قتيبة الدّينوريّ في باب أخبار الجبناء من كتاب الحرب من عيون الأخبار (ص 169 ج 1 طبع مصر) عن المدائني قال: رأى عمرو بن العاص معاوية يوما يضحك، فقال له: ممّ تضحك يا أمير المؤمنين أضحك اللّه سنّك؟ قال: أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب أما و اللّه لقد وافقته منّانا كريما و لو شاء أن يقتلك لقتلك.
قال عمرو: يا أمير المؤمنين أما و اللّه إنّي لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولّت عيناك، و ربا سحرك، و بدا منك ما أكره ذكره لك؛ فمن نفسك فاضحك أودع. و نقله المسعودي في مروج الذّهب مفصّلا (ص 65 ج 2).
و حينما قام رجل من أصحاب عليّ عليه السّلام و قال: و اللّه لأحملنّ معاوية حتّى أقتله فأخذ فرسا فركبه ثمّ ضربه حتّى إذا قام على سنابكه دفعه فلم ينهنهه شيء عن الوقوف على رأس معاوية و دخل معاوية خباء فنزل الرّجل عن فرسه و دخل عليه فخرج معاوية من الخباء و طلع الرّجل في أثره فخرج معاوية حتّى أحاط قومه بالرّجل فقتلوه، على التفصيل الّذي ذكره نصر في صفّين (ص 138).
و حينما حمل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و أصحابه على القاسطين حملة واحدة فلم يبق لأهل الشام صفّ إلّا أهمد حتّى أفضى الأمر إلى معاوية و عليّ عليه السّلام يضرب بسيفه و لا يستقبل أحدا إلّا ولّى عنه فدعا معاوية فرسه لينجو عليه فلمّا وضع رجله في الرّكاب ليفرّ من الحرب أشار عليه عمرو بن العاص برفع المصاحف على الرّماح ففعلوا ما فعلوا، نقله الدّينوريّ في الإمامة و السياسة (ص 127 ج 1).
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 254
فإنّه لو لم يكن صادقا في قوله: «فإنّي لا أخاف من الموت إلّا ما تخاف و لا أرجو من البقاء إلّا. ما ترجو» لما أعرض عن المبارزة حين دعاه عليّ عليه السّلام إلى البراز، و لم ينصرف راجعا حتّى ينتهى إلى آخر الصفوف أوّلا، و لما أدبر عن الرّجل و لم يدخل خباء مرّة و لم يخرج منه اخرى ثانيا، و لما فرّ من الحرب و لم يدعو فرسه لينجو عليه ثالثا.
على أنّ صاحبه عمرو بن العاص كان عارفا بحاله و قد أمضى قوله ذلك حيث قال له في صفّين: إنّ رجالك لا يقومون لرجاله (يعني رجال عليّ عليه السّلام) و لست مثله هو يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء، رواه نصر في صفّين (ص 256) و سليم بن قيس كما تقدّم نقله في ماخذ هذا الكتاب.
و انّما قال عليه السّلام: لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس، لأنّ معاوية في الأمس لم يكن لائقا بأخذ زمام الامور و إعطاء ذلك المقام لكونه على الباطل و هذه العلّة كانت باقية في اليوم فلم يصلح لتولية امور المسلمين بعد.
ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أمّا قولك: «إنّ الحرب قد أكلت العرب إلّا حشاشات أنفس بقيت» «ألا فمن أكله الحقّ فإلى النّار» نقل كلام معاوية أوّلا ثمّ أجابه بقوله: ألا فمن- إلخ، و النسخ في عبارة الجواب مختلفة: ففي نسخة خطيّة عتيقة من النهج عندنا: ألا فمن أكله الحقّ فالنّار أولى به، و هي قريبة من نسخة الرّضي الّتي اخترناها في المتن.
و في أكثر النسخ المطبوعة: ألا و من أكله الحقّ فإلى الجنّة و من أكله الباطل فإلى النّار.
أقول: الصواب ما اخترناها في المتن من النسخة الّتي عندنا قوبلت على نسخة الرّضي رضوان اللّه عليه، و ما في تلك النسخة الخطيّة يؤيّدها فانّهما بمعنى فارد تقريبا.
و أمّا النسخ المطبوعة فيشبه أن تكون مصحّفة عن أصلها، و لا يخلو حملها
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 255
على معنى صحيح من تكلّف مثل أن يقال: من قتل في سبيل الحقّ و الذّبّ عنه فمصيره إلى الجنّة، و من هلك في سبيل الباطل و الدّفاع عنه فإلى النّار.
أو يضمر في الجملتين مضافان، و التقدير: ألا و من أكله أعداء الحقّ فإلى الجنّة، و من أكله أعداء الباطل فإلى النّار، و نحوهما.
و المعنى على نسخة الرّضي مستقيم لا اعوجاج فيه لأنّ الأكل في فصيح الكلام العربي كثيرا مّا يؤتى به لإفادته معنى الافناء و الإزالة و الظهور على أمر أي من أفناه الحق و غلب عليه فمصيره إلى النار، و إنّما قال ذلك لأنّ أتباع الحق قد قتلوا في صفّين خلقا كثيرا من أحزاب معاوية فأشار عليه السّلام إلى أنّ مصيرهم إلى النّار و إن بلغ عددهم ما بلغ و لم يبق منهم إلّا حشاشات أنفس، يقال: أكلت النار الحطب أي أفنته، و قال أوس بن حجر كما في مادة ا ك ل من الأساس:
و قد أكلت أظفاره الصخر كلّما تعنّى عليه طول مرقى توصّلا
أي أكلت الصّخر أي أفننت الحجارة أظفاره.
استعاره [إنّ الحرب قد أكلت العرب ] و قال الطّريحيّ في المجمع: أكلنا بني فلان أي ظهرنا عليهم، و أصل الأكل للشيء الإفناء له ثمّ استعير لافتتاح البلاد و سلب الأموال.
و قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول خلف بن خليفة (الحماسة 794):
لعمري لنعم الحيّ يدعو صريخهم إذا الجار و المأكول أرهقه الأكل
و معنى أرهقه الأكل ضيّق عليه و غشيه، و قد قيل: أكلت فلانا إذا غلبته و غلبته.
و قد جاءت بهذا المضمون من معنى الأكل أعني الإفناء روايات عن أئمّتنا الطّاهرين عليهم السّلام ففي باب الحسد من اصول الجامع الكافي لثقة الإسلام الكلينيّ قدّس سرّه بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ الرّجل ليأتي بأيّ بادرة فيكفر فإنّ (و إنّ- خ ل) الحسد ليأكل الإيمان كما يأكل النّار الحطب.
و روى بإسناده عن جرّاح المدائنيّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الحسد يأكل
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 256
الإيمان- إلخ، و أتى بهما الفيض قدّس سرّه في الوافي (ص 148 ج 3).
و قد مضى في المختار 84 من باب الخطب عن الأمير عليه السّلام: و لا تحاسدوا فإنّ الحسد يأكل- إلخ.
و في الجامع الصغير للسيوطي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب.
و سيأتي من كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام لابنه الإمام المجتبي قوله له و إيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها و تكالبهم عليها- إلى ان قال: فإنّما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية يهرّ بعضها بعضا، و يأكل عزيزها ذليلها، و يقهر كبيرها صغيرها- إلخ.
قال عليه السّلام: و أمّا استواؤنا في الحرب و الرّجال- إلى قوله: على الاخرة، قد علمت من نسخ ماخذ الكتاب أنّها كانت متّفقة في قوله: «و أمّا استواؤنا في الخوف و الرّجاء» مكان قوله: «و أمّا استواؤنا في الحرب و الرجال» إلّا ما نقلناه أخيرا من نسخة نقلها الشارح البحراني فإنّها كانت موافقة للمتن، و نسخة الرّضي هي الّتي اخترناها في المتن و توافقها نسختنا الخطيّة المذكورة.
و أظنّ أنّ الّذين نقلوا عبارة «و أمّا استواؤنا في الخوف و الرّجاء» نظروا بقول معاوية: «فإنّي لا أرجو من البقاء إلّا ما ترجو، و لا أخاف من الموت إلّا ما تخاف» و ظنّوا أنّ قول الأمير عليه السّلام فلست بأمضى- إلخ، جواب عنه فحرّفوا الحرب و الرّجال بالخوف و الرّجاء، و قد غفلوا أنّ هذا الجواب لا يوافقه، كما يشهد به التأمّل الصّحيح، و أنّ قول معاوية: «فإنّي لا أرجو- إلخ» انّما هو تتمّة قوله: «و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك» لما قد عرفت آنفا، و قد أجابه الأمير عليه السّلام بقوله: و أمّا طلبك إليّ الشّام- إلخ.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 257
و معناه أنّ معاوية خوّف الأمير عليه السّلام و هدّده باستواء الفريقين في الحرب و الرّجال و أوهم بذلك ثباته في الحرب و بقاءه عليها و عدم تزلزله و اضطرابه منها و من وقوع كثرة القتلى في عسكره فأجابه الأمير عليه السّلام بأنّك إنّما على علم في عدم كونك على حقّ، و يقين في أنّك لست بمحقّ، و إنّما تقاتل و تحارب لاقتراف حطام الدّنيا و لست على يقين في وصولك إلى ما ترجو و تتمنّى بل، على شكّ و ترديد فيه، لأنّه أمكن أن تظهر علينا فتصل إلى أمانيّك الدنيّة الدّنيويّة، و أمكن أن نظهر عليكم فتعاق عنها و تحرم، و كذلك الكلام في أحزابك من أهل الشام.
و أمّا أنا فعلى بيّنة من ربّي، و يقين في أنّي على الصّراط المستقيم و ليس بعده إلّا الضّلال و التّباب، و اقاتل و احارب على يقين في ديني و ليس لى إلّا إحدى الحسنيين إمّا الظفر عليكم فهو جهاد في سبيل اللّه، و إمّا القتل في سبيل اللّه فمصيره إلى الجنّة و رضوان اللّه و هكذا الكلام في أصحابي من أهل العراق.
ثمّ من المعلوم أنّ من يعمل فعلا على شكّ و ترديد فيه ليس بأمضى فيه ممّن يعمله على يقين، و من يفعل عملا لاقتراف الدّنيا و حصول الأمانيّ الفانية الزائلة ليس بأحرص فيه ممّن يفعله للتقرّب إلى اللّه تعالى، و الوصول إلى النعم الاخروية الدائمة و الحياة الباقية و الدّرجات العالية الأبديّة الرّوحانيّة، و أين هذا من ذاك و نعم ما قاله الأشتر رضوان اللّه عليه في أبياته السالفة آنفا:
طلب الفوز في المعاد و في ذا تستهان النفوس و الأموال
فظهر أنّ أهل الشكّ و التّرديد ليسوا في رتبة أهل اليقين و إن كانوا كثيرين عددا و قد قال عزّ و جلّ: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» (المائدة 101) و قال تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» (البقرة 250) فما ادّعاه معاوية من استواء الفريقين في الحرب و الرّجال اختلاق محض فإنّ مثلهما كالأعمى و الأصمّ و البصير و السميع هل يستويان؟.
و أنّ تهديده عليّا أمير المؤمنين عليه السّلام بما نسجه من استوائهما في الحرب و الرّجال أوهن من بيت العنكبوت، بل الخوف به أولى و الفزع به أحرى.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 258
قال عليه السّلام: و أمّا قولك: «إنّا بنو عبد مناف» فكذلك نحن و لكن ليس اميّة كهاشم، و لا حرب كعبد المطّلب و لا أبو سفيان كأبي طالب، و سيأتي نحو كلامه هذا في الكتاب الثامن و العشرين الّذي كتبه الأمير عليه السّلام إلى معاوية جوابا:
منّا النبيّ و منكم المكذّب، و منّا أسد اللّه و منكم أسد الأحلاف، و منّا سيّدا شباب أهل الجنّة و منكم صبية النار، و منّا خير نساء العالمين و منكم حمّالة الحطب- إلخ.
افتخر معاوية بأنّه من بني عبد مناف، أو أراد بذلك الاستعطاف من أمير المؤمنين عليه السّلام، أو قصد الاستواء بقوله هذا تبخترا، حيث قال بعده: و ليس لبعضنا على بعض فضل، أو عنى بذلك أنّهما من بيت واحد فليس لبعضهم فضل على بعض أي أنّها في الفضيلة و الشرافة سواء فإن استحقّ هذا منصبا كان ذلك للاخر أيضا، و إن ادّعى هذا مقاما كان ذلك للاخر أيضا، و مال الوجهين الأخيرين واحد و استفادة الوجه الثاني من الأوّلين من العبارة لا تخلو من تكلّف.
و نقول أوّلا: إنّ معاوية و إن كان منتسبا إلى عبد مناف بحسب الظاهر لكنّ دنيّات اموره و رذيلات صفاته قد أخرجته من بيت الشّرف حقيقة و كم من فعال خبيثة و أعمال غير صالحة أوجبت القطع عن بيت و رحم و في القرآن الكريم قال: «قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ» (هود- 50)، و لا يخفى عليك أنّ الورد و الشّوك من أصل واحد و لكن أين هذا من ذاك.
و ثانيا إنّه لمّا افتخر بانتسابه إلى عبد مناف و ادّعى الاستواء بينه و بين الأمير عليه السّلام و أنكر فضل بعض على بعض من بيت عبد مناف أجابه الأمير عليه السّلام بقوله: إنّا بنو أب واحد كما في نسخة نصر فعلى هذه النسخة لم يمض الأمير عليه السّلام أنّ معاوية من بني عبد مناف كما لا يخفى و فيه نكتة لطيفة نشير إليها عن قريب، و على نسخة الرّضي أجابه بقوله: فكذلك نحن أي نسبنا ينتهى إليه أيضا و لكنّ بين آبائي و آبائك تفاوتا فاحشا، كما أنّ بين صفاتي و صفاتك فرقا ظاهرا و مسافة كثيرة، و تفصيله أنّ اميّة ليس كهاشم- إلخ، بدأ عليه السّلام بذكر الأوصاف الخارجة و الفضائل الطارية عليه من جهة آبائه، و الرّذائل العارضة على خصمه معاوية من
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 259
جهة أسلافه، ثمّ أتى بالأوصاف الدّاخلة على أربعة أقسام الاتي شرحها إن شاء اللّه تعالى، فلا بدّ في المقام من ذكر سلسلتي نسبهما إلى عبد مناف فنقول: عليّ عليه السّلام كان ابن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، و معاوية كان ابن صخر أبي سفيان بن حرب بن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف.
و آباء أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام كانوا أهل بيت شرف في قومهم، و كان كلّ واحد منهم أشرف و أفضل و أعلى من آباء معاوية بمراحل، أمّا أبو طالب عليه السّلام فإنّه كان زعيما حازما نبيها سيّاسا، و له في دفع كياد الأعداء عن النبيّ و الذّبّ عنه صلّى اللّه عليه و اله على الإسلام و المسلمين حقّ عظيم، و جلالة شأنه و حسن إسلامه أشرف من الشارق و أبلج من الصّبح و قد ذكرنا طائفة من أشعاره السّامية الدالّة على إسلامه، و حمايته عن الرسول صلّى اللّه عليه و اله و المسلمين، و نبذة من روايات جاءت في فخامة أمره و علوّ قدره في شرح المختار التاسع من باب الكتب و الرسائل (ص 351- 364) ج 17 و قال اليعقوبي في التاريخ: و كفل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله بعد وفاة عبد المطّلب أبو طالب عمّه فكان خير كافل، و كان أبو طالب سيّدا شريفا مطاعا مهيبا مع إملاقه، قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أبي ساد فقيرا، و ما ساد فقير قبله.
و أمّا عبد المطّلب: ففي السيرة النبويّة لابن هشام (ص 142 ج 1) أنّه ولى السّقاية و الرّفادة بعد عمّه المطّلب فأقامها للنّاس و أقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، و شرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه و أحبّه قومه و عظم خطره فيهم، ثمّ ذكر الرّؤيا الّتي أريها عبد المطّلب في حفر زمزم، و نذره ذبح ولده و ما جرى فيهما، إلى أن قال:
ثمّ لم يلبث عبد اللّه بن عبد المطّلب أبو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله أن هلك و امّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله حامل به، فلمّا وضعته امّه آمنة بنت وهب أرسلت إلى جدّه عبد المطّلب: أنّه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه فنظر إليه و حدّثته بما رأت حين حملت به و ما قيل لها فيه و ما أمرت أن تسميّه.
فيزعمون أنّ عبد المطّلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو اللّه و يشكر له
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 260
ما أعطاه ثمّ خرج به إلى امّه فدفعه إليها و التمس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله الرّضعاء فاسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة ابنة أبي ذؤيب.
و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله مع امّه آمنة و جدّه عبد المطّلب بن هاشم في كلاءة اللّه و حفظه، ينبته اللّه نباتا حسنا، لما يريد به من كرامته فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله ستّ سنين توفّيت امّه آمنة بالأبواء بين مكّة و المدينة فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله مع جدّه عبد المطلب بن هاشم.
و كان يوضع لعبد المطّلب فراش في ظلّ الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتّى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يأتي و هو غلام جفر حتّى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخّروه عنه فيقول عبد المطّلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فو اللّه إنّ له لشأنا ثمّ يجلسه معه على الفراش و يمسح ظهره بيده و يسرّه ما يراه يصنع فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله ثماني سنين هلك عبد المطّلب ابن هاشم فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله بعد عبد المطّلب مع عمّه أبي طالب و كان عبد المطّلب- فيما يزعمون- يوصي به عمّه أبا طالب و ذلك لأنّ عبد اللّه أبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و أبا طالب أخوان لأب و امّ، امّهما: فاطمة بنت عمرو بن عائذ، و كان أبو طالب هو الّذي يلي أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله بعد جدّه فكان إليه و معه.
بيان: السقاية اسقاء الحجيج الماء العذب، و الرّفادة خرج كانت قريش تخرجه في كلّ موسم من أموالها فتدفعه إليه فيصنع به طعاما للحاج يأكله من لم يكن له سعة و لا زاد.
و قال اليعقوبي في التاريخ (ص 7 ج 2): و توفّيت امّه صلّى اللّه عليه و اله بنت وهب بالأبواء و كان عبد المطلّب جدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يكفله و عبد المطّلب يومئذ سيّد قريش غير مدافع قد أعطاه اللّه من الشّرف ما لم يعط أحدا، و سقاه زمزم و ذا الهرم «1»
______________________________
(1) ذو الهرم اسم بئر حفرها عبد المطلب بالطائف بعد ما حفر زمزم بمكة؛ كما في تاريخ اليعقوبي أيضا ص 206 ج 1- منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 261
و حكمته قريش في أموالها، و أطعم في المحلّ حتّى أطعم الطّير و الوحوش في الجبال قال أبو طالب:
و نطعم حتّى تأكل الطير فضلنا إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
و رفض عبادة الأصنام، و وحّد اللّه عزّ و جلّ، و وفى بالنّذر، و سنّ سننا نزل القرآن بأكثرها و جاءت السنّة من رسول اللّه بها، و هي: الوفاء بالنذور، و مائة إبل في الدّية، و ألّا تنكح ذات محرم، و لا تؤتى البيوت من ظهورها، و قطع يد السّارق، و النّهي عن قتل الموؤدة، و المباهلة، و تحريم الخمر، و تحريم الزّنا و الحدّ عليه، و القرعة، و ألّا يطوف أحد بالبيت عريان، و إضافة الضّيف، و ألّا ينفقوا إذا حجّوا إلّا من طيب أموالهم، و تعظيم الأشهر الحرم، و نفي ذوات الرّايات، فكانت قريش تقول: عبد المطّلب إبراهيم الثاني.
و ذكر قريبا ممّا نقلنا عن اليعقوبي الحلبيّ في السيرة ناقلا عن ابن الجوزي و زيني دحلان بهامشه (ص 21) أيضا، و قال دحلان: كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم و البغي و يحثّهم على مكارم الأخلاق و ينهاهم عن دنيّات الامور و كان يقول: لن يخرج من الدّنيا ظلوم حتّى ينتقم اللّه منه و تصيبه عقوبة، إلى أن هلك رجل ظلوم من أرض الشام و لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطّلب في ذلك ففكر و قال:
و اللّه إن وراء هذه الدّار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء باساءته.
و أوصى عبد المطّلب إلى ابنه الزبير بالحكومة و أمر الكعبة، و إلى أبي طالب برسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سقاية زمزم، و قال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الّذي تطاون به رقاب النّاس، و قال لأبي طالب- و كان اسمه عبد مناف أي أنّه كان سميّ جدّة الأعلى عبد مناف-:
اوصيك يا عبد مناف بعدي بمفرد بيد أبيه فرد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 262
فارقه و هو ضجيع المهد فكنت كالامّ له في الوجد
تدنيه من أحشائها و الكبد فأنت من أرجى بنيّ عندي
لدفع ضيم أو لشدّ عقد
«1» و توفّي عبد المطّلب و لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله ثماني سنين و لعبد المطّلب مائة و عشرون سنة و قيل: مائة و أربعون سنة، و أعظمت قريش موته، و غسّل بالماء و السّدر و كانت قريش أوّل من غسل الموتى بالسّدر، و لفّ في حلّتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب و طرح عليه المسك حتّى ستره، و حمل على أيدي الرّجال عدّة أيّام إعظاما و إكراما و إكبارا لتغييبه في التّراب و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله أنّه قال: إنّ اللّه يبعث جدّي عبد المطّلب امّة واحدة في هيئة الأنبياء و زيّ الملوك.
أقول: قوله رضوان اللّه عليه: «فارقه و هو ضجيع المهد» ينافي ما نقلنا آنفا من ابن هشام من أنّ عبد اللّه أبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله مات و قد كانت أمّ رسول اللّه حاملا به، فقد تنوزع في ذلك فمنهم من قال: انّه مات قبل مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و اله، و منهم من قال: إنّه مات بعد مولده بشهر و قيل: بشهرين، و منهم من قال: انّه مات بعد مولده بسنة، و قيل: إنّه مات في السّنة الثانية من مولده، و قيل: بل مات عبد اللّه و رسول اللّه ابن ثمان و عشرين شهرا.
و قال الطبرسيّ في تفسير سورة و الضّحى من المجمع: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و اله مات أبوه و هو ابن سنتين، و قال الكلينيّ في باب تاريخ مولد النبيّ و وفاته صلّى اللّه عليه و اله:
______________________________
(1) و اسند الى عبد المطلب هذان البيتان أيضا:
وصيت من كنيته بطالب عبد مناف و هو ذو تجارب
بابن الحبيب الاكرم الاقارب بابن الذى قد غاب غير آئب
فهذه الوصية و التي في المتن تدلان على أن أبا طالب كان سمى جده عبد مناف و أن أبا طالب كان كنية له، و في السادس من البحار: أبو طالب اسمه عبد مناف و قيل اسمه عمران و يؤيد الاول وصية عبد المطلب بقوله: اوصيك يا عبد مناف بعدى، و الثاني ما عن بعض النسخ في زيارة النبي صلّى اللّه عليه و آله من بعيد السلام على عمك عمران أبى طالب- منه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 263
و توفّي أبوه عبد اللّه بن عبد المطّلب بالمدينة عند أخواله و هو ابن شهرين، و ظاهر الحديث الّذي رواه الصدوق في المجلس الخامس و الأربعين من أماليه (ص 158) عن ابن عبّاس أنّه مات قبل مولده حيث قال: فلمّا مات عبد اللّه و ولدت آمنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله أتيته- إلخ.
أكثر العلماء من الفريقين على أنّ عبد اللّه مات بعد مولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، و قال اليعقوبيّ في التاريخ: توفّي عبد اللّه بن عبد المطّلب أبو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله- على ما روى جعفر بن محمّد- بعد شهرين من مولده، قال: و قال بعضهم: إنّه توفّي قبل أن يولد و هذا غير صحيح لأنّ الإجماع على أنّه توفّي بعد مولده، انتهى، فقول الكلينيّ و من سلك مسلكه متّخذ من الحديث المروي عن الإمام الصّادق عليه السّلام.
ثمّ إنّ ما نقل اليعقوبيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في جدّه عبد المطّلب توافقه عدّة روايات في الكافي و أتى بها الفيض رحمه اللّه في باب ما جاء في عبد المطلب و أبي طالب رضي اللّه عنهما من الوافي (ص 158 ج 2) ففي الكافي بإسناده إلى زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يحشر عبد المطّلب يوم القيامة امّة وحدة عليه سيماء الأنبياء و هيبة الملوك.
و فيه بإسناده عن مقرن، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ عبد المطّلب أوّل من قال بالبدا يبعث يوم القيامة أمّة وحدة عليه بهاء الملوك و سيماء الأنبياء، و غيرهما من روايات اخرى.
و ما نقل ابن هشام في السيرة من أنّه يوضع لعبد المطّلب فراش في ظلّ الكعبة- إلخ، توافقه رواية في الكافي بهذا المضمون نقلها الفيض في ذلك الباب من الوافي أيضا: روى الكلينيّ بإسناده إلى رفاعة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان عبد المطّلب يفرش له بفناء الكعبة لا يفرش لأحد غيره و كان له ولد يقومون على رأسه فيمنعون من دنى منه فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و هو طفل يدرج حتّى جلس على فخذيه فأهوى بعضهم إليه لينحّيه عنه، فقال له عبد المطّلب: دع ابني فإنّ الملك قد أتاه، (الوافي ص 159 ج 2).
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 264
و أمّا هاشم: ففي السيرة لابن هشام نقلا عن ابن إسحاق (ص 135 ج 1) ولى الرّفادة و السقاية- يعني بعد أن توفّي أبوه عبد مناف- و ذلك أنّ عبد شمس كان رجلا سفارا، قلّما يقيم بمكّة و كان مقلّا ذا ولد (كان لعبد مناف بنون خمسة و هم: عبد شمس، و هاشم، و المطّلب، و نوفل، و أبو عمرو عبيد) و كان هاشم موسرا، فكان- فيما يزعمون- إذا حضر الحاج قام في قريش فقال: «يا معشر قريش إنّكم جيران اللّه و أهل بيته؛ و إنّه يأتيكم في هذا الموسم زوّار اللّه و حجّاج بيته و هم ضيف اللّه، و أحقّ الضّيف بالكرامة ضيفه؛ فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيّامهم هذه الّتي لا بدّ لهم من الإقامة بها فإنّه و اللّه لو كان مالى يسع لذلك ما كلّفتكموه» فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم، كلّ امرىء بقدر ما عنده فيصنع به للحجّاج طعاما حتّى يصدروا منها.
قال: و كان هاشم فيما يزعمون أوّل من سنّ الرّحلتين لقريش رحلتي الشتاء و الصيف، و أوّل من أطعم الثريد بمكّة، و إنّما كان اسمه عمرا، فما سمّي هاشما إلّا بهشمه الخبز بمكّة لقومه، فقال شاعر من قريش أو من بعض العرب (قيل هو عبد اللّه بن الزّبعري، و قيل هو مطرود بن كعب):
عمرو الّذي هشم الثريد لقومه قوم بمكّة مسنتين عجاف
سنّت إليه الرّحلتان كلاهما سفر الشتاء و رحلة الأصياف
المسنتون: الّذين أصابتهم السّنة، و هي الجوع و القحط و الجدب، و العجاف جمع عجف من العجف بمعنى الضعف و الهزال.
ثمّ توفّي هاشم بغزّة من أرض الشام تاجرا فولي السقاية و الرّفادة من بعده المطّلب بن عبد مناف و كان أصغر من عبد شمس و هاشم و كان ذا شرف في قومه و فضل و كانت قريش إنّما تسمّيه الفيض لسماحته و فضله.
و ذكر أكثر ممّا نقلناه عن ابن هشام اليعقوبي في التاريخ (ص 202 ج 1) فراجع، قال: و يقال: إنّ هاشما و عبد شمس كانا توأمين فخرج هاشم و تلاه عبد شمس و عقبه ملتصق بعقبه فقطع بينهما بموسى فقيل: ليخرجن بين ولد هاذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 265
و أمّا بنو اميّة فالتاريخ أصدق شاهد على أنّهم لم يكونوا إلّا في صدد إثارة فتنة، و إنارة حرب، و أنّ شيمتهم كانت الخيلاء، و البخل، و النفاق، و أنّ دأبهم كان الإستيلاء على النّاس و السلطان عليهم ظلما و جورا، و أنّ بينهم و بين بني هاشم في السّجايا الإنسانيّة بونا بعيدا.
و إنّي كلّما طلبتهم في كتب التواريخ و المغازي و السّير فما وجدتهم إلّا أفظاظأ غلاظ القلوب و قساتها، و ما رأيت أمانيّهم إلّا أن تكونوا جبابرة ملوكا.
و هذا هو أبو سفيان كان صخرا، و قد حارب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و كان سببا لإثارة وقعة بدر كما تقدّم عن اليعقوبيّ في شرح المختار التاسع من باب الكتب (ص 369 ج 17) ففي السيرة النبويّة لابن هشام (ص 671 ج 1): قال ابن إسحاق: ثمّ قال اللّه عزّ و جلّ: «إنّ الّذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل اللّه- إلى قوله: إلى جهنّم يحشرون» يعني النفر الّذين مشوا إلى أبي سفيان و إلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة فسألوهم أن يقوّوهم بها على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ففعلوا.
و قال ابن الأثير في اسد الغابة ناقلا عن أبي أحمد العسكريّ: هو الّذي قاد قريشا كلّها يوم احد و لم يقدمها قبل ذلك رجل واحد إلّا يوم ذات نكيف قادها المطّلب.
و قال اليعقوبيّ في التاريخ: كانت وقعة احد في شوّال بعد بدر بسنة، اجتمعت قريش و استعدّت لطلب ثارها يوم بدر و استعانت بالمال الّذي قدّم به أبو سفيان و قالوا: لا تنفقوا منه شيئا إلّا في حرب محمّد إلى أن قال-:
و خرج المشركون و عدّتهم ثلاثة آلاف و رئيسهم أبو سفيان بن حرب، و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و خرج المسلمون و عدّتهم ألف رجل حتّى صاروا إلى احد، و وافى المشركون فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل حمزة بن عبد المطّلب أسد اللّه و أسد رسوله رماه وحشي و مثلت به هند بنت عتبه (و هند كانت زوج أبي سفيان) و شقت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها و جدعت أنفه فجزع عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله جزعا شديدا و قال: لن أصاب بمثلك- إلخ.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 266
و كان أبو سفيان يحرّض قريشا على القتال، و قال ابن إسحاق: و قد قال أبو سفيان لأصحاب اللّواء من بني عبد الدّار يحرّضهم بذلك على القتال: يا بني عبد الدّار إنّكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم و إنّما يؤتى النّاس من قبل راياتهم إذا زالت زالو، فإمّا أن تكفونا لواءنا و إمّا أن تخلّوا بيننا و بينه فنكفيكموه فهمّوا به و تواعدوه و قالوا: نحن نسلم إليك لواءنا، ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع! و ذلك أراد أبو سفيان.
و كانت زوجه هند و النسوة اللّاتي معها يحرّضن الكفّار على القتال فإنّه لمّا التقى النّاس و دنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللّاتي معها و أخذن الدفوف يضربن بها خلف الرّجال و يحرّضنهم فقالت هند فيما تقول:
ويها بني عبد الدّار ويها حماة الأدبار
ضربا بكلّ بتّار
و تمثّلت بأبيات قالتها هند بنت طارق بن بياضة الإيادية في حرب الفرس لإياد:
إن تقبلوا نعانق و نفرش النّمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق
و كان أبو سفيان يشمت بالمسلمين بعد احد، كما قال ابن عبّاس و عكرمة لمّا اصيب المسلمين ما أصابهم يوم احد و صعد النبيّ صلّى اللّه عليه و اله الجبل جاء أبو سفيان فقال: يا محمّد لنا يوم و لكم يوم، فقال صلّى اللّه عليه و اله: أجيبوه فقال المسلمون: لا سواء قتلانا في الجنّة و قتلاكم في النّار، فقال أبو سفيان: لنا عزّى و لا عزّى لكم؛ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله: قولوا: اللّه مولانا و لا مولى لكم، فقال أبو سفيان: اعل هبل؛ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله: قولوا: اللّه أعلى و أجل، و ذكر قريبا منه ابن هشام في السيرة (ص 93 ج 2).
و كان دأب معاوية و شيمته أيضا كذلك إلى أن أسلم بحسب الظاهر إمّا رغبة و إمّا رهبة في يوم فتح مكّة و بعد ما أسلم ظاهرا قد سفك دماء المسلمين و أفرط فيه فقد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 267
قال المسعودي في مروج الذّهب (ص 66 ج 2): و قد كان بسر بن أرطاة العامري (كان بسر منصوبا من قبل معاوية، على سفك الدّماء) قتل بالمدينة و بين المسجدين خلقا كثيرا من خزاعة و غيرهم، و كذلك بالجرف قتل بها خلقا كثيرا من رجال همذان، و قتل بصنعاء خلقا كثيرا من الأبناء؛ و لم يبلغه عن أحد أنّه يمالىء عليّا أو يهواه إلّا قتله.
و نقل ما اصيب منه المسلمون يطول به الكتاب و ينجرّ إلى الإسهاب، و نكتفي بنقل كتاب كتبه محمّد بن أبي بكر إلى معاوية ذكر فيه عليا و أباه، و معاوية و أباه بما تراه، قال المسعوديّ في مروج الذّهب (ص 59 ج 2): لمّا صرف عليّ عليه السّلام قيس بن سعد بن عبادة عن مصر وجّه مكانه محمّد بن أبي بكر فلما وصل إليها كتب إلى معاوية كتابا فيه:
من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر: أمّا بعد فإنّ اللّه بعظمته و سلطانه خلق خلقه بلا عبث منه و لا ضعف في قوّته و لا حاجة به إلى خلقهم لكنّه خلقهم عبيدا و جعل منهم غويّا و رشيدا و شقيّا و سعيدا ثمّ اختار على علم و اصطفى و انتخب منهم محمّدا صلّى اللّه عليه و اله فانتخبه لعلمه و اصطفاه لرسالته و ائتمنه على وحيه و بعثه رسولا و مبشّرا و نذيرا فكان أوّل من أجاب و أناب و آمن و صدق و أسلم و سلم أخوه و ابن عمّه عليّ بن أبي طالب صدّقه بالغيب المكتوم و آثره على كلّ حميم و وقاه بنفسه كلّ هول و حارب حربه و سالم سلمه فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات اللّيل و النّهار و الخوف و الجوع و الخضوع حتّى برز سابقا لا نظير له فيمن اتّبعه و لا مقارب له في فعله و قد رأيتك تساميه و أنت أنت و هو هو أصدق النّاس نيّة، و أفضل النّاس ذرّية، و خير النّاس زوجة و أفضل النّاس ابن عمّ أخوه الشاري بنفسه يوم موتة، و عمّه سيّد الشهداء يوم احد، و أبوه الذّابّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و عن حوزته؛ و أنت اللّعين ابن اللّعين لم تزل أنت و أبوك تبغيان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله الغوائل، و تجهدان في إطفاء نور اللّه، تجمعان على ذلك الجموع، و تبذلان فيه المال، و تؤلّبان عليه القبائل؛ على ذلك مات أبوك و عليه خلفته؛ و الشهيد عليك من تدنى و يلجأ إليك من بقيّة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 268
الأحزاب و رؤساء النفاق؛ و الشاهد لعليّ مع فضله المبين القديم أنصاره الّذين معه الّذين ذكرهم اللّه بفضلهم، و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار و هم معه كتائب و عصائب يرون الحقّ في اتّباعه و الشّقاء في خلافه؛ فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعليّ و هو وارث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و وصيّه و أبو ولده، أوّل النّاس له اتّباعا و أقربهم به عهدا، يخبره بسرّه و يطلعه على أمره، و أنت عدوّه و ابن عدوّه فتمتّع في دنياك ما استطعت بباطلك، و ليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى و كيدك قد و هى، ثمّ يتبيّن لك لمن تكون العاقبة العليا، و اعلم أنّك أنّما تكايد ربّك الّذي آمنك كيده و يئست من روحه فهو لك بالمرصاد و أنت منه في غرور و السلام على من اتّبع الهدى.
فأجابه معاوية في كتاب أرسله إليه بما خلاصته: فقد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب و حقّه لازما لنا مبرورا علينا فلمّا قبض اللّه نبيّه كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزّه حقّه، و خالفه على أمره على ذلك اتّفقا و اتّسقا، و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب و لسلمنا إليه و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله فعب أباك بما بدا لك أودع و السلام على من أناب.
و أتى بتفصيله المسعوديّ في مروج الذّهب فراجع، فأين أبو سفيان الضّاري بدماء النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و المسلمين، و أبو طالب الّذي كان كافل الرّسول و حاميه و ذابّا عنه و عن المسلمين.
و أين زوجه هند آكلة الأكباد، و امرأة أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم ربّت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، و قال اليعقوبي في التاريخ (ص 10 ج 2) و يروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله لما توفيت (يعني فاطمة بنت أسد) و كانت مسلمة فاضلة- أنّه قال: اليوم ماتت امّي، و كفّنها بقميصه، و نزل على قبرها، و اضطجع في لحدها؛ فقيل له يا رسول اللّه لقد اشتدّ جزعك على فاطمة؛ قال: إنّها كانت امّي إذا كانت لتجيع صبيانها و تشبعني، و تشعثهم و تدهنني و كانت امّي.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 269
و بنو هاشم هم الّذين كان النبيّ من بيتهم و هو صلّى اللّه عليه و اله ربّي في حجرهم و ما بعث اللّه نبيّا إلّا في منعة من قومه ففي المقدّمة السادسة من مقدّمة ابن خلدون (ص 91 طبع مصر): إنّ اللّه سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضّلهم بخطابه و فطرهم على معرفته و جعلهم وسائل بينهم و بين عباده يعرّفونهم بمصالحهم و يحرّضونهم على هدايتهم- ثمّ أخذ في بيان علامات هذا الصّنف من البشر فقال: و من علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوي حسب في قومهم، و في الصحيح ما بعث اللّه نبيّا إلّا في منعة من قومه و في رواية اخرى في تروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين، و في مسئلة هر قل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال: كيف هو فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو حسب؛ فقال هرقل: و الرّسل تبعث في أحساب قومها، و معناه أن تكون له عصبة و شوكة تمنعه عن أذى الكفّار حتّى يبلغ رسالة ربّه و يتمّ مراد اللّه من إكمال دينه و ملّته.
و كلام ابن خلدون هذا قد عنون في الكتب الكلاميّة أيضا، ثمّ إنّ المهديّ الموعود ظهوره و قيامه من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و اله فهو من بني هاشم كما أنّ آباءه الكرام البررة عليهم السّلام من ذلك البيت.
و قد قاتل أبو سفيان بن حرب الأموي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و فعل ما فعل.
و ابنه معاوية قاتل خليفة الرّسول عليّا المرتضى، و قتل بالسمّ ريحانة الرسول الحسن المجتبى.
و زوجه هند كانت تحرّض المشركين على قتال المسلمين و قتلهم و قد مثلت أسد اللّه و أسد رسوله حمزة و أكلت أكباد أودّاء اللّه.
و ابن معاوية يزيد قتل سيّد شباب أهل الجنّة ريحانة رسول اللّه الحسين بن فاطمة و أصحابه أنصار اللّه بكربلاء، و قال السيوطي في تاريخ الخلفاء (ص 307 طبع مصر): و في قتله قصّة فيها طول لا يحتمل القلب ذكرها فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون. انتهى.
و بعد قتله فعل بمدينة الرّسول ما فعل فقد قال السيوطي في التاريخ المذكور
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 270
و في سنة ثلاث و ستّين بلغه (يعني يزيد بن معاوية) أنّ أهل المدينة خرجوا عليه و خلعوه فأرسل إليهم جيشا كثيفا و أمرهم بقتالهم ثمّ المسير إلى مكّة لقتال ابن الزبير فجاءوا و كانت وقعة الحرّة على باب طيبة، و ما أدراك ما وقعة الحرّة؟ ذكرها الحسن مرّة فقال: و اللّه ما كاد ينجو منهم أحد قتل فيها خلق من الصحابة رضي اللّه عنهم و من غيرهم، و نهبت المدينة و افتضّ فيها ألف عذراء فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون؛ قال:
قال صلّى اللّه عليه و اله: «من أخاف أهل المدينة أخافه اللّه، و عليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين» و كان سبب خلع أهل المدينة له أنّ يزيد أسرف في المعاصي.
و قال عبد اللّه حنظلة الغسيل: و اللّه ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنّه رجل ينكح امّهات الأولاد و البنات، و الأخوات، و يشرب الخمر، و يدع الصلاة.
قال: قال الذّهبيّ: و لما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل مع شرب الخمر و اتيانه المنكر اشتدّ عليه النّاس و خرج عليه غير واحد و لم يبارك اللّه في عمره و سار جيش الحرة إلى مكّة لقتال ابن الزبير و أتوا مكّة فحاصروه و قاتلوه و رموه بالمنجنيق و احترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة و سقفها- إلى آخر ما نقل فراجع إلى الكتاب.
و الدّجال الّذي يقاتل المهديّ المنتظر عليه السّلام الهاشميّ سفيانيّ أيضا ففي معاني الأخبار للصدوق رحمه اللّه عن الصّادق عليه السّلام: قال: إنا و آل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في اللّه: قلنا صدق اللّه و قالوا كذب اللّه، قاتل أبو سفيان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و قاتل معاوية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و قاتل يزيد بن معاوية الحسين بن عليّ عليه السّلام و السفيانيّ يقاتل القائم، رواه المجلسي في البحار (ج 8 ص 560 من الطبع الكمباني).
و هذه أنموذجة من شيم بني اميّة، و تلك نبذة من خلال بني هاشم و خلقهم العظيم.
ثمّ إنّ الفاضل الشارح المعتزلي قال: كان الترتيب يقتضي أن يجعل هاشما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 271
بإزاء عبد شمس لأنّه أخوه في قعدد و كلاهما ولد عبد مناف لصلبه، و أن يكون اميّة بإزاء عبد المطّلب، و أن يكون حرب بإزاء أبي طالب، و أن يكون أبو سفيان بإزاء أمير المؤمنين عليه السّلام لأن كلّ واحد من هؤلاء في قعدد صاحبه إلّا أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا كان في صفّين بازاء معاوية اضطرّ إلى أن جعل هاشم بإزاء اميّة بن عبد شمس. انتهى.
أقول: أوّلا إنّ سلسلتي نسب أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و معاوية إلى عبد مناف ليستا متكافئتين حتّى يجعل كلّ واحد من هذه السلسلة في قعدد صاحبه من السلسلة الاخرى فإنّها في معاوية تجاوز حلقة فعليّ عليه السّلام ينتهى إلى عبد مناف بثلاثة آباء و معاوية ينتسب إليه ظاهرا باباء أربعة.
و ثانيا إنّ الأمير عليه السّلام جعل نفسه بازاء معاوية، و أباه أبا طالب بإزاء أبيه أبي سفيان، و جدّه عبد المطّلب بإزاء جدّه حرب، و أبا جدّه هاشم بإزاء أبي جدّه اميّة فلا يخفى حسن صنيعته عليه السّلام.
و ثالثا إنّ في صنيعته هذه اشارة لطيفة دقيقة إلى عدم انتهاء نسب الخصم إلى عبد مناف، أى عدم كونه من صميم قريش فتبصّر.
و رابعا إنّ الأمير عليه السّلام كان في بيان فضل أولاد عبد مناف الّذين كانوا آباءه عليهم السّلام شرافة و كرامة و مجدا على أولاده الّذين كان معاوية ينتسب بهم إليه و ليس للتنظير مزيد اهتمام في المقام.
و خامسا إنّ في ما فعل الأمير عليه السّلام من جعل اميّة بازاء هاشم، و حرب بازاء عبد المطّلب، و أبي سفيان بازاء أبي طالب نكتة تاريخيّة أوجبت تنظير كلّ واحد من الثلاثة قبال صاحبه و قد غفل الشارح المذكور عنها و هي أنّ هاشما بعد أبيه عبد مناف لمّا ولى ما كان إليه من السّقاية و الرّفادة و ساد قومه حسده أميّة ابن أخيه عبد شمس بن عبد مناف فتكلّف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز فعيّرته قريش و قالوا له: أتتشبّه بهاشم؟ ثمّ دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنّه و علوّ قدره فلم تدعه قريش؛ فقال هاشم لاميّة: انا فرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 272
بمكّة، و الجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضي اميّة بذلك و جعلا بينهما الكاهن الخزاعي و كان بعسفان فخرج كلّ منهما في نفر فنزلوا على الكاهن فقال قبل أن يخبروه خبرهم: و القمر الباهر، و الكوكب الزّاهر، و الغمام الماطر، و ما بالجوّ من طائر، و ما اهتدى بعلم مسافر، من منجد و غائر، لقد سبق هاشم اميّة إلى المفاخر فنصر هاشم على اميّة فعاد هاشم إلى مكّة و نحر الإبل و أطعم النّاس و خرج اميّة إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أوّل عداوة وقعت بين هاشم و اميّة و توارث ذلك بنوهما.
فقد أشار عليّ عليه السّلام بقوله: «و لكن ليس اميّة كهاشم» إلى هذا التنظير، و قد نقلنا هذه النكتة التاريخيّة من انسان العيون في سيرة الأمين و المأمون المعروف بالسيرة الحلبيّة (ص 5 ج 1 طبع مصر) و قد نقل قريبا منه أبو جعفر الطبريّ في التاريخ، و ابن الأثير في الكامل.
و أمّا ما أوجبت التنظير بين عبد المطّلب و حرب فهي أنّ حربا كان نديم عبد المطّلب في الجاهلية و كان في جوار عبد المطّلب يهوديّ فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب من قتله؛ فلمّا علم عبد المطّلب بذلك ترك منادمة حرب و لم يفارقه حتّى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عمّ اليهودي ثمّ نادم عبد اللّه بن جدعان التميمي.
هذا ما نقلنا عن السيرة النبويّة لأحمد زيني دحلان (هامش السيرة الحلبية ص 22 ج 1) و تفصيل ذلك ما أتى به أبو جعفر الطبري في التاريخ و ابن الأثير في الكامل من أنّ عبد المطّلب كان له جار يهوديّ يقال له: اذينة يتّجر و له مال كثير فغاظ ذلك حرب بن اميّة، و كان نديم عبد المطّلب فأغرى به فتيانا من قريش ليقتلوه و يأخذوا ماله فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدّار، و صخر بن عمرو بن كعب التيميّ جدّ أبي بكر؛ و لم يعرف عبد المطّلب قاتله فلم يزل يبحث حتّى عرفهما و إذا هما قد استجارا بحرب بن اميّة، فأتى حربا و لامّه، و طلبهما منه فأخفاهما
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 273
فتغالظا في القول حتّى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة فأبى أن ينفر بينهما فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزّى بن رياح، فقال لحرب:
يا أبا عمرو أتنافر رجلا هو أطول منك قائمة، و أعظم منك هامة، و أوسم منك و سامة، و أقلّ منك ملامة، و أكثر منك ولدا، و أجزل صفدا، و أطول منك مذودا؟ و إنّي لأقول هذا و إنّك لبعيد الغضب، رفيع الصوت في العرب، جلد المريرة، جليل العشيرة، و لكنّك نافرت منفرا.
فغضب حرب و قال: إنّ من انتكاس الزّمان أن جعلت حكما؛ فترك عبد المطّلب منادمة حرب، و نادم عبد اللّه بن جدعان و أخذ من حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عمّ اليهودي، و ارتجع ماله إلّا شيئا هلك فغرمه من ماله.
ثمّ قال زيني دحلان: و يروى أنّ حربا كان لا يلتقي من أحد من رؤساء قريش أو غيرهم في؟؟ عقبة؟؟ أو مضيق إلّا تأخّروا و تقدّم هو، و لا يستطيع أحد أن يتقدّم عليه فالتقى حرب مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدّمه التميمي، فقال حرب: أنا حرب بن اميّة فلم يلتفت إليه التميمي و مرّ قبله فقال حرب: موعدك مكّة فبقى التّميمي دهرا ثمّ أراد دخول مكّة فقال: من يجيرني من حرب بن اميّة؟ فقيل له: عبد المطّلب بن هاشم فأتى التّميمي ليلا دار الزّبير بن عبد المطّلب فدقّ الباب فقال الزّبير لأخيه الغيداق: قد جاءنا رجل إمّا مستجير أو طالب حاجة أو طالب قرى و قد أعطيناه ما أراد فخرج الزّبير فأنشد الرّجل:
لاقيت حربا في الثنيّة مقبلا و الصبح أبلج ضوءه للباري
فدعا بصوت و اكتنى ليروعني و دعا بدعوته يريد فخاري
فتركته كالكلب ينبح وحده و أتيت أهل معالم و فخار
ليثا هزبرا يستجار بقربه رحب المنازل مكرما للجار
و لقد حلفت بمكّة و بزمزم و البيت ذي الأحجار و الأستار
إنّ الزّبير لما نعي من خوفه ما كبّر الحجّاج في الأمصار
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 274
فقال الزّبير للتميمي: تقدّم فإنّا لا نتقدّم على من نجيره فتقدّم التميمي و دخل المسجد فرآه حرب فقام إليه فلطمه فعدا عليه الزّبير بالسّيف فعدا حرب حتّى دخل دار عبد المطّلب فقال: أجرني من الزّبير فأكفأ عليه جفنة كان أبوه هاشم يطعم النّاس فيها فبقى تحتها ساعة ثمّ قال له عبد المطّلب: اخرج، فقال: كيف اخرج و سبعة من ولدك قد اجتمعوا بسيوفهم على الباب؟ فألقى عليه عبد المطّلب رداءه فخرج عليهم فعلموا أنّه أجاره فتفرّقوا.
و إلى هذه القصّة أشار ابن عبّاس رضي اللّه عنهما حين دخل على معاوية في أيّام خلافته و عنده وفود العرب فذكره كلاما فيه افتخار و ذكر في كلامه حرب بن اميّة فقال له ابن عبّاس: فمن أكفأ عليه إناء و أجاره بردائه؟ فسكت معاوية.
و أمّا التنظير بين أبي طالب و أبي سفيان فظاهر ممّا قدّمنا سالفا من حماية أبي طالب رضوان اللّه عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و المسلمين و ذبّه عن الرّسول صلّى اللّه عليه و اله و حسن تدبيره في دفع كياد القوم عنه، و آنفا من ايذاء أبي سفيان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و المسلمين و بغيه لهم و تأليبه عليهم القبائل و جهده في إطفاء نور اللّه و ولعه في سفك الدّماء.
ثمّ بما بيّنّا من وجه التنظير علم أيضا أنّ بني هاشم كانوا يؤمنون الخائفين و يؤدّون الحقوق، و كان دارهم مأمن النّاس و أنّ بني اميّة كانوا على خلافهم.
قال عليه السّلام: «و لا المهاجر كالطليق، و لا الصّريح كاللّصيق، و لا المحقّ كالمبطل، و لا المؤمن كالمدغل» بعد ما بيّن ما كانت طارية عليهما من جهة آبائهما أخذ بذكر الصّفات النفسانية، فقال: و لا المهاجر كالطّليق يعني بالمهاجر نفسه و بالطليق معاوية و قد علمت في شرح المختار الرّابع و الثلاثين و المأتين من باب الخطب و هو قوله عليه السّلام: فجعلت أتبع مأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله- إلخ (ص 126 ج 15) أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله لمّا فجأه من الكفّار ما أحوجه إلى الخروج من مكّة استخلف عليّا في ردّ الودائع إلى أربابها و قضاء ما كان عليه من دين لمستحقيه و جمع بناته و نساء أهله و أزواجه و الهجرة بهم إليه فقام عليّ عليه السّلام به أحسن القيام و بات على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و وقاه بنفسه ثمّ ردّ كلّ وديعة إلى أهلها و أعطى كلّ ذي
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 275
حقّ حقّه و حفظ بنات رسول اللّه و حرمه و هاجر بهم ماشيا على قدميه يحوطهم من الأعداء و يكلأهم من الخصماء و يرفق بهم في المسير حتّى أوردهم عليه صلّى اللّه عليه و اله المدينة على أتمّ صيانة و حراسة و رفق و رأفة و حسن تدبير.
و كان معاوية و أبوه في زمان مهاجرة الرّسول و الوصيّ عليهما السّلام مشركين و قد أسلما يوم فتح مكّة إمّا رغبة و إمّا رهبة و لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله على أهل مكّة قال لهم:
فاذهبوا و أنتم الطلقاء فمعاوية طليق بن طليق، و سيأتي ذكر فتحها عن قريب.
قوله عليه السّلام: «و لا الصّريح كاللّصيق» يعني بالصّريح نفسه و باللّصيق معاوية و قد علم في بيان لغة الكتاب أن الصّريح بمعنى خالص النسب، و اللصيق بمعنى الدعيّ في قوم، الملصق بهم و ليس منهم.
قال الفاضل الشارح المعتزلي: إن قلت: ما معنى قوله: و لا الصّريح كاللّصيق و هل كان في نسب معاوية شبهة ليقول له هذا؟ قلت: كلّا إنّه لم يقصد ذلك و إنّما أراد الصّريح بالإسلام و اللّصيق في الإسلام فالصّريح فيه هو من أسلم اعتقادا و إخلاصا، و اللّصيق فيه من أسلم تحت السيف أو رغبة في الدّنيا و قد صرّح بذلك فقال: كنتم ممّن دخل في هذا الّذين إمّا رغبة و إمّا رهبة. انتهى.
أقول: لو كان شرح عبارة مبنياّ على الرأى من دون دلالة سبكها و اسلوبها عليه، أو لم يكن له شاهد من خارج لجاز أن تفسّر على آراء كثيرة قائلة خارجة عن حيطة المراد قطعا.
ثمّ يقال له: ما اقتضى عدولك عن ظاهر اللّفظ و ارتكابك على هذا التكلّف؟
و لم لا يجوز أن يكون معاوية ملصقا بقريش و مع ذلك كان ممّن دخل في الدّين إمّا رغبة أو رهبة، حتّى لا تحمل العبارتان على معنى واحد؟
فإن قلت: إذا كان اللّصيق بهذا المعنى أي إنّه لم يكن من قريش فلم قال الأمير عليه السّلام: «و أمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن» و لم يردّه في ادّعائه هذا بأنّه ليس من بني عبد مناف، بل أمضاه و أثبته بقوله فكذلك نحن؟
قلت: أوّلا إنّه عليه السّلام على نسخة نصر لم يمضه و لم يعترف بأنّ معاوية من
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 276
بني عبد مناف بل قال: و أمّا قولك: «إنّا بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل» «فلعمري إنّا بنو أب واحد» و لا يخفى عليك أنّ الكافر و المسلم من أب واحد آدم عليه السّلام.
و ثانيا هب أنّه قال: فكذلك نحن، و لكن لا ضير في أن يكون كلامه هذا مبنياّ على المماشاة و فرض التسليم أي سلّمنا أنّ نسبك ينتهى إلى عبد مناف و لكنّ بين آبائي و آبائك إلى عبد مناف في الشرافة و الجلالة فرقا فاحشا ثمّ نفى نسبه إليه بقوله: و ليس الصريح كاللّصيق، و هذا الدّأب في المحاورات ليس بعزيز.
و قال سيّنا عماد الدّين الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن الطبريّ في الفصل الأوّل من الباب الخامس و العشرين من كتابه كامل السقيفة المشتهر بالكامل البهائي (ص 161 ج 2 طبع دار العلم قم) و كذا قال صاحب إلزام النواصب: إنّ بني اميّة ليسوا بصحيحى النسب إلى عبد مناف، و نقل قولهما المجلسي في المجلّد الثامن من البحار (ص 383 من الطبع الكمباني) قال:
قال صاحب الكامل البهائي: إنّ اميّة كان غلاما روميا لعبد الشمس فلمّا ألفاه كيّسا فطنا أعتقه و تبنّاه فقيل اميّة بن عبد الشمس كما كانوا يقولون قبل نزول الاية: زيد بن محمّد، و لذا روي عن الصّادقين عليهما السّلام في قوله تعالى: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ» انّهم بنو اميّة، و من هنا يظهر نسب عثمان و معاوية و حسبهما و أنّهما لا يصلحان للخلافة لقوله صلّى اللّه عليه و اله: الأئمّة من قريش.
و قال مؤلّف كتاب إلزام النّواصب: اميّة لم يكن من صلب عبد الشمس و إنّما هو من الرّوم فاستلحقه عبد الشمس فنسب إليه فبنو اميّة ليسوا من صميم قريش و إنّما هم يلحقون بهم و يصدق ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ بني اميّة لصاق و ليسوا صحيحي النسب إلى عبد مناف و لم يستطع معاوية انكار ذلك. انتهى.
أقول: قوله قبل نزول الاية اشارة إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب: «فلما قضى زيد منها وطرا زوّجناكها»- إلى قوله عزّ و جلّ: «ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول اللّه و خاتم النبيّين»
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 277
و رواية الصادقين قد رواها الشيخ الجليل أبو الفتح الكراجكي معاصر الشريف الرّضي في كنز الفوائد، و قد روى عن غيرهما من أئمّتنا عليهم السّلام أيضا أتى بها المجلسي في ثامن البحار (ص 379) روى الكراجكيّ قدّس سرّه عن محمّد بن العبّاس، عن ابن عقدة، عن الحسن بن القاسم، عن عليّ بن إبراهيم بن المعلّى، عن فضيل بن إسحاق، عن يعقوب بن شعيب، عن عمران بن ميثم، عن عباية، عن عليّ عليه السّلام قال: قوله عزّ و جلّ: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ» هي فينا و في بني اميّة.
و روى عن محمّد بن العباس، عن الحسن بن محمّد بن جمهور العميّ، عن أبيه، عن جعفر بن بشير، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن تفسير «الم غلبت الرّوم» قال: هم بنو اميّة و إنّما أنزلها اللّه الم غلبت الرّوم بنو اميّة في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين للّه الأمر من قبل و من بعد و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه عند قيام القائم.
و اعلم أنّ الرّوايتين تشيران إلى بطن من بطون الاية و ليس المراد من قوله انّما أنزلها الم غلبت الرّوم بنو اميّة و قوله يفرح المؤمنون بنصر اللّه عند قيام القائم أنّ الاية نزلت هكذا أوّلا ثمّ حرّفت و صحّفت؛ و ذلك لما علمت من شرحنا على المختار الأوّل من باب الكتب و الرّسائل أنّ القرآن الّذي في أيدي النّاس اليوم هو جميع ما أنزله اللّه تعالى على رسوله و ما تطّرق إليه زيادة و نقصان فراجع إلى ص 249- 295 من المجلّد السادس عشر.
قال عليه السّلام: «و لا المحقّ كالمبطل» أي ليس ذاك كهذا، و يعني بالمحقّ نفسه و بالمبطل معاوية، و كذا قوله عليه السّلام: «و لا المؤمن كالمدغل» انّما يعنى بالمؤمن نفسه و بالمدغل معاوية.
فالأمير عليه السّلام بدأ بذكر فضائله و رذائل خصمه من آبائهما أوّلا و أدرج الخصم في سلك قريش على سبيل المماشاة، ثمّ أتى بأوصاف أربعة كمالية كانت له عليه السّلام، و ذكر مع كلّ واحدة منها ضدّها الّذي كان لخصمه معاوية.
و أفاد الشارح البحراني بأنّه عليه السّلام ذكر الفرق بينهما من وجوه خمسة بدأ
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 278
فيها بالامور الخارجة أوّلا من كمالاته و فضائله و رذائل خصمه متدرّجا منها إلى الأقرب فالأقرب فالأوّل شرفه من جهة الاباء المتفرّعين على عبد مناف بعد أن سلّم الاشتراك بينهما في كونهما من بني عبد مناف.
الثاني شرفه من جهة هجرته مع الرسول صلّى اللّه عليه و اله و خسّة خصمه من جهة كونه طليقا و ابن طليق و هذه فضيلة و إن كانت خارجية إلّا أنّها تستلزم فضيلة نفسانية و هي حسن الإسلام و النيّة الصادقة الحقّة و كذلك ما ذكر من رذيلة خصمه بدنيّة عرضت له إلّا أنّ هذه الفضيلة و الرذيلة أقرب من الاعتبارين الأوّلين لكونهما حقيقيتين بالاباء و هميّتين بالأبناء دون هاتين.
الثالث شرفه من جهة صراحة النسب و خسّة خصمه من جهة كونه دعيّا و هذان الاعتباران أقرب ممّا قبلهما لكونهما اعتبارين لازمين لهما دون الأوّلين.
الرابع شرفه من جهة كونه محقّا فيما يقوله و يعتقده و رذيلة خصمه من جهة كونه مبطلا و هذان الاعتباران أقرب لكونهما من الكمالات و الرّذائل الذاتية دون ما قبلها.
الخامس شرفه من جهة كونه مؤمنا، و المؤمن الحقّ هو المستكمل للكمالات الدينيّة النفسانيّة و خسّة خصمه من جهة كونه مدغلا أى خبيث الباطن مشتملا على النفاق و الرذائل الموبقة و ظاهر أنّ هذين الاعتبارين أقرب الكمالات و الرذائل إلى العبد، و إنّما بدأ بذكر الكمالات و الرذائل الخارجية لكونهما مشتملة عند الخصم و أظهر له و للخلق من الامور الدّاخلية.
قال عليه السّلام: «و لبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنّم» اسلوب الكلام ينادي بأعلى صوته أن جملة يتبع صفة للخلف، و هو في نار جهنّم للسلف و الإتيان بالفعل المضارع في الاولى، و الماضي في الثانية أصدق شاهد لما قلنا فأخبر عليه السّلام بأنّ سلف معاوية و منهم أبو سفيان هوى بكفره و شركه في نار جهنّم.
على أنّ السّلف إذا كان على سويّ الصّراط فنعم الخلف خلف يتّبعه فلا يعاب على خلف بهذا الاتّباع و لا يذمّ به بل يمدح ففي هذا الكلام ذمّ للخلف و السلف معا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 279
فبما حقّقنا دريت و هن ما جنح إليه الفاضل أحمد زكى صفوت في جمهرة رسائل العرب (ص 480 ج 1) من أنّه عليه السّلام لا يعيب على معاوية بأنّ سلفه كانوا كفّارا بل بكونه متّبعا لهم فقد نهج في معاداة عليّ نهج أجداده في معاداة أجداد عليّ.
الترجمة:
نصر بن مزاحم منقرى كوفي در كتاب صفّين و ديگر أرباب تاريخ آورده اند كه أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام روزى در صفين اظهار داشت كه فردا بأنبوه لشكرم فرمان كارزار دهم و به مقاتلت اقدام نمايم تا كار را يكسره كرده مردم را از جنگ و جوش رهائى داده أمر را بخاتمت رسانم چون اين خبر بمعاوية رسيد و در شاميان كه پيروان او بودند پراكنده شد همگى سخت مضطرب شدند و فزعى تمام در آنها در گرفت.
و از آن سوى معاوية بن ضحاك نيز أبياتى چند بسرود كه بر فزعشان افزود
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 305
معاويه در اين خيال افتاد و در خاطر نهاد كه نامه اى بأمير عليه السّلام نويسد و از حضرتش بحيلت و خديعت و مكر درخواست كند كه ايالت شام را- كه پيش از اينهم از وى خواسته بود- بدو واگذار كند و وى را از بيعت معاف بدارد، باشد كه از اين درخواست دو دلى در علي روى دهد و رقّتى بى اساس بوى دست دهد كه در دام فريب معاويه افتاده، دست از كارزار بردارد.
سپس مكنون خاطرش را به عمرو عاص مكشوف داشت عمرو از بلاهت وى بر عقلش بخنديد و گفت: اى معاويه تو كجا تا توانى علي را فريب دهى؟
معاويه گفت: مگر من و او هر دو از دودمان عبد مناف نيستيم؟
گفت: آرى ولى ايشان را رتبت و فضيلت نبوّت است و تو را نيست- يعنى أمير عليه السّلام از مشكاة نبوّت اقتباس معارف حقه إلهيّة كرده است و هيچگاه أهل نبوّت و وحى گول مردم نخورند، چه در تمام صفات انسانيّت از ديگران بهتر و برترند و در هوش و زيركى سرور و سر آمد و بالاتر از همه هستند- و با اين همه اگر خواهى نامه اى بنويسى بنويس (تا صدق گفتارم بر تو روشن آيد).
معاوية نامه اى نوشت و عبد اللّه بن عقبة را كه از قبيله سكاسك بود با نامه بسوى أمير عليه السّلام گسيل داشت مضمون نامه اش اين كه: أمّا بعد اگر ما و شما مى دانستيم كه جنگ كار را بدين غايت و خونريزى را بدين نهايت مى رساند هيچگاه بان اقدام نمى كرديم و لكن نفوس هر دو ما بر عقول ما غلبه كرد- يعنى بخواهش نفسانى و از روى هوا و هوس آتش جنگ بر افروختيم و بفرمان خرد ساز جنگ نكرديم- و اكنون وقت آن هست كه از گذشته پشيمان شويم و در پى اصلاح آينده برآييم.
و پيش از اين از شما خواستيم كه ايالت شام را بمن واگذار و از بيعت و طاعت معافم دار ولى شما از خواسته من سرباز زديد و نپذيرفتيد و آنچه را كه از من باز داشتيد خداوند بمن عطا فرمود، و اكنون نيز همان خواسته پيش را خواهانم كه تو از بقا نخواهى مگر آنچه را كه من خواهم، و از فنا نمى ترسى مگر آنچه كه من مى ترسم سوگند بخدا كه لشكريان نابود شدند و مردان جنگى از بين رفتند، و عرب طعمه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 306
جنگ گرديد و نيم جانى بيش نمانده، و ما و شما در جنگ و مردان جنگى برابريم و هر دو از دودمان عبد مناف و يكى از ما بر ديگرى برترى ندارد و اگر هم دارد نبايد بدان ارجمندى را خوار و آزادى را بنده گرداند. و السلام.
چون عبد اللّه بن عقبة نامه را بأمير عليه السّلام رسانيد و حضرت آن را بگشود و قرائت فرمود بخنديد و گفت: شگفتم مى آيد از معاوية و نامه او و خديعت و مكرى كه خواهد با من بكار برد، پس كاتبش عبيد اللّه بن أبي رافع را پيش خواند و فرمود پاسخ نامه اش بنويس:
أمّا بعد «اين كه گفته اى اگر مى دانستيم كار جنگ بدين حدّ خواهد رسيد هيچيك بان تن در نمى داديم» همانا كه اين جنگ را نهايت و سرانجامى است كه كه هنوز بدان نرسيده ايم، و اگر من در راه ذات حق هفتاد بار كشته و زنده شوم از سخت گيرى و كوشش در راه خدا و جهاد با دشمنان خدا بر نخواهم گشت.
و أمّا آنكه گفته اى «هواى ما بر خرد ما چيره شد و اينك وقت آنست كه از كرده پيش نادم و در راه اصلاح آينده باشيم» همانا كه من از دائره فرمان خرد پاى بدر ننهادم و از كرده خود پشيمان نيستم.
أمّا اين كه «شام را از من طلب كرده اى» همانا كه من كسى نيستم كه امروز بدهم بتو آنچه را كه ديروز تو را از آن بازداشتم- چه در ديروز استحقاق آن نداشت و امروز هم بر آن حال باقى است-.
أمّا اين كه گفته اى «جنگ عرب را خورده و در چنگش نيم جانى بيش نمانده» آگاه باش هر كه را حق در ربود و خورده و سترده است رخت بدوزخ كشد.
أمّا آنكه گفته اى «در جنگ و سپاه جنگى يكسانيم» درست نيست چه تو به شكّ و ترديد در كار خود استوارتر و گذرانده تر از من كه به علم و يقينم نيستى، و مردم شام در اكتساب دنيا حريص تر از مردم عراق در كسب آخرت نيستند.
أمّا اين كه گفتى «ما فرزندان عبد منافيم» آرى همه ما فرزندان يك پدريم ولى اميّة پدر جدّ تو بمنزلت هاشم پدر جدّ من نيست، و حرب جدّ تو به مرتبت
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 18، ص: 307
عبد المطّلب جدّ من نيست، و أبو سفيان پدر تو به پايه أبو طالب پدر من نيست- چه بني هاشم خانواده اى نجيب و دلسوز و مهربان و يكتاپرست بودند و در شرافت و اصالت سر آمد عرب و همواره ملجأ و مأمن مردم، علاوه اين كه حاملين نور نبوّت و صدفهاى درّ ولايت بودند، أمّا بني اميّة جز خونخوارى و بيدادگرى و نخوت و حبّ شهوت و دنيا پرستى نمى دانستند-.
و مهاجر مانند طليق نيست- مهاجر أمير عليه السّلام كه از مكّه بمدينه هجرت فرمود چنانكه شرح آن بطور اجمال در شرح خطبه 234 گفته شد ص 126- 167 ج 15، و طليق يعنى آزاد شده و رها شده از قيد اسارت چون معاويه و پدرش و از اين روى معاويه را طليق ابن طليق گويند-.
و نه خالص پاكيزه نسب مانند بسته و چسبيده بقومى است- چون بني اميّة از قريش نيستند چون اميّة رومى بود و آزاد شده عبد شمس بن عبد مناف و عرب او را بقاعده نسبت و محاورت ابن عبد الشمس گفتند، اين ابن يعنى پسر خوانده نه پسر حقيقى لذا حضرت أمير عليه السّلام امضاء نكرده كه معاويه از عبد مناف است بلكه در جوابش فرمود: إنّا بنو أب واحد چنانكه نصر در كتاب صفّين روايت كرده بود.
و نه صاحب حق مانند طرف دار باطل است، و نه مؤمن مثل منافق مفسد ناپاك است، و چه بد فرزندى است فرزندى كه گذشتگانش را كه أهل جهنّمند تقليد و پيروى كند و راه آنان را پيش بگيرد- يعنى معاويه كه گذشتگانش از كفر و شرك و نفاق در آتش دوزخند و او راه آنان را پيش گرفت-.