منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 389
الفصل السادس:
فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السّلام فما أشدّ اعتدال الأحوال، و أقرب اشتباه الأمثال، تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم و تفرّقهم ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم، يحتازونهم عن ريف الافاق، و بحر العراق، و خضرة الدّنيا إلى منابت الشّيح، و مهافي الرّيح، و نكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر، أذلّ الامم دارا، و أجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، و لا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها. فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرّقة في بلاء أزل، و إطباق جهل، من بنات موؤودة، و أصنام معبودة، و أرحام مقطوعة، و غارات مشنونة. فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملّته طاعتهم، و جمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النّعمة عليهم جناح كرامتها، و أسالت لهم جداول نعيمها، و التفّت الملّة بهم عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، و عن خضرة عيشها فكهين، و قد تربّعت الامور بهم في ظلّ سلطان قاهر، و أوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب، و تعطّفت الامور عليهم في ذرى ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين و ملوك في أطراف الأرضين، يملكون الامور على من كان يملكها عليهم، و يمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة. (45486- 45278)
اللغة:
(الأكاسرة) جمع كسرى بالكسر و الفتح لقب من ملك الفرس معرّب خسرو أى واسع الملك و يجمع على كياسرة و أكاسر أيضا و كلّها خلاف القياس و القياس كسرون و زان عيسون.
و (القياصرة) جمع قيصر لقب من ملك الرّوم و (الرّيف) بالكسر أرض فيها زرع و خصب و ما قارب الماء من أرض العرب أو حيث يكون به الخضر و المياه و الزّروع و (الشيّح) بالكسر نبت معروف يقال له بالفارسيّة درمنه و (هفت الريح) هفوا هبت و هفت به أى حركته و (عالة) جمع عائل مثل قادة و قائد و هو ذو العيلة أى الفقر قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا».
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 390
و (الدّبر) محرّكة الجرح في ظهر البعير من دبره القتب أى عقره و (الوبر) للبعير بمنزلة الصّوف للغنم و (وئد) بنته دفنها في التراب حيّة قال تعالى «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» و (شنّ الغارة) عليهم صبّها من كلّ وجه و (تفكّه به) تمتّع بأكله و الفاكهة التّمر و العنب و الثّمر كلّه، و في بعض النسخ فاكهين بدل فكهين أى ناعمين، و بها قرء قوله تعالى «وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ» و قال الاصمعى فاكهين مازحين و المفاكهة الممازحة.
(و تربّعت) الامور بهم اعتدلت من قولهم: رجل ربعة و امرأة ربعة أى معتدل و حذف الهاء في المذكر لغة و فتح الباء فيهما أيضا لغة و قال الشارح المعتزلي و غيره:
تربّعت بمعنى أقامت من قولك ربع بالمكان أى أقام به (الذّرى) جمع ذروة بالضمّ و الكسر و هى أعلى الشيء و (الغمز) العصر و الكبس باليد قال الشاعر:
و كنت إذا غمزت قناة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما
و (القناة) الرّمح و (الصّفاة) الصّخرة و الحجر الأملس.
الاعراب:
جملة يحتازونهم في محلّ النّصب على الحال من الأكاسرة و القياصرة و تحتمل الاستيناف البياني، و قوله: عالة مساكين، حال مترادفة، و قوله: اخوان دبر و وبر، بدل، و جملة: لا يأوون، حالية، و الفاء في قوله: فالأحوال مضطربة، فصيحة.
و قوله: في بلاء أزل، متعلّق بمقدّر أى كائنون في بلاء أزل، فيكون خبرا لمبتدأ محذوف و يحتمل الحال لقوله متفرّقة و اضافة بلاء إلى الأزل معنويّة بمعنى من و كذا اضافة اطباق إلى الجهل هكذا قال الشّارح البحرانى و لا بأس به، و من في قوله: من بنات بيانيّة.
و قوله: في عوائد بركتها، قال الشّارح المعتزلي و البحراني: متعلّق بمحذوف
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 391
و موضعه نصب على الحال أى جمعتهم الملّة كائنة في عوائد بركتها أقول: و يجوز تعلّقه بقوله و التفّت فيكون مفعولا بالواسطة.
و قوله: و عن خضرة عيشها قال الشّارح المعتزلي: عن متعلّقة بمحذوف تقديره، فأصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها أى خضرة عيش النّعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه أقول: لا حاجة إلى تقدير المحذوف لجواز تعلّقها بقوله فاكهين و كونها بمعنى من النشوية أو بمعنى اللّام كما في قوله تعالى «وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ».
المعنى:
اعلم أنّه لمّا ذكر في الفصل السّابق محاسن الالفة و الاتّفاق و مفاسد الفرقة و الافتراق، و أمر بالتدبّر في أحوال الماضين و أنّ الفتهم في بداية حالهم أوجبتهم العزّة و الكرامة، و فرقتهم في آخر أمرهم سلبتهم غضارة النعمة فبقى قصص أخبارهم عبرا للمعتبرين من المخاطبين، اتبعه بهذا الفصل تفصيلا لما أجمله من قصص أخبارهم و تنبيها على جهة العبرة في تلك القصص فقال:
(فاعتبروا بحال ولد إسماعيل) الذّبيح (و بني إسحاق) بن إبراهيم الخليل (و بني إسرائيل) يعقوب بن إسحاق سلام اللّه عليهم، و علّل وجوب الاعتبار بقوله: (فما أشدّ اعتدال الأحوال و أقرب اشتباه الأمثال) يعني أنّ أحوالكم أشدّ اعتدالا و تناسبا لأحوالهم و أنّ أمثالكم أي صفاتكم أكثر قربا و مشابهة لصفاتهم فاذا كانت الأحوال معتدلة متناسبة، و الصّفات متشابهة متماثلة وجب لكم الاعتبار بحالهم، و أشار إلى جهة العبرة فيهم بقوله:
(تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم و تفرّقهم ليالي كانت الأكاسرة) أى ملوك الفرس (و القياصرة) أى ملوك الروم (أربابا لهم) أى مالكين لرقابهم، و كانت العرب تسمّى الملوك أربابا كما في قوله تعالى «وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ» .
و المراد من المربوبين كما ذكره الشارح المعتزلي: بنو إسماعيل، فالضمير
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 392
في أمرهم و تشتتهم و تفرّقهم راجع إليهم، و المراد من الأرباب بنو إسحاق و بنو إسرائيل لأنّ الأكاسرة من بني اسحاق، ذكره كثير من أهل العلم، و القياصرة من ولد اسحاق أيضا، لأنّ الرّوم بنو العيص بن اسحاق ثمّ قال الشارح: فان قلت: فبنو اسرائيل أىّ مدخل لهم ههنا.
قلت: لأنّ بني اسرائيل كانوا ملوكا بالشام حاربوا العرب من بني اسماعيل غير مرّة و طردوهم عن الشام و ألجئوهم إلى المقام ببادية الحجاز، و يصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد اسماعيل مع بني اسحاق و بني اسرائيل، و تخصيص ملوك بني اسحاق أى الأكاسرة و القياصرة بالذكر دون ملوك بني اسرائيل لأنّ العرب لم تكن تعرف ملوك ولد يعقوب حتّى يذكر أسمائهم في الخطبة، بخلاف ولد اسحاق فانهم كانوا يعرفون ملوكهم من بنى ساسان و بني الأصفر، هذا ملخّص ما قاله الشّارح هنا.
أقول: و هو مع أنّه غير خال عن التكلّف مخالف لظاهر كلامه عليه السّلام فانه كما ترى ظاهر فى كون الضمائر في أمرهم و تشتّتهم و تفرّقهم و لهم جميعا راجعة إلى بني اسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل جميعهم، و نصّ فى كون الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم مسلّطين عليهم، و لا حاجة إلى تجشّم الاستدلال فى انتهاء نسبهم إلى ولد إسحاق، فانّ تسلّطهم على العرب و اليهود و غيرهم و بعبارة اخرى على بنى إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل ملاء منه كتب التواريخ و السير، فلا وجه لتخصيص المقهورين بالعرب و القاهرين من الأكاسرة و القياصرة ببني إسحاق و بنى إسرائيل من ملوك الشام كما زعمه الشّارح.
فان قلت: الوجه في مصير الشّارح إلى هذه التكلّفات كلّها ما ذكره فى كلامه قبل ما حكينا عنه ملخّصا، من أنّه لا نعرف أحدا من بنى اسرائيل احتازتهم الأكاسرة و القياصرة عن ريف الافاق إلى البادية إلّا أن يقال يهود خيبر و النضير و بنى قريظة و بنى قيقاع، و هؤلاء نفر قليل لا يعتدّ بهم، مع أنّ فحوى الخطبة مانع من إرادتهم أيضا، لأنّهم لم يكونوا أهل دبر و وبر، و إنّما كانوا ذوى حصون و قلاع
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 393
فهذا الوجه ألجأ الشّارح إلى تخصيصه المقهورين بالعرب خاصّة.
قلت: غرض أمير المؤمنين عليه السّلام من سوق كلامه حسبما عرفت سابقا و تعرفه أيضا أحكام لحوق الذّل على فرق الأنام بسبب التفرّق و اختلاف الكلام من أيّ فرقة كانت، و ذكر بني إسماعيل و إسحاق و إسرائيل من باب التمثيل و الاستطراد و مزيد التوضيح لهذا المرام، و من المعلوم أنّ الذلّ اللّاحق ببنى إسرائيل من أجل اختلاف الاراء أظهر و أجلى من الذلّ اللّاحق ببنى إسماعيل، فكون كلامه ذلك إشارة إلى مقهوريّة الفرقتين جميعا أثبت لهذا الغرض و أدخل فى التوضيح.
و ما قاله الشارح فى وجه تخصيص الأذلّاء المقهورين بالفرقة الثانية فقط من عدم المعرفة بمن يحتازه الأكاسرة و القياصرة إلى البادية من بنى إسرائيل.
ففيه أوّلا أنّه بعد ثبوت قوّة سلطنة الأكاسرة و القياصرة و استيلائهم على البلدان و كون هممهم مقصورة على فتح الأمصار و على القتل و النّهب في الأصقاع و الأقطار تارة بالعراق و توابعها، و أخرى بالشام و مضافاتها، فالعادة قاضية بانجلاء أهلها منها حتما، و هربهم منها إلى البوادى و المفاوز البعيدة حفظا للدّماء، و حذرا من النّهب و الاستيصال، فعدم المعرفة بأعيان المحتازين المشرّدين و عدم وجدانهم لا يدلّ على عدم الوجود بعد شهادة الاستقراء و قضاء العادة و إفادة ظاهر كلامه عليه السّلام له.
و ثانيا أنّ مفاد كلامه عليه السّلام كما ترى أنّ بني إسماعيل و إسحاق و إسرائيل كانوا مشرّدين عن عقر دارهم إلى البوادي بفعل الأكاسرة و القياصرة، يكفى في صدق هذا الكلام و صحّته كون المشرّدين من مجموع الفرق الثلاث و إن كان من بعضها قليلا كبنى إسرائيل على زعم الشّارح، و من البعض الاخر كثيرا كبنى إسماعيل، فلا حاجة على ذلك إلى تمحّل التكلّف أصلا.
و بعد هذا كلّه فلا بأس بأن نذكر طرفا ممّا وقع على بنى إسماعيل و بنى إسرائيل من القتل و الغارة فى دولة الأكاسرة و القياصرة بملاحظة اقتضاء المقام و مسيس الحاجة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 394
فأقول: أمّا بنو اسرائيل أعني العرب فقد قال في روضة الصّفا: إنّ شابور ذا الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام من الأكاسرة لمّا بلغ سنّه ستّ عشر سنة انتخب من أصحابه من العجم أربعة آلاف من أنجادهم، فسار معهم إلى حدود فارس، و كان هناك جماعة من الأعراب أكثروا في تلك الحدود من القتل و النّهب و الفساد، فقتل منهم من وجد، و هرب الباقون، و لم يبق منهم في أطراف دجلة و الفرات عين و لا أثر، ثمّ سار إلى البحرين و قطيف و الحجر، فقتل من قبايل تميم و بكر بن وائل و عبد قيس و غيرها جمّا غفيرا.
فلمّا ملّ من القتل أمر بأن يثقب أكتاف من بقي من الأعراب و يدخل في ثقبها الحبال، فلقّب من ذلك بذي الأكتاف.
و لمّا قضى وطره من استيصال العرب توجّه إلى بلاد الرّوم و دخل قسطنطنية و جرى له مع قيصر قصّة مشهورة في الكتب مأثورة، و فوّض إليه قيصر بلدة نصيبين بين الشام و العراق فأوفد إليها اثني عشر ألفا من أهل اصبهان و فارس و ساير البلاد فتوطّنوا فيها، و لم يبق من العرب باقية في ملكه و ملك ساير الأكاسرة.
و أمّا بنو اسرائيل فقد ظهر مقهوريّتهم ممّا ذكرنا في شرح الفصل المتقدّم و نزيد توضيحا بذكر ما أورده الطبرسي في تفسير الاية المتقدّمة هناك أعني قوله تعالى «وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» إلى قوله «وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً».
قال الطبرسي: اختلف المفسّرون في القصّة عن هاتين الكرّتين اختلافا شديدا، قالوا: لمّا عتى بنو اسرائيل في المرّة الاولى سلّط اللّه عليهم ملك فارس و قيل: بخت نصر، و قيل: ملكا من ملوك بابل، فخرج إليهم و حاصرهم و فتح بيت المقدس و خرب المسجد و أحرق التوراة و ألقي الجيف في المسجد، و قتل على دم يحيى سبعين ألفا و سبي ذراريهم و أغار عليهم و أخرج أموالهم و سبي سبعين ألفا و ذهب بهم إلى بابل فبقوا في يده مأئة سنة يستعبدهم المجوس و أولادهم.
ثمّ تفضّل اللّه عليهم بالرّحمة فأمر ملكا من ملوك فارس عارفا باللّه سبحانه تعالى، فردّهم إلى بيت المقدس فأقاموا به مأئة سنة على الطريق المستقيم و الطاعة و العبادة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 395
ثمّ عادوا الى الفساد و المعاصي، فجاءهم ملك من ملوك الرّوم اسمه انطياحوس فخرّب بيت المقدس و سبا أهله، و قيل: غزاهم ملك الرّوميّة و سباهم عن حذيفة.
و قال محمّد بن إسحاق: كانت بنو اسرائيل يعصون اللّه تعالى و فيهم الأحداث و اللّه يتجاوز عنهم، و كان أوّل ما نزل بهم بسبب ذنوبهم أنّ اللّه تعالى بعث إليهم شعيا قبل مبعث زكريّا عليه السّلام، و شعيا هو الذى بشّر بعيسى و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و كان لبنى إسرائيل ملك كان شعيا يرشده و يسدّده، فمرض الملك، و جاء سنجاريب إلى بيت المقدس بستمائة ألف راية، فدعى اللّه سبحانه شعيا فبرء الملك و مات جمع سنجاريب و لم ينج منهم إلّا خمس نفر منهم سنجاريب فهرب و ارسلوا خلفه من يأخذه، ثمّ أمر سبحانه باطلاقه ليخبر قومه بما نزل بهم، فأطلقوه و هلك سنجاريب بعد ذلك بسبع سنين.
و استخلف بخت نصر ابن ابنه فلبث سبع عشر سنة و هلك ملك بني اسرائيل و مرج أمرهم و تنافسوا في الملك، فقتل بعضهم بعضها، فقام شعيا فيهم خطيبا و وعظهم بعظات بليغة و أمرهم و نهاهم فهمّوا بقتله، فهرب و دخل شجرة فقطعوا الشجرة بالمنشار فبعث اللّه اليهم ارميا من سبط هارون ثمّ خرج من بينهم لما رأى من أمرهم، و دخل بخت نصر و جنوده بيت المقدس و فعل ما فعل، ثمّ رجع إلى بابل بسبايا بني إسرائيل فكانت هذه الدّفعة الأولى.
و قيل أيضا: إنّ سبب ذلك كان قتل يحيى بن زكريّا، و ذلك إنّ ملك بني اسرائيل أراد أن يتزوّج بنت ابنته «امرأته خ» فنهاه يحيى عليه السّلام و بلغ أمّها فحقدت عليه و بعثته على قتله فقتله، و قيل إنّه لم يزل دم يحيى يغلى حتّى قتل بخت نصر منهم سبعين ألفا أو اثنين و سبعين ألفا حتّى سكن الدّم.
و ذكر الجميع أنّ يحيى بن زكريّا هو المقتول في الفساد الثاني، قال مقاتل: و كان بين الفساد الأوّل و الثاني مأتا سنة و عشر سنين.
و قيل إنما غزى بنى اسرائيل فى المرّة الاولى بخت نصر و في المرّة الثانية
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 396
ملوك فارس و الرّوم و ذلك حين قتلوا يحيى فقتلوا منهم مأئة ألف و ثمانين ألفا و خرب بيت المقدس، فلم يزل بعد ذلك خرابا حتّى بناه عمر بن الخطاب، فلم يدخله بعد ذلك روميّ إلّا خائفا.
فقد ظهر بذلك تسلّط الأكاسرة و القياصرة على بني إسماعيل و إسرائيل بسبب اختلاف كلماتهم و تشتّتهم و فسادهم في الأرض و أنّهم كانوا يشرّدونهم عن بلادهم و أوطانهم فيظهر به معنى قوله عليه السّلام:
(يحتازونهم) أى يبعدونهم (عن ريف الافاق) أى الأماكن المشتملة على المزارع و المراتع و المنتجع من بلاد الشام و أراضى العرب القريبة من الماء (و بحر العراق) و هو دجلة و الفرات (و خضرة الدّنيا إلى منابت الشيح) و هى أرض العرب الخالى من الماء و الكلاء (و مها فى الرّيح) أى المواضع الّتى تهفو فيها الرياح و تهبّ من الفيافى و الصّحارى (و نكد المعاش) أى ضيقه و قلّته (فتركوهم عالة) أى فقراء (مساكين إخوان دبر و وبر) أى معاشرين بجمال دبراء عجفاء عقراء، و هو إشارة إلى سوء الحال و ضيق المعاش، فانّ استعمال الجمل الأدبر و التعيّش بوبره علامة الضّر و المسكنة.
قال الشارح المعتزلي إنّهم أجدبوا حتّى أكلوا الدّم بالوبر و كانوا يسمّونه العلهز، انتهى.
و قد مضى في شرح الخطبة السّادسة و العشرين فصل واف فى ضيق حال العرب و سوء معاشهم قبل بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
(أذلّ الامم دارا) لعدم المعاقل و الحصون المنيعة و إن كان لبعضهم حصن فلم يكن بحيث يحصن من عدوّ ذى عدد و قوّة (و أجدبهم قرارا) أى مستقرّا لخلوّه من الزّرع و الثّمر و الخصب (لا ياؤون إلى جناح دعوة يعتصمون بها) أى لا يلتجئون و لا ينضّمون إلى من يحبّهم و يحضنهم إذا دعوه و استغاثوا به كما يحمى الطّاير فرخه بجناحه و يحضنه.
و وصف الدّعوة بوصف الاعتصام لأنّ من عادة العرب إذا هجم عليهم عدوّ لا يتمكّنون من مقاومته يستغيثون بساير القبايل و يستنجدونهم، فيعتصمون بالاستنجاد
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 397
و الدّعوة عن الشّر و المكروه قال الشّاعر:
ألا يا أمّ زنباغ أقيمى صدور العيس نحو بنى تميم
هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم
تشبيه (و لا إلى ظلّ الفة يعتمدون على عزّها) إضافة ظلّ إلى الفة من إضافة المشبّه به إلى المشبّه، و وجه الشبّه أنّ الظّل سبب الرّاحة و السّلامة من حرارة الشمس و الالفة سبب الرّاحة و السلامة من نار العدوّ، و وصف الالفة بالاعتماد لأنّ الالفة مستلزم للعزّ، فبا لاعتماد عليها يحصل العزّ اللّازم منها.
و لمّا بيّن مساوى حالاتهم من الفقر و الفاقة و الذلّة و ضيق المعاش و غيرها فرّع عليه قوله: (فالأحوال) أى أحوالهم (مضطربة و الأيدى مختلفة و الكثرة متفرّقة) كائنين (في بلاء أزل و أطباق جهل) أى في شدّة بلاء و طبقات من الجهل أى جهل متراكم بعضه فوق بعض قال الشارح البحراني: و في نسخة الرّضي و إطباق بكسر الهمزة فيكون المعني و جهل مطبق عليهم عام.
ثمّ فصل ما نشأ من هذا الجهل من القبايح و الفضايح بقوله (من بنات موؤودة) أى مدفونة حيّة فقد كانت العرب يئدون البنات و يرشد إليه قوله تعالى «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» .
و قيل إنّه مختصّ بني تميم و استفاض منهم في جيرانهم، و قيل: بل كان ذلك أى الوئد في بني تميم و قيس أسد و هذيل و بكر بن وائل و يؤيّدة قوله «وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ» .
و اختلفوا في سبب الوئد فقيل: هو الفقر و الاملاق، قالوا: و ذلك إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا عليهم فقال، اللّهم اشدد وطأتك على مضروا جعل عليهم سنين كسنى يوسف، فاجدبوا سبع سنين حتّى أكلوا الوبر بالدّم فوأدوا البنات لفقرهم، و يدلّ على ذلك قوله سبحانه «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ» .
و قيل: بل الأنفة و لحوق العار بهم من أجلهنّ، و ذلك إنّ تميما منعت النعمان بن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 398
المنذر الخراج سنة من السّنين فوجّه إليهم أخاه الريّان بن المنذر فأغار عليهم و استاق النّعم و سبى الذّرارى، فوفدت بنو تميم الى النعمان و استعطفوه، فرقّ عليهم و أعاد عليهم السّبى و قال كلّ امرأة اختارت أباها ردّت عليه و إن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلّهنّ اخترن أباهنّ إلّا بنت قيس بن عاصم فانها اختارت من سباها، فنذر قيس بن عاصم المنقرى التميمى أن لا تولد له بنت إلّا وئدها، ثمّ اقتدى به كثير من بني تميم.
و اختلف في كيفيّة الوئد فقيل: كان الرّجل إذا ولدت له بنت فأراد بقاء حياتها ألبسها جبّة من صوف أو شعر لترعى له الابل و الغنم فى البادية، و إن أراد قتلها تركها حتّى إذا بلغت قامتها ستّة أشبار فيقول لامّها طيّبيها و زيّنيها حتّى أذهب بها إلى أقاربها، و قد حفر لها بئرا فى الصّحرا فيبلغ بها إلى البئر فيقول لها:
انظرى فيها، ثمّ يدفعها من خلفها و يهيل عليها التراب حتّى يستوى البئر بالأرض.
و قيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمتها في الحفرة، و إذا ولدت ابنا أمسكته.
و كانت صعصعة بن ناجية ممّن منع الوئد، فافتخر الفرزدق به فى قصيدته الّتي يهجو بها جريرا، و هو قوله:
و منّا الّذى أحيى الوئيد و غالب و عمرو و منا حاجب و الأقارع
و قد حكينا في ديباجة الشّرح، عن ابن أبى الدّنيا أنّه قال: لم يكن أحد من أشراف العرب بالبادية كان أحسن دينا من صعصعة، و هو الّذى أحيى ألف موؤودة و حمل على ألف فرس.
و روى الشّارح المعتزلي هنا قال: إنّ صعصعة لمّا وفد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
يا رسول اللّه إنّي كنت أعمل فى الجاهليية عملا صالحا فهل ينفعني ذلك اليوم؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما عملت؟ قال: أضللت ناقتين عشراوين فركبت جملا و مضيت فى بغائهما فرفع لى بيت جريد فقصدته فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين فقال: ما نارهما؟ قلت: ميسم بنى دارم قال: هما عندى و قد أحيى اللّه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 399
بهما قوما من أهلك من مضر، فجلست معه ليخرجهما إلىّ فاذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت؟ فان كان سقيا شاركنا في أموالنا و إن كان حائلا «1» أوئدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت له: أ تبيعها؟ قال: و هل تبيع العرب أولادها؟ قلت: إنّما أشترى حياتها و لا أشترى رقّها، قال: فبكم؟ قلت:
احتكم، قال: بالنّاقتين و الجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إيّاها، قال: قد بعتك، فاستنقذتها منه بالجمل و النّاقتين و آمنت بك يا رسول اللّه و قد صارت لى سنّة فى العرب أن اشترى كلّ موؤودة بناقتين عشراوين و جمل، فعندى إلى هذه الغاية ثمانون و مأتا موؤودة قد أنقذتهنّ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ينفعك ذلك لأنّك لم تبتغ به وجه اللّه و إن تعمل فى إسلامك عملا صالحا تصب عليه.
(و أصنام معبودة) قد مضى فى شرح الفصل السّادس عشر من المختار الأوّل أنّ جمهور العرب كانوا عند بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبدة أصنام، و مضى هناك تفصيل أصنامهم المعبودة و لا حاجة إلى الاعادة.
(و أرحام مقطوعة و غارات مشنونة) أى مصبوبة من كلّ جهة، فانّ القتل و الغارة و قطع الأرحام كانت من شعار العرب في الجاهلية و قد أشار إلى ذلك و إلى بعض ما تقدّم هنا من حالات العرب فى الفصل الأوّل من المختار السّادس و العشرين حيث قال عليه السّلام هناك:
إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين، و أمينا على التّنزيل، و أنتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار، بين حجارة خشن، و حيّات صمّ، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب، و تسفكون دماءكم، و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، و الاثام بكم معصوبة.
و قد ألّف إبراهيم بن مسعود الثقفى كتابا سمّاه كتاب الغارات جمع فيه غارات العرب و حروبهم، و إن شئت ارشدك إلى اثنين من تلك الحروب و الغارات فانّهما أنموذج منها.
أحدهما ما كان بين الأوس و الخزرج من الحروب الّتى تطاولت مأئة و عشرين سنة إلى أن ألف اللّه بين قلوبهم بالاسلام.
______________________________
(1)- الانثى من أولاد الابل، م.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 400
و ثانيهما ما كان بين تغلب و بكر بن وابل أربعين سنة حتّى صار من أمثال العرب السّائرة أشأم من البسوس.
قيل: إنها امرأة كانت لها ناقة فرآها كليب ترعى فى حماه و قد كسرت بيض طائر كان قد أجاره، فرمي ضرعها بسهم فوثب جساس «1» إلى كليب فقتله، فهاجت الحرب بين بكر و تغلب «تغلب و بكرظ» بن وابل أربعين سنة.
قال التفتّازاني: البسوس زارت اختها البهيلة و هى امّ جساس بجار لها من جرم زياد له ناقة و كليب قد حمى أرضا من العالية فلم يكن يرعاها إلّا إبل جساس لمصاهرة بينهما، فخرجت فى ابل جساس ناقة الجرمى ترعى فى حمى كليب فأنكرها كليب فرماها فاختلّ زرعها «ضرعها ظ» فولّت حتّى بركت بفناء صاحبها و زرعها «ضرعها ظ» تشخب دما و لبنا، و صاحت البسوس: و اذلّاه و اعزبتاه، فقال جساس ايّتها الحرّة اهدئى فو اللّه لأعقرنّ فحلا هو أعزّ على أهله منها، فلم يزل جساس يتوقّع عزّة كليب حتّى خرج و تباعد عن الحىّ فبلغ جساسا خروجه، فخرج على فرسه و اتّبعه فرمى صلبه حتّى وقف عليه، فقال كليب: يا عمرو أغثنى بشربة من ماء فاجهز عليه و نشب الشّر بين تغلب و بكر أربعين سنة.
و هذا أنموذج من شنّ الغارات فى العرب و قطع الأرحام أوردناه تبصرة لك و توضيحا لكلامه عليه السّلام هذا.
و لمّا ذكر ما كانت العرب عليه قبل بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الضّيم و الذّل و الفقر و الجهل، أردفه بالتّنبية على أعظم ما أنعم اللّه سبحانه به عليهم من بعث النّبى الكريم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم و تبديل سوء حالهم بحسن الحال ببركة هذه النعمة العظيمة فقال:
(فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا) كريما (فعقد) أى
______________________________
(1) جساس بن مرة قاتل كليب بن وابل م
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 401
اللّه سبحانه أو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (بملّته طاعتهم) لأنّ طاعتهم قد كانت في الجاهليّة تابعة لأهوائهم الباطلة، متشتّتة بتشتّت الاراء المختلفة، فلذلك اتّخذوا لهم آلهة فأطاع كلّ منهم إلهه و صنمه فعقد الملّة طاعتهم للّه تعالى بعد الانتشار و عبادة الأصنام.
(و جمع على دعوته) أى الرّسول (الفتهم) بعد طول تضاغن القلوب و تشاحن الصّدور، و أشار إلى تفصيل مواقع نعم اللّه بقوله: استعاره بالكنايه- استعاره نخييلية- استعاره مرشحة (كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها) شبّه النعمة أى نعمة الاسلام الحاصلة بالبعثة فى انبساطها عليهم بالطاير الباسط لجناحه على فرخه على سبيل الاستعارة بالكناية و ذكر الجناح تخييل و النّشر ترشيح.
(و أسالت) أى أجرت (لهم جداول نعيمها) و الكلام في هذه القرينة مثله في سابقتها، فانّه عليه السّلام شبّه النعمة بالنّهر العظيم الّذي تسيل منه الجداول و الأنهار الصّغار إلى المحال القابلة و المواضع المحتاجة، فأثبت الجداول تخييلا و الاسالة ترشيحا، و وجه الشبّه أنّ جريان الجداول من النهر سبب لحياة الموات من الأرض و كذلك إفاضة أنواع النّعم و شئون الخيرات من نعمة الاسلام الّتي هي أعظم النعماء في الموادّ المستعدّة سبب لحياة القلوب الميّتة بموت الجهل و الضّلالة مضافة الى الثّمرات الدّنيويّة.
(و التقّت الملّة بهم عوائد بركتها) أى جمعتهم ملّة الاسلام بعد ما كانوا متفرّقين في منافعها و معروفاتها الحاصلة ببركتها، فكان تلك المنافع ظرفا لاجتماعهم حاوية لهم محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
(فأصبحوا) أى صاروا بحواية عوائدها لهم (في نعمتها غرقين) و التعبير به مبالغة في احاطة النعمة عليهم من جميع الجهات إحاطة الماء بالغرقى و الغائصين.
(و عن خضرة عيشها فكهين) أى اشربن فرحين بسعة المعاش و طيبه، أو ناعمين مازحين من خضرة العيش.
(و قد تربعت الامور بهم) أى اعتدلت امورهم و استقامت (في ظلّ سلطان قاهر) اى سلطان الاسلام الغالب على ساير الأديان (و آوتهم الحال) أى ضمّتهم حسن حالهم
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 402
و أنزلتهم كنايه (الى كنف عزّ غالب) أى إلى جانبه و ناحيته أو كناية عن حرزه كما في قولك:
أنت في كنف اللّه، أى حرزه و ستره (و تعطّفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت) أى أقبلت السعادات الدّنيويّة و الأخرويّة عليهم بعد إدبارها عنهم إقبال الشفيق العطوف على من يشفق و يتعطف عليه في أعالي السّلطنة الثّابتة المستقرّة.
(فهم حكّام على العالمين و ملوك فى أطراف الأرضين يملكون الامور) أى امور الملك و السلطنة (على من كان يملكها عليهم) من الكفرة الفجرة (و يمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم) من كفّار مكّة، و قريش و غيرهم من عبدة الأوثان كنايه (لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة) إشارة إلى قوّتهم و عدم تمكّن الغير من قهرهم و غلبتهم.
قال الشارح المعتزلي: و يكنّي عن العزيز الّذى لا يضام فيقال: لا يغمز له قناة، أى هو صلب و القناة إذا لم تكن في يد الغامز كانت أبعد عن الحطم و الكسر، تمثيل قال: و لا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزّته و قوّته.
تبصرة:
لمّا كان أوّل هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّنا للاشارة إلى ملك الأكاسرة، و آخرها متضمّنا للاشارة إلى بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اقتصاص حال أهل الجاهليّة في دولة الأكاسرة و أيّام الفترة و حين البعثة و بعدها أحببت أن أورد هنا رواية متضمّنة لهذا المرام، مبيّنا فيها أسماء الملوك مفصّلا من زمن عيسى إلى زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أسماء المبعوثين قبله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأنبياء و الرّسل عليهم السّلام لمزيد ارتباطها بالمقام فأقول:
روى الصّدوق في كتاب اكمال الدّين عن أبيه و محمّد بن الحسن «رض» قالا: حدّثنا سعد بن عبد اللّه قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى عن العبّاس بن معروف عن عليّ بن مهزيار عن الحسن بن سعيد عن محمّد بن اسماعيل القرشي عمّن حدّثه عن إسماعيل بن أبي رافع عن أبيه أبي رافع قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ جبرئيل نزل عليّ بكتاب فيه خبر الملوك ملوك الأرض قبلي، و خبر من بعث قبلي من الأنبياء
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 403
و الرّسل- و هو حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة إليه- قال: لمّا ملك اشبح بن اشجان و كان يسمى الكيس و كان قد ملك مأتي و ستّا و ستّين سنة.
ففي سنة إحدى و خمسين من ملكه بعث اللّه عزّ و جل عيسى بن مريم عليه السّلام و استودعه النور و العلم و الحكم و جميع علوم الأنبياء قبله، و زاده الانجيل، و بعثه إلى بيت المقدس الى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته و إلى الايمان باللّه و رسوله، فأبى أكثرهم إلّا طغيانا و كفرا، فلمّا لم يؤمنوا به دعا ربّه و عزم عليه، فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلّا طغيانا و كفرا، فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغبهم فيما عند اللّه ثلاثا و ثلاثين سنة حتّى طلبه اليهود و ادّعت أنّها عذّبته و دفنته في الأرض، و ادّعا بعضهم أنّهم قتلوه و صلبوه، و ما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه و إنّما شبّه لهم و ما قدروا على عذابه و دفنه و على قتله و صلبه لقوله عزّ و جلّ «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَ» و لم يقدروا على قتله و صلبه لأنّهم لو قدروا على ذلك كان تكذيبا لقوله تعالى: و لكن رفعه اللّه اليه بعد أن توفّاه عليه السّلام.
فلمّا أراد أن يرفعه أوحى إليه أن استودع نور اللّه و حكمته و علم كتابه شمعون ابن حمّون الصّفا خليفة على المؤمنين، ففعل ذلك فلم يزل شمعون في قومه يقوم بأمر اللّه عزّ و جلّ و يهتدى بجميع مقال عيسى في قومه من بني إسرائيل و جاهد الكفّار، فمن أطاعه و آمن به فيما جاء به كان مؤمنا، و من جحده و عصاه كان كافرا حتّى استخلص ربّنا تبارك و تعالى و بعث في عباده نبيّا من الصّالحين و هو يحيى بن زكريّا عليه السّلام و قبض شمعون.
و ملك عند ذلك اردشير بن اشكان «زار كان خ ل» أربع عشرة سنة و عشرة أشهر، و في ثمان سنين من ملكه قتلت اليهود يحيى بن زكريا عليه السّلام.
و لمّا أراد اللّه سبحانه أن يقبضه أوحى إليه أن يجعل الوصيّة في ولد شمعون و يأمر الحواريّين و أصحاب عيسى عليه السّلام بالقيام معه ففعل ذلك.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 404
و عندها ملك سابور بن أردشير ثلاثين سنة حتّى قتله اللّه و استودع علم اللّه و نوره و تفصيل حكمته في ذريّته يعقوب بن شمعون و معه الحواريّون من أصحاب عيسى عليه السّلام و عند ذلك ملك بخت نصر مأئة سنة و سبعا و ثمانين سنة، و قتل من اليهود سبعين ألف مقاتل على دم يحيى بن زكريّا و خرّب بيت المقدّس و تفرّقت اليهود في البلدان.
و في سبعة و أربعين سنة من ملكه بعث اللّه عزّ و جلّ العزيز نبيّا إلى أهل القرى الّتي أمات اللّه عزّ و جلّ أهلها ثمّ بعثهم له و كانوا عن قرى شتّى فهربوا فرقا من الموت فنزلوا في جوار عزيز و كانوا مؤمنين و كان عزير يختلف إليهم و يسمع كلامهم و إيمانهم و احبّهم على ذلك، و آخاهم عليه فغاب عنهم يوما واحدا ثمّ أتاهم فوجدهم صرعى موتى فحزن عليهم، و قال «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ...» تعجّبا منه حيث أصابهم قد ماتوا أجمعين في يوم واحد، فأماته اللّه عزّ و جلّ عند ذلك مأئة عام فلبث «و هى خ ل» فيهم مأئة سنة ثمّ بعثه اللّه و ايّاهم و كانوا مأئة ألف مقاتل ثمّ قتلهم اللّه أجمعين لم يفلت منهم أحد على يدي بخت نصر.
و ملك بعده مهروية بن بخت نصر ستّ عشر سنة و ستّ و عشرين يوما.
و أخذ عند ذلك دانيال و حفر له جبّا في الأرض و طرح فيه دانيال عليه السّلام و أصحابه و شيعته من المؤمنين فالقى عليهم النّيران، فلمّا رأى أنّ النّار ليست تقربهم و لا تحرقهم استودعهم الجبّ و فيه الأسد و السّباع و عذّبهم بكلّ لون من العذاب حتّى خلّصهم اللّه عزّ و جلّ منه و هم الذين ذكرهم اللّه في كتابه العزيز فقال عزّ و جلّ «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ».
فلمّا أراد اللّه أن يقبض دانيال أمره أن يستودع نور اللّه و حكمته مكيخا بن دانيال ففعل.
و عند ذلك ملك هرمز ثلاثة و ستّين «ثلاثين خ ل» سنة و ثلاثة أشهر و أربعة أيّام. و ملك بعده بهرام ستّة و عشرين سنة.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 405
و ولّي أمر اللّه مكيخا بن دانيال و أصحابه المؤمنين و شيعته الصديقون غير أنّهم لا يستطيعون أن يظهروا الايمان في ذلك الزّمان و لا أن ينطقوا به.
و عند ذلك ملك بهرام بن بهرام سبع سنين، و في زمانه انقطعت الرّسل فكانت الفترة.
و ولّي الأمر مكيخا بن دانيال و أصحابه المؤمنين فلمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يقبضه أوحى إليه في منامه أن استودع «يستودع» نور اللّه و حكمته ابنه انشو بن مكيخا و كانت الفترة بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعمائة و ثمانين سنة و أولياء اللّه يومئذ في الأرض ذرّية انشو بن مكيخا يرث ذلك منهم واحد بعد واحد ممّن يختاره الجبار عزّ و جل فعند ذلك ملك سابور بن هرمز اثنين و سبعين سنة، و هو أوّل من عقد التّاج و لبسه.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ انشو بن مكيخا.
و ملك بعد ذلك اردشير أخو سابور سنتين، و في زمانه بعث اللّه الفتية أصحاب الكهف و الرّقيم.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ في الأرض رسيحا «رشيحاء خ ل» بن انشوبن مكيخا.
و عند ذلك ملك سابور بن اردشير خمسين سنة.
و ولىّ امر اللّه يومئذ رسيحاء بن انشو.
و ملك بعده يزدجرد بن سابور احدى و عشرين سنة و خمسة أشهر و تسعة عشر يوما.
و ولّى أمر اللّه يومئذ في الأرض رسيحا عليه السّلام، و لما أراد اللّه عزّ و جل أن يقبض رسيحا أوحى اليه أن استودع علم اللّه و نوره و تفصيل حكمته نسطورس بن رسيحا.
فعند ذلك ملك بهرام جور ستّا و عشرين سنة و ثلاثة أشهر و ثمانية عشر يوما.
و ولّى أمر اللّه يومئذ نسطورس بن رسيحا.
و عند ذلك ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام سبعة و عشرين سنة.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ نسطورس بن رسيحا و أصحابه المؤمنين، فلمّا أراد اللّه
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 406
عزّ و جلّ أن يقبضه أوحى اليه في منامه أن استودع نور اللّه و حكمته و كتبه مرعيدا.
و عند ذلك ملك فلاس بن فيروز أربع سنين.
و ولىّ أمر اللّه عزّ و جل مرعيدا.
و ملك بعده قباد بن فيروز ثلاثا و اربعين سنة.
و ملك بعده جاماسف اخو قباد ستّا و أربعين «خ ل ستين» سنة و ولىّ أمر اللّه يومئذ في الأرض مرعيدا.
و عند ذلك ملك كسرى «1» بن قباد ستّا و أربعين سنة و ثمانية أشهر و ولىّ أمر اللّه يومئذ مرعيدا عليه السّلام و اصحابه و شيعته المؤمنين، فلمّا أراد اللّه عزّ و جل أن يقبض مرعيدا أوحى اليه في منامه ان استودع نور اللّه و حكمته بحيراء الرّاهب ففعل فعند ذلك ملك هرمز بن كسرى ثلاث و ثمانين سنة.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ بحيرا و أصحابه المؤمنون و شيعته الصدّيقون.
و عند ذلك ملك كسرى بن هرمز بن پرويز و ولىّ امر اللّه يومئذ بحيرا.
حتّى إذا طالت المدّة و انقطع الوحى و استخفّ بالنعم و استوجب الغير و درس الدّين و تركت الصلاة و اقتربت السّاعة و كثرت الفرق و صار النّاس في حيرة و ظلمة و أديان مختلفة و أمور متشتّتة و سبل ملتبسة و مضت تلك القرون كلّها و مضى صدر منها على منهاج نبيّها عليه السّلام و بدّل آخر نعمة اللّه كفرا و طاعته عدوانا فعند ذلك استخلص اللّه عزّ و جل لنبوّته و رسالته من الشجرة المشرفة الطيّبة و الجرثومة «2» المتحيّزة «المتمرة خ ل» «3» الّتى اصطفاها اللّه عزّ و جلّ في سابق علمه و نافذ قوله قبل ابتداء خلقه، و جعلها منتهى خيرته و غاية صفوته و معدن خاصيّته محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اختصّه بالنبوّة و اصطفاه بالرّسالة و أظهر بدينه الحق ليفصل بين عباد اللّه القضاء، و يعطي في الحقّ جزيل العطاء، و يحارب أعداء رب السّماء و جمع عند ذلك ربّنا تبارك و تعالى
______________________________
(1) و هو المعروف بأنوشيروان كما في روضة الصفا، منه.
(2) جرثومة الشيء اصله، م
(3) أتمر النخلة اى صارت حاملة للتمر. م
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 407
لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علم الماضين و زاده من عنده القرآن الحكيم بلسان عربىّ مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فيه خبر الماضين و علم الباقين.
بيان:
ما في هذه الرّواية من كون الفترة بين عيسى و محمّد أربعمائة و ثمانين سنة مخالف لما في البحار من كتاب كمال الدّين بسنده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسمائة عام منها مائتان و خمسون عاما ليس فيها نبيّ و لا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسّكين بدين عيسى، قلت: فما كانوا؟ قال: مؤمنين ثمّ قال عليه السّلام: و لا تكون الأرض إلّا و فيه عالم.
و فيه أيضا من الاحتجاج قال: سأل نافع مولى ابن عمر أبا جعفر عليه السّلام كم بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سنة؟ قال: اجيبك بقولك أم بقولى؟ قال: أجبني بالقولين قال عليه السّلام: أمّا بقولي فخمسمائة سنة، و أمّا قولك فستّمأة سنة.
قال المحدّث العلّامة المجلسي بعد نقل هذه الأخبار: و المعوّل على هذين الخبرين، ثمّ قال: و يمكن تأويل الخبر المتقدّم بأن يقال: لم يحسب بعض زمان الفترة من أوّلها لقرب العهد بالدّين.
أقول: أمّا أنّ التعويل على ما تضمّنه الخبران من كون المدّة بينهما خمسمائة عام فلا غبار عليه لشهرته، و أمّا التّأويل الّذى ذكره في الخبر فليس بذلك البعد و لكن في خصوص هذه الفقرة منه إلّا أنّ السنين المشخّصة فيه لكلّ من السلاطين بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزيد مجموعها على تسعمائة سنة و منافاته لكون المدّة بينهما خمسمائة سنة كما في الخبرين واضح و لا يمكن دفعه بالتّأويل المذكور، و الجمع بينهما محتاج إلى التأمل.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى)، ج 11، ص: 408
الترجمة:
پس عبرت برداريد بحالت فرزندان جناب اسماعيل و پسران جناب إسحاق و فرزندان جناب يعقوب عليهم السّلام پس چه قدر سخت است معتدل شدن حالت شما با حالات ايشان، و چه نزديكست مشابهت صفات شما بصفتهاى ايشان، تدبّر نمائيد كار ايشان را در حال پراكندگى ايشان و متفرّق بودن ايشان در شبهائى كه بودند پادشاهان فارس و روم پادشاه ايشان، در حالتي كه دور مى كردند ايشان را از كشت زار آفاق و از درياى عراق كه شطّ و فراتست، و از سبزى دنيا يعنى بلاد معموره بسوى مواضع روئيدن درمنه «1» و مكانهاى وزيدن باد و تنگى معاش.
پس گذاشتند پادشاهان ايشان را در حالتى كه فقرا و مساكين بودند برادران شتران مجروح صاحب كرك در حالتى كه ذليل ترين امّتها بودند از حيثيت خانه، و قحطترين ايشان بودند از حيثيّت منزل و مقرّ، نمى توانستند خودشان را بچسبانند و پناه برند بسوى جناح دعوتى كه طلب حفظ كنند با آن، و نه بسوى سايه الفتى كه اعتماد نمايند بر عزّت آن. پس احوال ايشان پريشان بود و دستهاى ايشان مختلف، و جمعيت و كثرت ايشان متفرّق، در شدّت بلا و جهالت عام از دختران زنده در گور شده، و بتهاى عبادت كرده شده، و رحمهاى بريده شده، و غارتهاى ريخته شده از هر طرف.
پس نظر كنيد بمواقع نعمتهاى خداوند بر ايشان وقتى كه مبعوث فرمود بسوى ايشان پيغمبرى را يعنى محمّد مصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، پس منعقد ساخت با ملّت خود اطاعت ايشان را، و جمع فرمود با دعوت خود الفت ايشان را چگونه منتشر ساخت و فراخ گردانيد نعمتى كه بر ايشان بود بال كرامت خود را، و جارى ساخت بر ايشان نهرهاى ناز و نعمتهاى خود، و پيچيده شد ملّت بايشان يعنى جمع نمود دين اسلام ايشان را در منافع بركت خود.
پس گرديدند در نعمت ملت غرق شدگان، و از سبزى و طراوت عيش آن شادمان، بتحقيق كه مستقيم شد كارهاى ايشان در سايه سلطان غالب، و نازل كرد ايشان را حالت ايشان بسوى پناه عزّت قاهر، و مهربانى كردند كارها بر ايشان در بلنديهاى پادشاهى ثابت. پس ايشان حاكمانند بر عالميان، و پادشاهانند در أطراف زمينها، مالك مى شوند در كارها بر كسانى كه مالك بودند در آن كارها بر ايشان، و امضا مى كنند و جارى مى سازند حكمها را در اشخاصى كه امضاء مى نمودند آن كارها را در ايشان فشرده نمى شود براى ايشان هيچ نيزه بجهت قوت ايشان، و كوبيده نمى شود مر ايشان را هيچ سنگى بجهت غايت قدرت و جرأت ايشان.
______________________________
(1) با تركى پوشان. م