منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 162
المختار الثاني و الخمسون من كتبه عليه السّلام:
و من عهد له عليه السلام كتبه للاشتر النخعي رحمه اللّه، لما ولاه على مصر و أعمالها حين اضطرب أمر محمد بن أبى بكر، و هو أطول عهد و اجمع كتبه للمحاسن مالك بن الحارث الأشتر النخعي قد عدّه الشيخ رحمه اللّه في رجاله من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام و قال في القسم الأوّل من الخلاصة: «و هو ما اجتمع فيه الصحاح و الحسان» مالك بن الأشتر قدّس اللّه روحه و رضي اللّه عنه جليل القدر عظيم المنزلة كان اختصاصه بعليّ عليه السّلام أظهر من أن يخفي، و تأسّف أمير المؤمنين لموته و قال: لقد كان لي مثل ما كنت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، انتهى، و قد روي عن الكشّي فيه روايات:
فمنها ما عن الفضل بن شاذان أنّه من التابعين الكبار و رؤسائهم و زهّادهم.
و منها ما رواه مرسلا بقوله لمّا نعي الأشتر مالك بن الحارث النخعي أمير المؤمنين عليه السّلام تأوّه حزنا، ثمّ قال: رحم اللّه مالكا و ما مالك؟! عزّ عليّ به هالكا لو كان صخرا لكان صلدا و لو كان جبلا لكان فندا و كأنّه قدّمني قدا.
و منها ما رواه هو عن محمّد بن علقمة بن الأسود النخعي، قال: خرجت في رهط اريد الحجّ، منهم مالك بن الحارث الأشتر و عبد اللّه بن الفضل التميمي و رفاعة بن شدّاد البجلي حتّى قدمنا الربذة، فاذا امرأة على قارعة الطريق تقول:
يا عباد اللّه المسلمين هذا أبوذرّ صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هلك غريبا ليس لي أحد يعينني عليه، قال: فنظر بعضنا إلى بعض و حمدنا اللّه على ما ساق إلينا و استرجعنا على عظيم المصيبة، ثمّ أقبلنا معها فجهّزناه و تنافسنا في كفنه حتّى خرج من بيننا بالسواء، ثمّ تعاونّا على غسله حتّى فرغنا منه، ثمّ قدّمنا الأشتر فصلّى بنا عليه، ثمّ دفنّاه، فقام الأشتر على قبره ثمّ قال: اللّهمّ هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبدك في العابدين و جاهد فيك المشركين، لم يغيّر و لم يبدّل لكنّه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 163
رأى منكرا فغيّره بلسانه و قلبه حتّى جفي و نفى و حرم و احتقر ثمّ مات وحيدا غريبا، اللّهمّ فاقصم من حرمه و نفاه عن مهاجره حرم رسولك، قال: فرفعنا أيدينا جميعا و قلنا آمين، ثمّ قدّمت الشاة الّتي صنعت فقالت: إنّه قد أقسم عليكم أن لا تبرحوا حتّى تتغدّوا فتغدّينا و ارتحلنا.
و منها ما روي عن حلّام دلف الغفاري و كانت له صحبة، قال: مكث أبو ذر بالربذة حتّى مات فلمّا حضرته الوفاة قال لامرأته: اذبحي شاة من غنمك و اصنعيها فاذا نضجت فاقعدي على قارعة الطريق فاوّل ركب تريهم قولي يا عباد اللّه المسلمين هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه قد قضى نحبه و لقى ربّه فأعينونى عليه و أجيبوه.
فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبرني أنّى أموت في أرض غربة و أنّه يلي غسلي و دفني و الصلاة علىّ رجال من امّته صالحون.
و منها ما في البحار من أنّه ممّا كتب أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر لمّا نعي إليه محمّد بن أبي بكر و كان مقيما بنصيبين، أمّا بعد فانّك ممّن أستظهر به على إقامة الدين و أقمع به نخوة الاثيم و أسدّ به الثغر المخوف، و قد كنت ولّيت محمّد ابن أبي بكر مصر فخرج خوارج و كان حدثا لا علم له بالحرب فاستشهد فاقدم إليّ لننظر في امور مصر و استخلف على عملك أهل الثقة و النصيحة من أصحابك و استخلف مالك بن شبيب بن عامر.
و قد ذكر جماعة من أهل السير أنّه لمّا بلغ معاوية إرسال عليّ عليه السّلام الأشتر إلى مصر عظم ذلك إليه و بعث إلى رجل من أهل الخراج و قيل: دسّ إليه مولى عمر، و قيل مولى عثمان فاغتاله فسقاه السمّ فهلك، و لمّا بلغ معاوية موته خطب الناس فقال: أمّا بعد فانّه كان لعليّ بن أبي طالب يمينان قطعت إحداهما يوم صفّين و هو عمّار بن ياسر و قد قطعت الاخرى اليوم و هو مالك بن الأشتر.
و في شرح ابن أبي الحديد أنّه كان فارسا شجاعا رئيسا من أكابر الشيعة و عظمائها شديد التحقّق بولاء أمير المؤمنين عليه السّلام و نصره و قال فيه بعد موته: رحم اللّه مالكا فلقد كان لي كما كنت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 164
أقول: إنّ الأشتر كان رجل فذّ من نخع أحد قبائل يمن و قد كان أكثر أهل يمن ذووا بصيرة في الدين و من المخلصين لأمير المؤمنين لوجوه:
1- أنّ مقاطعة يمن دخل تحت حماية فارس منذ زمان كسرى أنوشروان و أنّها صارت تحت إدارة الفرس عشرات من السنين و اختلطت سكّانها بالفرس فكانوا ذوي بصيرة و أجابوا إلى الاسلام عن طوع و إرادة و اتّصلوا بأهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله فنشأ فيهم رجال من المخلصين لعليّ عليه السّلام العارفين بحقّه أمثال مالك الأشتر النخعي و كميل بن زياد النخعي.
2- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خصّ أهل يمن بأن بعث عليهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام غير مرّة، قال في «ص 415 ج 2 من سيرة ابن هشام ط مصر»: «غزوة عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه إلى اليمن»:
و غزوة عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه اليمن غزاها مرّتين، قال ابن هشام: قال أبو عمرو المدني: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب إلى اليمن و بعث خالد بن الوليد في جند آخر و قال: إن التقيتما فالأمير عليّ بن أبي طالب.
و كان عليّ عليه السّلام سنة حجّة الوداع في يمن و التحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحجّ و قد أحرم على إحرام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاشترك معه في الهدي الّذي ساقه.
قال ابن هشام في سيرته «ص 389 ج 2 ط مصر»: قال ابن إسحاق: و حدّثني عبد اللّه بن أبي نجيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان بعث عليّا رضي اللّه عنه إلى نجران فلقيه بمكّة و قد أحرم فدخل على فاطمة بنت رسول اللّه رضي اللّه عنها فوجدها قد حلّت و تهيّأت فقال: ما لك يا بنت رسول اللّه؟
قالت: أمرنا رسول اللّه أن نحلّ بعمرة فحللنا، ثمّ أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلمّا فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انطلق فطف بالبيت و حلّ كما حلّ أصحابك قال: يا رسول اللّه إنّي أهللت كما أهللت فقال: ارجع فاحلل كما حلّ أصحابك قال: يا رسول اللّه إنّي قلت حين أحرمت: اللهمّ إنّي اهلّ بما أهلّ به نبيّك و عبدك و رسولك محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال: فهل معك من هدي؟ قال: لا، فأشركه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 165
رسول اللّه في هديه و ثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى فرغا من الحجّ و نحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الهدي عنهما.
قال ابن إسحاق: و حدّثني يحيى بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن دكانة قال: لمّا أقبل عليّ رضي اللّه عنه من اليمن لتلقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة تعجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستخلف على جنده الّذين معه رجلا من أصحابه فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حلّة من البزّ الّذي كان مع عليّ رضي اللّه عنه، فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فاذا عليهم الحلل قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس، قال:
ويلك انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: فانزع الحلل من الناس فردّها في البزّ قال: و أظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال ابن إسحاق: فحدّثني عبد اللّه بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم عن سليمان ابن محمّد بن كعب بن عجرة، عن عمّته زينب بنت كعب و كانت عند أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد الخدري قال: اشتكى الناس عليّا رضوان اللّه عليه فقام رسول اللّه فينا خطيبا فسمعته يقول:
أيّها الناس لا تشكوا عليّا فواللّه إنّه لأخشن في ذات اللّه أو في سبيل اللّه من أن يشكى، انتهى ما أردنا نقله عن السيرة لابن هشام.
فممّا ذكرنا يظهر أنّ عرب يمن و قبائله الّذين سكنوا كوفة بعد الفتح الاسلامي كانوا أهل بصيرة بالدّين و أهل إخلاص لأهل بيت النبيّ و أمير المؤمنين عليه السّلام، و من هذه الجهة لمّا جمع طلحة و الزبير الجموع في بصرة بغيا على حكومة عليّ عليه السّلام خرج عليّ إليهم من مدينة بما لا يبلغ ألف نفس من كبار أصحاب النبيّ اعتمادا على نصرة أهل كوفة فاستنصر منهم فنصروه، فانهزم أصحاب الجمل و أكثر المهاجرين في الكوفة من قبائل يمن.
موقعية مصر في الحكومة الاسلامية:
مصر من البلاد العريقة في المدنية منذ آلاف من القرون، و قد كشف الباحثون
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 166
فيها آثار المدنيّة إلى ما يزيد عن عشرات من القرون، و برع فيها جمع من الفلاسفة الأول قد استمدّ يونان في عصره الذهبي من تعليمات شائعة فيها، ثمّ عقّب ذلك بحكومة البطالسة فيها فأسّسوا فيها دور الحكمة و ألّفوا كتبا قيّمة بقي منها نحو مجسطي، فكانت مصر متهيّئة لبيان دقائق النظم الاجتماعيّة و القضائيّة و العسكرية أكثر من سائر البلاد.
و هذا هو السبب في تطويل هذا العهد و تعرّضه لكافّة شئون الحياة المادّيّة و المعنويّة، فانّ الاسلام حاو لكلّ ما يحتاج إليه بنو الانسان من النظم و القوانين لتربية الروح و المادّة، و هذا أحد معاني الشريعة الكاملة الناسخة لما قبلها من الشرائع و الباقية إلى آخر الدّهر.
و لكنّ العرب في الحجاز و سائر أقطار الجزيرة كانوا في سذاجة من العيش و بساطة من الفهم لا يستطيعون تحمّل دقائق القوانين و تفاصيل النظم ممّا يتعلّق بشتّى أنواع المعاش من الزراعة و التجارة و القضاوة و غير ذلك، لعدم الانس بها في حياتهم و عدم ممارسة شئونها.
فدعاهم الاسلام في بادىء الأمر على أبسط تعاليمها في العقيدة و الأخلاق، و أزكى شئون الانسانيّة من الاعتقاد بالصانع و عبادته و ملازمة الامور الخيريّة من البرّ بالوالدين و صلة الأرحام و ترك الفحشاء و الكذب و غير ذلك، و لمّا نشر الاسلام إلى بلاد فارس وجد قوما عريقا في المدنيّة و أليفا بالنظم الاجتماعيّة ففسح أمامه مجالا لبسط تعاليمه الجذريّة.
كما أنّه إذا نشر الاسلام في مصر وجد أمامه قوم من الأقباط و بقايا الفلاسفة و البطالسة ما رسوا الحياة المدنيّة أكثر و أدقّ و لمّا وقعت في حوزة حكومة عليّ عليه السلام قام فيها بتعاليم هامّة و عامّة منها صدور هذا العهد، و إن كان عليّ عليه السّلام يتفرّس بعدم توفيق مالك نفسه لإجرائه.
و قد نفصّله على خمسة عشر فصلا يمتاز بعضها عن بعض بما تضمّنها من الشئون المختلفة و الاداب الممتازة في كلّ شأن من الشئون.
***
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 167
الفصل الاول:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا ما أمر به عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولّاه مصر: جباية خراجها، و جهاد عدوّها، و استصلاح أهلها، و عمارة بلادها. أمره بتقوى اللّه، و إيثار طاعته، و اتّباع ما أمر به في كتابه:
من فرائضه و سننه، الّتي لا يسعد أحد إلّا باتّباعها، و لا يشقى إلا مع جحودها و إضاعتها، و أن ينصر اللّه سبحانه بقلبه و يده و لسانه، فإنّه- جلّ اسمه- قد تكفّل بنصر من نصره، و إعزاز من أعزّه. و أمره أن يكسر نفسه عند الشّهوات، و ينزعها [يزعها] عند الجمحات فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء إلّا ما رحم اللّه. ثمّ اعلم، يا مالك أنّي قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أنّ النّاس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصّالحين بما يجرى اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذّخائر إليك ذخيرة العمل الصّالح فاملك هواك، و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك، فإنّ الشّحّ بالنّفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت. (66385- 66202)
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 168
اللغة:
(الجباية): جبا الخراج: جمعه، (يزعها): يكفّها، (جمح الفرس): تغلّب على راكبه و ذهب به لا ينثني -المنجد-.
الاعراب:
حين ولّاه مصر: ظرف اضيف إلى جملة فعليّة متعلّق بقوله: عهده.
المعنى:
قد عقد لمالك ولاية عامّة على كلّ امور مصر و جمعها في أربع:
1- الامور الماليّة و الاقتصاديّة الّتي تتركّز في ذلك العصر في جمع الخراج فانّ مصر من الأراضي المفتوحة عنوة انتقل أراضيها العامرة إلى المسلمين فقرّروا فيها الخراج.
2- في الامور العسكريّة فأثبت له القيادة العامّة على القوى المسلّحة و الجامع لها جهاد الأعداء.
3- الامور الاجتماعية و النظم الحقوقيّة الراجعة إلى كلّ فرد فعبّر عنها بقوله: (و استصلاح أهلها).
4- عمران البلاد بالزّراعة و الغرس و سائر ما يثمر للناس في معاشهم.
ثمّ ابتدء بما يلزم عليه في نفسه من التأديب و الحزم ليقدر على إجراء أمره عليه السّلام و حصرها في امور:
1- تقوى اللّه و إيثار طاعته.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 169
2- اتباع ما أمر اللّه فى كتابه من الفرائض و السنن.
3- نصرة اللّه بالقلب و اليد و اللسان.
قال الشارح المعتزلي: نصرة اللّه باليد: الجهاد بالسيّف، و بالقلب الاعتقاد للحقّ، و باللسان: قول الحق.
أقول: لا ينحصر نصرة اللّه باليد على الجهاد بالسّيف فانها تحقق في كلّ أعمال الجوارح المرضية للّه تعالى، و منها الجهاد بالسيّف إذا حان وقته و حضر شرطه.
ثمّ وصّاه بحفظ نفسه عن التغلّب عليه في اموره و أمر بكسر شهواته و ميوله نحو اللذائذ المادّية و حذره منها أشدّ الحذر.
ثمّ خاطبه باسمه فقال: (ثمّ اعلم يا مالك اني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور) فقد أثبت عليه السّلام لمصر في تاريخها الماضي دول و حكومات و وصفها بانّها عدل و جور، فلا بدّ من الفحص عن هذه الدّول و الفحص عن ماهى عادلة أو جائرة.
فهل المقصود من هذه الدّول هي العمّال الاسلاميين بعد فتح مصر، و هل يصحّ التعبير عنهم بأنها دول عدل و لو باعتبار شمول السلطة الإسلاميّة من أواخر خلافة أبي بكر إلى أيّام عمر و عثمان فالدّول الجارية دولة عمر و عثمان مثلا، أو حكومة عمرو بن عاص فاتح مصر و من وليه من امثال ابن أبي السّرح، و هل توصف واحدة منها بأنها عادلة؟ أو المراد من الدول الجارية المتتالية في مصر الدّول قبل الإسلام في قرون كثيرة و أشكال شتّى فلا بدّ من بيان إجمالى لهذه الدّول، و هل يمكن تعرف دولة عادلة فيها أم لا.
فنقول: نتوجّه إلى دول مصر في ضوء القرآن الكريم فانه قد تعرّض لشرح بعض دولها إجمالا فيما يأتي.
1- دولة مصر المعاصر ليوسف النبيّ صلوات اللّه عليه المعبّر عنها بدولة عزيز مصر.
ففي سورة يوسف الاية 30 «و قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتيها
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 170
عن نفسه قد شغفها حبّا إنّا لنريها في ضلال مبين».
و الظاهر أنّ عزيز مصر هو حاكمها و رئيسها في هذا العصر المعبّر عنه بفرعون و قد قيل: إنّ عزيز مصر غير فرعون مصر بل هو رئيس جندها أو أحد أركان دولتها و لكن سياق الايات الواردة يأباها، فانظر إلى آية 42 في بيان رؤيا الملك:
«و قال الملك إنّي أرى سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و اخر يابسات- إلى آية- 50- و قال الملك ائتوني به فلمّا جاءه الرّسول قال ارجع إلى ربّك فسئله ما بال النّسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ إنّ ربّي بكيدهنّ عليم- 51- قال ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه قلن حاش للّه ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الان حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه و إنّه لمن الصّادقين- إلى آية- 54- و قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلمّا كلّمه قال إنّك اليوم لدينا مكين أمين».
فسياق هذه الايات يشهد بوضوح أنّ زوج زليخا و عزيز مصر رجل واحد و هو حاكم مطلق على امور مصر و ليس فوقه أحد، و يستفاد من نصّ الايات الأخيرة من سورة يوسف أنّ عزيز مصر لمّا اطلع على مقام يوسف و طهارته و عصمته و نبوته تنزل عن عرش مصر و فوّض إليه امور مصر كافّة فصار يوسف عزيز مصر، كما في آية 78 «يا أيّها العزيز إنّ له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنّا نريك من المحسنين- إلى آية 88- قالوا يا أيّها العزيز مسّنا و أهلنا الضّرّ و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدّق علينا إنّ اللّه يجزى المتصدّقين».
فعزيز مصر و هو زوج زليخا و إن لم يتنزل عن العرش رسما بحيث تتحوّل الحكومة من بيت إلى بيت لكنه آمن بيوسف و انقاد له و فوّض إليه اموره، كما يستفاد من الاية 24- المؤمن- عن قول مؤمن آل فرعون موسى «و لقد جائكم يوسف من قبل بالبيّنات فما زلتم في شكّ ممّا جائكم به حتّى إذا هلك قلتم لن يبعث اللّه من بعده رسولا».
و هذا الّذي ذكرناه و إن كان مخالفا لما اثبته التوراة في تاريخ يوسف
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 171
و تبعها التواريخ و لكن الالتزام بتحريف التوراة و التاريخ ليس بعيدا عن الصّواب بعد ظهور القرآن المستند إلى الوحى، و بهذه الجهة قال اللّه تعالى في آية 102:
«ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك» و يتعارض القرآن مع التوراة في موارد شتّى من قصّة يوسف أشرنا إليها في تفسيرنا لسورة يوسف «كانون عفت قرآن» من أراد الاطلاع فليرجع إليه.
فعلى ضوء هذا التفسير كان دولة عزيز مصر في زمن يوسف عليه السّلام دولة عادلة و دولة فرعون مصر المعاصر لموسى بن عمران دولة جائرة من كلّ النواحي منكرا للّه تعالى و لعبادته و مناديا على رءوس الأشهاد «أنا ربّكم الأعلى» و ظالما لبني إسرائيل إلى حيث يذبح أبنائهم و يستحيى نسائهم و يجرّ عليهم بلاء عظيما ليستأصلهم عن شافتهم حتّى صارت من الأمثال السّائرة العالمية في الجور و الظلم و العدوان.
هذا بالنظر إلى مجمل التاريخ المنعكس في الكتب السّماوية.
و قد انتهت حكومة مصر قبل الإسلام إلى بطالسة يونان فأثّروا في بسط الفلسفة اليونانية فيها و أسّسوا دورا لتعليم الفلسفة و مكتبة عامّة بقيت إلى عصر الفتح الإسلامي و كان حاكم مصر و واليها في ذلك العصر مقوقس الّذي كتب إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابا يدعوه إلى قبول الإسلام مع الكتب الّتي بعثها إلى غير واحد من رؤساء و ملوك ذلك العصر، ففي سيرة ابن هشام «ص 392 ج 2 ط مصر».
قال ابن هشام: حدّثني من أثق به عن أبي بكر الهذلي قال: بلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته الّتي صدّعنها يوم الحديبيّة فقال: أيّها النّاس إنّ اللّه قد بعثني رحمة و كافة فلا تختلفوا علىّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم، فقال أصحابه: و كيف اختلف الحواريّون يا رسول اللّه؟ فقال: دعاهم إلى الّذي دعوتكم إليه فأمّا من بعثه مبعثا قريبا فرضي و سلم، و أمّا من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه و تثاقل و شكا ذلك عيسى إلى اللّه، فأصبح المتثاقلون و كلّ واحد منهم يتكلّم بلغة الامّة الّتي بعث إليها، و بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رسلا من أصحابه و كتب معهم كتابا إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، فبعث دحية بن خليفة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 172
الكلبي إلى قيصر ملك الرّوم، و بعث عبد اللّه بن حذافة السّهمى إلى كسرى ملك فارس، و بعث عمرو بن اميّة الضّمري إلى النجاشي ملك الحبشة، و بعث حاطب ابن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الاسكندرية- إلخ.
و مقوقس هذا رجل يوناني يحكم على مصر عقب ملوك بطالسة و كان تحت حماية ملوك الرّوم البيزانطية في ذلك العصر، فلمّا جاءه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه الكتاب لقيه ببشر و احترام و ردّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مصحوبا بهدايا منها المارية القبطيّة الّتي قبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقبول حسن و سرّيها و اتّخذها لفراشه و أولدها فولدت له إبراهيم ابن النّبي و نالت حظوة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و قد دخل مصر في حوزة الإسلام سنة العشرين من الهجرة و أقدم على فتحها عمرو بن العاص بعد ما استتب للمسلمين فتح سوريّة و تسلّطوا عليها و فرّ هرقل ملك الرّوم الشرقيّة إلى قسطنطينيّة.
فلما سافر عمر إلى الشّام للنظر في أمر معاوية و ما بلغه من سرفه لقيه عمرو بن العاص في قرية يقال لها: جابية قرب دمشق و أخلى به و عرض عليه زحفه إلى مصر بجيش من المسلمين معلّلا بأنّ فتح مصر يضاعف شوكة الإسلام، فمنعه عمر معلّلا بخوفه من جموع الرّوم السّاكنين في مصر للدفاع عنها على حيش الإسلام، فأقام عمرو بن العاص في دمشق حتّى استقرّ سلطة الإسلام على جميع بلاد الشّام و رجع بعد فتح النوبة إلى فلسطين بأمر من عمر، و يهمّه فتح مصر دائما حتّى تهيأ جيشا و قصد مصر من دون تحصيل رخصة من عمر، و بلغ خبره إلى عمر فلم يرتضه و كتب إليه: «من عمر بن الخطّاب إلى العاصي بن العاصي أمّا بعد فانك سرت إلى مصر و من معك و بها جموع الرّوم، و إنّما معك نفر يسير و لعمري لو ثكلت امّك و ما سرت بهم فإن لم يكن بلغت مصر فارجع بهم».
و أمر عقبة بن عامر الجهني بايصال هذا الكتاب إلى عمرو بن عاص معجّلا فأسرع لإيصال المكتوب حتّى أدركه في رفح، و هي مرحلة في طريق مصر منها إلى عسقلان يومان، فلمّا رآه عمرو بن العاص تفرّس أنه قاصد من عمر ليرجع
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 173
فماطل في أخذ كتابه حتّى بلغ عريش و كانت هي بلدة من مصر في ساحل بحر الرّوم و نهاية أرض الشّام، فطلب عقبة و أخذ منه كتاب عمر و قرأه على النّاس و قال: هذا العريش الّذي نحن فيه من أىّ البلاد؟ قالوا: من بلاد مصر، فقال: لا ينبغي لنا أن نرجع لأنّ الخليفة شرط لرجوعنا عدم دخول مصر، فرحل في تخوم مصر حتّى بلغ جيل [الحلال ].
و وصل الخبر إلى مقوقس ملك مصر، فأرسل قائدا له يسمّى مذقور الأعيرج بجيش لدفع المسلمين و تلاقى الفريقان في أرض فرما، و اشتدّ الحرب بينهما و قتل من الفريقين جمع كثير فهزم جمع الرّوم و تقدّم عمرو بن العاص إلى قواصر و رحل إلى أمّ دنين و نزل فيها بقرب القاهرة، و هي بلدة في جنب فسطاط بينهما سور، و هي كانت دار الملك لمصر كما أنّها عاصمة مصر في هذا العصر، ثمّ رجع أعيرج إلى الحرب مع عمرو بن عاص فتلاقيا في أمّ دنين و قتل خلق كثير من الجانبين و دامت الحرب مدّة شهر كامل و لم يتيسّر فتح مصر، و كتب عمرو بن عاص إلى عمر و استمدّ منه، فأرسل عمر أربعة من أبطال المسلمين و هم زبير بن العوام و المقداد ابن الأسود و عبادة بن صامت و مسلمة بن المخلّد في اثنى عشر ألفا لمددهم فأسرعوا في السير و لحقوا بعمرو بن العاص فقوى جيش الإسلام و وهن أمر أعيرج و تحصّن في قصر له و حوله خندق يتخلّله معابر إلى القصر ملاها بقطعات حادّة من الحديد لا يقدر العبور عليها الراكب و الرّاجل، و جهد المسلمون في فتح الحصن، و بلغ الخبر إلى مقوقس، فزحف بجيوش لحرب المسلمين و دام الحرب سبعة أشهر.
فقال الزبير: اضحّى بنفسي في سبيل اللّه عسى أن يفتح هذا الحصن للمسلمين فصنع عدّة مراقي و نصبها على الحصن فقال: إذا سمعتم تكبيري من فوق السّور فارفعوا أصواتكم جميعا معي بالتّكبير، فصعد الحصن بجمع من رجاله و هبط و فتح الباب فعرض مقوقس على المسلمين الصلح لما رأى من جهودهم في فتح الحصن و شرط لهم دينارين من الذّهب كلّ سنة عن كلّ شخص في مصر، فطلبوا هذا الجزية من الرّوم الساكنين في أرض مصر و عرض على هرقل فلم يرض بذلك، و أمر مقوقس بالحرب
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 174
مع المسلمين و لكن مقوقس لم ينكث عهده و لحق القبط بالمسلمين، و لمّا استقرّ المسلمون في مصر صلحا أو عنوة على قول بعضهم و فتحوا الاسكندريّة و دخلها عمرو ابن العاص فتن بها و أراد الإقامة فيها كمركز لجيوش الإسلام، فاستجاز من عمر في ضمن مكتوب أفصح فيه عن فتوحاته فأجابه بما يلي:
لا تجعلوا بيني و بينكم ماء حتّى إذا ما أردت أركب اليكم راحلتي حتّى أقدم عليكم قدمت.
فلمّا قرأ مكتوب عمر رحل من اسكندريّة إلى الفسطاط فسكنها و جعلها معسكر المسلمين فتنازع الجيش في مسكنهم حول فسطاط فأمر عمرو أربعة من امراء الجيش فخطّوا لهم و عينوا حدود مساكنهم، و قد اشترك من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حرب مصر أربعة عشر من المهاجرين يرأسهم زبير بن العوّام، و ستة عشر من الأنصار يرأسهم عبادة بن صامت الأنصاري.
و لمّا ثمّ فتح مصر صار عمرو بن عاص واليا عليها و هو أوّل من صار واليا على مصر من المسلمين و هو قرشيّ من سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لويّ، و كان يسافر إلى مصر تاجرا في أيّام الجاهليّة، و فتح مصر أيّام عمر يوم الجمعة غرّة محرّم سنة العشرين من الهجرة، و بقى فيها واليا أربع سنين و شهورا، زار عمر خلالها مرّتين.
كان في إسكندريّة مصر رجل يسمّى يحيى النّحوي من أساقفة إسكندريّة فهداه اللّه إلى الإسلام فكبر على الأساقفة فاجتمعوا حوله و ناظروه فأجابهم و دام على إسلامه، فلمّا فتح عمرو بن العاص المصر دخل عليه فاستقبله باكرام لما سمع من فضله و مجاوبته للنّصارى في إثبات حقانيّة الإسلام و اتّخذه نديما له يكتسب من فضله و حكمته.
فقال يوما لعمرو: قد حزت ما في الإسكندريّة من الأموال و الخزائن و لا كلام لأحد معك في ذلك لكن هنا شيء لا يفيدكم و نحتاج إليه فاعف عنه و دعه لنا، فقال عمرو: ما هو؟ قال: كتب الحكمة الّتي جمعها ملوك إسكندريّة طيلة
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 175
قرون خاصّة يوناطيس الّذي يدعوه أهل أروپا فيلاد لفس و كان محبّا للحكمة، فأمر رجلا يسمّى زهيرة بجمع الكتب و نصبه ضابطا لمكتبته، فاشترى الكتب من التجار بأثمان غالية حتّى اجتمع في مكتبته أكثر من أربعة و خمسين ألف كتابا، و قلّده ملوك البطالسة في جمع الكتب إلى ما خرج عن الاحصاء.
فعجب عمرو بن العاص من كلامه، و قال: لا بدّ من أن أكتب ذلك لعمر بن الخطّاب و آخذ منه الجواب فكتب إليه، فأجابه: إن كان ما في هذه الكتب ما يوافق كتاب اللّه لا حاجة لنا بها و إن كان مخالفا له لا نرتضيها فأعدمها و امح أثرها فقسّمها عمرو على حمّامات إسكندريّة ليصرفوها فيها بدلا من الوقود فأوقدوها خلال ستّة أشهر حتّى أفنوها.
و قد استنكر بعض المورّخين الجدد من أهل مصر صدور الأمر من عمر باحراق كتب مكتبة إسكندريّة لما صدر في الإسلام من الأمر بالفحص و البحث عن الحقائق و تحصيل العلم و لو بالصّين.
أقول: و قد عرفت ممّا ذكرنا من ملخّص تاريخ فتح مصر بيد المسلمين أنّه لم يحكم في مصر إلى أيّام أمير المؤمنين عليه السّلام و إلى حين صدور هذا العهد التاريخي للأشتر النخعي إلّا عمرو بن العاص و عبد اللّه بن سرح بن أبي سرح الّذي ولّاه عثمان على مصر بعد عزل فاتحه عمرو بن العاص فثار عليه الرّومان، فاستعان عثمان بعمرو فسار إلى مصر و أخمد ثورة الرّومان و أخرجهم من مصر و لكن لم يرض عثمان بعزل عبد اللّه فاشتركا في إدارة امور مصر و تنازعا و رجّح عثمان عبد اللّه بن سرح عليه فرجع إلى المدينة ناقما على عثمان معينا لأعدائه و محرّضا للقيام عليه حتّى قتل و هما واليان على مصر.
و لا يصدق على حكومتهما باعتبار أنهما عاملان للخليفة لفظ الدّولة و لا يمتازان بالعدل و الجور بل كلاهما من نسيج واحد و من أهل النفاق و من أعداء أهل البيت و المخالفين لولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و من الحكّام الجائرين فانّ عمرو ابن العاص توجّه في مصر إلى جمع المال و الادّخاد حتّى بلغ ثروته إلى حيث
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 176
ظهر للملأ اغتصابه لأموال المسلمين و أخذه من بيت المال فوق حقّه و سهمه حتّى بلغ خبره إلى عمر بن الخطّاب فكتب إليه معاتبا له:
أمّا بعد، فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك و لا كان لك مال قبل أن أستعملك، فأنّى لك هذا؟ فواللّه لو لم يهمّني في ذات اللّه إلّا من اختان في مال اللّه لكثر همّي و انتثر أمري، و لقد كان عندي من المهاجرين الأوّلين من هو خير منك و لكنّي قلّدتك رجاء غنائك فاكتب إلىّ من أين لك هذا المال؟ و عجّل.
فأجابه عمرو بن العاص: أمّا بعد، فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأمّا ما ظهر لي من مال فإنّا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار و كثيرة الغزو، فجعلنا ما أصابنا في الفضول الّتي اتّصل بأمير المؤمنين نباها و اللّه لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك و قد ائتمنتنى فانّ لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك، و ذكرت أنّ عندك من المهاجرين الأوّلين من هو خير منّي فإذا كان ذاك فواللّه ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا و لا فتحت لك قفلا.
فلمّا وصل جوابه إلى عمر كتب إليه ثانيا:
أمّا بعد فإني لست من تسطيرك الكتاب و تثقيفك الكلام في شيء، و لكنكم معشر الامراء قعدتم على عيون الأموال و لن تقدّموا عذرا، و إنّما تأكلون النّار و تتعجّلون العار، و قد وجّهت إليك محمّد بن مسلمة فسلّم إليه شطر مالك.
فأعطى الكتاب محمّد بن مسلمة و بعثه إلى مصر، فلمّا وصل إلى مصر و حضر عند عمرو بن العاص أحضر له طعاما، فقال محمّد: لو دعوتني إلى الضّيافة و أحضرت لي طعاما لأكلته و لكن هذا الطّعام مقدّمة للشرّ فنحّه عنّى و احضر شطر مالك، و لا مناص لعمرو بن العاص من إطاعة أمر عمر، فأمر باحضار شطر من ماله من المواشي و الذّهب و الفضّة و أثاث الدّار و غيرها، فلمّا نظر إليها رأى خزانة جزيلة فقال تأسّفا:
لعن اللّه زمانا صرت فيه عاملا لعمر، و اللّه لقد رأيت عمر و أباه على كلّ واحد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 177
منهم عبائة قطوانية لا تجاوز ما يض ركبتيه و على عنقه حزمة «1» حطب و العاص بن وائل في مزرّدات الديباج.
و كان محمّد بن مسلمة من شجعان الأنصار و المخلصين لحكومة عمر فاختاره من عمّال غضبه و يبعثه إلى كبار الرجال لإجراء أوامره الرّهيبة الشاقة فهو الّذي أجرى أمره في تشطير أموال خالد بن الوليد في الشّام و عزله من إمارة جيش الإسلام و تأديبه في محضر الأنام.
و هو الّذي أجرى أمر عمر في سعد بن وقاص باحراق قصره الّذي بناه في الكوفة و نصب فيه بابين من أبواب قصر مدائن.
و هو الّذي فتك بكعب بن أشرف و قتله في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما قال ابن هشام في سيرته.
فنقول: إنّ الدول الّتي وقع في صدر هذا العهد و وصفها عليه السّلام بأنّ فيها عادل و جائر لا يصحّ أن تكون حكومة عمرو عاص و خلفه على مصر لأنّها ليست دولة إلّا بتكلّف و لا يطلق عليها دول بلفظ الجمع مع أنهما جائران لاتباعهما عمر و عثمان و حالهما معلومة مع أنهما عريقان في النفاق و عداوة أهل البيت و خصوصا الثاني منهما.
فلا بدّ أن يكون المقصود من هذه الدّول الحاكمة على مصر قبل الإسلام ممّا بقيت آثارها و أخبارها و عرفها خلق مصر و لو بالنّقل عن الأسلاف أو بسبب ثبت أخبارها في كتب التاريخ، فوجّه عليه السّلام مالكا إلى هذا التاريخ العميق العريق في القدم و ملأ عهده هذا من القوانين السائدة في مصر القديمة و من بعض سير ملوكها العدول.
و لا ينافي توصيف بعض دول مصر بالعدالة مع كونهم و ثنيّين، لأنّ عدالة الدّولة بالنسبة إلى رعاياها و حفظ النظم و الحقوق لا يرتبط بمذهبها، و يمكن أن يعدّ ذلك من كراماته عليه السّلام و إحاطته بالعلوم و الأخبار.
ثمّ نبّهه عليه السّلام إلى أنّ سيرة الحاكم و الوالي بمالها من التعلّق إلى عموم
______________________________
(1) كساء قطوانى موضع بالكوفة، المايض: باطن الركبة من كل شيء، حزمة: كومة من حطب.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 20، ص: 178
النّاس تنعكس في التّاريخ و تلهج بها الألسن و كما أنّك تقضي في أعمال الولاة قبلك يقضي عليك من يقوم مقامك، بعدك و دليل الصّلحاء ما يجرى على لسان العباد باذن اللّه فلا تتوجّه إلى ادّخاد الأموال كما هو عادة طلّاب الدّنيا المفتونين بها بل ليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، و العمل الصالح للوالي و عامله ما يوجب راحة رعيته و اجراء العدل فيما بينهم، و لذا أمر بمنع الهوى عن التأثير في أعماله و منع النفس عمّا لا يحلّ له.
الترجمة:
بنام خداوند بخشنده مهربان. اين فرمان بنده خدا أمير مؤمنانست بمالك بن حارث الأشتر كه بايد آنرا در عهده خود بشناسد، و اين فرمان هنگامى شرف صدور يافته كه او را والى بر كشور مصر نموده تا خراج آن را بگيرد و با دشمن آن بجنگد و ملّت آنرا اصلاح كند و بلاد آنرا آباد نمايد.
1- تقوا از خدا را شعار خود كند و طاعتش را غنيمت شمارد و از آنچه در كتابش از فرائض و سنن دستور داده پيروى نمايد، زيرا هيچكس بسعادت نرسيده مگر با پيروى از آنها، و كسى بدبخت نگردد مگر بانكار و ترك عمل بدانها.
2- خداوند سبحان را با دست و دل و زبان يارى كند، زيرا خداى جلّ اسمه ضامن يارى و عزت كسانيست كه او را يارى كنند و عزيز شمارند.
3- خود را از شهوترانى و سركشى نفس بازدارد، زيرا نفس بطبع خود بدخواه است مگر خدا رحم كند.
اى مالك من تو را بكشورى فرستادم كه پيش از تو دولتهاى عادل و ظالمى بخود ديده، مردم بهمان چشم تو را بينند كه تو واليان پيش از خود را بينى، و در باره تو همان را مى گويند كه در باره آنها ميگوئى، خداوند مردمان نيك و شايسته را بزبان بندگان خود معرفى ميكند، بايد محبوبترين ذخيره در نظر تو پس انداز كردن عمل صالح باشد، هواى نفس خود را داشته باش و نسبت بخود از آنچه بر تو حلال نيست دريغ كن، زيرا دريغ كردن بخويشتن رعايت انصاف با او است در آنچه دوست دارى يا بد دارى.